![]() |
|
|
|
رقم الموضوع : [1] |
|
عضو جديد
![]() |
السلوك الجمعي
لم يفعل الناس ما هم يفعلون ؟ وما سر التغيير الملحوظ الذي يطرأ على سلوك الأفراد وقت تجمهرهم ؟ ولم يقوم البعض بأفعال غريبة وشاذة واستثنائية ، غير تلك التي عهدناها منهم في سياقات حياتهم الاعتيادية ؟ وما سبب سهولة الاستثارة والهياج والاندفاع وراء الشغب والعنف والصياح والسرقة والتخريب والقتل ؟ لهذه الأسئلة وغيرها يبحث علماء النفس والاجتماع عن إجابات مقنعة تعين في فهم السلوك الإنساني وقت التجمهر ، ومما تفيد به نتائج الدراسات في هذا المجال : ان سلوك الجماعة في المواقف المثيرة ربما يكون ناجماً عن ظهور "عقل جمعي" وهو كيان نفسي اجتماعي تفرضه حالة التجمهر يصبغ تفاعل الناس بصفة الجمعية ، وهذا العقل ان جاز التعبير ، يعد قوة مهيمنة على كل فعاليات الجمهرة ، أي ان الناس عند تفاعلهم وبفعل قوة الإيحاء يفقدون استقلالهم الذاتي وشعورهم بأنهم أفراد مستقلون ، فيندمجون وينصهرون في كل تهيمن عليه هذه الروح او "العقل الجمعي" وتملي على الأعضاء فيه سلوكهم . ومن المثير في هذه الظاهرة هي حالة الانصهار في بوتقة الجماعة ، فأيا يكن نوعية الافراد الذين يشكلونها ، فان مجرد تحولهم الى جمهور يمدهم بنوع من الأواصر الجماعية ، فيحسون ويفكرون ويتحركون بشكل كتلي ، هذا الشكل يختلف تماما عن الطريقة التي كان يحس بها ويفكر ويتحرك كل فرد منهم لو كان لوحده، ، وهذا العقل ، طبقا لتحليلات كوستاف ليبون ، ناقص بالنسبة لعقل الفرد عندما يكون منفرداً ، فبعض الافكار والعواطف لا تنبثق او تتحول الى فعل الا لدى الافراد المنضوين في صفوف جماعة ، ويرى ليبون ان الجماهير في حالة احتشادها وانفعالها واندفاعها ابعد ما تكون عن التفكير العقلاني ، ومن السهل ان يخضع الحشد الجماهيري للتحريض ، وبخاصة ان كانت دوافع الجمهرة موجهة ، على سبيل المثال : فان انتماء أي فرد الى جماعة مذهبية بعينها او تنظيم معين يجعل فكر كل واحد فيها يدور في اهتمام جماعته ، الى درجة يحجب ادراكه عن غيرها ، فيدور في فلك طروحاتها مما يسبب في تعطيل قدراته الناقدة ويكفها ، الامر الذي يدفعه الى التعصب لآرائها ، وتنفيذ أحكامها دون مراجعة ، واتخاذ موقف حدي من اراء جماعات اخرى ، ولعل هذا من اهم عوامل نشأة التعصب الذي يعمق الخلافات ويسهم في تشكيل ثقافة إقصاء الاخر وتفيد الدراسات : ان مواقف السلوك الجمعي تخضع للتلقائية واللاتخطيط ، بمعنى انها تتسم بالنقص النسبي في التنظيم قياساً بمظاهر السلوك الجمعي المنضبط ، فضلاً عن انها تعتمد على التنبيه الداخلي المتبادل بين الافراد والمتميز بسرعة تقبل الايحاء والمحاكاة ومسايرة سلوك الرهط والخضوع لعقله الجمعي ، وبخاصة عندما تسود الجماهير حالة هياج انفعالي ناشئة عن حدوث او توقع حدوث كارثة او ثورة ، او عن الاعتقاد بان أعراف وتقاليد معينة مهددة بالإساءة إليها(مع الانتباه ان أفراد عديدون من بين تلك الحشود ربما تمارس