لما أعبث بالأفكار (1)
ثم بعد ذلك لم أجد مكانا أذهب إليه، فجأة وجدت نفسي في حانة أحاول إيجاد أي شيء أفكر فيه، أبحث عن فكرة أعبث بها، أشاهد الناس و هم يستهلكون الحياة و يتكلمون بأصوات متعبة و ملامح تحاول إخفاء كل البؤس و الندم الذي قد يصيب إنسانا تجاوز الخمسين من العمر و لكي يكتمل المشهد كان آخرون يتجادلون حول مباراة في كرة القدم و يصرخون في أوجه بعضهم البعض باحتقار فقط لأنهم يشجعون فريقين مختلفين لكني فهمت أنهم مع ذلك كانو ينتمون لفريق الأغبياء بينما رجلان آخران يتكلمان في الدين و الدنيا بنبرات كلها حكمة و ثقة مع قنينة نبيذ غالي الثمن يحاولان إقناع بعضهما أن الخمر ليس حراما و إنما هي فقط فتاوى شيوخ لا يفقهون شيئا، كنت مع ذلك أحاول استيعاب الأمر، لم أفهم المغزى من هذه الهرطقة و تلك الحركات التي تجعل الإنسان يشعر بفخر زائف و بأشياء لا دخل له فيها، أشياء حصلت صدفة، كنت أتساءل مثلا ما هي جدوى ما يسمونه الفخر؟ و ما معنى أن تنتمي مثلا لهذا الدين و هذا البلد و أن تتكلم هذه اللغة؟ طبعا كانت هناك أجوبة عديدة عبارة أن أفكار تدور في خاطري لكن كل هذا لم يكن يعني لي شيئا، فقط كنت أمارس إنسانيتي بأن أفكر و أعبث بالحياة في إطار أخوي حميمي بيني و بين نفسي، لم أكن ذاك الشخص المعجب بالحياة و المتشبت بها و في نفس الوقت لم أكن أكرهها أو أريد أفارقها، الحياة بالنسبة لي كانت مثل واجب علي أن أقوم به، على الأقل لا شيء أخسره لهذا كنت أحاول الإستمتاع قدر الإمكان، لا يهمني إن أخطأت أو أصبت.
كنت آنذاك أحدق في السيجارة و هي تحترق بهدوء و أنا أحاول أن أبحث في ذكرياتي عن أي أخطاء ارتكبتها يوما لكن كل ما تذكرته كان عبارة أحداث وقعت لأسباب لازلت أجهلها و أصبحت من الماضي، لا أعلم إن كان خطأ أنني لم أكن جادا في الدراسة و لم أكن مهتما بالدروس و كنت أفضل قضاء أوقات ممتعة بعيدا أقسام الثانوية لكن مع ذلك كنت أنجح و كنت أتعامل مع الأمر بذكاء، ظننت أنه لو كنت جادا و أعطيت وقتي كله للدراسة لكنت في وضع أحسن مما أنا عليه اليوم و لكن لم يكن لدي هدف معين أسعى إليه تاركا الأمر للصدفة، لم أستسلم لنمطية المجتمع، و لم أرتكب الخطأ الذي اعتقد الجميع أنه الصواب، واصلت استهلاك الحياة مستمتعا بما يعتبره المجتمع حماقات و أنا على يقين تام أنني فقط إنسان أقوم بما يجب أن أقوم به دون صراعات داخلية بين مفهومي الخطأ و الصواب.
كنت مستمتعا بسماع الموسيقى و أنا أشاهد الناس و حركاتهم المثيرة للسخرية حتى وصلتني رسالة قصيرة من صديقة... لم تكن مجرد صديقة، أعتقد أني كنت أرى فيها أكثر من ذلك لكن لم أصارحها يوما تفاديا لأي مشهد ميلودرامي مضحك، أحببت أن أترك كل شيء للصدفة. كنت معظم الوقت وحيدا و لا أجيد التعامل مع الناس حيث أنني كنت دائما أسعى لأن أكون أنا كما أريد أنا و أن أربح نفسي، فظا و وقحا، سيء السمعة و هذا فقط من منظورهم هم، لكن من منظوري الخاص كنت ما أرادوه ولست النوع الذي يسعى لإثبات مكانته مع الناس، الأمر لا يستحق العناء، و لم أكن أنتظر المديح و الثناء، ففي النهاية لا أؤمن بالمعاني و القيم بقدر ما كنت أؤمن بالأشياء كما هي و لا أرى أبعد مما تراه عيناي و لا أقرأ بين السطور، لقد وفر لي كل هذا مزيدا من الوقت مع نفسي، كنت دائما ما أفكر في الموت، أحببت هذا الحدث الغامض، لكن ما كان يثير اهتمامي هو حتميته، كنت أتمنى موت بعض الأشخاص فقط لكي يفهموا أن الحياة في حد ذاتها ما هي إلا موت بطيء، في نفس الوقت كان صعبا علي أن أفهم المغزى و الجدوى من كل الهرطقات التي يجب علي أن أتعايش معها و انتهى بي الأمر في عالمي الخاص بلا هدف و لا أي طموح ما دمت سأموت في نهاية المطاف و كان هذا هو الشيء الوحيد الأكيد في حياتي، كنت أرفض أن أكون في قلب الحدث و أفضل أن أشاهد من بعيد، و أستمتع بالعرض و أغادر في صمت منتظرا بداية العرض الموالي، لم تكن فكرة أني سوف أموت تزعجني بل مرات عديدة كنت متحمسا أنتظر النهاية لأغادر في صمت و إلى الأبد و قد كان واجبي بأن أعيش يمنعني من قبول فكرة الإنتحار، أردت أن أنتهي بالصدفة كما جئت للعالم بها، كنت أفكر في أولئك الذين يتشبثون بالحياة و كيف لم يستوعبوا أنهم بسعيهم للظهور يسيئون استهلاكها و يضيع العمر، طموحات و أحلام و أماني و مشاريع و قرارت و كل هذا العبث فقط لكي يشير الناس إليهم و يعترفو لهم بالنجاح و إتباث الذات التي بحثو عنها عن طريق حركاتهم الميلودرامية العبيطة.
لم تكن فقط فكرة الموت و حتميته و المصير الغامض و المجهول هي ما أفكر فيه بل كذلك حاولت استيعاب فكرة ما قبل البداية و أين كنت قبل أن أولد؟ ماذا أكون؟ فكرت أن الإنسان عبارة عن فكرة أو مجموعة أفكار و تجارب، تفاعلات و انفعالات عشوائية ستنتهي بالموت مثل نار تنطفئ لكن يستمر الوعي مثل دخان النار يسبح في الكون و تتواصل التفاعلات العشوائية، و تتواصل فوضى الإنسان بصراعاته و أنانيته و فخره الزائف، يموت جسد و يولد جسد آخر و لا شيء يتغير بل يستمر الوعي في قتل أجسادنا، نذهب للعدم ثم نعود للوجود، ننام نتغذى نتكاثر، يفنى الجسد نفقد الهوية و كل شيء سعينا لأجله، و لا نلاحظ كم نحن تافهون، و أن الأمر لا يستحق العناء...
|