أشكالا متنوعة وخروقات عديدة لذات المبادئ التي استفز توقع المساس بها مشاعر الجماهير)* ان الحديث عن السلوك الجمعي لا يعني الإقرار بأنه صفة حتمية لكافة أعضاء الرهط، فربما يحافظ البعض على توازنه الى حد ما – ويتميز في تصرفاته عن الجماعة ، الا ان هذه الاختلافات في السلوك الفردي لا تلاحظ وتضمحل بفعل الحشد . وتلك الحالة بذاتها تسهم في تشجيع الإطاحة بالموانع والنواهي التي تضبط السلوك مثل الخوف من الانتقام والمسائلة مستقبلا ، لان الفرد وسط الحشد يشعر بالأمان لأنه جزء من كيان ضخم يصعب عقابه او مساءلته ، وبذلك يضعف التزامه بالقيود والضوابط السائدة في مجتمعه في حالة التوازن ويندمج في حركة هائجة اقرب ما تكون الى حركة القطيع ، بمعنى ان الكثير من الأفعال تجد لنفسها مبررات بفعل الاندماج في الجماعة وسيادة الشائع والمتبع حينها ، ومع هذا قد نجد بعض الافراد رغم اندماجهم بأفعال الحشد يتجنبون ممارسة أكثر الأعمال تطرفا امام الآخرين ، فيحاولون تمويه نشاطهم بالتخفي او التنقل بين صفوف الحشد وربما بتحريض اكثر من فرد تجاه تصرف معين . من ناحية أخرى فان خاصية التمييز في إطار توجهات السلوك الجمعي تسهم أحيانا في ان يكون للجمهرة زعامة ، اذ وبسبب قلة تأثير المنطق والحكمة يكون سلوك الجماعة أكثر تأثرا بصيحة محرض او منادي يؤشر لمخرج من الخطر ، او يوجه لنوع من السلوك ، وبخاصة اذا كان لهذا الشخص هالة مسبقة في نظر الجماعة ، ( وربما ارتدائه لزي معين يفي بالغرض ) ، فسرعان ما تصبح توجيهاته سلوكا شائعا عاما قيد التنفيذ دون أي مراجعة للنوايا والأهداف . فقد يوجه غضب الجماهير نحو فئة او شخص ما على أساس مخالفة الرأي ، او ربما يحث حشود معينة لرفض لائحة من القوانين والقواعد التي تهم الناس فيستجاب له دون حتى أدنى اطلاع عليها . ومسألة زعامة الجمهرة هي الأخرى مسالة نسبية وغير مستقرة كحال الجماهير ، فالعديد من حالات الجمهرة تنشأ تلقائيا بفعل موقف مثير يؤلف بين الأفراد مثلا : رد فعل تجاه الاضطهاد او هدر حقوق معينة ودون زعيم يقودها او يوجهها ، وقد ينهض من بين الصفوف على حين غرة زعيم يحاول تنظيم صفوفها وتوجيه حركتها "لكن سمة الجمهرة عدم الاستقرار فهي رعناء متحولة متفاعلة لا تلبث على نحو واحد . فقد ينهض زعيم آخر يضلها عن هداها وربما يسوقها الى رداها ، وقد يختلط الأمر بينهما فيختفيان فجأة بين الحشد ويبتلعهم التيار وتمسي الجمهرة كما بدأت دون زعيم" . ولعل ما يميز الانفعالات والعواطف المتأججة بوصفها معطيات سلوك جمعي : انها لا تعتبر وليدة الصدفة او نتائج سياقات حدث ما كليا ، بل تحريرات انفعالية ترتبط بماضي الأفراد وتجاربهم في مجتمعهم فالعديد من الرغبات الغير مشبعة والمخاوف والعقد والأفراح والآمال والأحقاد تستتر وتنكمش بفعل العواقب الوخيمة المتوقعة جراء التصريح بها او التعبير عنها ، وتصبح مقيدة أكثر عندما لا يجد الفرد حوله من يشاركه فيها ، واذا ما وجدت تلك المكنونات النفسية لها مخرجا – في إطار سلوك جمعي – فانها ستندفع بقوة مضاعفة ناشئة عن تفاعل وتخصيب جميع الانفعالات والعواطف المكبوتة عبر سنوات متعددة من القهر ، فضلاً عن تفاعل تلك الطاقة المحررة مع انفعالات وعواطف الآخرين في الرهط ، فتكبر دائرة الانفعال في وسط يغذيها ويتعاظم شأنها ويمتد تأثيرها . بمعنى : ان عواطف وانفعالات أي فرد في الجماعة يمكن ان تنال من الآخر ، ويمكن ان تندمج في سياقات استجابات فزع ورعب او أفعال استفزاز وممارسات غير متوقعة وما الى ذلك من امور ربما يندم على فعلها الفرد بعد صحوته من هيجانه . ان تجارب ومعاناة الفرد المكبوتة وعبر سنين حياته لا تستقر في عالمه الداخلي بوصفها أرشيف تاريخي مرتب ، بل ثمة طاقة نفسية مصاحبة لكل حدث او تجربة تكبت وتتداخل فيما بينها وتتفاعل وتعبر عن نفسها بأشكال سلوك جديدة غير مألوفة حتى بالنسبة للفرد ذاته . تلك الطاقة النفسية ، ربما تدفع الفرد احيانا ، وحتى عندما يكون خارج الرهط ، للشعور بحاجة ماسة لمشاركة الرهط أفعاله ، فالإنسان يكره العزلة المعنوية اكثر من العزلة المادية ، والاحوال الانفعالية تبتغي لها التأييد ، بمعنى انها تريد ان يتوازعها الناس . فأحوال غضبنا مثلا ولا سيما بغضائنا "تفيض بالحرص على الدعاوة لها ، انها لا تجد الطمأنينة الا اذا لقيت من حكم الغير إقرارا بها ، بمعنى محاولة دسها في أذهان السامعين ليصبح الاقرار بها لزاما على انها ليست عواطفنا فحسب بل هي حقيقة تصلح للجميع وتلزم الجميع" ، ويمكن ان نلاحظ في بعض المجتمعات عند موت احدهم ، تجدد حالات البكاء والصراخ والعويل والنحيب كلما بادر احد الحاضرين بواحدة من تلك التصرفات وكان الموت قد حدث توا . ان الأحوال الانفعالية في السلوك الجماهيري لها عدوى متفاوتة في درجة الحدة ، الا انه كلما كان المحيط مؤتلفاً وإياها ومؤيدا لها ، وكلما كانت مشاركته فيها واضحة وصريحة ازداد عنفوان الهيجان، وتحررت الطاقة النفسية بقوة وبتيار عاليين . وبدون ذلك المحيط ، وبدون تلك المشاركة لا يحقق الهيجان جميع كوامن إمكاناته الذهنية والحركية ، على ذلك فالقاعدة تقول : ان هيجاناتنا تولد ولها تاريخ طويل وتكبر وتترعرع في محيط بشري يغذيها بالاضطراب الذي حملته هي اليه. عبد الكريم سليم علي |
|
| مواقع النشر (المفضلة) |
| الكلمات الدليلية (Tags) |
| الجمعي, السلوك |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه
|
||||
| الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
| اصل السلوك الغريزى | luther | في التطور و الحياة ☼ | 5 | 09-15-2018 06:54 PM |
| وثائقى السلوك الساحر لطائر الوقواق قصة جميلة عن سباق التسلح التطوري | ريتشارد دوكينز | Archimedes | الأفلام الوثائقية | 0 | 05-19-2018 08:08 PM |
| السلوك العدوانى لدى الحيوان | Clinician | العقيدة الاسلامية ☪ | 24 | 06-27-2016 01:47 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
diamond