![]() |
|
|
|
رقم الموضوع : [1] |
|
الأُدُباءْ
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
محمود شاهين أديب في الجنة (ملحمة روائية فلسفية) الجزء الأول . فاتحة: " نحن في حاجة إلى هذا الحوار، كوننا نشكل أعلى مرحلتين في الفكر الإنساني : الإيمان المختلف الذي أمثله أنا ، والإلحاد الذي تمثله الرئيسة ، وأكاد أجزم أن مستقبل العقل البشري يكمن في هذين المستويين من الفكر : إما الإيمان المختلف ، وإما الإلحاد !" " الملك لقمان " (1) انتحار جميل !! في كل مرة أحاول فيها الإنتحار أصادف ما لا يتوقعه عقل بشري ، إلا مرة واحدة قررت فيها أن أتوقف عن متابعة الكتابة في الرواية التي أتحدث فيها عن محاولة انتحاري وما سبقها .. توقفت عن متابعة الكتابة لأنني عدلت عن الإنتحار ولم أرغب في أن أكتب كذبا للناس وأقول لهم أنني انتحرت وأنا على قيد الحياة، خاصة إذا ما ذرفوا بعض الدموع علي وهم يقرأون تصويري الميلودرامي لإطلاق أول رصاصة على رأسي ولأتبعها بثانية وثالثة وهم يذرفون الدموع ياحرام دون أن يتنبهوا لإطلاقي ثلاث رصاصات على رأسي وكأني كنت أقتل فيلا لا أنتحر! لكن أجمل المرات التي حاولت فيها الإنتحار هي التي عثرت فيها على قمقم سجن فيه جني من عهد الملك سليمان . أي من حوالي ثلاثة آلاف عام ، وأي جني كان ذاك، ملك ملوك ! كان ذلك في الصحراء الدمشقية منذ قرابة عشرين عاما .عثرت على القمقم في القبر الذي كنت أحفره لأنتحر وأدفن نفسي فيه ، وما أن فتحت القمقم حتى انبعث منه دخان هائل تجلى خلال لحظات عن جني عملاق يقف أمامي باستعداد ويهتف بنبرة عسكرية صارمة "ها! أمر مولاي العظيم لقمان محرر أرواح الجان ! عبدك المطيع ودرعك المنيع " شمنهور الجبار ملك ملوك الجن الحمر في سائر الأكوان والأمصار !" آظن أنني ( ليش الكذب ) تبولت على نفسي من هول الرعب! ولم يطمئني سوى معرفته لإسمي الرمزي أو شخصيتي المنفصمة "لقمان" الذي أتستر خلفه لأقول ما أريد في رواياتي كما يفعل الروائيون.. فإياكم أن تصدقوا أنني أتحدث عن إنسان آخر .أنا محمود شاهين بشحمه ولحمه ( ليش الكذب ) وإن كنت أدخلكم في عوالم شخصيتي الإنفصامية؟! لم ينقذني ذاك الجني من الإنتحار فحسب بل وضع العالم كله بين يدي،من أجمل الحوريات إلى عروش من يرون أنهم آلهة . أظن أنني ملكت نصف الكون بعد أن أصلحت أحوال قارات وسحبت السلاح من كوكب الأرض وهدمت عروش بعض الملوك والآلهة المزيفين وتوجت ملكا على كافة طوائف الجن وتزوجت من الملكة الحورية نور السماء، وأصبح لدي قوى خارقة قادرة على هدم الكون كله لو أردت ! لكني فشلت في لقاء الله الذي أطمح في لقائه ، رغم أنني كنت أستشعر وجوده وحتى وقوفه إلى جانبي . وهذا ما كان يشكل هاجسا لي وهو ما دفعني إلى العدول عن الإنتحار والصعود برفقة الجن إلى السماء في محاولة يائسة مني للعثور على الله ! خاصة بعد أن قص علي الملك إبليس ( الشيطان ) قصة الخلق مدعيا أنه هو من خلق آدم وحواء لمساعدة الله في عملية الخلق . وأن ما جرى بعد ذلك من غضب إلهي على آدم وحواء والأفعى مسألة محيرة ما تزال لغزا يخفي الحقيقة التي لا يعرفها أحد . كل هذه المسائل المحيرة دفعتني إلى اليأس فكيف بالعثور على الله وسبر الحقيقة ومعرفة الغاية من الوجود ؟ قررت ترك كل شيئ والعودة إلى الأرض لمكابدة الشقاء ورؤية القتل والقتلى والقتلة والتفرج على عار العالم. كان إصراري على ترك هذا العالم السماوي المتخيل فائق الجمال والعودة إلى جحيم الأرض عصي على دموع مليكة قلبي الملكة نور السماء .. قبلتها بضع قبلات وضممتها إلى حضني دون أن أعدها بالعودة إلى السماء.. ثم أشرعت يدي لاحتضان الطفلة نسمة التي أنقظتها ووالديها وأختها وملايين المعذبين والمحترقين من جحيم الإله المزيف داجون ، وغدت جزءا من نسيج روحي،تشبثت بعنقي وهي تصرخ هاتفة " لا تتركنا يا عمو من سينقذنا من العذاب ومن سيحيي لنا آباءنا ثانية إذا ما قتلوا أو ماتوا ؟" همست لها من عمق اختلاج دموعنا " سأعود يوما يا حبيببتي سأعود ولن أنساكم " ودنا مني الملك شمنهورباكيا " السجن في قمقم سليمان أهون علي من فراقك يا مولاي . أرجوك أن تفكر في العودة إلينا ولو بعد حين " " سأحاول أيها الملك الطيب . بفضلك عرفت عوالم لم يعرفها بشر من قبل . أنا مدين لك بالكثير أيها الملك " وألقت دليلة( التي أنقذتها من جحيم الإله داجون ) نفسها علي وراحت تعانقني مدارية دموعها قدر الإمكان .. وأخيرا عانقت الجميلة أستير التي أنقذتها من الكوكب المسحور ولم ألب لها طموحها بأن تكون عشيقتي حتى لا أكدر عيش حبيبتي الملكة نور السماء. كان أحبتي السماويون من الجن والإنس يبكون على فراقي ولا يصدقون أنني سأترك كل هذا الجمال الممتع وأعود إلى شقاء الأرض. توقفت للحظات ملوحا بيدي الإثنتين لجموع المودعين راسما ابتسامة عريضة على شفتي خالجتها دمعة انزلقت من عيني فجأة . وقررت لأول وآخر مرة أن أوظف القدرات الخارقة الممنوحة إلي بتحويل جسدي إلى طاقة تعود إلى الأرض بسرعة الضوء ! وهذا ماكان . فقد اختفيت من هذا الكون الذي كنت أودع فيه أحبتي لأظهر خلال لحظات في صالون بيتي الدمشقي مجسدا بشكلي المادي ! كان ذلك قبل قرابة عشرين عاما . كنت في دمشق وأنا الآن في عمان منذ ثلاثة أعوام ونيف . لا أعرف ماذا يخبئ القدر لي هذه المرة وإن كنت أدرك أن تصميمي على الإنتحار جاد . صعدت إلى أعلى برج في العبدلي . وقبل أن أفكر في العواقب ألقيت نفسي من أعلى البرج . حين تجاوزت ثلثي البرج أدركت أنني سأموت هذه المرة ،لكن وعلى مسافة أمتار من الأرض شعرت بيدين تتلقفاني بهدوء . فتحت عيني حين استعدت توازني لأرى وجها جميلا على مقربة من وجهي ذكرني بوجه الملك ابليس. رسم على شفتيه ابتسامة طفيفة وهو يهتف "مرحبا عزيزي لقمان " همست متسائلا؟ " "الملك ابليس ؟" همس " أجل يا صديقي اشتقت لك ""لماذا لم تدعني أنتحر؟" لم يئن الأوان بعد " " هل ثمة أمل في معرفة الحقيقة ؟ " " أجل" " وسألتقي الله " " أجل " " تضحك علي" "أبدا " وغبت عن الوجود للحظة ربما أكثر من ثانية . وإذا بي أحط متسربلا بالزي الملكي على كوكب بعيد كما يبدو وسط جمهور هائل من الملوك والملكات والحوريات الفاتنات وفرق الموسيقى فيما أقواس وردية ونوافير ترذ المياه على علو مرتفع فوق الرؤوس . أدركت أن الملك ابليس استخدم قواه الخارقة بإلباسي الزي الملكي ونقلي من كون إلى كون ،وهذا ما ذكرني بالقوى الخارقة التي كانت ممنوحة إلي وفقدتها. فوجئت بوجودي في مواجهة أحبتي الذين تركتهم من عشرين عاما . كانت الملكة نور السماء تتقدم الجميع وما لبثت أن هرعت لتعانقني ودمعتا فرح تنزلقان على وجنتيها .. ولم يتح لها الملك شمنهور أن تعانقني أكثر فقد انقض علي ليعانقني ويهتف " الحياة دونك ليس لها معنى يا مولاي "! ورحت أعانق الجميع فردا فردا وقد أدركت تماما أن مشروعي الإنتحاري فشل مرة أخرى وأن الحياة تصر على بقائي إلى أن يحين أجلي . ****** فوجئت بكم الملوك والملكات الذين كانوا في استقبالي.. جميعهم من الذين تعرفت إليهم في رحلتي السماوية الأولى على متن المركبة الفضائية المسحورة التي يقودها الجن . نسمة أصبحت عروسا فائقة الجمال وأستير ما تزال تحتفظ بجمال أسطوري ومليكة قلبي نور السماء حورية جنية وهي لا تشيخ ،وحتى تصغر نفسها لو أرادت ! كان ثمة قصر فاره تحيطه حدائق وردية ومسابح ونوافير مياه . دعتنا الملكة لاستراحة في صالونات القصر قبل أن ننتقل لتناول الغداء في الحدائق . عرفت أن الملك إبليس أول من عرف أنني سأقدم على الإنتحار فصمم على إنقاذي منه ، وخاطر الملكة نور السماء والملك شمنهور بالأمر فخاطرا بدورهم جميع من عرفتهم في رحلتي السابقة ليحضروا من أكوانهم لاستقبالي ، فحضروا بسرعة تفوق سرعة الضوء !! كانت نسمة تجلس على طرف الكنبة وأنا أضم خصرها فيما هي تمد يدها على كتفي وتقبل جزءا يروق لها من صلعتي بين فترة وأخرى . قبلت خدها ومخيلتي تستحضرصورتها وأنا أحلق بها فوق محيط داجون الجهنمي منتظرا أن تعثر على والديها بين جموع المحلقين في الفضاء الذين أحيوا من الموت . أحست أنني أستحضر طفولتها فقبلتني وأعطتني خدها .. رحت أستعرض وجوه الملوك والملكات . ثمة وجوه نسيت أصحابها ولم أعرفهم . تناولنا القليل من المشروبات الروحية مع الموالح الحلبية . ومن ثم دعتنا الملكة إلى مائدة الغداء .. مائدة ذكرتني بأول مائدة أقامها الملك شمنهورعلى شرفي بعد أن حررته من القمقم . ظباء وخراف وجداء وإوز وحجل وحمام ودجاج وأسماك تشوى على سفافيد بين الموائد . مقبلات وسلطات وخضار شامية . خمور منوعة . وحوريات فاتنات يتخطمن بجمال أخاذ للقيام بواجبات الضيافة . جلس الملك ابليس في مواجهتي فيما جلست الملكة نورالسماء عن يميني ونسمة عن يساري وإلى جانبها الملك شمنهور . وجلس على المائدة الملك حامينار والملكة شامنهاز والملكة نسيم الريح والأميرة ظل القمر والملك دامرداس والملكة ظل السحاب والملك نذير الزلازل والملكة هدباء الجفون والملك قاهر الموت والملكة شمس الربيع .. فيما توزع باقي الملوك والملكات على موائد مختلفة . وقفت الملكة نور السماء وشرعت في إلقاء كلمة ترحيبية : " صاحبات الجلالة الملكات . أصحاب الجلالة الملوك . صاحبات السمو الأميرات . أصحاب السمو الأمراء . صاحبات وأصحاب المعالي من الشريفات والأشراف والعلماء والأدباء والفنانين . السيدات والسادة الكرام : "إنه لمن دواعي سرورنا وما يبعث البهجة في نفوسنا ، ويغمر قلوبنا بعمق الفرح ، ومشاعر المحبة ، أن نستقبل اليوم حبيبنا وصديقنا وراعينا ومحررنا من العبودية والسجون، ملك ملوكنا لقمان العظيم ، بعد غياب عنا دام لأكثر من عشرين عاما " نهض الجميع وشرعوا يصفقون مرحبين بي ما جعلني أشعر بفخر واعتزاز قل نظيرهما ( رغم أنني لا أحب التعظيم ) محاولا قدر الإمكان أن أتناسى سفك الدماء الجاري على كوكب الأرض وسيول المشردين الذين تبتلعهم البحار أو يهيمون على رؤوسهم في مدن العالم . وما أن توقف التصفيق وعاد الحضور إلى الجلوس حتى تابعت الملكة : "وإننا لنشكرمن أعماقنا جلالة الملك الملاك إبليس العظيم الذي ظل طوال سني غياب الملك العين الساهرة عليه ،وحين أدرك بعون الخالق العظيم أنه عزم على الإنتحار أخبرنا وهرع لنجدته ." " وإني لأدرك أن جلالة الملك الذي عاد إلينا بعد كل هذا الزمن لن يقبل البقاء بيننا دون مساعدته على ما كان يصبو إليه من قبل، من تحقيق لقيم الخيروالحق والعدل والمحبة والجمال والتعاون بين البشر . والغاية من الوجود التي أرادها الخالق لنا . وإني لآمل من جميع ملوك وملكات الأكوان أن يضعوا كل إمكانياتهم تحت تصرفه ، والعمل معه على إنجاح مسعاة حتى لا نفقده مرة ثانية " " أكرر شكري لكم وترحيبي بكم،والسلام عليكم. وأدعو جلالة الملك لقمان إلى إلقاء كلمة بهذه المناسبة العظيمة " ********* (2) خطاب إلى الجن والإنس! لم ألق خطبة في الجن والإنس منذ أن فارقت الكون عائدا إلى الأرض ، ولم يعد لدي أعصاب تحتمل مواجهة الجماهير ، حتى أنني في أمسياتي الأدبية القليلة كنت أتمالك أعصابي بصعوبة لتخوفي من صدى وقع كلماتي غير المألوفة على الأسماع والعقول ، فكيف أبرئ الشيطان من شيطانيته وأجعله ملكا وصديقا ، لأصفع بذلك عقول المستمعين التي اعتادت لعنه . كنت أحبذ معارض الرسم على الأمسيات الشعرية والأدبية لأنني لا أضطر إلى إلقاء كلمات فيها ، غير أنني كنت أرتبك قليلا في القليل من الحوارات التلفزيونية . عزائي أن معظم جمهوري هنا من الجن المغضوب عليهم وكل ما أرجوه أن تسعفني الكلمات لقول بعض ما أريد . رفعت هذا التاج الذي أشعر أنه يثقل رأسي لعدم تعودي عليه، ووضعته أمامي على المائدة ، دون أن أنسى أنني الآن ملك سيخاطب ملوكا وملكات ، ونهضت متماسكا بقدر ما أتاحت لي شيخوختي وشرعت في الكلام : صاحبات وأصحاب الجلالة ،صاحبات وأصحاب السمو ، السيدات والسادة الأشراف والأدباء والعلماء الكرام . محبتي وجزيل شكري لكم جميعا لهذه الحفاوة البالغة التي أحطتموني بها ، وشكري الخاص لجلالة الصديق الوفي إبليس الذي أصر على إنقاذي للحاجة إلي ولضرورة بقائي على قيد الحياة ، اعتقادا منه أن في مقدورنا أن نسبرغور الحقيقة الوجودية ونغير مجرى التاريخ البشري إلى ما هو أجمل وأفضل . جئتكم محملاً بأوجاع كوكب ينوء تحت وطأة الآلام والعذابات منذ آلاف السنين . وإذا كانت الحروب تقام في الماضي بالسيوف والرماح والنبال ، فإنها تقام اليوم بأسلحة الدمار الهائلة ،لتبث الرعب والهلع في قلوب الملايين من البشر ، وتحيل الصروح إلى أنقاض، وأجساد البشر إلى أشلاء . أي ضمير يحمله هذا العالم ويخوض به حروبه الفتاكة، باسم العدالة ، وباسم الأمن ، وباسم الله . كم هو مسكين هذا الإله الذي يقتل كل يوم على أيدي هؤلاء بحجة الدفاع عنه . وكم هي العدالة بائسة التي تقتل كل يوم باسم القضاء على الإرهاب. فضاع الإنسان لدى هؤلاء بين الإرهابي وبين المكافح للحصول على الحد الأدنى من حريته وكرامته وحقه في أن يكون مواطنا يحصل على كافة حقوقه كمواطن ، أو حتى عن مجرد حقه في أن يكون وطنه له ! هل يعقل أن لا يحصل شعب على حقه في وطنه ويظل رازحا تحت نير المحتل في القرن الحادي والعشرين ؟ أين هي العدالة التي يتشدق بها العالم ؟ وأين هو الله ؟ هل هناك من يؤمن بالله حقا . هل يعقل أن يقبل الله القتل وسفك الدماء ؟! النبلاء من البشر يعفون عن الخاطئين وحتى عن المجرمين في لحظة صفاء وعمق محبة ، فهل لا يعفو الله ويصفح ويسامح ؟! هل خلق الله الوجود لينعم بجماله ويحقق به ذاته أم ليدمره ؟ لقد شوهوا حقيقة الله وأساءوا إليه حين جعلوه معذبا فظيعا وقاطع أيدي وأرجل وقالع أعين وقاطع ألسن ومدمر أدمغة. الأيدي التي أوجدها لتبني الحضارة وترقى برفاهية الإنسان . والألسن التي أوجدها لتنطق بالحق وحسن الكلام ، والعيون التي أوجدها للبصر والتبصر وإبداع الجمال ،والأدمغة التي تمنحنا العقل لنعقل لا لنجن ، ولنطور العلوم وسائر الوسائل والوسائط التي ترقى بحياة الإنسان ، وتحقق أرفع قيم الحق والعدل والمساواة والخير والجمال لبني البشر، مما يرضي الله ، وهو يرى خلقه يحقق الغاية التي أوجده من أجلها ،أي المساهمة معه في عملية الخلق وبناء الحضارة التي لن تقوم دون الفعل الإنساني . فعملية الخلق يا صاحبات وأصحاب الجلالة ،تكاملية بين الخالق وخلقه ، فلا خلق دون خالق ولا خالق دون خلق ،ولا غنى لأحدهما عن الآخر ،وفناء أحدهما فناء للآخر ، فالله في كل كائن في الكون وفي كل إنسان، يسري بطاقته العظيمة الخلاقة في كل جسد، وفي كل مكان ، دون أن يحد وجوده مكان أو زمان ، ونحن دون طاقته السارية فينا لن نقدر على فعل شيء وأن نقوم بأية حركة . فلا تنتظروا الله أن يبني لكم الحضارة بإقامة المدن وشق الطرق وبناء الجسور والمصانع . إنه واجبكم أيها البشر وأيها الجن إن شئتم . لقد جن البشربدلا من أن يعقلوا وقتلوا الإنسان ليقتلوا الله معه ،بدلا من أن يسعوا إلى المحبة والتسامح وتحقيق القيم النبيلة . فغدا القتل حقا وارتكاب الجرائم بحق الشعوب عدالة ! فهل يمكن أن يكون هناك جنون أفظع من هذا الجنون !؟ إن القيم البشرية كلها في حاجة إلى إعادة نظر بل وإلى إعادة بناء على أسس إنسانية حديثة وسليمة . وإذا كان أجدادنا قد فكروا واجتهدوا حسب ثقافة زمنهم ، فإنه ينبغي ويتوجب علينا أن نفكر ونجتهد حسب ثقافة زمننا . أمة كوكب الأرض أمة واحدة وليست أمما وإن اختلفت وتنوعت ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها. وإلهها إله واحد هو إله الوجود كله . وينبغي عليها أن تنبذ الخلافات وأن تتحد وتتعاون لحل مشاكل الشعوب واقتسام ثروات الأرض ورفع شعار الإنسانية والمواطنة المنتمية إلى كوكب الأرض . الأرض الأم الكبرى التي جئنا منها وإلى أحضانها سنعود كمادة وطاقة تساهم في ديمومة الحياة وتجددها . وعلى أمة كوكبنا أن تسعى للإتصال بالأمم في الكواكب والأكوان الأخرى وتقيم معها علاقات حسن جوار وتعاون والإفادة من ثقافاتها وعلومها وخبراتها . لقد قمنا بنزع السلاح سلميا من كوكب الأرض كله في رحلتنا السابقة، فكيف أعيد إلى الأمم وكيف تسنى لها أن تصنع الأسلحة المدمرة والفتاكة من جديد ، هل كنا نحلم ؟ أم أننا كنا نتوهم أونكذب على أنفسنا ؟ صاحبات وأصحاب الجلالة.. السيدات والسادة .. آمل أن ننجح ولو بالحد الأدنى من مسعانا في إقامة السلام والمحبة بين البشر .أكرر شكري لكم، والسلام عليكم . ****** هب الجميع وقوفا وشرعوا في التصفيق الحاد ، وأنا أحييهم بحركة من يدي .. ثم دعوتهم إلى الجلوس ، فيما دعت الملكة إلى تناول الطعام والشراب . لم تكن الخدمة في عالم الجن غريبة علي فقد خبرتها بشكل جيد وأنا الآن أتذكرها فحسب . وإن كانت تختلف بعض الشيئ حسب رغبة المضيف وعاداته .. فكل ما تريده يمكن أن يأتي إليك وحده بمجرد النظرإليه والرغبة فيه. وما الحوريات المضيفات إلا لإضفاء الإحترام وإبداء المساعدة للضيف ليشعر بمكانته المرموقة . لذلك لم أفاجأ حين بدأت الكائنات المشوية تحلق بسفافيدها وأطباق السلطات والمقبلات تحلق بأطباقها دون أن يكون لها أجنحة لتقدم لكل انسان ما يريده ،دون أن يصطدم سفود بسفود أو طبق بطبق ، وكأننا أمام خلية نحل تحلق في فضاء مملكتها دون أن تصطدم نحلة بنحلة . وحمدت الله أن الحدائق قائمة على الأرض وليست تحت الماء وأن الشواء يتم على مناقل تتوهج بالجمر فوق الأرض أيضا وليس تحت الماء كما رأيت في أول وليمة أسطورية دعوت إليها برفقة الملك إبليس. حيث كان الشواء يتم تحت الماء ونحن نأكل ونشرب في الماء دون أن نبتل ودون أن يبتل الشواء أو الطعام . لا أكاد أصدق أنني في عالم متخيل . فقبل قرابة ساعة كنت أجر خطاي المتعبة نحو أبراج عابدون في عمان لأنتحر . وأنا الآن ملك بين ملوك وملكات غير عاديين . ما هي الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال؟ وهل وجودنا خيال أم واقع . وهل الوجود كله واقع أم خيال ؟ وإذا كان الوجود الحقيقي لله وحده حسب ابن عربي فهل يمكن أن يكون وجودنا واقعيا ؟ وإذا كان وجود الله لا ينفصل عنا وعن الوجود كله حسب فكري الوجودي، فهل نحن واقعا افتراضيا متخيلا أم أننا واقع حقيقي؟! ثمة مسائل أكبر من عقولنا .. حتى الفيزياء أنبأتنا بالوجود الوهمي والكون الهيلوغرامي وغيره ، وكل شيء يمكن أن يتلاشى بلحظة . إذن لنعش الحياة كما نستطيع أن نعيشها وكما يمكن أن نعيشها لنتمتع بها ، حتى لا نجد أنفسنا يوما نبحث عن دقائق نطيل بها عمر زمننا لنتمسك بلحظة سعادة .. تنبهت الملكة إلى أنني سرحت لثوان وأنني قلق بعض الشيء وأنني لا أستشعر ولو الحد الأدنى من السعادة . أمالت رأسها نحوي لأستشعر طيب أنفاسها وهمست : - ماذا تريد يا حبيبي ؟ ألقيت نظرة على أطباق المقبلات والسلطات الشامية وإذا بها تثب من مكانها وتدنو من الصحن الكبير المتموضع أمامي وقد اصطفت فوق المائدة واحدها خلف الآخر بانتظام شديد فيما راحت حورية تسكب لي ما أريد ، أما الملكة فقد فاجأتني بتقريب طبق كافيار أسود أمامي .. ابتسمت لها وأنا أدرك نواياها وطموحها في إعادة الشيخ إلى صباه . هتفت : - ماذا تريد من اللحوم ؟ ونظرا لأنني لم آكل لحما منذ أشهر هتفت " كل شيء"! ولم أصدق ما جرى بعد ذلك فقد راحت السفافيد تطير بما عليها وتهرع نحوي وتصطف بانتظام طبقا خلف الآخر في فضاء الموائد. ضحكت وضحكت الملكة والملوك والملكات . كان ظبي صغير يصطف أولا ،تبعه خروف صغير أيضا ، تبعته إوزة ، فدجاجة ،فحجلة ، فحمامة ،فسمكة . وحتى لا أكسف هذه الأطباق التي هرعت نحوي، أشرت إلى المضيفة أن تضع لي مقدار لقمة من كل سفود . وهذا ما حصل دون أن تراعي المضيفة حجم لقمتي فكل قطعة كانت بحجم ثلاث لقمات لي على الأقل . وأشرت إلى مضيفة ثانية أن تأتيني بعرق ريان شامي. . سكبت لي كأسا حسب ذوقي ،رفعته وشربت نخب الجميع. ما أن ابتلعت أول لقمة من قطعة لحم الظبي حتى قفز الأطفال السوريون والفلسطينيون والعراقيون واليمنيون والمصريون والليبيون وكل المشردين والمشردات في الآفاق والغرقى العائمون في البحار تتقاذفهم الأمواج لتطرح جثامينهم على شواطئ العالم القاتل. ألقيت الشوكة والسكين على الطبق وابتلعت اللقمة بصعوبة وتوقفت عن تناول الطعام ودمعتان تتمردان علي وتنزلقان على وجنتي . تنبهت الملكة إلي وقد أدركت تماما ما دار في خيالي . ضمت رأسي إليها وقبلتني وتوقفت عن تناول الطعام ليتنبه الجميع للأمر ويتوقفوا تضامنا معي في انتظار أن أستأنف الطعام . ******* (3) عالم منزوع السلاح ! ما أن ودع الملك لقمان آخر ملك من المستقبلين حتى انطرح متهالكا على أريكة في صالون القصروالعرق يتصبب من وجهه ودخيلته تضطرم بصراع فظيع بين شخصيتين فصاميتين تسكنان مخيلته وتطبقان على روحه المتعبة . محمود شاهين الأديب ولقمان الملك . الأول واقعي والثاني متخيل أسطوري . ومشكلة شاهين الواقعي أنه يشك ليس بوجود لقمان الأسطوري فحسب بل بما سيقدم عليه من أفعال لا تتقبلها حتى أساطير السابقين واللاحقين . الأول أمضى حياته مشردا ، ما أن يخلص من تشرد حتى يغرق في جحيم تشرد جديد. والثاني يطمح في تحقيق أحلامه الجنونية بإقامة عالم تسوده قيم المحبة والخير والعدل والجمال ، ولو على أيدي جن وشياطين يتخيل وجودهم ! كانت الملكة تجثو على ركبتيها أمامه واضعة يديها على فخذيه داعية إياه إلى الهدوء متضرعة إلى الله أن يحميه ويقف معه ! هتف فجأة متسائلا : - من أنت ؟ - أنا الملكة نور السماء حبيبتك وزوجتك التي تركتها من عشرين عاما وعدت إلى كوكب الأرض ! - ومن أنا ؟ - أنت الملك لقمان ! - كذب ! وكرر الكلمة مرتين بانفعال متزايد"كذب ! كذب ! "وأطبق راحتيه على رأسه بعنف . ألقت الملكة نفسها إلى جانبه واحتضنته ضامة رأسه إلى صدرها وراحت تقبله وتجفف عرقه بمنديل حريري . راح يهدأ شيئا فشيئا وما لبث أن رفع رأسه عن صدر الملكة وهتف متسائلا " أين الملك شمنهور ؟ " وخلال لحظة كان الملك شمنهور ينتصب واقفا أمامه ليهتف : - أمر مولاي ! - اسمع ! أريدك أن ترسل فورا مليار جني مغوارمخفيين إلى كوكب الأرض لينزعوا السلاح من أيدي البشر جميعا دون أن يريقوا نقطة دم واحدة . لا أريد أن يبقى بين أيديهم حتى قطعة مسدس . ليقذفوا كل شيء على سطوح أبعد الكواكب . أريد أن أرى الطائرات والسفن والبوارج وحاملات الطائرات والغواصات والطوربيدات والصورايخ والدبابات والمجنزرات والبنادق والرشاشات تقذف في الفضاء كقطع الكرتون . وثانيا :أريدك أن ترسل جيشا يجوب البحار ويساعد المهاجرين على اجتيازها ويقدم لهم الطعام والشراب واللباس ويؤمن وصولهم إلى البلدان التي يقصدونها . ويبني بيوتا للاجئين السابقين ويقدم لهم كل ما يحتاجونه . وارسل من يبني المدن والقرى المهدمة في البلدان المختلفة ويقدم للناس كل ما يحتاجون إليه . هيا ! - مولاي سمعت أن الفلسطينيين بدأوا يستخدمون السكاكين في قتالهم ! - ألم ير جندك في كل أسلحة الدمار الشامل على أرض فلسطين إلا سكاكين الفلسطينيين أيها الملك ؟ اسحب من أيدي الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب كل من يشرع سكينا أو سيفا أو أي أداة للقتل والضرب حتى لوكانت عصا ! لكن بعد أن تسحب أسلحة الفتك والدمار من أيدي الدول . - أمر مولاي ! - وفقك الله ! ليتفضل مولاي ويجلس على شرفة في القصر ليمتع ناظرية بأسلحة الدمار وجيوشي المغوارة تقذفها في الكون الفسيح ! أرعد الملك شمنهور بصوت هائل ملقيا أوامره على جيوشه الهائلة . ولم تمر سوى لحظات حتى راح الفضاء يتقاذف الأهوال وكأنه يوم القيامة ، فيما عم الذهول سكان كوكب الأرض وقد أدركوا أن الإرادة الإلهية قد تدخلت لإنقاذ الكوكب من الحروب ! صعد الملك والملكة إلى أعلى شرفة في القصر وجلسا يتمتعان برؤية الأجسام المتقاذفة في الفضاء وكأن ريحا هوجاء تعصف بها . للحظات أحس الملك لقمان أنه يعيش واقعا لا خيالا فانفرجت شفتاه عن ابتسامة طفيفة وهو يضم رأس الملكة إليه ويقبلها بحرارة . ***** (4) المحبة والإيمان المطلق يسودان العالم ! خصص الملك لقمان ليلته الأولى للملكة نورالسماء بعد أن أمضى باقي يومه متمتعا برؤية البوارج والسفن والطائرات والدبابات والغواصات والصورايخ العابرة للقارات والمدافع وبراميل المتفجرات وأسطوانات المواد الكيماوية والقنابل النووية المتقاذفة في الفضاء .. وخصص ليلته الثانية للسهر مع أسرته القديمة على المركبة الفضائية المسحورة فالتقى هو والملكة ربة الجمال وأستير ودليلة ونسمة وأختها ووالديها وقائد المركبة والملك شمنهور والعديد من المقيمين على المركبة وفي قصر الملكة. ودعا الملك لقمان الملك ابليس وزوجته الملكة والملك حامينار والد الملكة نور السماء وزوجته الملكة إلى الحفل . رقصت أستيرمتثنية على أنغام موسيقى كونية فأذهلت برقصها الحضور وترنمت ربة الجمال بصوت عذب لامس شغاف القلوب وحلقت دليلة بالجميع في فضاءات الروح بعزفها على الكمان . وفي صباح اليوم الثالث أعلن الملك شمنهورفروغ قواته من كافة المهام التي أوكلت إليها بقذف الأسلحة على كوكبي نبتون وكرونوس ، وأن آخر شيء فعلته هو نزع السكاكين من أيدي الفلسطينيين. . وأكد للملك لقمان أن الأسلحة التي قذفت على القمر في المرة الأولى ما تزال عليه ، غيرأن الدول استغلت غياب القوى العظمى التي نزعت الأسلحة فقامت بصنع أسلحة جديدة خلال العشرين عاما الماضية . وأدرك الملك لقمان أن الملك شمنهور يضع الحق عليه بتخليه عن إكمال مهمته في إصلاح الكون وكوكب الأرض بشكل خاص ، وعودته إلى الأرض ليكابد الشقاء مع البشرية تاركا إياها تتخبط في تصرفاتها وسلوكها.. وأكد الملك شمنهور أنه تم بناء المدن المدمرة وفي مقدمتها مدن حلب وحمص ودرعا وحماة ودوما وكل المدن والبلدات المحيطة بدمشق وغيرها . ,وأنه أنزل ملايين الأطنان من اللحوم والخضار والفواكه والحبوب في كل مكان فيه جوعى ومشردون وبنى بيوتا لهم ، وأنه أنقذ آلاف المبحرين وأوصلهم إلى أماكن توجههم وبنى لهم بيوتا . وأكد أن البشرية تحتفل الآن في الحدائق والشوارع والملاعب والغابات وسطوح الأبنية والعمارات وداخل الصالونات متبادلة القبل والأنخاب والأغاني والألحان والرقصات ، مرددة الأهازيج لمجد الآلهة بكافة مفاهيمها ، وأعلن أن البشرية لم تتبادل القبل في حياتها كما تبادلتها وتتبادلها الآن . وما يزال زعماء العالم في حالة صدمة وذهول ولم يبد أي من الكبار فرحته لما جرى ويجري بل أن بوتين صرح بأن ما يجري هو مجرد خيال وأن البشرية أصيبت بالجنون ! ووافقه أوباما حين صرح بأن ما يجري يستحيل أن يكون حقيقة واقعية . أما نتنياهو فقد بدا في غاية الحزن وهو يرنو إلى قنابل اسرائيل النووية تتقاذف في الفضاء وإسرائيل تغدو عارية دون أسلحة ! وهنا رفع الملك لقمان يده مشيرا إلى الملك شمنهور أن يتوقف عن إكمال تقريره ،وبدا عليه أنه استعاد كامل توازنه ودخل في شخصية الملك لقمان بكل أبعادها الأسطورية ضاربا عرض الحائط وإلى الأبد بمحمود شاهين الأديب ! وخاصة بعد أن استعاد كافة عناصر قوته الخارقة من خواتم وقلائد مطلسمة وكلمات سحرية ، وراح يشكر الله بصوت خفيض مرددا " شكرا يا إلهي / شكرا يا إلهي " ثم توجه بكلماته إلى الملك شمنهور : - مهلا أيها الملك هل قلت أنهم يمجدون آلهتهم على اختلاف مفاهيمها ؟ - أجل يا مولاي! - كم مرة قلت لكم أن تعفوني من ترديد مولاي هذه على مسامعي؟! لم يجب الملك شمنهور . وأطرق الملك لقمان للحظات وما لبث أن نهض وخرج إلى شرفة القصر. مد يدا منقبضة وأغمض عينية للحظات متفكرا وما لبث أن أطلق أصابع يده وإذا بالكون يزدحم بالمليارات من القصاصات الورقية الملونة بكافة الألوان الذهبية والخضراء والحمراء والصفراء والزرقاء والبنفسجية والبرتقالية وراحت تتهاطل على كل رقعة في كوكب الأرض وقد كتب عليها بألوان تتناسب ولون القصاصة وبأكثر من مائة لغة : " نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن الإنسانية حبيبة الله هي إليه تستند وهو عليها يعتمد لا غنى للخليقة عنه ولا غنى له عن الخليقة فهو الواحد في الكل والكل في الواحد يتحد عشق الأحبة متبادل بنبض القلوب وآهات الروح ورعشة الجسد لا يكتمل الحبيب إلا بالحبيب فلا اكتمال بحب منفرد سعي الخلائق إلى الكمال بسعي الخالق يتحد فإما كمال يعم الخليقة وإما انتهاء إلى الأبد ******* وراح الملك لقمان يردد الكلمات بصوت هائل والحضور يأخذون القصاصات ويرددون معه ليتردد صدى كلماتهم في كافة أرجاء الكون ومن كافة أجهزة التلفاز والراديو في كل جهاز في الكون . وظلت الأصوات تتردد في كافة أرجاء الكون وبلغات مختلفة ،ولم تجد البشرية والجن والشياطين على اختلاف مذاهبهم على كوكب الأرض وغيره من الكواكب . إلا أن تخرج من ذهولها وتجثو على ركبها وتردد الكلمات ليتردد صداها من كافة أرجاء الكون . معلنة بذلك الدخول في الإيمان المطلق . الإيمان الذي ليس بعده إيمان ! الإيمان بالإله الواحد الساري بطاقته وقدرته في الكون والكائنات وفي مقدمتها الإنسان كأجمل تجليات الألوهة !! ******* (5) *سجون بلا سجناء حرية وكلمة ! عبثا يحاول الملك لقمان النوم لكن دون جدوى . ينظر إلى جمال وجه الملكة المستلقية إلى جانبه على السرير الفسيح محاولا تأمله ليطرد الصور المختلفة من مخيلته . يمثل الوجه له بكل جماله لكن تظل الصورة مضطربة ، فمعجزة الصلاة الكونية التي تحققت لأول مرة في التاريخ على ألسن البشرجميعا مرددة كلماته الشعرية التي سطرها في مفهومه للإيمان جعلته يشعر بفرح لم يستشعره من قبل على الإطلاق . وإذا ما أضاف إليها معجزة نزع السلاح وغيرها من المعجزات مثل صعوده إلى الفضاء بسرعة تفوق سرعة الضوء وحضور ملوك الجن والإنس وانصرافهم بالسرعة ذاتها فإنه يمكن القول أنه أسعد إنسان في الكون، وفي مقدوره أن ينام مطمئنا ، لكنه يفضل استشعار السعادة على النوم ،دون أن يغيب عن باله ما سيفعله في الأيام القادمة ، موقنا أن الله سيكون في عونه، ومدركا أن كل ما جرى ويجري لم يكن ليتم لولا الإرادة الإلهية التي شاءت أن تتضافر مع رغبته ورغبة الجن وحتى بعض البشر . وظل طموحه في لقاء الله قائما رغم قناعته بأن الألوهة طاقة سارية في الكون كله والكائنات كلها وأن تجليها يتمثل في الخلق كله ، لكن تظل مسائل كثيرة ينبغي عليه أن يحصل على إجابات قاطعة عنها ليجزم بصواب أفكاره وأنها لم تخطر له إلا بإلهام من الله نفسه . مشكلة نزع سكاكين الفلسطينيين المقاتلين أقلقته بعض الشيء ،فكيف ينزع سلاحا بسيطا من يد شعب محتل؟ مع أنه يدرك أنه لم ينزع سكينا إلا من شباب كانوا يسيرون في الطرقات متربصين بمحتل ما ، ولم ينزع سكينا من بيت . وتقبل الأمر لقناعته أنه سيقيم في أقرب وقت دولة ديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني تحوي الجميع ، كما صرح الرئيس الفلسطيني قائلا " إذا كان نزع سكاكين أبنائنا يجلب لنا الحرية والسلام فلتنزع كل السكاكين " تنبه إلى أمر مهم نسيه وهو السجناء الفلسطينيين ، بل وسجناء الحرية في العالم كله ،كيف نسي إطلاق سبيلهم . والجرحى والمرضى في العالم . في رحلته السابقة أولى الملكة بهم .. ووجد نفسه يطبع قبلة خفيفة على جبين الملكة وينهض بهدوء من السرير ويخرج إلى الصالون . يخاطب الملك شمنهور تخاطرا . يشعر الملك شمنهور أن (سيده ) يخاطبه . ينهض بسرعة . يرتدي ملابسه بكلمة سحرية . ويمثل أمام الملك لقمان بكلمة أخرى. - أمر مولاي ! - متى تتوقف عن ترديد مولاي هذه أنت وقومك . أنت ملك وصديق وقائد عظيم ! - مولاي ! أنت بالتأكيد تدرك ما معنى أن تحررني وقومي من قماقم سليمان بعد ثلاثة آلاف عام . إن ما فعلته لم يفعله بشر وحتى آلهة من قبل ولا نستطيع إلا أن نكون في إمرتك وتكون سيدنا . - حسن أيها الملك . تذكرت أننا لم نطلق سراح سجناء الحرية والكلمة ! - سأفعل ذلك في الحال يامولاي . - وحتى السجناء الجنائيين . أرغب بتبييض السجون في هذه المناسبة . وكذلك أرسل ملائكة رحمة من الحوريات لإشفاء المرضى في العالم . ابدأ بالسجون الإسرائيلية والسورية وباقي السجون العربية ثم تحول إلى سجون العالم . لا تنس أن تحرر النساء من أسواق النخاسة والعبودية . - أمر مولاي . ******** في سجن اسرائيلي للنساء . فوجئ أحد حراس السجن بالباب يفتح مع أنه كان مغلقا بإحكام . وتقدمت النساء من الداخل بخطوات مرتابه .. حاولت فتاة فلسطينية أن تخرج . شعرت بيد تربت على ظهرها وتدفعها للخروج. خرجت . حاول الحارس أن يصدها وإذا بوجهه يصطدم بحاجز غير مرئي .. شرعت الفتيات في الخروج . هرع الحراس لكنهم كانوا يصطدمون بحواجز غير مرئية كلما اقتربوا من الفتيات . وأطرف ما جرى أن أحد جنود الجن أخذ حارسا وقذف به إلى أعلى وأخذ ثانيا وقذف به وأخذ ثالثا وقذف به أيضا ،وعاد ليتلقف المقذوف الأول ويقذفه ثانية ويتلقف بيده الثانية المقذوف الثاني ويقذفه ثم يتلقف الثالث بيده الأخرى ويقذفه ليلعب بالحراس لعبة الطابات الثلاث فيما السجينات يضحكن وينشدن للحرية ويخرجن إلى خارج السجن .. سمع نتنياهو أن السجون في كافة أنحاء اسرائيل والأراضي المحتلة قد بيضت وأن السجناء قد هربوا ، فأصيب بجلطة دماغية أدت إلى نقله إلى المستشفى . **** وبعد ثلاثة أيام مثل الملك شمنهور أمام الملك لقمان ليعلمة أنه لم يبق سجين في العالم إلا وأطلق سراحه ولم يبق مريض أو جريح إلا وعولج من جراحه أو مرضه . استؤنفت احتفالات البشرية في كافة مدن وعواصم العالم بإطلاق سراح سجناء الكلمة والرأي وحتى السجناء الجنائيين الذين قرروا أن يتوبوا عن اقتراف الجرائم . كما احتفل أهالي المرضى بذويهم ،وسمعوا قصصا لا يصدقها العقل من المرضى. فقد قال أحد مرضى السرطان أنه شعر بيد ناعمة تملس على جسده لتمنحه طاقة حيوية فريدة ، وفجأة ظهرت فتاة في غاية الجمال ترتدي الثياب البيض وقالت له " الحمد لله على سلامتك " فنهض وهو يشعر بحيوية ونشاط غير عادي ،وما كاد يشكر الفتاة حتى اختفت . وحين خرج من الغرفة شاهد مئات المرضى وقد عولجوا من أمراضهم وقد عادوا أصحاء على أكمل وجه . حتى من فقد ساقا أو يدا في حرب فقد عادت له قدمه وساقه . ومن فقد عينه عادت له . ***** طلب الملك لقمان أن يبقى وحده في خلوة . فانصرفت عنه الملكة ومن كان في حضرته .جثا على ركبتيه واضعا يديه عليهما وكأنه في طقس صلاة إسلامية . وراح يشكر الله من أعماق قلبه مرددا الكلمات إياها التي رددتها البشرية وراءه ومعه ،لكن بصيغة المفرد وليس بصيغة الجمع " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن الإنسانية حبية الله " وما لبث أن دخل في صمت وخشوع عميقين . وقد أغمض عينية ليذهب بعيدا في أغوار نفسه ويدخل في المطلق . **** (6) *الملك لقمان يهبط على جنة لا جهنم فيها ! قرر الملك لقمان أن يتابع رحلته الكونية على المركبة الفضائية المسحورة مصطحبا الملكة نور السماء ونسمة وأستير والملك شمنهور الذي اصطحب زوجته دليلة ومحبوبته ربة الجمال المخلوقة من مسك وعنبر وفل وقرنفل وزعفران وكافور ،والتي يبدو الماء من روحها ، وتبدو عظامها من خلال مائة ثوب من الحرير ! أقلعت المركبة بسرعات فائقة لتجتاز مسافات ضوئية وتحلق فوق مئات الكواكب ، ثم أمر الملك لقمان بتخفيف السرعة لعله يرى كوكبا مأهولا يمكنه الهبوط عليه ، حافزه أمر واحد أن يعثر على دليل يؤكد له صحة فلسفته عن الوجود والغاية منه وأن الله ليس إلا القدرة الطاقوية المتجلية والمتمظهرة في الكون والكائنات وما ينجم عنها . وتمنى لو أن الله يظهر له في هيئة ما ويخاطبه وجها لوجه. متمنيا ألا يعود خصمه المجهول إلى محاربته بالشهب والنيازك والمذنبات كما سبق له وأن فعل في رحلته السابقة . فهو لا يرغب في خوض حروب حتى لو كانت دفاعا عن النفس. دخلت المركبة فضاء كوكب ملون في غاية الجمال . الأبنية فيه ملونة بألوان مختلفة . ليس هناك بناء من لون واحد وكأن رساما قام بتلوينها بألوان متناسقة . هبطت المركبة إلى أقرب مسافة فوق الكوكب .. بدا جمال الطبيعة وتناغم ألوانها أكبر مما يمكن للعقل أن يتصوره . وفيما كانت المركبة تحلق بسرعة بطيئة شاهد بشرا يتنقلون بين الأبنية والأسواق والطبيعة الخلابة . بعضهم يسيرون على أرجلهم وبعضهم يتنقلون طائرين بأجنحة . وبعضهم يتجولون في حدائق ملونة وسط نوافير متعددة ترذ المياه في اتجاهات مختلفة وبألوان متعددة .. لم يجر أي تنبيه للمركبة أو إطلاق صواريخ أو نار في اتجاهها ، كما لم تنطلق طائرات حربية لمواجهتها مما يدل على أن الكوكب لا يملك أسلحة ، رغم أن جمال الكوكب يشير إلى أنه متحضر ومتطور جدا بدليل الناس الطائرين . وحين تجاوزت المركبة بعض المدن واقتربت من مناطق خالية شاهد الملك ومرافقوه ما لا يصدقه عقل فقد كانت مجموعة أنهار تنبع مندفعة في الفضاء بشكل قوسي من أماكن مختلفة بعيدة كما يبدو دون أن يصطدم قوس نهري بقوس نهري آخر . أشار الملك إلى قائد المركبة بالتوقف في الفضاء وخرج الملك ومرافقوه إلى شرفة وراحوا يتأملون جمال الأنهار . كان نهران خمريان ينبعان من ناحية ولتكن الغرب ويندفعان بشكل قوسي في الفضاء إلى جانب بعضهما في اتجاه معاكس إلى مسافة بعيدة ليصبا في محيط ،ونهران يندفعان من الجنوب ليمرا فوق النهرين الآخرين ليصبا في محيط يفترض أنه في الشمال .عرض كل نهر لا يقل عن مائة متر . ولاحظ الملك ومرافقوه مئات الشباب والشابات مرتدين ملابس السباحة وهم يمتطون مياه الأنهار أو يسبحون فيها لتقذفهم في المحيط . وشاهدوا مئات آلاف البشر المتنزهين على الأرض أسفل هذه الأنهار وإلى جانب أنهار أرضية أخرى ملونة . ولم يعلم الملك لقمان ومرافقوه أن جميع هذه الأنهار المحلقة في الفضاء والجارية على الأرض ليست إلا أنهار خمر مختلف الأنواع والألوان إلا بعد أن هبط ومرافقوه إلى الأرض واشتم رائحة فواحة فسأل مجموعة من الحوريات كن يتبادلن الأنخاب عما إذا كانت هذه الأنهار أنهار خمر فأجبن بالإيجاب ودعون الملك لقمان ومرافقيه إلى تناول خمر أنهارهن . كان الملك قد أمر بإبقاء المركبة متوقفة في الفضاء ونزل طائرا مع مرافقيه وحط على مقربة من الفتيات اللواتي يتبادلن الأنخاب بغرف الخمربكؤوس كريستالية من نهر يجلسن إلى شاطئه ويقمن ببعض الشواء للحم طيور على جمر متقد . وما أن حياهن الملك لقمان حتى رددن التحية بأجمل منها ورحبن به وبمرافقيه ودعونهم إلى مشاركتهن الخمر والشواء . شكرهن الملك وجلس ومرافقوه على بساط عشبي أعشابه تبدو كأنها من خيوط الحرير . غرفت الفتيات بكؤوسهن خمرا من النهر وقدمنه لضيوفهن ثم رفعن كؤوسهن ليتبادلن معهم الأنخاب . وبدا الملك شمنهور في غاية الدهشة وهو يرقب جمال الفتيات وأنهار الخمر المحلقة من فوقهم وإلى جانبهم ،ورغم أن خيال الملك شمنهور كان واسعا إلا أنه لم يفكريوما في أنهار خمر تجتاز الفضاء أو تمخر الأرض . أما الملك لقمان فقد راحت مئات الأسئلة تطرق مخيلته . فسارع إلى طرح الأسئلة على فتاة ذات جمال أخاذ تولت محادثته بعد أن قدم نفسه ومرافقيه باقتضاب مدعيا أنهم رواد فضاء: - هل في مقدوري أن أطرح عليك بعض الأسئلة عن هذا الكوكب يا آنسة ! ورغم تردد الملك في لفظ "آنسة " إلا أنه بدا مصيبا كما يبدو فلم تعترض الحورية، وقالت تفضل : - هل أنتن حوريات ؟ - أجل نحن حوريات . - وما اسم هذا الكوكب و اسم هذا المكان ؟ - اسمه كوكب الجنات وهذه إحدى جنانه ! - هل هذا يعني أنه يوجد جنان كثيرة فيه ؟ - أجل .. آلاف الجنات . - وهل فيه جهنم أو جهنمات ؟ وبدا أن الحورية تسمع لأول مرة بالكلمة فتساءلت عن معناها فأجاب الملك : - نار يحرق فيها المذنبون ويتعذبون ! - لا لا يوجد ولا أعرف إن كان هناك جنات فيها جهنمات مثل هذه التي تتحدث عنها . - أليس لكم إله ؟ - بلى . - ألا يحاسب ويعذب ؟ وبدت الحورية في غاية الدهشة لاعتقادها أن هذا الرجل متخلف بسؤاله عن إله يحاسب ويعذب . فأجابت بدهشة : - نعم؟ إله يحاسب ويعذب ؟ ألله يسمو فوق الشر! ألله يا سيد محبة مطلقة وجمال مطلق وخير مطلق وعدل مطلق وخالق مطلق وخلق مطلق! ولم تصدق الحورية ماذا جرى بعد إجابتها. فقد أغمض الملك لقمان عينيه واختلجت تقاسيم وجهه وتنهد من أعماقه والدموع تهطل من عينيه بغزارة وهو يردد باكيا " شكرا يا إلهي شكرا يا إلهي شكرا يا إلهي " ثم انحنى وقبل الأرض وهو يردد عبارته . أدركت الحورية التي لم تكن سوى ملكة كوكب الجنات بعينها ، أن إجابتها كانت منسجمة تماما مع فكر الضيف ، فدنت من الملك وراحت تربت على ظهره فيما كانت الملكة نور السماء تربت على كتفه أيضا . هتفت ملكة الكوكب مخاطبة الملك لقمان الذي راح يمسح دموع الفرح : - أهلا بك في كوكب الجنات أيها الضيف . أنا الملكة "شمس الورود" ملكة الكوكب . وهؤلاء صديقاتي وقريباتي. ********* (7) * أرواح القديسين والعلماء تصعد إلى السماء . بدا الملك لقمان ومرافقوه في غاية الدهشة حين قادتهم الملكة الشابة إلى غابة تحولت إلى حديقة شاسعة تنتصب فيها تماثيل للأجداد الذين أمضوا أعمارهم في البحث عن الحقيقة . وكان الملك لقمان قد قدم نفسه كملك وليس مجرد مرتاد للفضاء كما قدم مرافقيه من الإنس والجن . وأكثر ما أدهش الملكة ومرافقاتها اعتقادهم بالجن والشياطين بل ووجودهم بينهم،وهذا الإعتقاد كان قد انقرض عندهم منذ عشرات آلاف السنين بعد أن تطور فهمهم لجوهر الألوهة الخالقة . كان مئات الرجال المسنين المتحجرين يسند بعضهم ظهورهم إلى جذوع أشجار ضخمة ويمدون أرجلهم في استقامة واضعين أيديهم فوقها فيما كان بعضهم يقرفصون إلى جانب الأشجار وآخرون يثنون أرجلهم تحتهم ويستندون إلى جذوع الأشجاروآخرون يجلسون في وضع صلاة إسلامية . وبدا كل واحد منهم وكأنه قد بقي على الوضع الذي تجمد عليه منذ آلاف السنين لتجف الشجرة وتتحجر بدورها مشكلة مع جسد الرجل بأغصانها الضخمة المتحجرة نصبا في غاية الجمال . أجل الملك لقمان كل أسئلته الوجودية وراح يتأمل مئات النصب التي شكل كل واحد منها تحفة فنية مذهلة . وما لبث أن سأل الملكة : - ماذا تقصدين بالأجداد الباحثين عن الحقيقة أيتها الملكة وكيف تجمدوا وتحجروا دون أن يطالهم أو يطال ألأشجارالتي استندوا إليها الفناء . - إنها الإرادة الإلهية التي شاءت ذلك . ولهذا الأمر قصة طويلة أيها الملك . إذا تحب سأرويها لجلالتكم . فهؤلاء الذين ترى أنصابهم أحياء في الأبدية المطلقة الخالدة ،التي لا تفنى ولا تموت . وبدا الكلام صعبا بعض الشيء على الملك . - أكون شاكرا لجلالتك فأنا لم أجب الكون إلا بحثا عن الحقيقة . - كان عدد سكان كوكبنا أكثر من خمسة عشر مليارا يعتنقون أكثر من عشرة آلاف دين ويعبدون أكثر من عشرة آلاف إله حسب فهم كل دين للألوهة . فكثرت النزاعات الطائفية والمذهبية ونشبت حروب طاحنة أودت بحياة الملايين . فقرر المئات من القديسين والعلماء والفلاسفة البحث عن الحقيقة والتعمق فيها . في البداية بدأت المسألة بقديس واحد . جلس إلى جذع شجرة وراح يتأمل في الوجود ملغيا من عقله كل ما عرفه ويعرفه عنه ،مضربا عن الطعام والشراب ما لم يصل إلى الحقيقة. حقيقة الوجود. حقيقة الخالق . الغاية التي وجد الخلق ووجد البشر من أجلها . ( وأشارت الملكة إلى أحد الأنصاب قالت أنه نصبه ) كانت غايته معرفة الحقيقة ليوحد أبناء الكوكب حولها وينقذ الكوكب من النزاعات المدمرة . كان ذاك القديس هو أكبر علماء كوكبنا . مر عليه ثلاثة أيام دون أن يتناول شيئا ، وطلب إلى الناس أن لا يأتوه بشيئ. وبدأ العلماء والقديسون والفلاسفة يتضامنون معه فرادى ثم جماعات . بحيث لم يبق في هذه الغابة شجرة كما ترى إلا وجلس إلى جذعها رجل أو حتى أكثر من رجل .فارق القديس الأول الحياة بعد ثلاثة أسابيع دون أن يطرأ أي حركة على جلسته . فارقها مساء في الوقت الذي كان فيه عشرات الآلاف من الناس يجثون في الغابة ويتضرعون إلى الله أن يرأف بعلمائهم وفلاسفتهم وقديسييهم . وحينئذ حدثت المعجزة الإلهية . فما أن فاضت روحه حتى خرج من جسده نور راح يتصاعد ببطء في الفضاء ولم تمر سوى لحظات حتى فاضت أرواح جميع العلماء كما كانوا جالسين، لينبعث من أجسادهم نور ويصعد إلى السماء خلف النور الأول . نور أضفى على الجو هالة جمالية في غاية الروعة والإدهاش. لم يكن النور يتصاعد بشكل عمودي أو في كتلة أو كتل بل كان يتصاعد في هالات نورانية مشعة متموجة بألوان مختلفة مبهره صبغت الغابة والناس بألوانها . وشرع الآلاف في إحضار الشموع وإشعالها أمام الجثامين دون أن يبدو على الناس أي حزن لرحيل العلماء لإدراكهم أن إرادة إلهية هي التي شاءت ذلك . وجاء الناس بباقات ورود ووضعوها أمامهم أيضا. زادت إنارة الشموع الجو سحرا وجمالا وتضوعت رائحة الزهور لتملأ الغابة .وشرع الناس على اختلاف مذاهبهم يرددون اسم الله بخشوع . وفجأة راحت الهالات النورانية ترسم بتموجاتها كلمات بلون أخضر تعبر عن جوهر الألوهة . بحيث راحت الجمل تظهر جملة خلف جملة إلى أن ظهر أكثر من مائة ألف جملة . وحين رأى الناس أن الجمل كثيرة جدا راح بعضهم يحفظ ما يريد منها وبعضهم يأخذ لها صورا لتنشر فيما بعد في مجلد شكل ناموس أمتنا التي توحدت خلفه وتبعته. فنحن الآن نعبد إلها واحدا يملأ وجوده الكون كله ويسري في قلوبنا وأجسادنا ولا نستطيع دون وجوده في ذواتنا أن نفعل ولو مجرد حركة ! وهو كما عبرت لك محبة مطلقة وخير مطلق وجمال مطلق . ويسرنا أن ندعوا جلالتكم للإحتفال معنا بعيد النور بعد يومين وهو اليوم الذي فاض فيه علينا النور الإلهي وصعدت فيه أرواح أجدادنا إلى السماء لتنضم إلى الروح الإلهية . بدا الملك لقمان في غاية السعادة وهو يستمع إلى فكر أقرب ما يكون إلى فكره . وشعر أنه في حاجة إلى معرفة المزيد والمزيد عن هذا الفكر لعله يستطيع تطبيقه على كوكب الأرض البائس . شكر الملكة على الدعوة بل وأبدى رغبته في أن يستمع إلى حديثها الممتع أكثر. وشعرت الملكة نور السماء بالقليل من الغيرة لأن الملك لقمان بدا مأخوذا بجمال وفكرملكة كوكب الجنات ! ولم يعد يهتم بها ! ***** (8) * أسعد بشر في الكون خالدون في دنياهم وخالدون في الألوهة ! تنبه الملك لقمان وهو يتجول مع ملكة الجنات في حديقة النور أو حديقة الأجداد إلى أن جمال الشباب يضاهي جمال الفتيات أو يفوقهن جمالا عند بعضهم فخطر له أن يسألها وصورة الولدان المخلدين في الفكر الإسلامي تمر في مخيلته : - من يتمتع بجمال هؤلاء الشباب جلالتك ؟ أدركت الملكة أن سؤال الملك ينطوي على أبعاد اجتماعية وأخلاقية عميقة فقالت ببساطة: - بناتنا ! - كيف ؟ - كيفما يريدون إما حبا أو زواجا أو مجرد رغبة مشتركة في صدفة ما . كل أشكال الحب مسموحة عندنا . المهم هو عدم الإساءة إلى أحد واحترام الآخر ورغبته . ولا حظ الملك عدم وجود مسنين ومسنات فسأل : - لماذا لا يوجد مسنون ومسنات بين المتجولين في الحديقة ؟ ابتسمت الملكة وأبدت بعض الدهشة وكأن السؤال فاجأها : - لقد قضينا على الشيخوخة منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام . فوجئ الملك بدوره . - ولا تموتون ؟ - الموت عندنا اختياري وبمعنى أدق لا موت عندنا ! لم يعد الملك يستوعب شيئا ! - كيف اختياري ؟ هل يختار الإنسان عندكم أن يموت ؟ - بل يختار الإنتقال إلى الحياة الأبدية بالإنضمام بطاقة جسده الحيوية الباعثة على الحياة إلى طاقة الألوهة الخالدة ليساهم معها في عملية الخلق! ويتحول باقي جسده إلى نصب خالد بعد أن تذهب طاقته الثانية المادية لإغناء تربة الأرض . لم يعد الملك لقمان يفهم شيئا وتمنى لو أنه لم يضرب عرض الحائط بخالق شخصيته محمود شاهين فهو الوحيد القادر على أن يفهم ما تتحدث به الملكة . - أرجو جلالتك أن تأخذيني على قدر عقلي فأنا قادم من كوكب متخلف له مفاهيم مختلفة عن الخلق والخالق. - االألوهة الخالقة في مفهومنا طاقة عظيمة تسري في الكون كله يتم بواسطتها الخلق وكل شيء ولا يمكن أن يتم دونها كما سبق وأن أسلفت. وحين يمل الإنسان أو يشبع من الحياة الدنيوية ويرغب من أعماق نفسه بالتوحد مع الألوهة ، يقوم بالسعي إلى ذلك بأن يختار طريقة للرحيل في المطلق الأزلي ( أي الألوهة ) كأن يجلس مثل أحد هؤلاء القديسين إلى جذع شجرة أو في أي مكان يختاره حتى لو كان على قمة جبل أو داخل بيته ، ممتنعا عن الطعام والشراب غارقا في أعماق نفسه إلى أن يبدأ بالتوحد بالمطلق والتفاني فيه شيئا فشيئا فاقدا إحساسه بجسده إلى أن يصل إلى ذروة التوحد بصعود الطاقة الحيوية من جسده إلى السماء في شكل هالة نورانية لتندمج بالطاقة المطلقة العظمى طاقة الألوهة الخالدة السارية في الكون والكائنات!. وليصبح بذلك شريكا في الألوهة متوحدا معها. يحس بما تحس ويشعر بما تشعر ويرى ما ترى ويسمع ما تسمع ويتمتع بما تتمتع ويخلق ما تخلق . بدا الملك لقمان في غاية الدهشة وهو يسمع ما لم يخطر بباله ولو بهذا التصور فقرر أن يسأل سؤالا رغم ادراكه أن السؤال لا يخلو من سذاجة : - هل هذا يعني أن الألوهة تحس وترى وتتمتع بكل ما تحس وترى وتسمع وتتمتع به الكائنات ؟! وأجابت الملكة بتأكيد مطلق : - نعم نعم نعم ! تساءل الملك : - كيف ؟ ترى بعيون كائناتها وتحس بإحساسها وتسمع بآذانها وتتكلم بألسنها وتفكر بعقلها وتتمتع بكل ما تتمتع به على الإطلاق بما في ذلك رعشة الجسد والقبلة ! فكل شيء يتم بطاقتها فكيف لا تعيشه ؟ وأسوأ ما تعيشه الألوهة هو الألم لأن كل نقطة دم تنزف من انسان وكل ألم يواجهه تشعر به الألوهة . لذلك نحن في كوكبنا ومن أسمائه كوكب المحبة ، نحاول أن نحيا دائما بمحبة كي لا نجرح شعور الألوهة لأننا ندرك أن الألوهة تسري في أجسادنا وتحس ما نحسه وتتمتع بما نتمتع به وتشمئز مما نشمئز منه . الفرق أنه لا يمكن مقارنة ما نراه ونحسه بما تراه وتحسه الألوهة . فأنا وأنت ومن معنا لا نتمتع الآن إلا بما نراه أمامنا أما الألوهة فهي تتمتع برؤية كل ما يجري في مليارات الأكوان . وأصر الملك لقمان على طرح سؤال آخر قد لا يخلو من سذاجة وحتى وقاحة : - لنأخذ الحب مثلا ، فهل رعشة الجسد أو بلوغ الذروة في ممارسة الحب لدى البشر والكائنات الأخرى تشعر الألوهة بها وتتمتع كذلك ؟ وأجابت الملكة بإصراركما في السابق : - نعم نعم نعم !! غير أنها استدركت قائلة : - هذا ما توصل إليه علماؤنا وفلاسفتنا استنادا إلى العلم والمنطق وهو ليس حقائق مطلقة ، لكننا لم نتوصل إلى ما ينقضه حتى الآن . وراح الملك يشكر الملكة ويتابع : - أشكر جلالتك وآمل ألا أزعجك بكثرة أسئلتي فما يزال لدي الكثير . - أبدا جلالتك فأنا سعيدة بزيارتكم خاصة وأننا لم نلتق ببشر من كواكب أخرى . الآن سأنتقل بك إلى أماكن أخرى أريك فيها أجسام بشر تحجرت كأجسام القديسين والعلماء وتحولت إلى أنصاب خالدة بعد أن خرجت طاقة الألوهة الحيوية منها وانضمت إلى الطاقة الكلية المطلقة السارية في الكون . بعضها في الحدائق العامة وبعضها على قمم الجبال وسفوحها وبعضها في الأودية وبعضها على ينابيع المياه أو إلى جانبها وبعضها في حدائق البيوت أو داخلها . وهنا سأل الملك : - هل هذا يعني أنه ليس لديكم قبور . - أجل ليس لدينا قبور . كل من يغادر الحياة الدنيوية يتحول إلى نصب خالد . - هذا يعني أن لديكم خلودين ، خلود دنيوي في نصب وخلود إلهي في الألوهة ! - أجل جلالتك . ونحن على الأغلب أسعد بشر في الكون كله ! هيا بنا . وضغطت الملكة على زر في جناحيها الصناعيين لتنبعث طاقة تحركهما وطارت مع مرافقيها ليطير الملك لقمان ومرافقوه على طريقتهم وينتقلوا إلى الأماكن الأخرى . ******* (9) * الحب في كوكب المحبة والجنات ! وهو يتأمل بعض الأنصاب للخالدين في الألوهة وقد انتصبت تماثيلهم إلى جانب صخور أو جذوع أشجارعلى سفح جبل تنبع منه ينابيع متعددة وقد كتب اسم كل خالد على جزء من جسده ، خطر ببال الملك لقمان سؤال حين كان يتأمل أحد هذه الأنصاب لفتاة جميلة اختارت أن ترحل عن الدنيا وتتوحد مع الألوهة وهي جالسة على صخرة كبيرة . ألقى نظرة نحو الملكة وتساءل : - هل ينجح كل إنسان في الرحيل والإتحاد بالألوهة ؟ - لا ! ثمة من يفشلون لعمل سيء عملوه، أو لعدم صدق نية في الخلاص والتوحد مع الألوهة. فيبقون في الحياة الدنيا ويحاولون تحسين سلوكهم أو تلافي ما يظنون أنه خطأ ارتكبوه فيعودون إلى تكرار المحاولة إلى أن ينجحوا .. أي أن الجميع ينجحون في النهاية . - لدينا مذهب في كوكبنا يتبعه كثيرون من البشر يدعى مذهب وحدة الوجود يبدو لي أن مذهبكم هو المذهب نفسه لكن بمفاهيم وسلوكيات أعمق . فعندنا يوجد موت ودفن. والطاقة الحيوية تخرج من الجسد وتنضم إلى الطاقة الخالقة بينما تتحلل الطاقة المادية في التربة لتغذيها ، حسب هذا المذهب دون غيره من مئات المذاهب بل آلافها على كوكبنا. - هذا صحيح فالوجود واحد طاقوي مادي . الطاقة الخالقة وتجلياتها في المادة الحية . الوجودان خالدان . لكن الطاقة الخالقة يشمل وجودها الكل الكوني بينما المادة المتجلية في الكائن بذاته جزئية . فالكائن المادي وليكن الإنسان مستقل بذاته عن المواد المتجلية الأخرى مهما كانت من بشر أوغيرهم كما أنه مستقل بماديته عن الألوهة رغم سريان الألوهة بطاقتها في جسده ، لذلك يكون مسؤولا عما يفعله فقط ، أما بعد اتحاده بالطاقة الخالقة الكلية أي الذات الإلهية أو الألوهة فهو يفقد استقلاليته ويتحد بالألوهة ولا يغدو مستقلا عن كل كائن في الكون وعن كل ما يجري فيه . اقترب الحشد الملكي من شاب يجلس إلى جانب صخرة بدا وكأنه في اللحظات الأخيرة قبل فيض النور من جسده . وكان ثمة شباب وفتيات يقفون على مسافة أمتار منه. بدا الشاب وكأنه تخلص من عبء جسده والإحساس به وأشرق وجهه بصفاء أخاذ.ولم يبد عليه أنه يشعر بوجود أحد على مقربة منه . أشارت الملكة بيدها بالتوقف وعدم المرور من أمامه احتراما له وللألوهة التي ينشدها. ولم تمر سوى لحظات حتى انبعث من كافة أنحاء جسده شعاع شكل هالة بدت وكأنها غيمة صغيرة راحت تصعد إلى السماء . جلس الجميع خاشعين على ركبهم إلى أن تلاشت الهالة في الفضاء البعيد . فيما كان جسد الشاب يتحول إلى منحوتة حجرية في غاية الجمال . لاحظ الملك لقمان ومرافقوه أن الوحوش والطيور والحيوانات المختلفة لا تخافهم ولا تفزع أو تهرب حين تراهم فتساءل عن ذلك . قالت الملكة: - كوكبنا كوكب محبة والصيد ممنوع عندنا كما أنه ليس لدينا بنادق مهما كان نوعها للصيد أو غيره وكل شيء عندنا محبوب .. وبينما كان الحشد يقترب من أسد ولبؤة راحت الملكة تملس على رأسيهما وهما يقبلان يدها كل بدوره , وكي تزيد ضيوفها دهشة دنت من شجرة أينعت ثمارها وتفتحت زهورها وراحت تملس على أوراقها فأخذت الشجرة تهز أغصانها وتتراقص! بدا الملك ومرافقوه في غاية الدهشة . وخطر للملك أن يسأل الملكة عن الطاقة الحيوية في الحيوانات والنباتات : - جلالتك ! هل يحدث للطاقة الحيوية في الحيوانات والنباتات ما يحدث للطاقة الحيوية في الإنسان ، أي أنها تصعد إلى السماء وتنضم لطاقة الألوهة ! - أجل جلالتك حين ينتهي أجلها . أيقن الملك لقمان أن أفكار ومعتقدات هذا الكوكب منسجمة في كل شيء ومع كل شيء ولا يشذ عنها شيء . وبدا غير مصدق لهذه الإرادة لهؤلاء الناس التي استطاعت أن تحقق كل هذا الرقي والتحضر . فقال جازما بسؤال ينطوي على جواب : - أدرك الآن أن الغاية من وجودكم هي تحقيق قيم الخير والعدل والحق والجمال والمحبة ورفعة الحضارة الإنسانية. وأن عملية الخلق لديكم تكاملية بين الخالق والمخلوق وأن لا غنى لطرف لديكم عن الآخر . - بالتأكيد جلالتك . أنت الآن تعرفنا جيدا . فكلنا خالقون وكلنا مخلوقون . وكلنا واحد في الكل هو الخالق وكل في الواحد هو نحن والكون والكائنات . شعر الملك لقمان أنه لم يبق أمام الملكة إلا أن تردد بعض كلماته " فنحن الواحد في الكل والكل في الواحد يتحد " وبدا في غاية السعادة بلقائه بأناس يعتنقون مذهبه ويتعمقون فيه وراح يتمنى في سريرته أن يسود هذا المعتقد العالم ، فيما كانت الملكة تدعوه ومرافقيه إلى القصر الملكي للإستراحة وتناول طعام العشاء على مائدة القصر . أقبلت نسمة التي كانت قد أخذت بجمال شاب من كوكب الجنات وهي في غاية الفرح والسعادة وراحت تطوق عنق الملك لقمان وتقبله وهي تسر إليه بسر جميل : - عمو أنا حبيت ! فبدا الملك فرحا وهو يهمس لها : - مبروك حبيبتي أين الحبيب ؟ والتفتت وراءها حيث كان الشاب يدنو بخطى متئدة وقد اعتراه بعض الخجل . مد الملك يده مرحبا به . اقترب الشاب . ضمه الملك وقبله ثم ضم جسده إلى جسد نسمه وقبلهما معا ، ثم هتف : - مبروك .. سنحتفل بحبكما هنا إذا سمحت لنا الملكة ! - سنكون سعداء بالإحتفال بهما في قصرنا ! ( أجابت الملكة ) ***** (10) رقصة الملك شمنهور في حفل زفاف نسمة ! غصت صالة الإستقبال في القصر الملكي في كوكب المحبة والجنات بمئات مستقبلي الملك لقمان ومرافقيه ، بينهم وزراء وعلماء وأدباء وفنانون .. وعزفت فرقة موسيقية مجموعة من الألحان الحالمة ثم قدمت فرقة باليه عرضا صفق له الحضور طويلا .. واستأذن الملك لقمان الملكة شمس الورود في إقامة حفل زفاف نسمة في المناسبة نفسها فوافقت . ,أرسل الملك المركبة الفضائية لإحضار والدي نسمه وأختها وأستير وباقي فريق المركبة لحضور حفل زفاف نسمة . فذهب وأحضرهم . ودخلت نسمة وحبيبها ليجهزا نفسيهما لحفل الزفاف. وما هي إلا لحظات حتى ظهرا بثياب الزفاف وهما يدخلان القاعة ممسكان يديهما .. ضج الحضور بالتصفيق الحار ورافقهما الملك لقمان والملكة شمس الورود ووالدا نسمة والشاب ( أنيس ) إلى منصة تتصدر القاعة وبارك الملك لقمان والملكة شمس الورود زفافهما باسم الألوهة الخالدة في الكون والكائنات وتمنيا لهما السعادة ودعيا لهما باحترام وصون الألوهة في جسديهما وأن لا يقدما على ما يعكر صفاءها وأن يجعلا المحبة شعارهما الدائم . ورافقاهما بدعوتهما للجلوس إلى المائدة الملكية مع ذويهما. وفجأة ظهرت في فضاء القاعة فقاعات من أنوار ملونة راحت ترسم أشكالا هندسية بديعة أو تتجمع وتتفرق بحركات جمالية راقصة مشكلة نجوما بزوايا متعددة متشابهة أومختلفة الأحجام والأشكال رافقها موسيقى كونية ساحرة رافقها أصوات كورالية لم يعرف أحد مصدرها ، وظهرت على مسرح القاعة فرقة من الفتيات الراقصات حاسرات السيقان والأفخاذ والأيدي والأكتاف والصدور ورحن يهززن خصورهن ويرقصن أرجلهن على إيقاع الألحان وكانت الألوان تتراقص بدورها هي الأخرى . شعر الجميع بحاجتهم إلى الرقص فنهضوا وقد طلبت الملكة شمس الورود يد الملك لقمان للرقص فنهض معها فيما طلب أحد وزراء الكوكب يد الملكة نور السماء فنهضت معه . شعر الملك شمنهور ببعض الغيرة حين طلب أحد الشباب يد ربة الجمال للرقص فنهضت معه لتسحر برقصها العقول ،فيما كانت دليلة تتلوى مع الأنغام لتغوي أكثر من شمشون سماوي برقصها وجمالها وقد رافقها شاب في غاية الوسامة والجمال. أما أستير فبدت وكأنها حورية من حواري كوكب الجنان وهي تموج حركات جسدها لتبدوكثعبان يمتطي أمواج البحر! وانتهز الملك شمنهور الفرصة ليقتل غيرته على مراقصة زوجته (دليلة ) ومحبوبته ( ربة الجمال ) بأن جال بعينيه بين الفتيات والنساء ليختار الأكثر جمالا ويطلبها للرقص دون أن تعرف أنه جني وقد ظهر في شكل إنساني متقمصا شخصية شاب في غاية الوسامة والجمال . ذهلت الفتاة حين راح يقلبها كيفما يشاء وكأنها ريشة بين يدية ، ينقلها من يد إلى يد ويجلسها على أحد كفيه ثم يشلفها على كتفه الأيمن ثم يمددها على كتفيه الإثنين ليعيدها إلى الكتف الأيسر . يقلبها رأسا على عقب ليغدو رأسها بالقرب من قدميه وقدماها على كتفه وتنورتها القصيرة تنحسر إلى أسفل حتى تغطي كتفيها ، يفتلها ليعيدها إلى وضعها الطبيعي ضاما قامتها إلى طول جسده واضعا فمه بالقرب من فمها ليأخذ من شفتيها قبلة عميقة ،وما يلبث أن يطوق خصرها بيديه ويقذفها في استقامة إلى أعلى ويتلقفها من خصرها ثانية ثم يقذفها ثانية في الفراغ ليجعلها تسقط واقفة على كف يده اليمنى ويقذفها أعلى ليسقطها على كف يده اليسرى ثم يقذفها عرضيا ليتلقفها بيديه الإثنتين من تحت ظهرها ثم يحركها بشكل دائري وأصابع يديه تتسارع في تدويرها بحيث لم يعد أحد قادرا على رؤية تفاصيل جسدها لسرعة دورانها . أدرك الملك شمنهور أن الفتاة لا شك داخت ولن تستطيع الوقوف إذا ما أنزلها إلى الأرض وتركها .. فراح يبطئ من حركة أصابعه ليتباطأ دورانها على أصابعه شيئا فشيئا إلى أن أوشكت أن تتوقف فأدارها إلى أن أصبح طول قامتها في استقامة مواجهته فقلبها ليضمها إلى طول جسده ويحتضنها حتى لا تسقط ضاما رأسها إلى عنقه. وحين فتحت الفتاة عينيها أدرك أنها استعادت توازنها فأخذ يدها اليسرى وجعلها تدور حول نفسها مرتين ثم احتضنها من الخلف تاركا وجهها في مواجهة الجمهور. وتوقف عن الرقص ليفاجأ بتصفيق حاد من كافة الحضور الذين أدهشهم الملك شمنهور بترقيص الفتاة بهذا الجمال الذي لم يروا مثله . ولأول مرة في حياته انحنى الملك شمنهور محييا الجمهور حين وجد االفتاة تدفعه للإنحناء مثلها . أما مفاجأة الملك شمنهور غير المتوقعة فكانت أن الفتاة شرعت في تقبيله ما أن انتهى الحضور من التصفيق وطرحت عليه فكرة أن تكون محبوبته . شكرها الملك وأخبرها أنه ملك جني وأن زوجاته ومحبوباته كثيرات . أبدت دهشتها معلنة أن ذلك يسرها إن قبل، فقبل، وهل يعقل أن لا يقبل الملك شمنهور المولع بالنساء بعد أن حرم منهن ثلاثة آلاف عام في قمقم الملك سليمان كأسوأ سجن في الكون يمكن أن يسجن فيه كائن ما ! عاد الحضور إلى الرقص الرومانسي. شعر الملك لقمان بروح الشباب تعود إليه وهو يحاضن ويخادد الملكة الشابة شمس الورود التي بدأت تفكر في إمكانية عودة الشباب إليه فيما الملكة نور السماء تتمنى أن لا يقعا في الحب فهي ما تزال تغار من أستير التي يبدو على الملك أنه يحاول إخفاء رغبته فيها ولا يواقعها حتى لا يزعج الملكة ! جلس الجميع إلى مائدة العشاء بعد أن تمتعوا لبعض الوقت برقصة العروسين . عشاء من اللحوم والخضاروالفواكه المنوعة لكنه ليس باذخا كموائد الجن . وخمور منوعة أيضا وضعت في جرار كريستالية . والخدمة عادية وليست جنية فليس هناك أطباق تتحرك وتطير وحدها . بل يحملها شباب وشابات يرتدون أزياء جميلة ، وإن كان هناك رجال آليون يقومون بتقطيع اللحوم والقيام ببعض الأعمال . |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [2] |
|
الأُدُباءْ
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
(11) *كوكب المحبة والجنات يحتفل بعيد النور ! غصت سماء كوكب المحبة والجنات بملايين الأنوار المحلقة في الفضاء في عيد النور . اليوم الذي فاضت فيه أجساد الأجداد من العلماء والقديسين والفلاسفة بالطاقة الحيوية أو الروح كما يسميها بعضهم وصعدت إلى السماء لتتحد بطاقة الألوهة الخالدة وتساهم في عملية الخلق . اليوم الذي اهتدت فيه أمم الكوكب إلى طريق النور والخلاص وعرفت الغاية من وجودها بتحقيق قيم الخير والحق والعدل والجمال والمحبة وصنع الحضارة الإنسانية الإلهية وتوحدت خلف دين واحد ونبذت الحروب والإقتتال والتحزب والطائفية ورفعت شعار المحبة والخلق والتعاون لتغدو بعد بضع سنين أسعد الأمم على كواكب الكون قاطبة . كما غصت أرض الكوكب بملايين الشموع المشتعلة أمام أنصاب الأجداد والخالدين في الألوهة في الحدائق والغابات والمتنزهات وصالونات البيوت والأرصفة والطرق والسهول والوديان وسفوح الجبال وقممها . وضج الكوكب بملايين الأسهم المضيئة الملونة غير النارية التي راحت تتناثر في الفضاء لتحلق برفقة الأنوار الراقصة في فضاء الكوكب . كما انطلقت من أربع جهات الكوكب أسهم أشعة ليزرية تقاطعت في سمائه وراحت تدور حول مركزها في مشاهد أخاذة لتجوب فضاء الكوكب ، لتتداخل مع الأنوار المحلقة والأسهم اللونية المتناثرة في الفضاء وتتقاطع معها وكأنها تصارعها ليبدو المشهد في غاية الروعة والجمال بحيث يعجز الكلام عن التعبير عنه . وانتصبت حلقات الرقص والغناء وفرق الموسيقى في معظم أحياء مدن الكوكب وقراه . في الحدائق والساحات والمسارح والملاعب والمتنزهات والمطاعم والطرقات وحتى على ارتفاع بضعة أمتار من الأرض حيث حلق بعض الشباب والفتيات وراحوا يرسمون بأجنحتهم الصناعية حلقات مشهدية وألعابا بهلوانية رائعة الجمال . بدا الملك لقمان ومرافقوه في غاية الدهشة وهم يرقبون الجمال القائم على الأرض يشكل وحدة متكاملة مع الجمال الذي تشكله السماء . هتف إلى الملكة شمس الورود متسائلا : - كيف حققتم كل هذه المحبة بين شعوبكم وأصبحتم كأسرة واحدة ؟ صمتت الملكة لبرهة متفكرة وما لبثت أن قالت : - لو لم يقتنع الإنسان لدينا بأنه يحمل إلها في دخيلته وأنه جزء من الذات الإلهية لما استطعنا أن نحقق شيئا . أن يشعر الإنسان أنه جزء من كل كوني هو في الحقيقة واحد ، لا بد وأن يسلك سلوكا مهذبا راقيا وحضاريا لكي يشعر أنه بمستوى وجوده . أي يحقق الألوهة في ذاته . فلا يسعى إلا إلى المحبة وعمل الخير، ودون ذلك سيشعر أنه انسان ناقص ! - ألا تحدث مشاجرات أو جرائم جنائية كالقتل مثلا في مجتمعاتكم ؟ - جرائم لا لم يشهد كوكبنا ولوجريمة قتل واحدة من أكثر من ثلاثة أجيال .ثمة مشاجرات بسيطة تحدث أحيانا .. لقد اضطررنا إلى بحث عن عمل للقضاة والمحامين غير القضاء ولم يعد لدينا أكثر من عدد قليل جدا من القضاة والمحامين في الكوكب كله . يروى في كتبنا التاريخية أن المحاكم في الأزمان السالفة كانت مثل خلايا النحل لكثرة الجرائم . الآن تدخل إلى أي محكمة ويندر أن تجد أحدا فيها . وإن وجدت فعلى مشكلة بسيطة . قد تكون استغلالا من صاحب عمل لعامل أو مشاجرة بين زوجين أو شخصين . راح الملك لقمان يضحك وهو يتذكر قصور العدل في بعض البلدان العربية التي تزدحم بالناس أكثر مما تزدحم الأسواق بحيث يشعر المرء أنه لا يوجد إنسان واحد في مدينة ليس لديه مشكلة ما مع آخر . المشكلة أن العدالة تضيع في زحمة القضايا أمام القضاة . والرابح الوحيد هم المحامون الذين لا يرحمون أحدا مقابل دفاع بائس ! خطر للملك أن يتساءل عن العدالة الإجتماعية : - هل ترين جلالتك أنكم حققتم عدالة أجتماعية كاملة ؟ وكالعادة تفكر الملكة ولو قليلا قبل أن تجيب: - العدالة المطلقة شبه مستحيلة . لكن في مقدوري القول أننا حدينا من الثراء وقضينا نهائيا على الفقر . فلا يوجد لدينا أثرياء بالمعنى الفاحش ولا يوجد لدينا فقراء , والدولة مسؤولة عن كل إنسان من حيث ضمانه الإجتماعي والصحي وتوفير العمل . العمل عندنا معظمه في الزراعة وتطوير العلوم التي تخدم أدوات الإنتاج الزراعي والحيواني والصحة والحضارة الإنسانية . ألغينا العلوم التي كانت مكرسة لصناعة الأسلحة . وصلنا إلى مراحل متقدمة جدا في علوم الطاقة والفيزياء والصناعات الألكترونية والفضائية من حيث استكشاف الفضاء. - كيف حديتم من الثراء الفاحش ؟ - بمنع الإستغلال وزيادة الضرائب والأهم هو قناعة الإنسان بمعتقده .وهذا ما يدفعه إلى التفاني في محبة الآخرين ومحبة الوجود نفسه بكائناته وكينونته . وخطر للملك أن يسأل عن عدم صناعة الأسلحة : - ألم تفكروا في أنكم يمكن أن تغزو من كوكب آخر لديه أسلحة متطورة حين تخليتم عن صناعة الأسلحة ؟ - الكواكب المحيطة بكوكبنا لا يوجد فيها حياة . أقرب كوكب إلينا يحتوي على حياة هو كوكب الأرض . ويحتاج إلى وقت طويل ليتمكن من الوصول إلينا . كانت الملكة تتحدث العربية بطلاقة فخطر للملك أن يسألها : - أنا لم أسألك أين تعلمت اللغة العربية التي يبدو أنك تجيدينها بطلاقة ! ابتسمت الملكة وهي تقول : - في الحقيقة لم أتعلمها . دماغي ملحق بشريحة ألكترونية تحتوي على ثقافات متعددة وعشر لغات منها العربية . لم يصدق الملك لقمان ما سمعه وتمنى لوأن لديه مثل هذه الشريحة لتغنيه عن الإستعانة بالقوى الجنية لمعرفة لغة ما ! تساءل : - كم لغة في كوكبكم ؟ - كان فيه أكثر من خمسمائة لغة لكنا قصرناها على عشر لغات أكثر شيوعا في الكوكب ونعمل على إلغاء كل لغة يقل استخدامها إلى أن تسود لدينا لغة واحدة فقط للكوكب كله خلال عقود ، حتى لا نهدر وقت أبنائنا في تعلم اللغات . - هذا يعني أنكم تقومون بإلغاء التعصب القومي أيضا لدى شعوبكم ؟ - لقد نجحنا في إلغاء التعصب الديني وهو أخطر أنواع التعصب فكيف لن ننجح في إلغاء التعصب القومي والعرقي والقطري والقبلي . التعصب لدينا حاليا هو للإنسان والإنسانية ولا شيء غير ذلك . تجمعنا الإنسانية الواحدة في الألوهة الواحدة في الكون الواحد والكائنات الواحدة . أدرك الملك لقمان أن كوكب الأرض سيحتاج إلى آلاف السنين للتخلص من مصائبه فقرر أن يشكر الملكة على حسن الضيافة ويتابع رحلته الفضائية على أمل لقاء الله بطريقة مختلفة غير التي يلجأ إليها أبناء كوكب المحبة والجنات بالتنسك والتأمل والإمتناع عن الطعام والشراب .. **** (12) *كوكب الدكتاتور وزبانيته ! بدا للملك لقمان أن الأقدار تسوقه إلى حيث لا يريد فهو الهارب من القتل والدمار وموت العدالة على كوكب الأرض يفاجأ بوجود القتل والإضطهاد والتسلط حتى في بعض كواكب السماء .. وشعر للحظات أنه لن يلتقي الله يوما كما يطمح ، ففيما كان يحلق في مركبته الفضائية على ارتفاع آلاف الأميال فوق محيط متلاطم الأمواج شاهد ومرافقوه ما لا يصدقه عقل : آلاف الطائرات المروحية والسفن والبواخر تلقي آلاف البشرفي المحيط وآلاف الشاحنات والمركبات على شواطئ مختلفة للمحيط نفسه تقذف بشرا ضعفاء من الأطفال والنساء والرجال إلى لجة المحيط نفسه وكأنهم أكياس نفايات لتبتلعهم الأمواج . كان أكثر المشاهد فظاعة هو مشهد الأطفال والبشر الذين يلقون من علو شاهق من الطائرات ، ليبدو الفضاء مزدحما بأجسادهم وهي تهوي رأسا على عقب فيما يحاول بعضهم الإستقامة ليسقطوا في المحيط على أقدامهم فينجحون فيما يحاول بعضهم عبثا .. صرخ الملك لقمان صرخة هائلة أيقظت قوى الجن والشياطين في الأكوان كلها فهبوا لنجدته بسرعة تفوق سرعة الضوء ألف مرة ! وصراخ الملك لقمان يتردد من أرجاء الكون " " أوقفوا هذا الجحيم وأنقذوا البشر.. أوقفوا هذا الجحيم وأنقذوا البشر " وسارع الملك بدوره إلى الطيران من المركبة ليتلقى طفلة تهوي من طائرة وكذلك فعل كل من على المركبة وتلقى أحدا . فقد تلقت الملكة نور السماء طفلا وكذلك فعلت دليلة وأستير والآخرون . وكانت نسمة قد عرضت على عريسها أن يرافقها لأنها لا تستطيع مفارقة ( عمو ) الملك لقمان بعد أن عاد إليهم بعد طول غياب ،وكان قد أنقذها وأنقذ أهلها وجميع المعذبين والموتى من جحيم (الإله ) داجون . فسارعت هي وعريسها إلى الطيران بمساعدة الجن وأنقذا طفلين من السقوط في المحيط. وما هي إلا لحظات حتى كان عشرات آلاف المقذوفين جوا يلتقطون من السماء بأيدي خفية والمتخبطون في الأمواج ينقذون والقذف يتوقف برا وبحرا وجوا . ليجلس الجن جميع الذين أنقذوا على الشاطئ . وجميع الذين كانوا يقومون بفظائعهم في ناحية أخرى على الشاطئ نفسه. وأمر الملك لقمان بجمع جثث الذين ماتوا ووضعها في ناحية أخرى على الشاطئ أيضا حيث كانت الأمواج تتقاذفها إما في لجتها وإما على رمال الشواطئ . جمع الجن قرابة مليون جثة ومددوها على الرمال . تقدم الملك لقمان ناحية حشود المنقذين ، ضاما الطفلة إلى صدره وهو يربت على ظهرها في محاولة لتهدئتها وقد وضع في يدها موزة وقشر جزءا منها لها . طلب إلى الحشد أن ينتخب من يمثله لمحادثته فانتخبوا سيدة . تقدمت السيدة وصافحت الملك لقمان وراحت تشكره من أعماقها على ما قام به جنده من إنقاذ معجز للبشر . - ما هي قصتكم أيتها السيدة ؟ - قصتنا يا سيدي أننا ابتلينا بطاغية سيطر على كوكبنا من أقصاه إلى أقصاه بملياراته التسعة مستعينا ببضعة ملايين من الزعماء والأعوان والأتباع والعملاء والمستفيدين .. فسخرخيرات الكوكب وأمواله ومؤسساته لمصالحه ومصالح تابعيه . وقضى على الحياة السياسية في البلاد بأن زج بالملايين في السجون والمعتقلات ليموتوا تحت التعذيب أو بطول البقاء في السجون . لم تعد الشعوب تحتمل كل هذا الظلم فقامت بأول ثورة مسلحة ضده . غير أنه محقها بقوة زبانيته ومحق المدن التي انطلقت منها . وبعد سنين قامت ثورة سلمية عمت أقطار ومدن الكوكب كله . راح زبانيته يبيدون المتظاهرين بالمئات والآلاف .. فاضطر الناس إلى حمل السلاح فواجههم بالمدافع والطائرات ودمر المدن على رؤوسهم وشرد الملايين . وبعد بضعة أعوام اضطر الناس إلى الإستسلام لشدة البطش الذي واجهوه . لكن الطاغية لم يقبل بالإستسلام فقرر تبييض الكوكب من الإرهابيين حسب رأيه . فانتشر ملايين أعوانه في مدن الكوكب وقراه وراحوا يعتقلون الناس ويلقون بهم في المحيط . هذه قصتنا باختصار يا سيدي . شكر الملك لقمان السيدة على حسن الإختصار ووعد بتخليص الكوكب من هذا الطاغية . وأمر الجن بإنزال طعام وشراب على كل من أنقذ . أما زبانية الطاغية فقد أنزل الملك ملايين طيور الرخ الضخمة وأمرها بحملهم بمخالبها وأن تطوف بهم فضاء الكوكب وتلقي بهم في جزيرة نائية مهجورة . وما هي إلا لحظات حتى كانت السماء تعج بطيور الرخ التي راحت تنقض وتحمل الزبانية بمخالبها وتحلق بهم . اقترب الملك لقمان من مئات آلاف الجثث المطروحة على الشاطئ . توقف إلى جانبها وهو ما يزال يضم الطفلة إلى حضنه . سألها: - ما اسمك يا حبيبتي ؟ أجابت وهي ما تزال تنشغ من أثر البكاء : - عناة ! فوجئ الملك لقمان بالإسم ! - يا ألله أنت ربة صغيرة يا حبيبتي . هل تعرفين أين بابا وماما ؟ - رأيتهم يلقونهم من الطائرة في البحر ! - لا بد أن جثثهم هنا مع الجثث . تعالي لندعوا الله معا أن يحيي كل الموتى لنا ! وجلس على ركبتيه وهو يضم الطفلة . - هيا يا حبيبتي رددي بعدي : - إلهي وأنت القدير ! -( إلهي وأنت القدير ) وراح ملايين البشر والجن والشياطين يرددون خلف الملك لقمان مع الطفلة . - إلهي وأنت الرحيم ! -( إلهي وأنت الرحيم ) - إلهي وأنت الكريم ! - (إلهي وأنت الكريم) - إلهي وأنت المحيي والمميت ! -( إلهي وأنت المحيي والمميت ) - نطمع في كرمك ! -( نطمع في كرمك ) - فأكرمنا يا ألله بإحياء موتانا ! -( أكرمنا يا ألله بإحياء موتانا ) - فأنت السميع المجيب ! - (أنت السميع المجيب ) ولم تمر سوى لحظات حتى راحت الجثث تستيقظ وكأنها تنهض من النوم ، لتتلفت هنا وهناك . نهض الملك لقمان قائلا للطفلة : - هيا يا حبيبتي لنبحث عن ماما وبابا . وسار بين الآلاف وهو يدعو الطفلة لأن تنظر جيدا بين الناس . وما لبثت أن رأت أمها فصرخت منادية " ماما ماما " وسمع الأب نداء الطفلة بدورة فرآها ورأى الأم تهرع نحوها فهرع بدوره .. أسلم الملك لقمان الطفلة إلى أحضان الأم فيما كانت ملايين الأصوات تبحث مرددة منادية " ماما بابا " **** (13) حين يرتعب الجنرالات ! حين سمع الطاغية أن قوى خارقة ربما تكون مدعومة من الله نفسه أنقذت كل سكان الكوكب من التطهير العرقي والديني والطائفي والسياسي وقامت بإنقاذ الغرقى وإحياء الموتى منهم ، أدرك أن نهايته أزفت ، ما لا يصدقه عقله هو مشاهدته لهذه الطيور العملاقة التي حلقت في فضاء الكوكب بمئات الآلاف حاملة بمخالبها أتباعه من الجنود والضباط والشرطة والجلادين . أدرك أن نهايته قد تكون كذلك وقد يلقي به الطائر من أعالي السماء , تخيل المشهد فتبول على نفسه . كان حريصا في الأوقات كلها على أن يضع على كتفيه ثمانية سيوف متقاطعة في أربعة أشكال وأربعة تيجان وست نجوم في مثلثين وأربعة مجسمات صغيرة لبنادق متقاطعة شاقوليا في تشكيلين ، ليبدو حاملا لأعلى رتبة عسكرية لم تعرفها البشرية بعد ، فقد كان يطلق على نفسه ملك ملوك الملوك وجنرال جنرال الجنرالات ، مع أنه لم يدخل دورة عسكرية في حياته إلا دجلا وتلفيقا . أما عن النياشين والأوسمة فكان صدره يغص بها على الجانبين بحيث بدا وأن كتفيه وصدره ينوءان تحت ثقلها . حاول الهرب إلى أي مكان فوجد أن الطائرات لا تطير والسيارات لا تسير ، وحين حاول الهرب على دراجة هوائية وجد أنها لا تسير أيضا . لم تعد دنيا الكوكب كلها تتسع له ، ولم يجد هو وبعض أتباعه إلا الهرب من القصور والبحث عن كهوف يختبئون فيها لعل وعسى أن تطول أعمارهم لبضع دقائق وربما ساعات ، فهم موقنون أن القوى الخارقة هذه تستطيع أن تجدهم أينما اختبأوا. تخلى جنرال الجنرالات عن زوجته ومحظياته وكل شيء وكذلك فعل أتباعه . كما طرد جميع مرافقيه حتى لا يتيح لهم معرفة المكان الذي سيختبئ فيه ، ولم يبق إلا على جنرال صغير كان يعتقد أنه أكثر الجنرالات الصغار إخلاصا له . لم يجد كهفا آمنا فكل الكهوف التي وجدها في سفح الهضبة التي تعلوها القصور بدت له غير آمنة وسيتم كشفه بسهولة ، إلى أن عثرله الجنرال الصغير على جحر ضبع ، فوجد أنه الأكثر مناسبة . وحين أبدى الجنرال الصغيرمخاوفه قائلا " وإذا كان الضبع في الجحر يامولاي " رد جنرال الجنرالات " الضبع أرحم من هؤلاء الأوباش ، هيا انبطح وازحف أمامي في الجحر ! " وحاول الجنرال الصغير التخلص من الأمر : - لكن يا مولاي قد لا يتسع عمق الجحر لنا ! - هيا أدخل واستطلع الأمر! انبطح الجنرال الصغير أمام الجحر . مد يديه أمامه . نظر في عمق الجحرالمظلم بدا له أنه طويل ،مد يديه أمامه زحف ، أدخل رأسه ثم كتفيه بصعوبة . جاءته زمجرة مرعبة من أعماق الكهف . هتف بأعلى صوته: - مولاي الضبع في الداخل وقد يفترسني وأنا لا أستطيع أن أتحرك لو أننا أحضرنا معنا بندقية ! - إزحف يا كلب إ ألا تعرف أن الضبع في الداخل ؟ أين سيذهب في النهار ؟ تابع الجنرال الصغير الزحف بصعوبة والزمجرة تزداد حدة وشراسة . وصراخ جنرال الجنرالات يتلاحق : أسرع أسرع ! ورائحة نتنة تزكم أنف الجنرال الصغير . اختفى الجنرال الصغير في أعماق الجحر . تبعه الجنرال الكبير ، ليمسك بقدميه ويزحف خلفه . بدت له الرائحة غير محتملة غير أنها تظل أقل وطأة من القتل أو الإفتراس . إذا ما هاجم الضبع فقد يكفيه نصف أو ثلث جسد الجنرال الصغير ليشبع ، وبالتالي سيسلم هو،وتكون هذه القوى الغاشمة قد غادرت الكوكب !( هكذا فكر جنرال الجنرالات ) توقف الجنرال الصغير تخوفا من هجوم الضبع المزمجر في الداخل . صرخ به الجنرال الكبير : - هيا ازحف يا كلب لماذا توقفت ؟ - قد يهاجمني الضبع يا مولاي . - تقاومه بيديك ! - وكيف سأقاوم وأنا محشور في الجحر ؟! - يا خسارة الرتب التي منحتها لك ، ألا تقاوم ضبعا دفاعا عن سيدك ؟ هيا ازحف ! كان الجحر عميقا ويتصل بوكرمتسع بعض الشيء في آخره ،حيث تلتجئ أنثى الضبع مع ثلاثة ضباع صغيرة وضعتها من أسابيع ،وكانت زمجرتها تزداد حدة تخوفا على أبنائها ، وبدا أنها على استعداد لأن تقاوم حتى الموت دفاعا عنهم . كان الجنرال الصغير يتابع زحفه ويداه تتلمسان أعماق الجحر ،وقد اعتادت عيناه الرؤية قليلا كما ألف أنفه الرائحة المقززة ، غير أنه تبول على نفسه أكثر من مرة كسيده تماما ، فكلما حاولا حصر مثانتيهما انفلتتا أكثر وكأن فيهما نبعا من البول . اقترب الجنرال الصغير من وكر الضبعة . كان خيط من شعاع الشمس يتسلل عبر ثقب في سقف الوكر مما أتاح للجنرال رؤية الضبعة وأبنائها بحدود . أدرك أنه سينتهي فريسة لهذا الحشد فتبرز في بدلة الجنرالية وحين حاول أن يتقدم قليلا تحت إلحاح سيده لوت الضبعة عنقها وفتحت فمها على وسعه كاشفة عن أنياب مرعبة . - ثمة ضبعة وأولادها يا مولاي في الوكر وأي شبر آخر من الزحف يعني الموت ، فلن تكتفي الضبعة بالزمجرة ! - هيا هاجم الضبعة ولا تخف من أبنائها ما يزالون صغارا ! - هل جننت يا مولاي ؟ - هيا هذا أمرعسكري أيها الوغد ! وكان الجنرال الكبير يتمنى في سريرته أن يستطيع جنراله قتل الضبعة وأبنائها ، لينال شيئا من الجلوس في الوكر بدلا من البقاء ممدا على بطنه! ما أن حاول الجنرال الصغير التقدم قرابة اصبع حتى انقضت الضبعة على يده اليمنى والتهمتها! صرخ بأعلى صوته ! أطلقتها الضبعة بعد ثلاث عضات متتالية لتنقض على اليد اليسرى وتلتهم جميع أصابعها. أغمي على الجنرال الصغير وفقد الوعي والدماء تنزف من يديه ، فيما اكتفت الضبعة بإدماء اليدين وتعطيل حركة اليدين ، وبدا أن أبناءها يتحفزون للإنقضاض على جسد الجنرال حين تتيح لهم الأم ذلك . جنرال الجنرالات فقد السيطرة على مثانته ودبره أيضا . فبدا في حال لم يبلغها جنرال قط ! ****** (14) الله يمثل في قلوب الناس ! حين حط الملك لقمان على أرض القصر الملكي الأكبر بين القصور وطلب إلى معاونيه أن يجلبوا كل المقيمين في القصور ، لم يعثروا إلا على الأطفال والنساء والفتيات فقد هرب الرجال جميعهم . جمعوهم في ساحات القصر مئات الفتيات والنساء والأطفال .. كانت الملكة من بينهم . استدعاها الملك لقمان إلى بهو القصر حيث يجلس . مثلت أمامه . بدا أنها جميلة إلى حد ما . لم يبد عليها أنها خائفة . طلب الملك إليها الجلوس . جلست في مواجهته . أوحى لها وجه الملك لقمان الطافح بالهدوء والإشراق بالنبل والود. - أين زوجك أيتها الملكة ؟ - لا أعرف يا سيدي . - وباقي الحاشية الملكية ؟ - أيضا لا أعرف يا سيدي ، ما أعرفه أن جميع الضباط والجنود ورجالات القصر والعاملين فيه قد هربوا. نظر الملك لقمان نحو الملك شمنهور : - أرسل من يبحث عن الملك وكبار الضباط وكبار العاملين ويحضرهم . قام الملك شمنهور على الفور وراح يصدر أوامره إلى جنود الجن . ألقى الملك لقمان نظرة نحو الملكة . - ماذا تظنين أني فاعل بكم أيتها الملكة ؟ - أظن أن من هم في وضعنا لن ينتظروا ما يسرهم ! - اذهبوا فأنتم أحرار ! لكن لا تقيموا في القصور . أقيموا في بيوت العاملين . القصور قد تحول إلى متاحف أو منشآت مختلفة للدولة القادمة . فوجئت الملكة بعدالة الملك لقمان . نهضت وانحنت احتراما له: - عاجزة عن الشكر أمام كرمك وتسامحك يا سيدي . ابتسم الملك لقمان وأومأ برأسه وبسط يده أن " تفضلي " دون أن يتكلم . تراجعت الملكة خطوتين وانحنت ثانية ثم استدارت لتخرج نحو الساحة حيت تجمع المئات . أخبرتهم الملكة أنهم احرار وفي مقدورهم الإنصراف فيما رافقت هي إحدى زوجات الوزراء لتذهب معها إلى بيتها . اندفعت مجموعة من الفتيات محظيات الجنرال اللواتي أرغمن على معاشرته ، اندفعن نحو البهو ليشكرن هذا القائد العظيم الذي جاءت حريتهن على يديه . وما أن مثلن أمام الملك لقمان حتى شرعن في الإنحناء والشكر بكل ما جادت به مخيلاتهن من كلمات الشكر والإمتنان . أشار إليهن الملك لقمان بالإعتدال في وقوفهن وعدم الإنحناء أو الركوع والخضوع لأحد بعد اليوم . تراجعن بضع خطوات ثم استدرن وانصرفن ومعظمهن في غاية السعادة . ****** كان الجنرال الصغير قد لفظ أنفاسه من جراء النزيف الحاد لدمه ، فانقضت عليه الضبعة لتشحط جسده إلى الوكر وتنقض عليه هي وأولادها.. لم يبق منه غير العظام والملابس الممزقة والأوسمة والسيوف والتيجان والنجوم . وكان ملك الملوك وجنرال الجنرالات يموت رعبا كل ثانية إلى أن فوجئ بمن يشحطه من قدميه ويخرجه من الجحر . هتف الملك شمنهور بعد أن خاطبه الجندي الذي شحط الملك من الجحر تخاطرا : - مولاي . تم العثور على الجنرال في جحرللضباع وثمة جنرال آخر كان يرافقه افترسته الضباع . رائحة الجنرال لا تطاق يا مولاي ، وملابسه ملوثه بالبراز والبول وفضلات جحر الضباع . - دعهم يغسلونه ويلبسونه ملابس نظيفه ، وليجمعوا عظام وملابس ورتب الجنرال الثاني ويسلموها إلى أهله . ولم يمر سوى دقائق حتى راح الجنرالات والضباط والوزراء يتوافدون وقد حملهم جن مخفيون . كانوا أكثر من مائة . وقف الملك الجنرال أمام الملك لقمان . طلب إليهم الملك شمنهور أن يقدموا أنفسهم للملك لقمان واحدا واحدا . قدم الملك الجنرال نفسه وهو ينحني ، تبعه رئيس وزرائه ثم وزير الدفاع وقائد الجيش فوزير الداخلية وغيره إلى أن قدم أهمهم أنفسهم ، فطلب الملك لقمان التوقف عن التقديم وهتف : - ما العقاب الذي تقترحونه لأنفسكم بعد كل الجرائم الفظيعة التي أوقعتموها بحق شعبكم ؟ لم يجب أي منهم . أقل ما يمكن فعله هو السجن المؤبد إن لم يكن الإعدام ،ومشكلة الملك لقمان أنه يكرههما ، كرسول محبة وسلام ويفضل النفي في الجزر النائية . أطرق للحظات وهو يشير بيده إليهم أن يجلسوا .. وضع يده على رأسه وأغمض عينيه وراح يفكر . وسوس الملك شمنهور للناس بأن يحتشدوا ويطالبوا الملك لقمان بإعدام السفاحين ، فهو يحب الإنتقام الفظيع بعد أن أمضى ثلاثة آلاف عام في قمقم سليمان الرهيب ! بدا الملك لقمان وقد شرع في الدخول في حالة وجدانية يسائل فيها الله عما يمكن أن يفعله ليرضي سكان الكوكب ويرضي ضميره . تعالت أصوات الملايين من الخارج " الإعدام الإعدام " وراح رجع االأصوات يتردد من أرجاء القصر" الإعدام للقتلة بالإلقاء من السماء كما كانوا يلقون بنا " راح رأس الملك لقمان يدور يمينا وشمالا ثم يستقرمحنيا على صدره وقد اختلج وجهه بتعابير مؤسية . اقتربت الملكة نور السماء منه لتضم رأسه إلى حضنها وقد أدركت أن النوبة التي كانت تأتيه حين كان يواجه المحن قد أتته .. لا شك أنه ينشد وحيا إلهيا يشير إليه بالحكم الذي يمكن أن ينفذه في المئات وربما الآلاف من هؤلاء السفاحين .راح صوت هادئ يهتف في دخيلته " لن ترقى بسلوكك إلى المحبة المطلقة يا لقمان . المحبة المطلقة لا يحملها إلا الله ،والرحمة المطلقة لا يحملها إلا الله . أنت لست الله يا لقمان وإن كانت طاقة الألوهية تسري في جسدك كما تسري في جسد الذين ستعاقبهم .. أنت إن قتلتهم قتلت شيئا مني . وإن عفوت عنهم خنت العدالة الإنسانية . فاعمل بضميرك وإنسانيتك أيها الحبيب ، إلى أن يأتي يوم يدرك فيه كل إنسان أن ألوهيتي تسري في جسده ،وأنه يتوجب عليه أن يرقى بسلوكه إلى قدر ألوهيتي فيه ،ويحمل للبشرية والوجود المحبة التي تحملها أنت ،والرحمة التي تحملها أنت " وشرع الملك لقمان في البكاء والملكة تضمه إلى صدرها بكل ما تحمله من حنان ومحبة ، وتربت على رأسه ، وهو يهتف في دخيلته " ساعدني يا إلهي ، ساعدني يا إلهي " تعالت الأصوات حادة حول القصر " الإعدام الإعدام الإعدام" راحت الملكة نور تمسح دموع الملك لقمان بمنديل من الحرير . شرع يهدأ شيئا فشيئا ،وما لبث أن استعاد هدوءه . مسد براحة يده على شعر الملكة وطبع قبلة على خدها ، ثم نهض . أشار إلى الملك شمنهور أن يخرج القتلة إلى الخارج . خرج الملك والملكة ومرافقوهم ووقفوا على شرفة في القصر .. ولوح بيديه لملايين البشر الذين ملأوا كل مكان حول القصور كلها . شرعوا في التصفيق الحاد إلى أن أشار إليهم الملك بالتوقف . أقبلت طيور الرخ بالآلاف وراح بعضها ينقض على القتلة ويحملهم بمخالبة فيما راحت أخرى تتفرق وتحط في أماكن مختلفة وما تلبث أن تصعد حاملة بمخالبها أحدا ما وكأنها تعرف أماكن تواجدهم . علا تصفيق الناس فرحا .. لم تمر سوى دقائق حتى ازدحمت السماء بآلاف الطيور حاملة آلاف القتلة بمخالبها ، وراحت تحلق بانتظام في أسراب متعددة فوق الناس وفي فضاء المدينة ، وكلما دار ت دورة ارتفعت أكثر فأكثر إلى أن غدت على علو شاهق . رفع الملك لقمان يده فألقت الطيور حمولتها على دفعات حسب الأسراب . راح القتلة يهوون من أعالي السماء ، فيما راح صوت الملك يهتف مترددا من كافة الأرجاء وكأنه يهتف بعشرات مكبرات الصوت : " أيها الناس : باسم الله وباسم الألوهة السارية في أجسادكم ،وفي أجساد أعدائكم ، وفي الكون كله ،والكائنات كلها ،أناشدكم أن ترحموا أعداءكم ، لتنالوا بذلك محبة الله وترتقوا إليها " وراح الملك لقمان يكرر نداءه . سمع الناس كلاما لم يسمعوه في حياتهم ، راح يؤثر في نفوسهم ، فيما كانت جميع أسراب الطيور تلقي بكل القتلة من أعالي السماء لتتهاوى جثثهم نحو الأرض . تعالت آلاف الأصوات من بين الناس صارخة : الرحمة الرحمة ! وما لبثت الأصوات أن ازدادت وصوت الملك لقمان يتردد من كافة أرجاء المدينة .. وحين أصبحت أجسام القتلة على مسافة مئات الأمتار من الأرض ، راحت جميع الأصوات تردد "الرحمة الرحمة " وإذا بجميع الأجساد الملقاة تتوقف في السماء وتشرع طيور الرخ في الإنقضاض عليها وتحملها ثانية ، لتذهب بها إلى الجزيرة النائية ، لتعيش مع باقي المبعدين إليها .. تابع الناس الطيور وهي توغل مبتعدة بأجسام القتلة . هتف الملك لقمان بأعلى صوته : " أيها الأحبة . لقد ارتقيتم هذا اليوم برحمتكم ومحبتكم إلى رحمة ومحبة الألوهة السارية فيكم . فأنتم منذ اليوم أبناء الله . وأنتم منذ اليوم أحبة الله . وأنتم منذ اليوم أنبياء الله . وأنتم منذ اليوم رسل الله ، فاعملوا على نشر المحبة بينكم وجعلها شعاركم تحبكم الألوهة السارية في أجسادكم ، واعملوا منذ اليوم على تحقيق قيم الخير والعدل والحق والجمال بين شعوبكم ، ترتقون بذلك إلى الألوهة السارية فيكم ، وتكونون دوما مع الله وفي رحاب الله . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته" وشرع الناس في تصفيق حاد جدا لم يسبق له مثيل بين بشر . ****** (15) تعاليم لقمانية واغتصاب جماعي ! غص بهو الإستقبال في قصر الطاغية بالمئات من قادة الأحزاب بناء على دعوة موجهة من الملك لقمان وراحوا يقدمون أنفسهم له ، كان الملك يضم الطفلة عناة التي أنقذها من الموت وهي تلقى من الطائرة. فقد أرسل في طلبها حين شعر بحاجته إلى طفل كعادته . كانت السيدة التي تحدثت إلى الملك لقمان على شاطئ المحيط من بين الحضور وقدمت نفسها باسم "زهرة الخلود " وأنها زعيمة أكبر الأحزاب العلمانية في الكوكب . طلب إليهم الملك لقمان أن يبدوا آراءهم في نوع النظام الذي سيقيمونه على كوكبهم . رفعت السيدة يدها طالبة الكلام . " تفضلي " هتف الملك لقمان . - لقد أنقذنا جلالتكم من الموت وعادت الحياة حتى إلى من غرقوا في البحار على يدي جلالتكم ، وخلصتمونا من حكم الطغاة جميعا ، فهل هناك من هو أفضل من جلالتكم نتمنى عليه أن يحكم بلادنا ويقودها إلى بر الحرية والأمان والسلام والرقي ؟ - أشكر سيادتك لهذا الود وهذا الطرح لكن أمامي مسائل كثيرة تحتاج إلى انجاز وليس في مقدوري تلبية طلبكم . - إذن بإمكان جلالتكم أن ترشدونا إلى ما يمكننا فعله . - رغم أنني أدرك أنكم قادرون على اختيار ما يناسبكم ، إلا أنني سأبدي القليل من التوجيهات ولكم أن تأخذوا بها أو ترفضوها . ما يهمني هو المساواة بين البشر واحترام حقوقهم في الحياة الحرة الكريمة رجالا كانوا أم نساء . واحترام حق الإنسان في جسده . وحقه في ابداء رأيه . وحقه في اختيار نوع حياته دون أن يسيء إلى أحد . لا يهمني نوع الحكم إن كان ملكيا أو جمهوريا ، ما يهمني هو العدالة . وإن شئتم رأيي في التحزب وهو وإن كان شكلا متقدما نوعا ما في الديمقراطية ، إلا أنه ليس الديمقراطية الأفضل . فالتحزب أقرب إلى التدين . فهو يقود إلى التعصب للحزب . فالإنسان المنتمي إلى حزب سينتخب أبناء حزبه في الإنتخابات . وهكذا تدخل البلاد في تصارع الأحزاب وكسب الأصوات . إن التعصب الأفضل هو للإنسان وبناء الحضارة وتحقيق قيم الخير والعدل والجمال . التعصب للمعرفة والعلم والمحبة . إن نشر المحبة بين الناس أهم من كل الأحزاب مجتمعة . حين لا يكون هناك أحزاب يشعر الإنسان بحريته فيختار الإنسان الأنسب ليقوده . لذلك أيها السادة يفضل إلغاء التحزب . وأتمنى لو يكون معظم القادة من النساء . حين كانت النساء إلاهات في تاريخ كوكب الأرض القديم كانت حالنا أفضل مما هي عليه اليوم . الأمر نفسه ينطبق على الدين والتدين . رغم احترامنا لما فكر فيه الأجداد واتبعه الأحفاد إلا أنهم لم يبلغوا الحقيقة المطلقة ، الحقيقة التي ليس بعدها حقيقة أخرى ، وفي الإمكان القول إن العقل البشري برمته ما يزال بعيدا وبعيدا جدا عن الحقيقة . حقيقة الوجود، حقيقتنا . الغاية من وجودنا . إلا أنه في الإمكان باللجوء إلى العقل النابغ المتحضر واتباع المنطق السليم اختيار الفهم الأرقى والأجمل والأشمل والأكثر إنسانية واتباعه ، لكن دون تقديسه . لقد تحدثت باختصار شديد متمنيا لكم كوكبا مزدهرا بالحضارة والمحبة والرفعة والسمو واحترام الإنسان . والسلام عليكم . نهض الجميع وشرعوا في التصفيق لكلمة الملك لقمان .وما أن توقفوا وجلسوا حتى رفعت السيدة يدها فأذن لها الملك لقمان . قالت : - يسعدني أن أعلن أمام جلالتكم حل حزبي وهو أكبر الأحزاب في البلاد وآمل أن يوافقني أعضاء الحزب على ذلك . كما يسعدني أن أعلن أمامكم ترك ديني ! وأتمنى على جلالتكم أن تتركوا لدينا تعاليمكم مكتوبة لنتبعها . ولم تكد السيدة زهرة الخلود تنهي كلامها إلا وجميع رؤساء الأحزاب ينهضون ويعلنون حل أحزابهم والتخلي عن دياناتهم التي كانت تتناقض مع مفاهيم الملك لقمان . دعا الملك لقمان الجميع إلى مائدة الغداء . وأشار لأول مرة إلى الملكة نور السماء بتحضيرها . ولم تمر سوى دقائق حتى كانت مائدة فاخرة لم يشهدها أحد في حياته تمثل في حدائق القصر ، تحوي كل ما يمكن أن يتمناه المرء من طعام وشراب. ******* ما أن انتهى طعام الغداء حتى ودع الملك لقمان زعماء الكوكب وصعد إلى المركبة مع مرافقيه ، غير أنه فوجئ ببكاء الطفلة عناة ألتي راحت تتفلت من أحضان أبويها تريد أن تلحق بالملك . وكما حدث مع نسمة في رحلته السابقة حدث مع عناة . طار الملك من المركبة نازلا نحوها فاتحا ذراعيه ، وطيرها وأبويها نحوه ليتلقاها بأحضانه ، فيما حط أبواها على المركبة . هتفت الطفلة : - هل ستتركني يا عمو؟ - لا يا حبيبتي لن أتركك . وشرع في تقبيلها . ثم نادى على نسمة وقدمها لها : - هذه أختك نسمة كانت بعمرك حين أنقذتها وأبويها من الموت قبل عشرين عاما . أخذتها نسمة وضمتها إلى حضنها وشرعت في تقبيلها . ******* وهو يحلق فوق كوكب مأهول خاطر الملك شمنهور الملك لقمان قائلا : - طاب النكاح يا مولاي ! - لم يصدق الملك ما فهمه فهل يعقل أن يخبره شمنهور إذا يريد أن يضاجع دليلة أو معشوقته ربة الجمال ؟ خاطره قائلا : - ماذا تقصد أيها الملك ؟ - نحن نحلق فوق سهول وجبال فيها جيش من مئات آلاف الجنود يقومون بنكاح وربما اغتصاب مئات آلاف النساء في وقت واحد ! لم يصدق الملك لقمان رغم إدراكه أن شمنهور لن يمزح معه هكذا مزحة ! - نعم ؟ هل تمزح أيها الملك ؟ - لا يا مولاي ! بإمكانك أن تلقي نظرة . أمر الملك لقمن بإبطاء سير المركبة وأطل من نافذة ليرى الهول : آلاف مؤلفة من الجنود يقومون باغتصاب آلاف مؤلفة من الفتيات والنساء اللواتي علا صراخ بعضهن وهن يقاومن المغتصبين فيما استسلم بعضهن للأمرالواقع فبدون وكأنهن راضيات عما يجري . كانوا يملأون السهول وسفوح الجبال والأودية . سخر الملك لقمان قواه الخارقة فأبطل انتصاب أعضاء جنود الجيش جميعا وشل حركة أيديهم وأرجلهم ، فثبتوا في أماكنهم حسب الأوضاع التي كانوا فيها، فبدوا وكأنهم أصنام في أوضاع مختلفة . تركهم الملك لقمان على هذه الحال وراح يدور بمركبته فوق الكوكب مستطلعا أجواءه . ******* (16) ثورة النساء على ظلم الرجال والحكام ! قهقه الملك شمنهور بملء صوته وهو يرى آلاف المغتصبين يثبتون في أماكنهم كالتماثيل فيما بدت الفتيات والنسوة في غاية الدهشة وهن يرين إلى مغتصبيهن وقد شلت حركتهم حتى أن الدهشة أخرست ألسنهم وأصواتهم فلم يعودوا قادرين حتى على الكلام . شرعت الفتيات والنسوة في سحب أجسادهن والنهوض من تحت أجساد المغتصبين وسترأجسادهن،وحين أدركن أن ما جرى لم يكن إلا بفعل من في هذه المركبة الضخمة المحلقة في الفضاء -التي يبدو أن الله نفسه أو رجلا صالحا فيها وإلا لما حدث ما حدث- رحن يضممن أيديهن ويقبلنها ثم يرسلن قبلهن في الفضاء نحو المركبة التي ما زالت تحلق في سمائهن. خاطر الملك شمنهور الملك لقمان معجبا ولأول مرة بردة فعله التي بدت أقرب إلى النقمة منها إلى الرحمة المعتادة لدى الملك : - آه يا مولاي . أحسنت الإنتقام ، لو أنك تشفي غليلي دائما هكذا . لكن بالله عليك كيف خطرت لك هذه الفكرة ؟ لو أنك طلبت إلي التصرف لأسقطت حجرا على رأس كل واحد منهم ! ولم يجب الملك لقمان وتابع التحليق في المنطقة وراح يلوح بيديه لآلاف النسوة والفتيات متلقيا القبل المتطايرة في الفضاء . وبدا آلاف البشر وهم يهرعون من أماكن مختلفة لاصطحاب بناتهم ونسائهم حين رأوا أنهن نجون . - مولاي هل تسمح لي بأن أشفي غليلي وأبتر أعضاءهم التناسلية على الآخر ؟ رد الملك لقمان تخاطرا : - لا ! إياك أن تفعل ! وتابع الملك لقمان تحليقه في المركبة طالبا إلى الملك شمنهور أن يبقي جنا يحرسون الجيش الغازي حتى لا يقوم سكان الدولة المغزوة بضربهم وهم ثابتين. فقد اكتشف الملك لقمان أنه يحلق فوق كوكب تقام عليه عشرات الدول المتصارعة بينها المتقدم وبينها المتخلف . وبدا له أن الدولة الغازية هي دولة متخلفة لكنها حصلت على أسلحة متطورة وقامت بغزو دولا أخرى متطورة وانتصرت عليها وأخضعتها لسيطرتها . عرف ذلك من مشاهدة الحدود واختلاف الأعلام من إقليم إلى إقليم وقد منح نفسه رؤية خارقة وكأنه ينظر عبر أكثر المناظير رؤية . مر فوق دولة تتظاهر في شوارع مدنها آلاف النساء المحجبات مرتديات اللباس الأسود فيما يقوم رجال الشرطة بمحاولة قمع التظاهرات في كافة الشوراع ، بدا له من حجم المدينة ونسق أبنيتها وفخامتها وعرض شوارعها أنها العاصمة ، وعلى الأغلب أنها الدولة التي غزت الدول المحيطة بها . وحين عرف الملك لقمان أن النسوة يقمن بالتظاهر مطالبات بنزع الحجاب والحرية رافعات شعارات مثل " وجوهنا وشعورنا وأعناقنا وأكتافنا وصدورنا وأيدينا وأرجلنا وسيقاننا ليست عورات " " لا للزواج من مغتصبينا " " الإغتصاب جريمة عظمى ينبغي أن تخضع لأشد العقوبات " " حريتنا في أجسادنا حق لنا " " المساواة مع الرجال في كافة الحقوق حق لنا " " لا لغزو الأمم ولا لسبي بناتهم ونسائهم وأموالهم " " ضرب المرأة جريمة يجب أن تخضع للعقاب " وغير ذلك من الشعارات المطالبة بالحقوق الإجتماعية والسياسية . أدرك الملك لقمان أنه أمام ثورة اجتماعية سياسية تقوم بها النساء فأقدم على ما أقدم عليه في أمر المغتصبين : ثبت رجال الشرطة بعصيهم وهراواتهم في الأوضاع التي هم عليها، وجعل النسوة يتظاهرن بمنتهى الحرية . وما أن خرجت المتظاهرات في مئات شوارع المدن من حالة الدهشة لهول ما جرى حتى شرعن في نزع أحجبتهن وأنقبتهن وعباءاتهن وملاياتهن السود ليتجلين سافرات، بعضهن يلبسن بناطيل وبعضهن تنانير وبعضهن حاسرات الأكتاف والصدور وبعضهن يلبسن شورتات وبعضهن تنانير قصيرة ،وشرعن في الزغاريد والفرح ورحن يرسلن قبلهن عبر الأثير للرجل الواقف على شرفة المركبة المحلقة في الفضاء يلوح بيديه لهن وقد أدركن أن ما جرى ليس إلا بفعله . صرخ الملك شمنهور بأعلى صوته "مولاي مولاي مئات الصواريخ تنطلق نحونا من كافة الإتجاهات ساعدوني بقواكم " سخر الملك لقمان كل قواه مستنجدا بكل ملوك الجن الذين عرفهم وسخرت الملكة نور السماء قواها وسخر الملك حامينار ( أبوها ) قواه من كوكب آخر ولم تمر سوى لحظات حتى انطلقت آلاف النيازك والشهب والمذنبات المضادة من كافة أنحاء السماء وراحت تعترض الصواريخ المهاجمة وتفجرها . التهب الفضاء بالشهب والنيازك المنطلقة والمتفجرة التي راحت شظاياها تتساقط على المدن . أوجس الملك لقمان مخافة أن تسقط بعض الشظايا على الناس فسخر قواه لإخراس وتعطيل كل أنواع الأسلحة في هذه الدولة التي بدا أنها امبراطورية حديثة لدولة متخلفة فكريا ومتقدمة تقنيا !! وخلال لحظات لم يعد حتى حامل مسدس قادرا على إطلاق طلقة منه . حلق الملك فوق منطقة قصور يحيط بها آلاف الخيام الكبيرة لفتيات . ومئات الخيام لعسكر.أدرك أن حاكم هذا البلد لا بد وأن يكون مقيما هنا . ترك المركبة واقفة في الفضاء وهبط محلقا بصحبة الملكة نور السماء والملك شمنهور . حط أمام خيمة قريبة من القصر الكبير كان يقف أمامها بعض الضباط الكبار الذين لم يعرفوا ماذا يفعلون أمام هؤلاء الناس الخارقين بأفعالهم . حياهم الملك لقمان بعد أن أكسبهم اللغة العربية ليحدثهم ، فردوا التحية ودعوا الملك ومن معه إلى الجلوس . جلس الضابط صامتا في مواجهة الملك لقمان وبدا من رتبته أنه صاحب أعلى رتبة هنا . خاطبه الملك لقمان : - هل تعرفني بنفسك ؟ - أنا الفريق قائد حرس الخليفة أمير المؤمنين! بدا على الملك لقمان أنه لم يفاجأ ، لكنه تابع أسئلته : - أي خليفة وأي مؤمنين ؟ - الخليفة المنذر بن سرحان ! - والمؤمنين ؟ - المؤمنون بديننا ! - ما هو دينكم ؟ - الدين القويم . دين حكيمان العظيم ! - ومن هو حكيمان هذا ؟ - وكيل الله على الأرض ! - وهل هو موجود على أرضكم ! - لا بل في السماء يقيم في العرش الإلهي ! - هل إلهكم لديه جنة ونار ؟ - بل أكثر من جنة وأكثر من نار . كل حسب درجة ايمانه وكل حسب ذنوبه ! ابتسم الملك لقمان لحكمة هذا الإله الذي يضع تصنيفا للمؤمنين والمذنبين فيخصص لهم نوعا محددا من الجنات والجهنمات ! - وما الذي تفعله دولتكم الآن في العالم ؟ - نحارب الكفار والمشركين والمرتدين وغير المتقيدين بأصول الشريعة لإقامة الدين الحكيماني القويم في العالم ! - ومن هم هؤلاء ؟ -الكفار الذين ليس لديهم أي دين ، والمشركون الذين جعلوا مع الله إلها آخر ، والمرتدون الذين ارتدوا عن الدين القويم أو أوجدوا فهما مختلفا للدين وأنشأوا طوائف وجماعات ،وفي النتيجة كلهم كفار ويعاملون معاملة الكفار ، وغير المتقيدين بأصول الشريعة! - وأين هو الخليفة الآن ؟ - في القصر على كرسي العرش . - أيوه ! وما هذه الخيام الكثيرة حول القصور وكأن فيها فتيات صغيرات ؟ - هؤلاء أجمل السبايا العذراوات التي أرسلن لأمير المؤمنين من قبل قادة الجيوش الفاتحة من معظم الدول التي فتحوها ليتمتع أمير المؤمنين بجمالهن ! - وكم عددهن ؟ - قرابة مائة وعشرين ألف عذراء من سن التاسعة حتى التاسعة عشرة ! تأفف الملك لقمان دهشة ! ومخيلته تستحضر أرقام سبايا فتوحات أمم أخرى ربما لم تبلغ هذا الرقم وإن ازدحمت قصور الفاتحين بعشرات الآلاف منهن . - ومتى في مقدور الأمير أن ينكحهن جميعا ؟ - قد لا يضطر إلى نكاحهن كلهن ، يتمتع بهن بأشكال مختلفة . - وأنتم ألا تتمعون ؟ - بلى نتمتع بكل من يتخلى عنها الأمير وهن كثر ! وأشارالملك لقمان إلى الملكة نور السماء أن تذهب إلى خيم الفتيات وأن تطلق سبيلهن ولتخبرهن أنهن حرات وكل من يعترض طريقهن ستشل يده . نهضت الملكة على الفور وما أن أخبرت أول مجموعة من الفتيات حتى انقضضن عليها يقبلنها ويشرعن في الفرح والزغاريد. تابع الملك لقمان حواره . أرسل من يخبر خليفتك ليمثل أمامي . أخبره إن لم يحضر طوعا فسيحضر كرها ! " أمرك سيدي " أجاب الفريق وقد عرف تماما مع من يتكلم . وأرسل من يأمر الخليفة أمير المؤمنين بالمثول أمام الملك لقمان . **** (17) غلمان الخليفة وحلم الملك لقمان بدولة تحكمها النساء فقط ! لم يتمالك الملك لقمان والملك شمنهور والملكة نور السماء أنفسهم من القهقهة حين ظهر ( الملك الخليفة أمير المؤمنين!) جالسا على كرسي متحرك ذي عجلات واضعا على رأسه تاجا مرصعا بالجواهر الثمينة مطلقا ذقنا بطول حوالي أربعة أمتار يحملها غلامان على أكتافهم بأن قسمت إلى قسمين مرا من فوق كتف الغلام الأول ثم الغلام الذي يسير أمامه لتتدلى على صدره ، فيما كان غلام آخر يدفع العربة التي تقل الخليفة ! كان الغلمان يرتدون ملابس فتيات ويتزينون بالجواهر. لم يستطع الملك لقمان التوقف عن الضحك حتى بعد أن وصل الخليفة ورد التحية التي رد عليها الملك بهزة من رأسه فيما أدى كبار الضباط التحية العسكرية لخليفتهم . مثل الخليفة على كرسيه في مواجهة الملك لقمان فيما جلس الغلامان واحدا خلف الآخر وذقن الخليفة ممدة على أكتافهم ليتدلى جزء منها على صدر الأول ، بحيث أصبحت على مقربة من الملك لقمان. كان الغلمان الثلاثة من أجمل الغلمان الذين شاهدهم الملك لقمان في حياته . كانوا في حدود الثانية عشرة من أعمارهم وكانوا مزينيين بقلائد ذهبية وثمة حلق في آذانهم وأساور في أيديهم ! أشار لسائق العربة بالجلوس فجلس إلى جانب الخليفة وأشار إلى حاملي الذقن أن يتركاها ويجلسا . تردد الغلامان فلا يمكن أن يدعا ذقن الخليفة تسقط على الأرض . " سيعاقبنا الخليفة إن تركنا ذقنه يا مولاي" ( هتف أحدهم ) " لا تخافا يا عمو لن أدعه يمسكم " ترك الطفلان الذقن بتوجس وجلسا إلى جانب الطفل الآخر . أصبحت ذقن الخليفة ممدة أمام الملك لقمان على الأرض وعلى مقربة من قدميه. مد الملك قدميه قليلا وأراحهما عليها. خاطره الملك شمنهور قائلا : - يعجبني هذا التغير في سلوكك يامولاي ! هذا الوحش لا يستحق إلا الإحتقار ! سأل الملك أحد الأطفال : - لماذا ترتدون زي (طفلات) وتتزينون يا عمو ؟ تردد الطفل في الإجابة ثم قال : - هكذا يريد سيدنا الملك ! - لماذا ؟ وأحنى الطفل رأسه خجلا وهو يهتف بصوت خافت. - ليتمتع بنا يا عمو! انتفض جسد الملك لقمان وشعر بالإشمئزاز ولم يجد نفسه إلا وهو يأخذ شمعدانا من أمامه ويضرب به الخليفه وهو يهتف بانفعال ( قذر متوحش )! ارتد الشمعان من صدر الخليفة ليسقط على السجاد دون أن ينكسر فيما راح الخليفة يرتجف من الرعب من رأسه إلى قدمية . هدأ الملك قليلا وتابع حواره مع الأطفال : - هل أنتما سبايا حرب ياعمو ؟ - نعم نحن أطفال من دولة مجاورة . - وهل هناك أطفال كثيرين داخل القصر ؟ - كثير يا عمو،ذكور وإناث! وأشار إلى الملكة أن تدخل القصر وتنقذ الجميع وتوصلهم إلى ذويهم أينما كانوا.. ولم تمر سوى لحظات حتى خرج من باب القصرمئات الأطفال والفتيات الطائرين وهم يضحكون وفي غاية الفرح . وكانت الملكة قد أنزلت جنا حملوا عشرات الآلاف من قبل إلى ذويهم . - ماذا أفعل بك أيها السفاح ؟! - كان الخليفة يرتجف وأسنانه تصطك على بعضها ! حاول أن يلفظ أقل الكلمات : - سيعاقبك إلهي ! ابتسم الملك : - أبول عليك وعلى إلهك هذا إذا كان يقبل بكل هذا الظلم! يبدو أنه أكثر وحشية وفتكا منك ! هتف أحد الأطفال : - هل يمكننا ان ننصرف ياعمو! - طبعا عمو . سيحملكم جنودي المخفيين إلى أن يوصلوكم إلى أهلكم ، ويمكنكم أن تطلبوا كل ما تريدونه منهم وستجدون كل طلباتكم تلبى . نهض الأطفال ليصافحوا الملك لقمان وينصرفوا. سأل أحدهم وهو يصافح الملك لقمان : - عمو ماذا سنقول لأهلنا عمن حررنا من العبودية ؟ - قولوا حررنا إله الملك لقمان ! فوجىء الطفل حين عرف أن هناك إلها آخر غير إله الخليفة السفاح : - هل يحب إلهك الأطفال إلى هذا الحد يا عمو ؟ - إلهي لا يحمل إلا المحبة يا حبيبي فهو يحب الأطفال كثيرا ويحب كل الناس . - يله حبيبي الان سيحملكم جنودي ويطيرون بكم . ضم الملك لقمان الأطفال واحدا واحدا وقبلهم وأسلمهم لجنود الجن المخفيين . ابتعدوا وهم يلوحون بأيديهم ويضحكون ويرددون " شكرا يا عموالملك لقمان سنحبك ونحب إلهك ما حيينا " أبت دمعتان إلا أن تنزلقا من عيني الملك لقمان فرحا . " أبعدو هذا الحيوان من أمامي قبل أن أعلقه من ذقنه ليموت " هتف الملك لقمان وتابع : - هل أنت مقعد حتى تجلس على كرسي متحرك ؟ - لا ! هذا من أجل مهابتي ! - يا سلام! والذقن من أجل مهابتك أيضا ! - لا من أجل إيماني ! - كيف ! هل يقاس الإيمان عندك بطول الذقن ؟ - طبعا كلما طالت ذقن المرء كلما كانت دليلا على إيمانه ! راح الملك لقمان يقهقه وهو يردد ( غير معقول) وخلال لحظة رأى الحاضرون مقصا يقص الذقن من جذورها ويلقيها أرضا ليأمر الملك لقمان ضباط الخليفة أن يدوسوها بأقدامهم ففعلوا ، فيما كان الخليفة يفر جاريا نحو القصر . ***** أرسل الملك الملكة نور السماء لتدعو ألفا من قائدات النساء في الدولة إلى حفل عشاء واجتماع معه . وكان قصد الملك لقمان من هذا الكم أن لا يترك فئة من النساء في دولة الخلافة دون تمثيل في الإجتماع . وأشار بحركة دائرية من يده وإذا بجميع جنود وضباط الجيش الغزاة الذين ثبت حركاتهم وهم يقومون باغتصاب النساء يعودون إلى طبيعتهم ما عدا أعضاؤهم التناسلية التي لن تعود إلى الإنتصاب قبل خمسة أعوام! فشرعوا في العودة إلى بلدهم. وبحركة ثانية حرر جميع رجال الشرطة في الدولة الغازية التي هو على أرضها من ثبوتهم . أقبلت النساء محمولات على محفات جنية وثيرة بمقاعد مريحة للغاية . استقبلهن الملك لقمن في روض أقامه مكان الخيام التي كانت منصوبة للسبايا . انتخبت النساء عشر سيدات للتحدث إلى الملك ، انتخبن بدورهن سيدة من بينهن تدعى ( يقظة العقول ) كانت رئيسة لتجمع أحزاب نسائية تحررية لتنوب عنهن في إدارة الحوار . قدم الملك لقمان نفسه لهن كرسول للسلام يتمتع بقوى خارقة ومساندة إلهية ! وقدم الملكة نور السماء والملك شمنهور وباقي أعضاء المركبة من إنس وجن . وقامت النساء العشر بتقديم أنفسهن . وما أن جلس الجميع حتى عرفت يقظة العقول الملك لقمان بنوعية النساء الألف . فكان بعضهن رئيسات لتنظيمات نسائية سرية وبعضهن رئيسات جمعيات تعاونية وبعضهن عالمات وأديبات وفنانات وبعضهن رئيسات جمعيات مهنية . وختمت كلامها بالقول : "في الإمكان القول أننا أحضرنا نخبة تمثل معظم نساء المجتمع بناء على طلب جلالتك حسب ما أخبرتنا الملكة ". قال الملك : " في الحقيقة دعوتكن أولا لمعرفة العقاب الذي تفضلن أن أنزله بهؤلاء الطغاة الذين كانوا يحكمون البلد . وثانيا لمعرفة رأيكن في نوع الحكم الذي تفضلنه وقد قرأت معظم شعاراتكن التي كنتن ترفعنها في التظاهرات وقد أعجبتني كثيرا ،وثالثا لاستشارتكن في دولة تقودها وتحكمها النساء ، وهذا حلم كان يراودني لاعتقادي أن النساء عادلات ورحيمات أكثر من الرجال خاصة وأنني حين قرأت عن إلاهاتنا القديمات في كوكب الأرض تبين لي أن زمنهن كان زمن محبة وتعاون وخلق وحين استلب الذكر الألوهة منهن وحولها إليه بدأ القتل الفظيع واضطهاد الشعوب والعداوة والبغضاء تنتشر بين البشر، حتى الآلهة التي أوجدها العقل الذكوري آلهة شديدة العقاب بحيث طغى طغيانها على رحمتها ، فضاعت حقيقة الألوهة وجوهرها بين الرحمة والعذاب الشديد المستحيل وغير الممكن أن ينفذه إله ! *** (18) * دولة النساء الديمقراطية العلمانية ! كانت كلمة الملك لقمان مفاجئة للنساء الألف بقدر ما كانت أفعاله ونصرته لهن مفاجأة لم تخطر على بال أحد . فما أن أنهى كلمته المقتضبة حتى وقفن وشرعن في التصفيق الحاد وهن في غاية الفرح والسعادة، فيما كانت السيدة يقظة العقول تستنهض ذاكرتها لترد على كلمة الملك بأفضل ما تجود به مخيلتها . وما أن جلست جميع النساء حتى شرعت في الكلام : " إنه لمن دواعي سرورنا وعمق مشاعرنا أن نتقدم لمقام جلالكم السامي بجزيل الشكر والإمتنان لكل ما أقدمتم عليه من أعمال خيرانية أنقذتم بها ملايين النساء والفتيات والأطفال من الظلم والتعسف، وحررتم االبلدان المجاورة من طغيان الإحتلال، وأخرستم أسلحة الفتك والدمار. لقد ابتلينا ياسيدي بقوم عميت بصائرهم فأعادونا إلى عصور الظلام المنقرضة بدلا من أن يسيروا بركب الحضارة المعاصرة . فكبلوا الحريات بدءا من حرية الرأي وانتهاء بحرية الإنسان في جسده ، ليصبح كل سلوك للإنسان مهما كان ، خاضعا لقيم بائدة ، وأخرى متخلفة لم يوجدها العقل البشري يوما . لقد غدا الإنسان في بلدنا أسيرا لما يملى عليه ، من تمجيد للطاغية وزبانيته، وتنفيذ لأوامرهم ، وتحقيق لرغباتهم ، والسير في ركب الحماقة والجهل والتخلف ولو أدى ذلك إلى معاداة الشعوب والأمم " "سيدي جلالة الملك : لقد أمضينا أكثر من عام للتحضير لتظاهرتنا اليوم لتكون ثورة شاملة في كل مدن بلدنا ، ولذلك لم تتعرض للقمع العنيف الذي كانت تتعرض له التظاهرات السابقة من ضرب وقتل واعتقال وتعسف ، ولم تكن الأمور لتنتهي إلى ما انتهت إليه لولا نجدتكم المعجزة لنا ، التي أدركنا جميعا أنها لم تتم إلا بوحي إلهي ومساندة إلهية لكم ، فأثبتم بسلوككم العادل وأفعالكم النبيلة أنكم خير من يمثل الألوهة العظيمة في الكون . ( نهضت النساء جميعهن وشرعن في التصفيق.. وما أن توقفن وجلسن حتى تابعت السيدة يقظة العقول ) : " فاسمح لنا ياسيدي أن نحيي ونمجد الألوهة العظيمة وقد تجلت أفعالها الخيرانية والإنسانية على يديكم .. ( نهوض وتصفيق من كافة النساء ) " تبتغون يا سيدي رأينا في عقاب من ظلمونا ،وفي نوع الحكم الذي نفضله، والأهم أن يكون الحكم بأيدينا، وهذا ما لم نحلم به يوما في ظل الهيمنة الذكورية ، ليس على الحكم وحده بل على العقول أيضا ، بحيث أصبح الناس شبيهين بالببغاوات لا يرددون إلا ما يتفوه به الطاغية ! لن ترقى عدالتنا إلى عدالتك يا سيدي وأنت الكريم الرحيم العادل المحب . فشر علينا أوأقترح أو أؤمر يا سيدي وسننفذ بإذن الله. وفيما يتعلق بنوع الحكم ، أظن أن معظمنا متفقات على أن يكون جمهوريا علمانيا ديمقراطيا يتساوى فيه الجميع أمام قانون ودستور حضاريين . أما أن نحكم نحن كنساء فيا ليت لو يتحقق هذا الحلم ..أكرر عميق شكرنا وامتناننا لجلالتكم . دمتم ودام تمثيلكم للألوهة ومساندتها لكم " نهضت النساء وشرعن في التصفيق . وما أن جلسن حتى نهض الملك لقمان وشرع في إلقاء كلمة رد فيها على كلمة السيدة يقظة العقول وقدم بعض الإقتراحات : " أشكر السيدة يقظة العقول على كلمتها الجميلة والمعبرة . وآمل إعفائي مما اعتبرته في شخصي تمثيلا للألوهة في الكون وإن كنت أدرك أن الألوهة تساندني وتقف معي ، لكني أدرك تماما أن الألوهة تسري بقدرتها وطاقتها في الكون كله والكائنات كلها وأن خير ممثل ومجسد لها في الكون هو الإنسان بالمطلق ، أي البشرية جمعاء . ومشكلة البشرية حتى اليوم أنها لا تعي أن طاقة الألوهة تسري فيها وأن الألوهة تتمثل فيها كلها وأن أفعالها من خير وشرلا تتم إلا بقدرتها العظيمة ،وقد منحت الإنسان حرية الإختيار بين الخير والشر دون أن يعني ذلك أن الألوهة ترضى عن فعل الشر . كون الألوهة بالمطلق هي محبة وخير وعدل وجمال . لهذا الحديث في الخلق والخالق والإله والألوهة بقية، أفضل تركها إلى أن أجزم بيقينها، وإن كان لدي ما أقوله حولها ، لكنه يظل ضمن دائرة الإجتهاد الذي لم يرق إلى يقين . يقين أحتاج إلى الألوهة نفسها أو الله نفسه أن يحسم لي هذا الأمر . خاصة وأن كثيرات بينكن قد يتساءلن الآن لماذا أبقت الألوهة على الشروجعلت الإنسان مخيرا رغم تمثيله لها ؟ فيما يتعلق بالعقاب الذي سننزله بهؤلاء . أدرك وأنتن تدركن الآن على ضوء كلمتي وفهمي أن طاقة الألوهة التي تسري فينا تسري في أجساد هؤلاء الطغاة ، الذين لم يمارسوا طغيانهم إلا لجهلهم ،وعدم فهم أنفسهم ، وعدم فهم الألوهة ، وعدم فهم الغاية من وجودهم ، فإذا كانت الألوهة تسري بطاقتها وقدرتها في أجسامنا بل وتتجسد فيها ، فإن الغاية من وجودنا ليست إلا أن نكون خالقين وصانعي حضارة ،وليس قتلة وسفاحين أو مستغلين ومضطهدين للشعوب،وهذا ما لم يدركه هؤلاء القتلة . لذلك اعتدت أن أكون رحيما معهم بأن أكتفي بإبعادهم إلى جزر نائية ليعتمدوا على أنفسهم في الحياة وإعادة تأهيل ذواتهم. وآمل أنني كنت عادلا فيما قمت به . وبما أن السيدة يقظة العقول أوكلت الأمرلي فإنني أقترح أن نقوم بالحكم عليهم بالإبعاد خاصة وأن لهؤلاء أخوة وأخوات وأمهات وآباء وأبناء وبنات قد لا يكون لهم ذنب فيما اقترفته أيديهم ،وقد يضطرون إلى اللحاق بهم والعيش معهم . على أن لا تتجاوز مدة الإبعاد عشر سنوات قابلة للعفو عن الجميع أو عمن يثبت أن جرائمه أقل . سأطرح الأمر للتصويت . هل توافقن على الإبعاد ؟ رفعت جميع النساء أيديهن . إذن موافقة بالإجماع . اتخذ القرار . فيما يتعلق بحكم النساء . أنتن قمتن بثورة عمت البلاد كلها . ومن حقكن أن تشكلن مجلس قيادة ثورة منكن وتشكيل مجلس استشاري منكن يقود البلاد فترة محددة إلى أن يتم الإتفاق على نظام حكم ودستور جديد وإجراء انتخابات .. أليس كذلك ؟ سأقترح أن يكون مجلس قيادة الثورة من الأخوات العشر اللواتي انتخبتنهن هنا . هل توافقن ؟ ( إجماع ) ! وتابع الملك : وأقترح أن تكون السيدة يقظة العقول رئيسة لمجلس قيادة الثورة . هل توافقن ؟ ( إجماع ) - كم تقترحن عدد عضوات المجلس الإستشاري؟ قالت السيدة يقظة العقول : خمسمائة ! - هل توافقن ؟ ( موافقة بالإجماع ) - من تجد أنها مؤهلة لشغل المنصب لترفع يدها . لم يرفع إلا أربعمائة أيديهن فتمت الموافقة عليهن بالإجماع على أن يتم انتخاب مائة أخريات فيما بعد من قبل الشعب ! ***** (19) * فرحة الأمم بالمحبة والسلام ! أشار الملك لقمان إلى السيدة يقظة العقول إلى أنه يرغب في تطهير السجون وإشفاء المرضى وسحب الجيوش الغازية من كافة الدول المحتلة . وافقته دون تردد . كلف الملك لقمان الملك شمنهور بالمهمة فنهض على الفور. وأشار عليها أن تلقي كلمة تتحدث فيها عن قيام الثورة النسائية البيضاء في بلد كوكب السماء دون أن تراق نقطة دم واحدة على أمل أن تعم الثورات النسائية كافة أنحاء الكوكب بل والعالم كله. وفيما كان يتحدث إليها وقد حل الظلام أشرقت السماء بمئات آلاف النجوم المضيئة ليتحول الليل إلى ما يشبه النهار ،وظهرت آلاف طيور العنقاء والرخ محلقة في الفضاء وراحت تنقض على أماكن مختلفة حتى إلى داخل القصر الذي يختبئ فيه الطاغية وبعض أعوانه ،وتخرج حاملة أجسادهم بمخالبها لتدور بهم في فضاء مدن البلاد والبلدان المجاورة لتلقي بهم فيما بعد في جزيرة نائية خصبة اختارها الملك لقمان . راح الجميع ينظر بدهشة فائقة إلى ما يجري من انقضاض وصعود وتحليق للطيور في أسراب منتظمة ! وأشار الملك لقمان إلى ربة الجمال فائقة الجمال كأجمل فتاة أبدعها خياله حتى حينه ،أن تقوم بتقديم السيدة يقظة العقول إلى أبناء وبنات الدولة منبها السيدة يقظة العقول إلى أن كلمتها ستكون مسموعة ومرئية في كافة أجهزة التلفزة والإتصالات في الكون كله ، مؤكدا لها أنه سيكون في عونها وييسر لها سبل الكلام . ولم يكد ينه كلامة إلى وشاشة ضخمة تنتصب في مواجهتهم في الهواء الطلق . انتحت ربة الجمال في فسحة محاطة بالزهور. أشار الملك لقمان بحركة من يده وإذا بربة الجمال تظهرعلى الشاشة منتصبة خلف منصة خشبية يعلوها مايجرفون . ظلت صامتة للحظات مطلقة ابتسامة بدت كأنها إشراقة فجر ،تاركة البشرية جمعاء في دهشة وحيرة مطلقة مليارات التأوهات إعجابا بهذا الجمال منقطع النظير والذي عطل كل أجهزة التلفزة في الكون ليظهر عليها . وما أن أدركت ان البشرية استوعبت هول المفاجأة حتى هتفت بصوت عذب ساحر : " أحبتنا أبناء وبنات الأمم البشرية والجنية ( علق ملايين: واو هذه جنية ) أمهاتنا العزيزات آباؤنا الأعزاء ، أخواتنا إخوتنا ،من الكوكب الذي أصبح اسمه منذ اليوم " كوكب المحبة والسلام " نحيييكم ،ومن بلد السماء ، بلد السلام ، الذي أشرق على أرضه هذا اليوم فجر الحرية والمحبة والسلام ، حين قامت ملايين النساء العظيمات بثورة سلمية بقيادة السيدة يقظة العقول رئيسة الإتحادات والجمعيات والأحزاب النسائية المتحدة، جابت شوارع مدن البلاد كلها، وحققت النصر للأمم بمساندة ودعم رسول المحبة والسلام الملك لقمان العظيم الذي صادف مروره في سماء الكوكب . فأوقف اغتصاب الفتيات والأطفال وشل حركة المغتصبين ، وحركة رجال الشرطة الذين كانوا يضربون المتظاهرات . واعتقل القادة الطغاة . وسحب الجيوش الغازية من البلدان المحتلة وحرر السجناء . ( راح مليارات البشر يصفقون وبعضهم يردد مؤكدا قولا سابقا له ، ما قلنالكم أن الملك لقمان سيعود مهما غاب ) ! تابعت ربة الجمال : والآن أيها الأحبة في الكون وفي كوكب المحبة والسلام ومن بلد السماء أقدم لكم قائدة الثورة العظيمة ورئيسة مجلس قيادتها السيدة يقظة العقول حفظها الله ورعاها ! في كلمة موجهة إلى أبناء شعبها " انتحت ربة الجمال لتختفي عن الشاشة فيما ظهرت السيدة يقظة العقول ثابتة وبدت واثقة من نفسها وهي ترتجل كلمة ارتجالا : " أيها الأخوة المواطنون ، أيتها الأخوات المواطنات ، أيها الأحبة من الأبناء والبنات في بلدنا الحبيب وفي العالم. حين فجرنا ثورتنا صباح هذا اليوم كان الأمل بالنصر يملأ قلوبنا ،وثقتنا بالله تقوي عزائمنا ، ورغم اشتداد الحصار والشروع بالضرب بالعصي والهراوات إلا أننا صمدنا إلى أن هبت الألوهة لنجدتنا والوقوف معنا في شخص الملك لقمان العظيم . لن أطيل عليكم أيها الأحبة وسأقدم لكم موجزا لما فعلناه وما سنفعله : لقد اخترنا ألف سيدة ليمثلن نساء البلد في لقاء مع جلالة الملك لقمان . انتخبنا عشرة نساء لمجلس قيادة الثورة برئاستي . وانتخبنا أربعمائة سيدة من خمسمائة لمجلس استشاري ،وسيجري انتخاب المائة الأخريات من قبل الشعب. المجلسان مؤقتان إلى أن يتم كتابة دستور جديد للبلاد، دستور يعتمد مبدأ المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة ، انطلاقا من مفهوم انساني علماني يجمع بين الناس ولا يفرق ويحترم حرية الرأي والمعتقد وحقوق الإنسان كلها. المرأة نصف المجتمع ويجب أن يكون لها النصف في الدولة والمجتمع . ولا مانع على الإطلاق إن فازت في أي انتخابات بأغلبية في أي مجلس أو في رئاسة البلاد. بيضنا السجون من المعتقلين كافة ، السياسيين والجنائيين،وقمنا كذلك بمساعدة جند الملك لقمان بإشفاء المرضى في البلاد كلها ،وأبعدنا كل من أساء وأجرم بحق الشعب إلى جزيرة نائية لمدة لا تزيد عن عشر سنوات قابلة للتخفيض ،وسيتم ارسال طعام لهم وإقامة مأوى إن لم يتدبروا أمورهم لعلهم يذوقوا القليل جدا مما أذاقوه لشعبنا وللشعوب التي احتلوا بلدانها . نعلم أن هذا العقاب لن يرضي الملايين منكم وقد يطالبون بإعدامهم أو بالسجن المؤبد لهم . لكن أيها الأخوة والأخوات يمكن القول أنه لا يمكن لمن لا يعرف الرحمة والمحبة الإنسانية والعدالة والخير والجمال أن يقود شعبا في طرق الخير والمحبة والسلام ،وهي الصفات التي تتمتع بها الألوهة بالمطلق ، حسبما علمنا المعلم الكبير الملك لقمان . ( تعالت أصوات من بين النساء ومن بين المتجمهرين في الكون أمام التلفزة وراحت تهتف : لقمان لقمان لقمان مرددة اسمه بملء حناجرها ) " المحبة والسلام أيها الأخوة والأخوات يعنيان أن لا جيش بعد اليوم ولا أجهزة مخابرات تقمع الشعوب ولا حتى لشرطة لا تعرف الرحمة .. سنحول كافة الأسلحة إلى محاريث وأدوات انتاج يفيد منها البشر . وسيضمن جلالة الملك لقمان أمن بلدنا من أي معتد . سنشجع العلم والأبحاث العلمية ومعاهد الأبحاث والدراسات وبناء المدارس والجامعات . سنحد من الثراء الفاحش ونقضي على الفقر . وأمامنا الكثير والكثير لنعمله . ولأبناء الشعوب في دول الكون كله نقول لهم آن للبشرية أن تنبذ الحروب وتدمر الأسلحة لتفيد منها في صنع الحضارة لا تدميرها ،ولتساهم في صنع المحبة والسلام بين البشر على اختلاف مذاهبهم وأديانهم وأفكارهم . فالحقيقة المطلقة لا يعرفها أحد حتى اليوم . وإذا كان هناك ألوهة فلن تكون إلا المحبة المطلقة والخير المطلق والجمال المطلق، حسبما علمنا الملك لقمان العظيم . تحيتي ومحبتي لكل فرد منكم، والسلام عليكم ورحمة الله." عادت السيدة إلى الجلوس فيما التصفيق لكلمتها يتواصل . وما أن هدأ التصفيق حتى شرعت النساء في التصفيق الإيقاعي والهتاف لقمان لقمان ! لم تمر سوى لحظات حتى بدا وأن كاميرا تتحرك لتصور النساء مستعرضة المكان كله بمافيهم مرافقي الملك لقمان، وليدهش الناس أمام الجمال شبه المستحيل للملكة نور السماء وربة الجمال.. لتستقرأخيرا على شخص الملك لقمان الذي كان يجلس الطفلة عناة في حضنه وهي تعبث بشعر ذقنه . حين رأى الملك صورته تظهر على الشاشة أسلم الطفلة إلى حضن الملكة ونهض ملوحا بيديه ثم ضم كفيه إلى بعضهما وقبلهما مرسلا قبلاته إلى البشرية. كرر ذلك ثلاث مرات متتالية ، وهالة من نور تنبثق حول جسده وهي تومض وتشع إلى أن رفع يده موقفا النقل الكوني . وليبدأ حفل العشاء الكوني أيضا الذي أقامه الملك لقمان للمرة الاولى ليس لضيفاته من النساء فحسب بل للبشرية كلها ! والجن جميعا والشياطين جميعا وعلى رأسهم الملك الملاك ابليس المغضوب عليه من الله حسب الديانات التي أبدعها الفكرالديني الشرق أوسطي !! **** (20) * البشر والجن على موائد الله !! أطرق الملك لقمان للحظات باسطا يديه على وجهه مخاطرا الله والجن والملائكة بإقامة موائد وليمية للبشرية والجن والشياطين في كل مكان في الكون ، أطلق عليها موائد المحبة الإلهية احتفالا بدولة النساء التي أقيمت في بلد السماء. ولم تمر سوى لحظات حتى كانت عشرات مليارات الموائد لم يشهد لها البشر مثيلا تقام في كافة ساحات وحدائق المدن والقرى والمعابد وفي المستشفيات والمنتجعات والمطاعم وعلى شواطئ البحار والأنهار وقمم الجبال وأعماق المحيطات في كافة أرجاء الكون ، ودون أي تمييز على الإطلاق بين من يعتبره البشر مؤمنا بدين أو مذهب ما أو كافرا أو ملحدا أو علمانيا أو حتى مجرما أو طاغية أو جنيا أو شيطان . كما لم تخل السجون والجزر التي تحوي مبعدين من الموائد ، التي حوت لحوما منوعة لخراف وجداء وظباء وأرانب وعجول صغيرة وإوز ودجاج وحمام وحجل وأسماك منوعة ومقبلات وسلطات مختلفة وفواكه طازجة وخمور منوعة وحتى سجاير متعددة . وقرب الله بقدرته بين المجرات والكواكب وأنار الكون بنجوم تشع بألوان مختلفة وسخر طقسا عليلا للأكوان كلها رافقه نسيم منعش وحرارة معتدلة رافقها هالات من أنوار أخاذة كانت تجوب الفضاء في أشكال تجريدية. وصدحت في أرجاء الكون موسيقى كونية تراقصت لها ألوان في خطوط متعرجة وأسراب من قطوف العنب الأحمر والأصفر والأسود وأسراب من التفاح والبرتقال والتين والزيتون التي كانت تحلق في أسراب هندسية أخاذة متناغمة مع الألحان . وعمت الفضاء فرق من الحوريات الملائكيات ورحن يرقصن في الفضاء ، وانتصبت في كافة الأماكن شاشات تلفزة ضخمة ثلاثية الأبعاد راحت تجوب الكون من أعماق المحيطات إلى أبعد كوكب ومجرة في الكون ناقلة كل ما يجري من احتفالات في كل مكان في الكون . ونظرا لضخامة الشاشات وطريقة بثها عالية التقنية فكان الناس يشعرون أنهم موجودون في كل مكان يتم نقل ما يجري فيه ، حتى أن بعضهم كان يهم ليصافح أو يقبل أو يضم إنسانا آخر يبعد عنه مليارات السنين الضوئية . وظهرت في فضاء الكون فرق من الخيول والظباء والزرافات والإبل وهي تحلق فرحة كما ظهرت فرق من الطيور على كافة أشكالها: طواويس رخوخ، عنقاءات ،نوارس .. وكائنات من أعماق البحار والمحيطات : حيتان ،دلافين ، أسماك منوعة بعضها كان يحلق في الفضاء على وقع الألحان الكونية وبعضها في أعماق البحار والمحيطات . وحين ظهرت الصحاري والجبال والصخور والحجارة محلقة في أسراب منتظمة تبعها شهب ونيازك ومذنبات راحت ترسم أشكالا أخاذة نسي الناس الطعام والشراب وقد طارت منهم العقول وحين ظهرت أنهار تنحدر منصبة من السماء ما تلبث أن تعود إلى الصعود في أشكال لولبية أو منحنية قوسيا حين تصبح على بعد آلاف الأمتار من الأرض ،وقد أطلقت بروقا من داخلها راحت تحيل المياه إلى كتل ضوئية ترسم أشكالا مذهلة في الفضاء.ذهل الناس بقدرة الخالق العظيمة. صمتت الموسيقى الكونية للحظات ليظهر الملك لقمان محلقا في هالة نورانية تجوب الفضاء هاتفا بصوت دوى في كافة أرجاء الكون وبأكثر من ألف لغة : " باسم الله الواحد . الله المحبة والخير والحق والخلق والجمال. أرحب بأحبة الله جميعا ، الذين تسري في أجسادهم وتتجلى فيهم طاقة الألوهة العظيمة . وأعلن هذا اليوم الذي حكمت به حبيبات الله : النساء ! دولة في العالم . أعلنه عيدا للمحبة الإلهية تتجلى فيه الألوهة في خلقها الكوني من كون وكائنات . وإذا كان لا بد من كلمة تبتغون أن يوجهها الله لكم في هذه المناسبة ، فإنني أدعوه من أعماق قلبي وباسمكم جميعا أن يقولها هو لكم ، لأنني أخاف دائما من الخطأ حين اتحدث باسمه أو حتى بوحي منه ". واختفى الملك لقمان من الفضاء لتختفي معه الهالة النورانية. ولم تمر سوى لحظات حتى توقف كل شيء عن الحركة وظهرت هالة نورانية عظيمة ظهر فيها آلاف الألوان الشفافة المدهشة ، انبثق منها صوت هادئ بكل لغات البشرية، حيث سمعه كل بشر بلغتهم . قال: " أحبتي !كونوا على قدر ألوهيتي السارية في أجسادكم . أحبوا بعضكم . واعملوا على بناء الحضارة الإنسانية . وتعاونوا على تحقيق قيم الحق والخير والعدل والجمال ، ترتقون إلي . وتدخلون عالمي . وتذكروا دائما أن ألوهيتي السارية في كل كائن منكم هي من يوحدكم ، وليس اجتهادات مفاهيمكم للألوهة أو أي اجتهادات أخرى ما لم ترق إلى مفاهيم إنسانية خيرانية كتلك التي أتى بها الحبيب لقمان. تفضلوا على مائدتي وتناولوا طعامي وشرابي . هنيئا مريئا " واختفت هالة الله العظيمة التي لم ير البشر أجمل منها أو مثيلا لها . وعادت الموسيقى الكونية لتصدح والكائنات تتابع تحليقها ورقصها ورسم تشكيلاتها في الفضاء ليأتي البث عبر الشاسات من أبعد نقطة في الكون وأعمق مكان في محيط. قبل الملك لقمان الطفلة عناة وأشار بحركة من يده لتظهر مليارات الحوريات على موائد الله ويقمن بخدمة الناس بما لم يعرفه البشر من قبل ولم يتمتعوا به من قبل على الإطلاق . سواء من حيث لذة الطعام والشراب أو من حيث جمال الحوريات وطريقة الخدمة التي أذهلت العقول . فما أن يطلب إنسان ما شيئا حتى تشير الحورية إليه فيطير إليها لتسكب منه للضيف ومن ثم تتركه ليعود إلى مكانه . وإذا كان سفودا لخروف يشوى فكان يعود إلى سفوده ليتقلب بهدوء على نار خفيفة . أما أكثر الموائد دهشة فكانت ما يبث من أعماق المحيطات لشواء يجري في أعماقها بين آلاف التشكيلات المرجانية المدهشة ، لجن وشياطين دون أن يؤثر الماء على النار ودون أن تؤثر النار على الماء أو على المحتفلين الذين بدوا وكأنهم لا يجلسون في ماء. رغم وجود آلاف الدلافين والحيتان والأسماك وحوريات البحار المحلقة من حولهم وفوقهم . أوشك الفجر أن ينبثق ومليارات البشر والجن والشياطين يعلنون دخولهم في الدين الجديد دين الملك لقمان . دين الله الواحد الساري بطاقته في الكون والكائنات . كما أعلنت آلاف الدول في الكون اعتناق الدين الجديد وكتابة دساتير جديدة تكون فيها النساء مشاركات للرجال مناصفة في الحكم . وأعلنت مئات الدول في الكون توحيد بعضها في دول متحدة . حتى أن بعض الكواكب متعددة الدول أعلنت توحدها في دولة واحدة كما جرى في الكوكب الذي يحتفل فيه الملك لقمان مع النساء ومرافقيه وضيوفه . ونظرا لفرحة الله لما جرى فقد أخرطلوع النهار لمدة عام كامل . ليظل الناس محتفلين طوال هذه المدة دون أن ينعسوا ودون أن يشعروا بالحاجة إلى الراحة .. فقد أمضوا عاما كاملا وهم يرقصون ويأكلون ويشربون ويتحابون .. وكان أغرب وأهم ما جرى على كوكب الأرض أن حاخامات اليهود قاموا بالدخول في الدين الجديد وأعلنوا تخليهم عن دولة يهودية بل وأعلنوا اتحادهم مع الفلسطينيين في دولة علمانية ديمقراطية تحترم حقوق الجميع كمواطنين ، بغض النظر عن انتمائهم العرقي أو المذهبي . فعمت الأفراح سائر المدن والمخيمات وشوهد لأول مرة يهود يرقصون مع عرب فلسطينيين بشكل جماعي حول موائد الألوهة ! |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [3] |
|
الأُدُباءْ
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
(21) فصل الختام في رحلة الملك لقمان الفضائية الأولى ! وهو يجلس صامتا متأملا في ظل صخرة عملاقة في صحراء على كوكب مهجور حيث أمر المركبة أن تهبط فيها ليخلو إلى نفسه بعض الوقت جاهدا قدر الإمكان الخروج من هموم البشرية ، راح الملك لقمان يتذكر بعض وقائع رحلته الأولى بدءا من محاولة انتحاره في الصحراء الدمشقية وحفر قبر لنفسه ليعثر على القمقم الذي سجن فيه الملك شمنهور من قبل النبي سليمان ، مرورا بكوكب الزهرة وتتويجه ملكا على الجن وزواجه من الملكة نور السماء ، وبجهنم الإله الطاغية داجون، وانتهاء بكوكب الأساطير الذي كان الناس يلقون فيه بناتهم للإله النهر حتى لا يغضب ويفيض ليغرقهم . توقف للحظات عند حواره مع رجل المعرفة " شاهل بيل "على كوكب الزهرة، حول الحقيقة والخيال ، حين سأله عما إذا كان يرى أن وجوده والجن على الكوكب حقيقة أم أنه خيال ؟ ليجيبه الآخربما لم يتوقعه " نعم أنتم حقيقة لكن بقدر ما أنتم خيال " وهاهي هذه الأفكار تعود لتراوده ثانية محاولا قدرالإمكان أن يقنع نفسه بأنه حقيقة بقدر ما هو خيال ، ليس انطلاقا من رأي رجل المعرفة وحده بل وانطلاقا من فكر صانع شخصيته "محمود شاهين " الذي يرى أن الوجود الحقيقي هو لله وحده ، وما الوجود المتجلي إلا مجرد وهم أرادت لنا الألوهة أن نراه حقيقة ،وسيظل كذلك إلى أن يأتي يوم يعم فيه كمال ما يصبح فيه الوهم حقيقة . ترى ما الذي ستكون عليه نهايته في هذه الرحلة ولماذا أعاد محمود شاهين خلقه بعد عشرين عاما في عمان وليس في دمشق ويضعه في الحال إياها : اليأس ومحاولة الإنتحار ! فهل انتحر فعلا وتحطم جسده على رصيف البناية التي ألقى نفسه من فوقها، أم أن الشيطان تلقفه وأنقذه فعلا وأن كل ما جرى ويجري معه هو حقيقة ؟ هل سيتحقق له لقاء الله ليسبر أغوار الحقيقة ، وهل مخاطبة الله له في كلمته الكونية بالحبيب حقيقة أم انها مجرد أحلام ؟! حين قرر العودة إلى الأرض ليحيا الشقاء لم يكن يعرف أنه يدخل في الحقيقة المطلقة . لم يعد إلى بيته كما تخيل . كذلك لم يصعد إلى السماء ، لكنه دخل في الحقيقة المطلقة : * ما جرى للأديب لقمان قبل عشرين عاما ! كان بعض الرعاة ينتشرون بقطعانهم على أطراف الصحراء الدمشقية ، حين شاهدوا أسرابا من الطيور المختلفة ، تقدم عبر الفضاء لتحلق على ارتفاع منخفض فوق موقع منبسط في الصحراء. ما أدهش الرعاة هو كثرة الطيور وتنوعها وتآلفها وتحليقها في أسراب منتظمة فوق هذه الرقعة الصحراوية . كانت النسور تحتل مركز التحليق ، تلاها الصقور والعقبان ، ثم اللقالق فا لقطا والنوارس واليمام ، وقد رسمت في الفضاء مشهدا أخاذا .. أخذ الرعاة يتنادون منبهين بعضهم لما يجري ، وما لبثوا أن راحوا يهرعون نحو المكان لمعرفة السبب الذي دعا الطيور إلى التحليق فوق هذا المكان وبهذا الإنتظام الساحر. حين راح الرعاة يقتربون كانت النسور تهبط لتحلق على ارتفاع منخفض فوق المكان وكأنها تريد أن توفر حماية له ، وهو ما تأكد الرعاة منه حين غدوا على مسافة أمتار من حفرة مستطيلة في المكان ، فقد راحت النسور تهبط أكثر فأكثر. واصل الرعاة تقدمهم ببطء دون أن يحاولوا الهوش على النسور ، لإحساسهم أن ما يجري أمر مهيب ، وأن النسور ربما تكون كائنات مسحورة ، أو مسيرة من الله ، وأنها قد تؤذيهم إذا ما حاولوا ابعادها. . واصل الرعاة تقدمهم ببطء وتوجس إلى أن غدوا على مسافة أقرب من الحفرة ، لكنها لم تتح لهم رؤية ما بداخلها ، وتخوفوا من التقدم لأن النسور راحت تنقض نحوهم ، وكأنها تحذرهم من التقدم أكثر ، مما دفع الرعاة إلى الإعتقاد بأن الحفرة تحوي فراخ نسر ما ، وأن النسور تذود عنها ، كما يذود أي طائر عن فراخه. تجرأ أحد الرعاة وتقدم ببطء ضاما يديه إلى صدره ليوحي للنسور أنه مسالم ولن يقوم بما هو مؤذ ، وفعلا نجح الراعي في التقدم إلى أن وقف على مسافة تتيح له رؤية عمق الحفرة . كان ثمة رجل ملتح بدا في الأربعينات من عمره يتمدد ميتا على أرض الحفرة ، شابكا يديه على صدره ، وثمة طيف ابتسامة يرتسم على شفتيه ، ونور ما يشع من وجهه، مضفيا مهابة أخاذة وطمأنينة فريدة على محياه ، فبدا وكأنه ليس ميتا على الإطلاق. كان يتمدد بكامل ملابسه التي لم تتعفر بالتراب ، رغم عوامل الطبيعة ووجوده داخل حفرة، يبدو أنه هو من حفرها ليموت فيها. ولم يكن قد نزع حذاءه أيضا . وكان هناك مسدس صغير ملقى على صدره إلى جانب يديه المشبوكتين. وثمة خنجر أيضا إلى جانبه. كانت أكوام التراب تحيط بالحفرة وثمة جمجمة قديمة وقمقم نحاسي عتيق يندثران بين الأكوام . حاول الراعي مد يده لأخذ القمقم ، ففوجىء بالنسر ينقض عليه بشراسة وهو يزعق بصوت مخيف . توقف الراعي وأشار للرعاة أن يتقدموا ببطء وهدوء ليروا. أحاط الرعاة بالحفرة القبر ، وراحوا يتأملون وجه الرجل دون أن يأتوا بأية حركة ، وفيما هم يتأملون وجهه شاهدوا طيف الإبتسامة المرتسم على شفتيه ينفرج بين فينة وأخرى ، لتبدو ابتسامته أكثر انفراجا ، وكأنه ليس ميتا ، مما جعلهم يوقنون أنهم في حضرة ولي من أولياء الله الصالحين. لم يعرف الرعاة ماذا يفعلون ، فلا يعقل أن يتركوا الرجل ملقى هكذا في هذه الحفرة في الصحراء ، وكلما حاولوا الإنحناء قليلا أو الإتيان بأية حركة كانت النسور تنقض عليهم بشراسة ، فلم يكن أمامهم إلا الإنصراف لإخبار سكان قراهم بما شاهدوا . راح الرعاة يعتلون قمم الجبال والتلال المحيطة بالمكان وينادون الناس في القرى بأعلى أصواتهم ، أن يهرعوا لمشاهدة المعجزة الإلهية. راح الناس يهرعون من كل صوب من القرى المختلفة ، وفيما كانوا يقتربون شاهدوا ضريحا ينهض في المكان تعلوه قبة كبيرة ، فيما عادت الطيور تحلق على ارتفاع شاهق نسبيا ، وحين بلغوا الضريح وجدوا أنه أحيط بسور من القضبان الفضية ، وحين حاولوا ملامستها لتقبيلها والتبرك من صاحب الضريح ، فوجئوا بالنسور تنقض عليهم مانعة إياهم من لمسها ، فوقفوا على مسافة منها ، وكان في مقدورهم أن يقرأوا بعض الكتابات التي كتبت على جدران الضريح بخط ذهبي واضح: "هنا يرقد جسد الرجل الذي عرف الله وجزءا من الحقيقة ، هنا يرقد جسد الأديب الملك لقمان عليه السلام" !! كما قرأوا بعض العبارات الأخرى التي يبدو أنها من كلماته في الحياة : " وحين التقينا يا إلهي بعد كل هذا العناء من البحث عنك وجدت نفسي أمام نفسي " "لا يمكن لكل لغات العالم أن تعبر عن شعوري يا إلهي حين أخبرتني أن لا جهنم لديك ، وأنك لا تحمل إلا المحبة لمخلوقاتك" "من شاء منكم أن يتعبد إلى الله فليحبه من كل قلبه ومن أعماق نفسه ، فلا عبادة عند الله أكبر من المحبة التي ينبض بها القلب وتختلج بها لواعج النفس" "أنا روح الحق ، روح الله الذي لا إله غيره " "ليس هناك امرأة تملأ حياة رجل ، وليس هناك رجل يملأ حياة امرأة ، فالنفس تواقة دوما إلى الجمال ، والجسد لا يسمو إلا بالمتعة والكمال ، فنوعوا النكاح ، ومارسوا الحب بالتراضي والقبول ولا تحرموا أنفسكم وأجسادكم متعة الحياة فإنكم بذلك تتقربون إلى الله" . : إن مساءلة الله والتساؤل عنه واجب على البشر ، وإني أقول لك أيها الشاب " إن فهمك بعض الناس فأنت عبقري ، وإن فهمك معظم الناس فأنت ذكي ، وإن فهمك الناس جميعا فأنت أحمق" " لا يحصد المرء دائما ما يزرع " " قد يدخل جمل من ثقب إبرة ، لكن لن يدخل تاجر جشع إلى قلوب الناس " "المادة هي الروح ، والروح هي المادة ، والفصل بينهما مسألة عبثية ، وقد وجدا معا في آن واحد ، ومنهما جاء كل شيء" إضافة إلى كتابات أخرى كثيرة من عبارات مأثورة قالها الملك لقمان . ***** وكان الأديب لقمان بعد أن عثر على القمقم في القبر الذي حفره لنفسه لينتحر فيه ، راح يتخيل أن جنيا ما سيخرج له منه ، وهذا ما كان ، فاستلقى في القبر وأطلق العنان لخياله ليتابع رحلته مع الجني في الكون. دام تخيله تسعة أيام بلياليها دون أن يذوق أي طعام أو شراب ، ودون أن يشعر بحاجته إليهما ، ودون أن تتمكن وحوش الصحراء من الإقتراب منه ، إلى أن أتم تخيله في اليوم التاسع ، فاصطفاه الله إلى رحابه . وأسلم الروح ! ***** كان هذا ما جرى للقمان في رحلته الأولى فما الذي سيجري له في رحلته الثانية ؟ وما الذي يريده محمود شاهين من إحيائه ثانية بعد عشرين عاما من انتحاره . هل يصبح ما تخيله لقمان حقيقة ؟ وهل سنتقبل ما جرى له في الرحلة الأولى وما سيجري له في الرحلة الثانية ليرقى إلى مصاف الحقيقة أم أنه سيظل وهما لا يرقى إلى الحد الأدنى من الحقيقة ؟ **** (22) الوجود تحقق خيال ! لا يستطيع أحد أن يقتحم خلوة الملك لقمان حين يخلد إلى نفسه إلا الملكة نور السماء حين تتأكد أنه أمضى من الوقت ما يكفي للتأمل . خاطرته وهي تتمشى منفردة على مسافة أمتار من المركبة الفضائية: " هل أحضر إليك يا حبيبي؟" التقطت مخيلة لقمان السؤال التخاطري : " أجل حبيبتي ، تعالي أظن أنني في حاجة إليك " آقبلت الملكة منشرحة الصدر تعلو شفتيها ابتسامة ساحرة . طبعت قبلة على خد الملك ليبادلها القبلة بدوره . جلست على الرمل في مواجهة الملك . - ما حاجتك إلي يا حبيبي ؟ أطرق الملك للحظات قبل أن يسأل : - هل نحن حقيقة أم خيال ؟ ابتسمت الملكة وقد أدركت أن الأسئلة القديمة عادت لتراود الملك . أجابت بما لم يتوقعه الملك : - نحن تحقق الخيال ! - لم أفهم ! - إذا كان الوجود نتاج خيال طاقة ما ولتكن إلها فنحن نرى ونلمس تحقق خيال ، مع أن أحدا لم ير الله منتج هذا الخيال ، فهو بالتالي نتاج خيال بشري. الأمر نفسه ينطبق على الجن والشياطين والملائكة ، فهم نتاج خيال بشري له حضوره في الواقع البشري مثل الله تماما مع أن أحدا لم يرهم ! - في هذه الحال نحن أمام نوعين من الخيال . خيال مجسد يمثله الوجود وخيال غير مجسد يمثله الله والملائكة والجن والشياطين . - ومع ذلك يمكن تخيل ما هو غير مجسد ليغدو مجسدا ، كما أنا الآن مجسدة مع أنني جنية ! - إذن أنت تحقق الخيال ! - وأنت أيضا ! كلانا نتاج تحقق خيال ! - ما رأيك بفلسفة شمس الورود ملكة كوكب الجنات ؟ - فلسفة مدهشة رغم خلوها من الجن والشياطين وحتى الملائكة ! - ما أدهشني فيها هو كون الخالق طاقة سارية في الخلق تحس وتتألم وترى وتسمع ! . تسرعنا في مغادرة هذا الكوكب الذي قطع شوطا مهما في الحضارة . - لكن تحويل جميع البشر إلى تماثيل بعد الموت سيؤدي في المستقبل إلى ازدحام الكوكب بالتماثيل وفي النهاية لن يبقى هناك مكان لمزيد من التماثيل على مدار أحقاب زمنية . ومن ناحية ثانية ستصبح تربة الأرض فقيرة بالعناصر الغذا ئية لإنتاج غذاء جيد ! - إذا صح رأيك فثمة خطأ إلهي في هذه المسألة ينبغي إعادة النظر فيه ، فتربة الأرض تحتاج إلى عناصر تغذيها ،وحرمانها من أجساد الميتين يعني حرمانها من عناصرغذائية مهمة ، مما قد يؤثر مستقبلا على دورة الحياة وتجددها ! ****** كانت حرارة الشمس معتدلة على هذا الكوكب ، ورغم قابليته للحياة عليه إلا أن أحدا لم يقم عليه حتى حينه ،مما أدهش الملك لقمان . " الغداء يا مولاي " خاطر الملك شمنهور الملك لقمان . " حسنا أيها الملك ، قادمون " ونهض ليأخذ بيد الملكة ويعودا إلى المركبة . ***** (23) كوكب الحب والجنون والأحلام ! وهوجالس على كنبة محلقا في المركبة الفضائية ربما على بعد أكثر من مليار سنة ضوئية عن كوكب الأرض، تمنى الملك لقمان أن يجد كوكبا يشبه نظامه نظام كوكب الجنات أو يتفوق عليه علميا فقد سئم من كواكب التخلف لكثرة ما شاهد منها وخاصة في رحلته الأولى ثم إن مسألة لقاء الخالق بدت له مسألة عبثية لن تتحقق ولا يعرف كيف يمكن أن تتحقق، فإذا كان الخالق حقيقة طاقة سارية في الكون والكائنات فكيف يمكن أن يقابله ؟ هل يجلس ليتحدث إلى هالة من الألوان كما ظهرت في حفل الولائم ؟ وحاول أن يتخيل صورة مغايرة للخالق كأن يكون في شكل إنسان ضخم يجلس على كرسي أكثر ضخامة في أعلى نقطة في الكون ،ويشرف من هناك على إدارة العالم . بدت الفكرة مضحكة له فهي أقرب إلى تصور لإله شرقي! افتقد الملكة التي كان يلجأ إليها في الحالات المعقدة . تمنى أن تكون قد استيقظت من نومها . خاطره الملك شمنهور معلنا أنهم يحلقون فوق كوكب جميل. أطل الملك من شرفة ليرى كوكبا يزهوبألوان وردية وكأن الكوكب كله عبارة عن حقل ورد . أشار الملك لقمان إلى قائد المركبة بالهبوط والتحليق فوق مدن الكوكب . جاءت الملكة فيما كانت المركبة تهبط وتحلق . تلقى قائد المركبة رسائل بأكثر من لغة تسأل عن هوية المركبة . أجابهم بأنهم رسل سلام وأن سيد المركبة هو الملك لقمان رسول السلام ! بعد لحظات وردت رسالة ترحب بالملك ومرافقيه وتعلن عن استقباله بشكل رسمي في عاصمة الكوكب وأن طائرات سترافق مركبته وتقودها إلى المطار الذي ستهبط فيه . لم تمر سوى لحظات حتى وجد الملك لقمان مركبته محاطة بثماني طائرات . طائرتان أمام المركبة وطائرتان خلفها وطائرتان إلى كل جانب من جانبيها . حلقت الطائرات فوق مدينة كبيرة بدت أبنيتها شاهقة ومنتظمة وفي غاية الجمال . ولاحظ الملك لقمان أن الطائرات تقصدت التحليق فوق المدينة لتجعل الملك ومرافقيه يرون المدينة وليعلم سكان المدينة بوجود ضيف مهم ، كما ليهيأ استقبال يليق بالضيوف الذين استطاعوا الوصول إلى هذا الكوكب ،بل والمجرة نفسها ، فهم لا شك يملكون طاقات غير عادية . أخيرا قادت الطائرات المركبة إلى مطار لتهبط مركبة الملك على مدرجه . لاحظ الملك وهويهبط أن سيدة تتقدم جماعة المستقبلين فاستبشر خيرا . كما وقفت على مسافة منهم فرقة موسيقية . ثم آلاف الشباب والشابات حاملي الرايات الملونة وقد وقفوا في صفين متقابلين . هبطت المركبة الضخمة . نزل الملك لقمان يتبعه مرافقوه . تقدم بضع خطوات ليصافح السيدة الجميلة التي قدمت نفسها على أن اسمها " نسمة الغدير " وأنها رئيسة مجلس قيادة " كوكب الحب " وقدم الملك لقمان نفسه ثم قدم الملكة نور السماء فيما كانت فرقة الموسيقى تعزف ألحانا فرحة ! قدمت الرئيسة مرافقيها في حفل الإستقبال وقدم الملك لقمان مرافقيه ثم ساروا جميعا بين صفي الشباب والفتيات الذين كانوا يلوحون برايات ملونة . ارتدت الفتيات تنانير قصيرة زرقاء تكشف أفخاذهن وقمصانا بيضاء وربطات كحلية. وارتدى الشباب الملابس التي تحوي الألوان نفسها. انتهى الموكب إلى قاعة استقبال ضخمة . جلست الرئيسة ونائبتها والملك والملكة على أرائك منفردة . بعد تبادل كلمات الترحيب للمرة الثانية قدم الملك نفسه بصورة غير واقعية قائلا : - أنا الملك لقمان ملك على الإنس والجن في سائر الأمصار والأكوان ! وقاطعته الرئيسة حين فوجئت بالتقديم : - هذا يعني أنك ملك على كوكبنا أيضا يا جلالة الملك . - يفترض أن يكون الأمر كذلك رغم أنني لن أتدخل في شؤونكم إلا إذا ما رأيت ضرورة لذلك . - وماذا يمكن أن تكون الضرورة ؟ - كل ما يتناقض مع مفاهيمي للفكر الإنساني ! - لكن المفاهيم الإنسانية تختلف من أمة إلى أمة ! - ثمة مبادئ عامة أساسية تشترك فيها المفاهيم كلها ، المشكلة في الفهم والتطبيق . أنا في الحقيقة دكتاتور عادل وحتى الآن لم ترفض أمة عدالة دكتاتوريتي ما عدا كوكب بعيد يدعى كوكب الأرض ! - نحن مثلا كوكب علماني . لا نؤمن بوجود إله وإن كنا نؤمن بوجود طاقة تقوم بعملية الخلق نطلق عليها مجازا اسم إله . فهل هذا الفكر يتناسب مع فكر جلالتك ؟ فوجئ الملك لقمان بأن أفكارالكوكب هي نفس أفكاره بل أفكار صانعه محمود شاهين ! - أنت تتحدثين عن أفكاري سيادتك ، فما أنا إلا تحقق لخيال طاقوي ! !! فوجئت الرئيسة بإجابة الملك رغم إدراكها أنه لا يمكن أن تتفق الأفكار حول كل شيء وخاصة ما يتعلق منها بالخلق والخالق والغاية من الخلق والموت والحياة والنظم الإجتماعية والسياسية والإقتصادية . - هل في مقدور جلالتك أن تلخص لي مفاهيمك حول الخلق والخالق والغاية من الخلق ؟ - أفضل أن أسمع مفاهيمكم وحين أرى أنها لا تتفق مع مفاهيمي سأخبرك ! - يمكنك أن تسألني وسأجيب باختصار : - ما هو الخلق مثلا ؟ - الخلق تجليات الطاقة والمادة . - وأين توجد الطاقة والمادة ؟ - الطاقة تسري في الكون والكائنات وتتجلى كمادة في الكون والكائنات . - ما نوع هذه الطاقة أقصد من حيث قدرتها ؟ - يمكن القول أنها طاقة الطاقات . أي طاقة الخلق التي لا يمكن أن يتم خلق دونها . - هل هي أزلية ؟ - أجل ! -هل هي مكتملة ؟ - أبدا ليست مكتملة ولا تعرف ما هو الكمال المطلق ومتى تبلغه ! - وعملية الخلق كيف تتم ؟ - عملية الخلق تكاملية بين الطاقة والمادة ، أي بين الخالق والمخلوق ، فالكائنات تخلق نفسها بنفسها بفعل الطاقة الناجمة عن العناصر المادية التي توفرت لها وتفاعلها مع الطاقة الكلية السارية في الكون . صعق الملك لقمان وهو يستمع إلى أفكاره بل وبات يشك في أن أفكار محمود شاهين قد وصلت إلى هذا الكوكب قبل أن تصل إليه بآلاف السنين . أضاف مكملا لأفكار الملكة : - والغاية من الخلق أن يكون كل شيء خالقا بدوره ولذلك لا يمكن فصل الخالق عن المخلوق ، فليس هناك مخلوق لا وجود لدور له في الوجود الكوني . فالوجود بكل ما فيه خالق ومخلوق . لم تكد الرئيسة تصدق ما تسمع فيما الملك لقمان يتابع : -المادة والطاقة أزليتان ولا تفنيان . والموت ضرورة لتجديد المادة والطاقة واستمرار الحياة . والوجود منذ أن كان أصغرجزيئ مادى طاقوي إلى أن أصبح الأكبر الذي يحتوي كل شيئ لا يستطيع أحد تحديد بداية أو نهاية له . وفوجئ الملك لقمان بالرئيسة تعانقه مقبلة وهي تهتف : - لا أصدق أنك تحمل فكرنا ! أين كنت مختفيا حتى الآن يا جلالة الملك ؟ - يا سيدتي الحق على من تخيلني فقد أماتني وأحياني بعد عقدين من الزمن حين شعر بحاجته إلي ! - أظن أن البشرية في حاجة إلى أمثال جلالتك لذلك أحياك من جديد ! -هل اكتشفتم عمر كوكبكم ؟ - حسب رأي علمائنا عمر كوكبنا حوالي عشرة مليارات عام . وعمر مجرتنا 35 مليار عام . - هذه أرقام مذهلة . لا تتناسب وأرقام كوكب الأرض. أدركت الرئيسة أن الملك وضيوفه في حاجة إلى الراحة وأن هناك الكثير مما يحتاج إلى التحدث حوله ، خاصة ما يتعلق بالنظام الإجتماعي في الكوكب الذي ألغى المؤسسة الزوجية منذ قرابة ألف عام ،ولا تعرف إن كان الملك لقمان سيوافق على هذا النظام وغيره من النظم الإجتماعية على الكوكب . - لا بد أنكم في حاجة إلى قسط من الراحة جلالتكم . سنصحبكم إلى قصر الضيافة وسنلتقي مساء على مائدة العشاء. ونتابع أحاديثنا . - أشكر سيادتك على حسن الضيافة وأؤكد لك أن فرحتي بلقاء أمة مثل أمتكم أكبر من أن يعبر عنها كلام . ***** (24) * حب بلا شروط وأمهات منجبات ! كانت مفاجأة كل واحد بالآخرلا تصدق . فالملك لقمان فوجئ بفهم " نسمة الغدير " وهي بدورها فوجئت بفهمه للوجود . دعت إلى حفل العشاء الذي أقيم في الهواء الطلق زعماء بلدان الكوكب مبدية فائق حرصها على أن يليق الحفل بمقام الملك لقمان ومرافقيه ، فاختارت أفضل أنواع الأطعمة والمشروبات على الكوكب وأفضل الفرق الموسيقية لتعزف خلال الحفل ،وأجمل فتيات المدينة لخدمة الضيوف . وحرصت أن تجلس إلى جانب الملك فيما جلست الملكة نور السماء إلى جانبه الآخر. حين التقى الملكة شمس الورود ملكة كوكب الجنات اعتقد أنه لن يجد كوكبا بهذا المستوى من الرقي، وها هو يفاجأ بكوكب الحب والرئيسة نسمة الغدير . - حدثيني سيادتك عن نظامكم الإجتماعي ؟ - ألغينا المؤسسة الزوجية من المجتمع لثبوت فشلها ! مفاجأة لم يتوقعها الملك لقمان وهو القائل : " إني أقول لك أيتها المرأة : ليس هناك امرأة تملأ حياة رجل ،وليس هناك رجل يملأ حياة امرأة ، فالنفس تواقة دوما إلى الجمال ،والجسد لا يسمو إلا بالمتعة والكمال ، فنوعوا النكاح ،ومارسوا الحب بالتراضي والقبول ،ولا تحرموا أنفسكم وأجسادكم متعة الحياة ، فإنكم بذلك تتقربون إلى الله " - لا أكاد أصدق كيف يمكن إلغاء المؤسسة الزوجية ؟ - لم يتطلب الأمر أكثر من علاقة جنسية حرة ! - دون انجاب أبناء !؟ - من يريد أن ينجب من العلاقة الحرة يمكنه أن ينجب. ويمكنه الإحتفاظ بالمولود ليقوم بتربيته لفترة محددة . لكن معظم الناس يفضلون أن يبعثوا بالمواليد إلى دور الحضانة ليتربوا مع أطفال المجتمع . - هل نجح هذا النظام لديكم ؟ - إلى الآن هو ناجح نسبيا ونمى الشعور الجماعي بوحدة المجتمع وتكافله . فلا تستغرب إن وجدت أن كل إنسان ينظر إلى أي طفل في المجتمع على أنه ابنه . خاصة وأن لدينا نساء منتخبات في كل بلدة ومدينة وظيفتهن هي الإنجاب من رجال منتخبين ، لإنشاء أجيال متفوقة . نطلق عليهن الأمهات . وجميع الناس يجلون هؤلاء الأمهات ويحترمونهن لأنهن نذرن أنفسهن للإنجاب وخدمة المجتمع . جربنا أشكالا أخرى للتكاثر لكنا وجدنا أن هذه الطريقة هي الأنجع والأسلم لإنشاء أجيال متفوقة . -هل هذا يعني أن ثمة نساء يعشن أعمارهن دون حمل وولادة وإنجاب؟ - أجل ! ويكدن أن يشكلن أغلبية ! - أي أنهن يمارسن الجنس من أجل المتعة فقط ؟ - أجل المتعة والحب ! - وهذا الحب لا يدوم العمر كله ؟ - ثمة علاقات تدوم لكنها نادرة جدا . الحب يمر بأكثر من مرحلة في الغالب : مرحلة المراهقة حيث تتنوع علاقات غير مدروسة أو عفوية . مرحلة البلوغ والبحث عن الحبيب أو الصديق المناسب وهذه في العادة تمر بأكثر من شخص . ثم تأتي مرحلة الإستقرار على صديق أو حبيب ، التي قد تدوم لبضعة أعوام في الغالب ، أو العمر كله . بالتأكيد هناك استثناءات لا تنطبق عليها هذه المراحل ، لكنها لا تشكل قاعدة . - ماذا يمكن أن تكون هذه الإستثناءات ؟ - في الحقيقة هي كثيرة . ثمة من يرفض الحياة المشتركة بين رجل وأنثى . وثمة رجل يقيم علاقة مع أكثر من أنثى والعكس أيضا ، أنثى تقيم علاقة مع أكثر من رجل . ****** تبادل المدعوون الأنخاب وشرعوا في تناول طعام العشاء على وقع أنغام الموسيقى . وقدمت فرقة بالية عرضا راقصا مدهشا ، طال التصفيق له حين انتهت الفرقة منه . ثم أقيم حفل ألعاب نارية وألعاب بأشعة الليزرفي السفوح الجبلية المحيطة بالروض الذي أقيم فيه الحفل . فقدمت أشكالا في غاية الجمال مثيرة دهشة الحضور . واستأذن الملك شمنهور الرئيسة في أن يقدم شيئا من ابداع الأمم الجنية بالمناسبة ،فأبدت سرورها لذلك . ولم تمر سوى لحظات حتى أصبح الليل مزدانا بإضاءات مختلفة ساحرة . وشرعت سيول هائلة من المياه الملونة الشفافة في التدفق من أعالي الجبال لتتوقف في الأماكن المحيطة بالروض دون أن يكون هناك سدود لإيقافها. شكلت السيول بحرا معلقا في السفوح أحاط الروض من كافة الجهات ، راحت حوريات الماء الجنيات يسبحن فيه في أشكال منتظمة ، إضافة إلى مجموعات كثيرة من الدلافين والحيتان والأسماك التي انتظمت في أفواج كثيرة وراحت تجوب الأعماق ، فيما اندفعت كتل مرجانية راحت تحلق في أسراب وتطلق أسهما نارية ملونة . بدأ جميع الحضور يشعرون أنهم في قلب الأحداث وأنهم يحلقون في أعماق البحر مع الكائنات الأخرى ، ولم يصدقوا أنفسهم حين رأوا الروض كله يغوص بهم وبالموائد في لجة الأعماق ، فراح بعضهم يصرخون ! فخاطر الملك لقمان الملك شمنهور صارخا : - توقف عن هذا الجنون أيها الملك ولا ترعب الناس ، فهم بشر وليسوا جنا ! ولا يعرف الناس كيف رأوا الروض ينسل من البحر ليستقر في مكانه ولتتعالى الأنخاب بصحة الجميع ! ***** (25) * الرحيل إلى الخلود الأبدي في حفل بهيج ! وهو يتجول مع الرئيسة "نسمة الغدير" أصيل اليوم التالي في حدائق قصر الضيافة ، سألها عن نظامهم الإقتصادي على الكوكب فأجابت : - في الحقيقة لدينا أكثر من نظام اقتصادي ، نحن نحاول أن نفيد من معظم النظم الإقتصادية التي مر بها كوكبنا من رأسمالية وإشتراكية وما يتبعها من جمعيات خيرية ومؤسسات تعاونية ومؤسسات مشتركة بين القطاعين العام والخاص . النظام الرأسمالي محدود لأن العمال يأخذون حقهم من الأرباح ولا يكتفون بالأجرة . ثم إننا حدينا من انتشار العمال الآليين . فلا يوجد مصنع واحد يدار كل العمل فيه من قبل عمال آليين . التطور الصناعي التكنولوجي نعمة ونقمة في الوقت نفسه . بالتأكيد الثراء الفاحش معدوم عندنا خاصة إذا ما ارتبط بشخص واحد . حق العلم والعمل والضمان الصحي مكفول لكل إنسان من ولادته حتى مماته . وهنا تذكر الملك لقمان الموت الإختياري في كوكب الجنات فسأل الرئيسة : - مررت بكوكب متطور قضى على الشيخوخة واستطاع صنع كافة أعضاء الجسم بحيث أصبح الموت لدى سكانه اختياريا ، فهل الأمر عندكم كذلك ؟ - لا ! لقد وضعنا حدا أعلى لعمر الإنسان وهو 300 عام ! فتجدد الحياة في حاجة إلى الموت بقدر حاجته إلى الحياة نفسها ! - وماذا حين يصل الإنسان إلى هذا العمر ، كيف يختار طريقة موته ؟ - في الحقيقة يندر أن يرغب إنسان في العيش حتى اكمال أل 300 عام . وحين يقرر أن يرحل إلى العالم الآخر يخبر أقرب الناس إليه فيقيمون له حفلا وداعيا يتناولون فيه ما لذ وطاب من الطعام والشراب. وتعزف فيه الموسيقى وتصدح الأغاني ويقام الرقص بكافة أشكاله . وفي آخر الحفل يختار الإنسان طريقة رحيله كأن يجلس خاشعا أو يستلقي على سرير أو يشرع في الرقص مع محبوبته أو يغني أو يعزف لتعطى له حبة دواء نسميها ( حبة الرحيل الرحيم ) في الوقت الذي تصدح فيه الموسيقى بألحان خاصة يرافقها تراتيل وجودية تنشد الخلود الأبدي بانضمام طاقة جسد من سيرحل إلى طاقة الألوهة السارية في الكون ليكون جزءا منها ومشاركا في عملية الخلق بينما تنضم مادة جسده إلى مادة التربة بتحللها وعودتها إلى عناصرها الأولية لتقوم بتغذية التربة وتجديد إخصابها . معظم الناس يفضلون الخشوع وإحاطتهم بتراتيل وجودية يكون الرحيل فيها مؤثرا جدا . في اليوم التالي يقام له حفل تشييع مهيب . يوضع الجسد في كفن أبيض في تابوت يتم دفنه في التراب . - ألا يشعر الناس بالحزن وهم يرون إلى إنسان يفارق الحياة أمامهم ؟ - ثمة لحظات يختلط فيها الحزن بالفرح يصعب وصفها . المسألة تتعلق بمدى إيمان الإنسان بالفكرالذي يحمله ،كلما ازداد الإيمان كلما قل الحزن وعم الفرح. فهل هناك ما هو أجمل من أن ينضم الإنسان إلى الألوهة نفسها ويكون خالقا ؟ يكون في كل مكان وخارج حدود المكان ، فلا يحده مكان ولا يحسب عمره بزمان ! مر في مخيلة الملك لقمان بعض أبيات شعر الحلاج الصوفي. وتمنى من الرئيسة أن تدعوه إلى حفل وداع من هذا النوع ، فأبدت موافقتها وتابعت : - كان أجدادنا القدماء يؤمنون بحياة أخروية مع الله نفسه في جنة في السموات أقامها لمن يؤمنون به . ومع ذلك كانوا يحزنون ويبكون بل ويقيمون الحداد على الراحلين ، رغم أنهم ذاهبون للحياة مع الله نفسه وفي نعيمه الذي لا حدود له . وكانوا يعتقدون أن معتقداتهم هي نتاج وحي إلهي وغير قابلة للشك .. ومع ذلك كانوا يتألمون ويبكون.. فإذا كانت هذه هي الحال مع الفكر الإلهي غير القابل للشك ، فما بالك مع الفكر الإنساني الذي أبدعه فلاسفتنا وعلماؤنا والذي لا يرقى إلى حقائق مطلقة ؟! الحياة عزيزة على الإنسان ويبدو أن أي معتقد لن يكون قادرا على جعل فراقها سعيدا . - ما هي نظرة الناس إلى هذا الفكر ؟ - الإنسان لدينا أصبح مؤمنا بالعلم . وهذا الإعتقاد هو اعتقاد علمي فلسفي كونه يعتمد مبدأ المادة والطاقة . ولم يتوصل علماؤنا إلى ما هو غير ذلك . أي وجود خالق أو إله خارج المادة والطاقة أو قبلهما حسب فكر أجدادنا الذين أوجدوا الخالق أولا . والناس عندنا يعتقدون بصواب هذا الفكر بغض النظر عما إذا كانت عملية الخلق بحد ذاتها تعزى إلى خالق أو ألوهة ، حسب ما يعتقد كثيرون . على أية حال ليس هناك ما يمنع من أن تكون الألوهة في كل شيئ وكل شيء في الألوهة ! - إذا كان الوجود حسب العلم يقوم على قوى أربع في الكون هي : القوة الكهرومغناطيسية . وقوة الجاذبية ،والقوة النووية الشديدة ،والقوة النووية الضعيفة ، فهل طاقة الخلق تتألف من هذه القوى ، أو من غيرها حتى أصبح علماؤكم يطلقون عليها " طاقة الطاقات " أو" الطاقة الخالقة الكلية "؟ - للأسف جلالتك هذا ما اصطدمت أمامه قوانين الفيزياء حتى الآن . وما هو شبه مؤكد أن هناك قوى كونية غير مكتشفة حتى الآن . كما أنه لا يمكن الجزم بأن القوى الأربع المكتشفة أو إحداها هي القائمة بعملية الخلق . فحسب نظريات حديثة أن هناك قوة ذات جوهر غير مادي حسب تعريف المادة . وهذا يعني أن العلم لم يعرف المادة تمام المعرفة حتى الآن ،أو أن هناك مادة ذات جوهر غير مادي فعلا يحتاج العلم إلى اكتشافها! على أية حال يظل اعتقادنا بأن الإنسان في حاجة إلى الإيمان الإنساني المنطقي الأقرب إلى العلم منه إلا الخرافات والأساطير . إيمان يعلي من إنسانية الإنسان ويسمو بها إلى مقامات سامية عليا ، وهذا ما فعلناه ونفعله . - هل هناك من يعتبر هذا الفكر إلحادا ؟ - كان ذلك قبل دهور لكن ليس الآن . الجميع يؤمنون بأن الوجود واحد وليس وجودين وإن تعددت أشكال الموجودات . وأن الإعتقاد بوحدة الوجود هو إيمان وليس إلحادا. بدا الملك لقمان مرتاحا لهذه الإجابة خاصة وأن كثيرين كانوا يعتبرونه ملحدا حسب فكر خالقه الأدبي ! أشارت الرئيسة إلى مقعد تحت عريشة لتجلس هي والملك عليه . وما أن جلسا حتى راح يشكرها على هذا الحوار الممتع . وأعلن عن إقامة حفل عشاء على شرف الرئيسة وأعوانها في الكوكب . ويبدو أن الملك لن يغادر هذا الكوكب على عجل كما فعل في الكواكب الأخرى ، خاصة وأنه وجد فيه بعض ضالته . *** (26) * روض شمنهوري يفوق الخيال! أشار الملك لقمان إلى الملك شمنهور أن يقيم روضا فسيحا لإقامة حفل العشاء . فما كان منه إلا أن أقام روضا شبيها بذاك الذي أقامه لحفل تتويج وزواج الملك لقمان في رحلته الأولى . اختار له مكانا منعزلا وأقامه على قواعد من أعمدة رخامية ثابتة وأصعد إليه العديد من الأدراج المتحركة ،وأفرد فيه ملايين الموائد التي حفلت بكافة أنواع المقبلات والخضار والفواكه والخمور المختلفة والشموع المضاءة والورود التي وضعت في مزهريات ، فيما كانت ملايين الخراف والظباء والأسماك والحجل والإوز تشوى على سفافيد انتشرت في كافة أنحاء الروض ، وقد أحاط بالموائد مئات الآلاف من بنات الجن الفاتنات . وما أن بدأ المدعوون بالوفود حتى صدحت من كافة أرجاء الروض موسيقى كونية راح صداها يتردد من كل مكان. وقف الملك لقمان والملكة نور السماء في استقبال" نسمة الغدير " رئيسة كوكب الحب وأعضاء مجلس الرئاسة وزعماء بلدان الكوكب وصديقاتهم وملوك وملكات الجن. وقد استغرق الإستقبال أكثر من ساعة . وقد فتحت أبواب الروض لملايين من المواطنين من الإنس والجن لحضور حفل العشاء. جلس الملك بين الملكة نور السماء والرئيسة نسمة الغدير التي بدت مندهشة من هذا العالم ولحجم الروض الذي أوجده الجن خلال دقائق معدودة ، فلم تعد تعرف ما إذا كانت في حلم أم في واقع . وحرص الملك لقمان أن يكون على مائدته جميع زعماء كوكب الحب ! رفعت الأنخاب وقرعت الكؤوس بالكؤوس وتلألأت أضواء أخاذة في فضاء الروض ،وصدحت الموسيقى بألحان فرحة راحت مئات فرق الفنون ترقص على أنغامها معتلية العديد من المسارح التي عمت الروض . هتفت الرئيسة : - أظن أنه مازال لدى جلالتك بعض الأسئلة عن كوكبنا . - في الحقيقة لدي الكثير من الأسئلة ولا أريد أن أثقل عليك بها خاصة ونحن على مائدة عشاء . - الليل طويل وفي مقدورنا أن نتحدث ونأكل وحتى نرقص . - ما يحيرني هو تمكنكم من توحيد دول الكوكب على فكر واحد . - الصراعات الطائفية العمياء حول الأديان المختلفة أزهقت أرواح الملايين من البشر وكان لا بد من فكر منقذ. فكر يوحد ولا يفرق . - هل كان لديكم عقائد كثيرة ؟ - بالآلاف !! - وهل كانت كل طائفة ترى أن دينها هو الصحيح وأن على الآخرين أن يتبعوه وإلا اعتبروا كفارا يجوز قتلهم ؟ - أجل معظمها كان كذلك . - وكم استغرق الخروج من حالة التمزق هذه ؟ - قرابة ألفي عام . عانت الشعوب فيها من المصائب والويلات . - كم مر على نظامكم الحالي ؟ - قرابة ألف وخمسمائة عام . - كوكب الأرض الذي أنتمي إليه ما يزال يعيش تحت وطأة تعدد الديانات . وربما ليس هناك مشكلة كبيرة في التعدد . المشكلة تكمن في التعصب وكره الآخر الذي لا يتبع دينك ! وهذا الكوكب يعيش هذه الصراعات من آلاف السنين ، حتى بين أتباع الدين نفسه الذي تعددت مذاهبه. أظن أن مشكلتنا أعقد من المشاكل التي مررتم بها . الأسطورة الدينية عندنا أصبحت جزءا من مقومات الشخصية لا تقبل أي فكر يخالف قناعاتها . نهض مئات الآلاف إلى الرقص على أنغام موسيقى رومانسية . طلبت الرئيسة الملك لقمان إلى الرقص فوافق ، وبدت الملكة نور السماء متكدرة بعض الشيء والملك يكاد أن لا يتحدث معها عن أي موضوع ،ويعطي الوقت كله للرئيسة . تنبه الملك للأمر فأشار إليها بالنهوض . ضمها مع الرئيسة إلى حضنه وراح يراقصهما معا ... وهم يعودون إلى الجلوس وتناول الطعام سأل الملك الرئيسة : - لم تخبريني عن عمرك وآمل أن لا تكوني قد اقتربت من رقم الثلاثمائة ، الحد الأعلى للعمر عندكم ! - للأسف لم يبق لي إلا ثلاث سنين لأكمل الرقم ثلاثمائة . لم يصدق الملك لقمان ما سمعه . فالرئيسة تبدو وكأنها في العقد الرابع من العمر. - يا إلهي ! هذا يعني أنك سترحلين إلى السماء قريبا ! - أجل ! موعدي مع السماء قد يحين قريبا ! - هل ستصحبيننا غدا إلى حفل رحيل ؟ أريد أن أرى الحالة وأتعايش معها . - سيكون لك ما تريد أيها الملك ! - هل من الممكن أن أسألك عن الحب في حياتك ؟ - أحببت ثمانية رجال خلال سني عمري . وأنجبت ابنا واحدا من أحدهم . حاليا ليس لدي صديق . انطلقت أسهم نارية في كافة أرجاء الروض رافقها موسيقى كونية راحت الأسهم ترقص على انغامها . هتفت الرئيسة : - لا أكاد أصدق نفسي فلم أعد أعرف ما إذا كنت في عالم وهمي أم حقيقي. - في عالم الجن يصبح الوهم حقيقة ! - يبدو أن الأمر كذلك . **** (27) " نسمة الغدير" ترحل إلى السماء! دون أن يعلم الملك لقمان قامت الرئيسة نسمة الغدير بترتيب الروض بمساعدة الملك شمنهور فأخلت منتصف الروض من المقاعد والموائد وعملت منه ساحة كبيرة للرقص أحاطتها بموائد وضع خلفها صف واحد من الكراسي في اتجاه الساحة . وجعلت خلف المقاعد فسحة أخرى دائرية يمكن الرقص فيها ،ثم صف موائد ففسحة أخرى فموائد وهكذا إلا أن ملأت الروض بصالات دائرية وموائد في اتجاه واحد هو الساحة الرئيسة. وكان كل صف موائد يعلو ما سبقه مع مساحة الرقص أمامه ،ليتسنى لجميع الحضور المشاهدة الجيدة . أشرفت الملكة نور السماء على تهيئة موائد الطعام والخمور فلم تترك شيئا شهيا إلا وأحضرته ، بما في ذلك الجوز واللوز والفستق الحلبي والكاجو .. وأحضرت أجمل الحوريات الجنيات للخدمة. بدأت الوفود بالتوافد محتلة كافة الصفوف ما عدا الصف الأول الذي ترك لكبار المدعوين . كان الجميع يعلمون أن الحفل حفل رحيل إلى الخلود دون أن يعرفوا من هو الراحل،وإن كانوا يعتقدون أنه شخصية مهمة لحجم المكان الذي سيقام فيه الحفل وطريقة إعداده. حرصت الرئيسة على اصطحاب الملك لقمان من قصر الضيافة إلى الروض . و قد بات كل منهما يكن محبة كبيرة للآخر. كانت موسيقى روحانية هادئة يرافقها لحن ناي شجي تنبعث من كافة أرجاء الروض .. وظهر في وسط الساحة والساحات الدائرية المحيطة بالموائد فرق رقص من الفتيات والشباب مرتديي الفساتين والقمصان البيض ، وشرعوا في رقص روحاني خفيف رافق الموسيقى. كان الملك لقمان يجلس بين الملكة نور السماء والرئيسة نسمة الغدير كعادته منذ أن قدم إلى هذا الكوكب. هتف إلى الرئيسة : - لم تخبريني سيادتك عن المحتفى به ومتى سيحضر ؟ ترددت الرئيسة في الإجابة . لم تشأ أن تصدم الملك . تود تسريب الخبر شيئا فشيئا ليتقبل وقعه على نفسه. - هو أحد كبار المسؤولين في الكوكب وسيأتي في وقت لا حق ! غير أن الملك لقمان أدرك بنباهته أن الرئيسة تخفي عنه الحقيقة ، فإذا كان هناك مسؤول كبير سيرحل فهل يعقل أن لا يتم حجز مكان له . لقد امتلأت كافة الأماكن بالناس ولم يبق مكان له ! - يبدو أنك لا تقولين الحقيقة سيادتك ! - أؤكد لك أنه مسؤول كبير ! - وهو موجود بيننا لكنك تؤجلين الإفصاح عنه ! ولم تجد الرئيسة بدا من القول : - وجود جلالتك في ضيافته أضفى سعادة كبيرة على نفسه ، بحيث لم يعش فرحا أجمل من هذا الفرح في حياته ، فقرر أن يرحل عن الدنيا بحضورك ولتكون أول وآخر من يودعه في عالم الدنيا ! بدأت الدهشة تعتري وجه الملك لقمان وهو يحدق وينصت إلى الرئيسة بكل جوارحه ،وما أن هتفت " إنه من يجلس إلى جانب جلالتك أيها الملك " حتى شعر أنه تجمد للحظات وهو يحدق في وجه الرئيسة ،وما لبث أن ضم رأسها إلى عنقه ملقيا رأسه عليه ،دون أن يعرف ما يمكن أن يقوله لها . كان كثيرون ينظرون دون أن يعرفوا ماذا يجرى بين الملك والرئيسة . وترددت في مخيلة الملك لقمان فقرات من أشعاره الروحانية ، ما لبث أن راح يهمس بها للرئيسة: ..عشق الأحبة متبادل بنبض القلوب وآهات الروح ورعشة الجسد لا يكتمل الحبيب إلا بالحبيب فلا اكتمال بحب منفرد سعي الخلائق إلى الكمال بسعي الخالق يتحد فإما كمال يعم الخليقة وإما انتهاء إلى الأبد **** ثم وجد نفسه يردد المقطع الأخير في القصيدة دون أن يفلت رأس الرئيسة : ..فكل كائن كان فيّ وفي كل كائن كنت فأنا الكينونة دون حد وآفاقي لا تحد فليس للحد مني حد ولا حد حيث كنت أنا الله أل بلا حد لا غنى للخليقة عني ولا غنى لي عن الخليقة فنحن الواحد في الكل والكل في الواحد يتحد ***** ورفع رأس الرئيسة عن عنقه وحدق في وجهها وما لبث أن بادلها قبلة عميقة وعاد ليضم رأسها وهو يدعو الله في قرارة نفسه أن يعينه على مواجهة هذا الإختبار مع فكره ،حيث ولأول مرة يجد نفسه في قلب فكره الفلسفي الروحاني وقد تجسد في فعل دنيوي ينطوي على بعد أخروي ، إذ يفترض أن الرئيسة تقدم على فعل ما آمن ويؤمن هو به . كان الروض قد ضج بالتصفيق الحاد والملك يقبل الرئيسة . وما أن توقف التصفيق حتى استأذنت الرئيسة الملك لتلقي كلمة وداع لجماهير الكوكب . ما أن وقفت الرئيسة على المنصة حتى نهض الحضور جميعا وشرعوا في التصفيق. " أحبتي أبناء كوكب الحب ! أقف أمامكم في هذه اللحظات ، لا لأعدد المنجزات الحضارية التي حققها كوكبنا ، بل لأرسل لكل واحدة وواحد منكم قبلات الوداع ، حيث قررت أن أغادر الدنيا لأذهب بعيدا في الخالد المطلق الذي لا يموت . ولأتحد معه إلى الأبد. فلا خلود إلا للمطلق . وثقوا أيها الأحبة أنني سأكون معكم دائما وأبدا . وإني لأوصيكم أيها الأحبة بتعميق أواصر المحبة التي حققها كوكبنا عبر قرون وقرون . لأنه لا سبيل أمامنا غيرها . كما وأدعوكم للعمل على استيعاب أبعاد فكرنا الروحاني وتعميقه بل وتجديده إن استطعتم . وثقوا أن أي فكر يقوم على المحبة كإحدى غايات الخلق سيكتب له البقاء إلى الأبد . وأدعوكم الآن إلى الفرح والإبتهاج وتناول الطعام والشراب . شرع الحضورفي التصفيق . وما أن جلست الرئيسة حتى شرعوا في تناول الطعام والشراب فيما راحت موسيقى فرحة راقصة تصدح من كافة أرجاء الكون ، شرع مئات الآلاف في الرقص على ايقاعها . أقدم الملك لقمان على خطوة كونية بأن جعل الحفل منقولا في كافة أرجاء الكون ، وكان يبث عبر شاشات ضخمة انتشرت في كل بلد وفي أي مكان . فوجئ الجميع بنهوض الملك لقمان ووقوفه في منتصف الساحة وهو يحرك يديه إيقاعيا وكأنه قائد اوركسترا لتنبعث موسيقى كونية روحانية ترافق وقع حركة يديه ، ولتظهر من حولة فرقة رقص صوفي بلباس أبيض أخاذ ، ضمت مئات الفتيات ومئات الشباب من أبناء الجن . وراحت ترقص ببطء مرافقة أيقاع الموسيقى . وحين هتف الملك لقمان منشدا : "يا إلهي يا حبيبي ويا سندي .. عليك يوم الحق معتمدي !" حتى ضج الروض بالتصفيق وشرع في الرقص الروحاني . فيما شرع الملك لقمان في الغناء وهو يدور على نفسه قدر الإمكان ونهضت الملكة نور السماء والرئيسة ( نسمة الغدير) وأستير ونسمة وشرعن يرقصن من حوله مع الفرقة . ردد الملك المقطع السابق عدة مرات كان يجدد في ترديده كل مرة إلى أن توقف للحظات ثم هتف مستذكرا صوفية الحلاج: " رأيت ربي بعين قلبي .. فقلت من أنت ؟ قال أنت ! " وراح الملك يترنم بالكلمات فيما شرع الآلاف يرددون وراءه : ( را را رأيت ) ردد آلاف غناء( رارا رأيت ) ( رأيت رب----ي بيعاين قلبي ) ............... ( ف ف فقلت ) ........... ( من أنت ؟) ......... ( قال أنت !) التمعت بروق في الفضاء عابرة الكون من أقصاه إلى أقصاه راسمة خطوطا ملونة متعرجة تذهل الأبصار , فيما تردد من أرجاء الكون إيقاع طبول عملاقة وألحان صارخة راحت تصدح في أرجاء السماء . ...... " فليس للأين منك أين ولا أين حيث أنت " رددت جوقة مع الجمهور : " ولا أين حيث أنت " فيما الملك يتابع وقد أخذ يسارع من حركته ويدخل في الحالة الصوفية الروحانية والكون كل الكون يضج بالصخب فيما الناس يضجون بما يشبه الجنون وكأنهم جميعا يودون الدخول في المطلق والبقاء في الألوهة ! ولم يستطع الملك لقمان أن يداري دموعه وهو يهتف منشدا : "أنت الذي حزت كل أين بنحو لا أين فأين أنت ؟" تردد ت الأصوات من كافة الأرجاء : ( فأين أنت ؟) وكأنها لحظة اختلاط للإيمان المطلق بالإلحاد المطلق ! ولتبدو السماء بدورها وقد اصطخبت بإيقاعات الطبول وما يشبه هزيم الرعود . "وليس للوهم منك وهم فيعلم الوهم أين أنت" "وجزت حد الدنو حتى لم يعلم الأين أين أنت" "ففي بقائي ولا بقائي وفي فنائي وجدت أنت " عم الصخب والتوحد بالوجود كافة أرجاء الكون وليس الروض فحسب . وتقدمت فتاة من وسط ساحة الرقص تحمل طبقا فرش عليه منديل أبيض وضعت عليه العلبة التي تحوي حبة الرحيل الرحيم وكأس ماء . أشار الملك لقمان بيديه موحيا بحركات بطيئة لتتقدم الفتاة منه وليأخذ العلبة ويفتحها ويقدمها نحو الرئيسة لتأخذ الحبة . مدت الرئيسة يدها وأخذت الحبة لتضعها في فمها وتتبعها بجرعة من كأس الماء ، ثم تلقي نفسها في أحضان الملك لقمان الذي راح يشير بيديه إلى الموسيقى لترتفع ولتصدح بأعلى ما في مقدورها . "في محو اسمي ورسم جسمي سألت عني فقلت: أنت" "أشار سري إليك حتى فنيت عني فقلت: أنت " "وغاب عني حفيظ قلبي عرفت سري فأين أنت" "أنت حياتي وسر قلبي فحيثما كنت كنت أنت " "أحطت علما بكل شيء فكل شيء أراه أنت " "فمن بالعفو يا إلهي فليس أرجو سواك أنت " ******* اصطخبت السماء والكون والروض بألحان لم يسمع مثيل لها من قبل فيما كان الملك لقمان يحتوي الرئيسة إلى حضنه ويدور بها راقصا لتلفظ أنفاسها الأخيرة بين يديه . مدد جسد الرئيسة على منصة مرتفعة ودام الإحتفال حتى الصباح ، حيث شيعت الرئيسة " نسمة الغدير" في موكب مهيب إلى مثوى جسدها الأخير، شارك فيه الإنس والجن بقيادة الملك لقمان والملكة نور السماء . وعشرات فرق الموسيقى وفرق الكشافة وفرق الفرسان . وبدت مشاركة السماء أيضا في موكب التشييع حين ظهرت في فضاء الموكب غيوم في أشكال بشرية منتظمة كان يرافقها موسيقى جنائزية هادئة . ما أن ووري الجثمان الثرى على أنغام الموسيقى حتى ودع الملك لقمان نائب الرئيسة الراحلة وأعضاء مجلس الرئاسة وتابع رحلته الكونية في الفضاء .. ***** (28) *الملك لقمان في كوكب الملحدين ! لم يصدق الملك لقمان نفسه حين وجد أن مركبته تحلق في سماء كوكب للملحدين . لم تكن المشكلة في وجود ملحدين في السماء بل في وجود كوكب بأكمله جميع سكانه منهم . أمر لا يكاد يصدق ،فأن يسود الإلحاد على كوكب ما ، قد يعني ذلك الذهاب في المطلق المجهول! تلقى رسالة ترحيب من سيدة تحكم البلاد ،حين أعلن عن هويته كرسول محبة وسلام . هبط في مطار المدينة العاصمة لتستقبله مجموعة من المسؤولين على رأسهم السيدة التي أطلقت على نفسها " أمنية العقل " فتيات جميلات قمن بتقديم الورود للملك ومرافقيه ،وعزفت الموسيقى لحن الكوكب . وتم نقل الملك ومرافقيه إلى قصر للضيافة عبر مركبات تسير بالطاقة . في صالة قصر الضيافة قدم عصير الفواكه للضيوف وسط ترحيب السيدة أمنية العقل التي أكدت أنها سمعت برسالة الملك لقمان وأنه سبق لها وأن رأته حين كانت تتم السيطرة على أجهزة الإتصالات المختلفة . وأنهم يدرسون هذه الظاهرة الخارقة لما هوعقل بشري. وهنا علق الملك لقمان قائلا : - هل يعني هذا أنكم تفكرون في أن تكون هذه القوة قوة فوق طبيعية ، كأن تكون قوة إلهية مثلا ؟ - ليس إلى هذا الحد فاعتقادنا بعدم وجود إله أو آلهة وراء الخلق مسألة ليست قابلة للشك ! - ألا يعني هذا توقف العقل على فكر محدد وانغلاقه أمام أي فكر آخر مختلف ، ليلتقي بذلك مع الفكر الديني الذي ينغلق على فهم محدد للدين ؟ - بالتأكيد لا إذ يمكن أن تكون قوى طبيعية وراء المسألة وليست قوى خارقة للطبيعة . - وهذا ما قد يرقى إلى اعتبار هذه القوى الطبيعية قوى إلهية ؟! - أبدا ! لن نعتبرها كذلك ! - ولو مجازا ؟! - المجاز يظل مجازا لا يرقى إلى حقيقة مطلقة ! - وهل هناك حقيقة مطلقة حسب رأي سيادتك ؟ - إذا كان هناك حقيقة مطلقة فإن أحدا لم يعرفها بعد . والحقائق تظل نسبية في ما يتعلق بحقيقة الحقائق ،الوجود ! - يبدو أن الإختلاف بين مفهومينا بسيط جدا ! - كيف جلالتك ؟ - قد يتلخص الأمر في إمكانية مجازية الألوهة ! - لم أفهم جلالتك ! - نحن نفهم الألوهة مجازيا على أنها الطاقة السارية في الكون والتي لا يمكن للخلق أن يتم دونها. وأظن أنكم تحملون الفكر نفسه لكن دون إضفاء الألوهة عليها ولو بشكل مجازي . - هذا صحيح . واضح جلالتك أنكم تفهموننا بشكل جيد ! فلا نعتقد بوجود شيء خارج المادة والطاقة . - ما رأي سيادتك بمذهب وحدة الوجود الحديث ! - أعرف أنه مذهب جلالتكم وقد سمعنا به بل وأعجبنا ،فالوجود واحد وليس وجودين ، خالق ومخلوق ، فالجميع أو كل شيء حسب رأي جلالتكم خالقين ومخلوقين وليس في الإمكان فصل الخالق عن المخلوق أو العكس تماما كما أنه لا يمكن فصل المادة عن الطاقة أو الطاقة عن المادة . المشكلة في طرح جلالتكم أنه يقبل التعبير المجازي أن يكون الكل آلهة أو الكل إله والإله هو الكل . وهذا ما عبر عنه الحلاج بقوله " أحطت علما بكل شيء / فكل شيء أراه أنت " إن المسألة هنا تتجاوز المجاز لتغدو الألوهة واقعا يجسده الوجود بشكليه المادي والطاقوي ! وهذا ما نختلف حوله . فلا وجود للألوهة أو الله في قاموسنا الفلسفي ! - أشكر سيادتك لهذا الفهم العميق للفارق البسيط بين مفهومينا . لكن ماذا لو قال ملحد : " أنا الله والله أنا أو نحن الله والله نحن " - سيدخل في المجاز في هذه الحال . فهو يريد بقوله أن يلغي كل المفاهيم السائدة أو المعروفة للألوهة ! - هل في الإمكان القول سيادتك أنكم تعتقدون بوحدة الوجود إنما دون إضفاء الألوهة عليها . - هذا صحيح ! - وماذا لو قلنا أن الوجود( الطبيعة ) هو الخالق ! - كلام سليم شريطة أن لا يأخذ معنى دينيا ففي هذه الحال قد يخرج أحدهم علينا بتشاريع دينية وعبادات قد لا يتقبلها العقل مثل التي كانت سائدة لدينا من قبل . كان لدينا دين يتطلب الصلاة لإله دكتاتور عشر مرات في اليوم . ومن لا يصلي فمصيره الجحيم ! - وكيف حققتم هذه المعجزة على الكوكب . هل لك أن تقدمي لي ملخصا عما جرى؟ - كنا أكثر من مائتي دولة ولدينا آلاف الأديان والمذاهب ، لكن أكثر هذه الأديان وحشية كان الدين الذي يقتل الآخرين لعدم إيمانهم به . كثر القتل ونشبت عشرات الحروب . إلى أن بدأت تظهر ردود فعل على الأديان كلها . وكان لا بد من فكر فلسفي يحمل مفهوما مختلفا للوجود والغاية منه ، وخاصة مفهوم العبودية للآلهة حسب بعض المفاهيم الدينية التي كانت سائدة . فلم يعد كثيرون يتقبلون هذا الفكر ،مما نتج عنه اتحاد دول غير دينية في مواجهة دول دينية . الإنتصارات المتلاحقة التي حققتها الدول اللادينية على الدول الدينية أدت إلى انضمام المزيد من الدول إلى الدول اللادينية . إلى أن اضطرت جميع الأمم إلى تبني اللادينية أو الإلحاد أو الربوبية . - ما المقصود بالربوبية ؟ - هي الإيمان بوجود رب لكن أحدا لم يعرف جوهره بعد ! وهذا المفهوم شبه منقرض حاليا . لقد دفعت شعوبنا ثمنا باهظا لتحررها من الدين ، أكثر من مائة مليون إنسان دفعوا حياتهم ثمنا للحرية ! لم يصدق الملك لقمان أن يكون الثمن باهظا إلى هذا الحد. أطرق متأملا في كلام الرئيسة التي كانت ما تزال شابة وجميلة ،وبدت سعيدة بلقائه . هتف بعد لحظات صمت : - يسعدني التعرف إليك ويسعدني أن أحط على كوكب يحمل أفكارا مختلفة غايتها الرقي بالحضارة الإنسانية ، التي رزحت آلاف الأعوام تحت نير التخلف والحقد الأعمى . يبدو أنه سيكون هناك حوارات كثيرة بيننا فأنا أطمح في أن أفيد من تجربتكم العظيمة . أبدت الرئيسة اعجابها بوجهة نظر الملك وهتفت : - أهلا بجلالتكم في كوكبنا ،وكم يسعدنا أن إنسانا على مستوى ثقافتكم الرفيعة يحط على كوكبنا . ونهضت داعية الملك ومرافقيه إلى تناول طعام الغداء على مائدتها . ***** (29) * الوجود بين منطق العقل ومنطق الأسطورة ! رغم أن الوقائع تجري في عالم متخيل يختلط فيه الواقع بالخيال إلا أن ذلك لا يعني أن الملكة نور السماء لم تعد تكترث لكل ما يجري . فالملك لقمان يكاد أن يقع في غرام الزعيمات الإنسيات ، بل يبدو أنه وقع وانتهى الأمر ، فلم يعد يغازلها كما في رحلته الأولى وإقدامه على ممارسة الحب أصبح نادرا مرة في الأسبوع أو في العشرة أيام . ومن سوء حظها أن رحلته تقوده إلى كواكب يحكمها نساء جميلات . ألقت نظرة من شرفة الجناح الذي يقيمان فيه في قصر الضيافة في عاصمة كوكب الملحدين لترى الملك يتجول مع "أمنية العقل " وهو لا يتوقف عن الحديث مشيرا بيديه وكأنه يود إقناع أمنية العقل بألوهية الوجود ! والحق أن الملكة لم تقارب الحقيقة في بعض ما فكرت فيه . فالملك لقمان بعد أن غدا رجلا مسنا لم تعد متع الدنيا تثير اهتمامه كما أن طاقته الجنسية أصبحت محدودة وضعيفة ،وأصبح جل همه هو معرفة القدر الأكبر من الحقيقة الوجودية وإصلاح العالم إلى ما هو أجمل وأرقى وأكثر عدالة . بدت الرئيسة " أمنية العقل " متشددة في رأيها الحاسم بعدم وجود إله رغم إدراكها أن الملك لقمان وضع مفهوم الألوهة إن لم يكن في عمق الفكر الفلسفي المنطقي فعلى حافته على الأقل ، بحيث غدا الإيمان شبيها بالإلحاد إلى حد كبير . قالت مخاطبة الملك : - هل تعتقد جلالتك وحسب مفهومك أن الطاقة السارية في الكون والمتجلية في المادة تعتبر نفسها إلها أو ألوهة أم أن البشر هم من ينظرون إليها كذلك ؟ - الإجابة الحاسمة ليست سهلة سيدتي فما يفكر فيه البشر يفترض أن يكون بفعل الطاقة نفسها ، فإذا كانت الطاقة ألوهة فإن ما ينتج عنها هو ألوهي ، وإذا كانت طاقة خالقة لكنها غيرألوهية فإن ما ينتج عنها غير ألوهي ، وبالتالي هو نتاج عقل بشري بفعل طاقة خالقة سارية غير ألوهية . أي أن مفردة الله والألوهة تصبح في هذه الحال مفردة لغوية اخترعها البشر حسب لغاتهم للتعبير عن الطاقة أو القدرة القائمة بالخلق ، دون أن تعتبر الطاقة نفسها إلها . وكي أوضح ذلك أكثر لك ، يمكن طرح السؤال على ما نتكلم به الآن أنا وأنت ، فهل هو كلام إلهي كون وجودنا لا ينفصل عن الوجود إذا كان إلهيا أم أنه كلام غير إلهي (أي بشري) كوننا لسنا آلهة وكون الوجود لا يعتبر نفسه إلها ! بدا الحوار للسيدة منية يأخذ منحى فلسفيا معقدا .هتفت متسائلة : - في هذه الحال أنت تضع فهمك الفلسفي في دائرة الشك ، بين وجود ألوهة وعدمه . - هذا صحيح . فليس هناك فكر خارج دائرة الشك حسب فهمي حتى الفكر الإلحادي ليس في الإمكان القول أنه جاءنا بالحقائق المطلقة . ويمكن النظر في المسألة من زاوية أخرى. فإذا كانت الألوهة تمثل في الوجود كله من مادة وطاقة ، فإنه لا يصح لكائن فيه أن يرى نفسه إلها ، وحتى لا يصح لمجموعة كائنات أو أكوان أن ترى الألوهة في ذاتها . ما يصح أنها جزء يسير جدا من ذات ألوهية شاملة وكونية . وبناء على ذلك أنا وأنت لسنا آلهة وإن كانت الألوهة تسري بطاقتها في جسدينا . - أصبحت المسألة أكثر وضوحا الآن وكأن جلالتك تقول أنه لا يصح لعضو في كائن أن يقول أنا الكائن ، كأن تقول يد إنسان أنا الإنسان ! الإنسان بكامل أعضائه هو ما يشكل الإنسان . والألوهة إذا كان ثمة ألوهة لا يمكن إلا أن تكون بوجودها كله وليس جزءا منه . - وحتى الإنسان بكامل أعضائه لا يمثل الإنسانية كلها فما بالك بالألوهة ؟ - ما أعرفه عن فكر جلالتك أنك تعتبر أن الخلق والخالق لم يكتملا بعد . هذه المسألة تشير إلى نظرية التطور وهي تلتقي مع فكرنا ، فهل توضحها لي لو سمحت ! - الكمال المطلق ( إن كان هناك كمال مطلق ) لا يعرف أحد ما هو ،العلم أثبت لنا أن الكون وجد من أكثر من أربعة عشر مليار سنة وهذا يشير إلى أن عملية الخلق أخذت زمنا مديدا حتى وصلت إلى ما وصلت إليه . وبالتأكيد لم تتم بفعل أمر إلهي ليكن كذا فكان ! حسب وجهة نظري عملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق. ولو تأملنا في عملية خلق الإنسان لوجدنا أنه يحتاج إلى أعوام ليبلغ وأعوام ليعقل ويفهم ويتعلم ،وقد يموت جاهلا . كما أن ما يرثه عند الولادة غير كاف لأن يجعل منه إنسانا ناضجا . عملية الخلق لم تتوصل بعد إلى توريث ثقافة الأبوين على سبيل المثال فما بالك بثقافة المجتمع وهذه مسألة ضرورية في عملية الخلق التي اقتصرت حتى الآن على الأعضاء البيولوجية والقليل من السلوك الغريزي . وعمر الإنسان العاقل لا يتعدى بضع عشرات الآلاف من السنين مقارنة بعمر الكون . وثمة بشر حتى يومنا يشير فهمهم البدائي إلى أنهم غير عاقلين . فهل هناك عاقل يعتقد أن الألوهة إن وجدت تعشق العبودية والعذاب الشديد وما إلى ذلك ؟ يفترض أن الألوهة محبة وسمو فوق العذاب والآلام وتنشد قيم الخير والحق والجمال ،وأن الغاية من الخلق هي تحقيق قيم خيرانية وجمالية، فتأمل الخلق يشير إلى أنه جميل . وخلق الإنسان بالذات ليس إلا ليشارك في تحقيق قيم الخير والعدل والجمال وبناء الحضارة . أي ليكون خالقا بدوره . فالله لا يبني مدنا ولا يشق جسورا ولم يخترع وسائل اتصال ، وأن آخر شيء يمكن أن يفكر فيه هو أن تكون البشرية عبيدا له . لقد أساء العقل البشري إلى الخلق والخالق( إن وجد) بهذا العقل البدائي . الخلاصة أن عملية الخلق لم تكتمل بعد وأنها في تطور دائم إلى الأفضل وخاصة في ما يتعلق بخلق الإنسان . بدت "أمنية العقل " مرتاحة بل وفرحة بفكر الملك لقمان وخاصة فيما يتعلق منه بما يمكن أن يعتبر حقائق مطلقة، فحتى الوجود الإلهي ما يزال لديه ضمن دائرة الشك ، مما يؤكد أنه لا يعتقد بوجود حقائق مطلقة كما أشار هو نفسه. - أشكر تفهمك لنا جلالتك . وسنكمل حواراتنا فيما بعد . والآن لا بد من الذهاب لتناول الطعام . فوجئت الرئيسة بإصرار الملك على أن يكون هو الداعي وأنه في مقدورها أن تدعو من تريد من أبناء قومها . وثمة مفاجأة مثالية تتناقض مع المنطق والعلم سيقدمها لأبناء وبنات كوكب الملحدين ! فوجودهم الآن في واقع متخيل لا يمنع إطلاقا أن يأخذ الخيال مداه خاصة بوجود الجن على الكوكب وبرفقة الملك . *** (30) * حوارات فلسفية على موائد سماوية وراقصات حوريات ! لم يقصد الملك لقمان بعمله الأسطوري أن يدعو " أمنية العقل" رئيسة كوكب الملحدين إلى الإيمان ، فهو لا يعتبر الإلحاد ولو مجازا خارج دائرة الإيمان ، فالإلحاد إيمان بالوجود ، ولذلك يمكن اعتباره ايمانا . كما لم يقصد إطلاقا أن يجننها بما أقدم عليه، فقد قرر أن يقيم حفلا للكوكب كله الذي يفوق سكانة المائة مليون ، وأن تكون الخدمة على الطريقة الجنية الشيطانية ومن قبل أجمل الفتيات الجنيات . كل ما قصده هو محاولة لتحقق الخيال في الواقع وبقدرات خارقة غير واقعية على الإطلاق مؤكدا لها أن كل ما يفعله هو محاولة تحقق لفكر الأجداد الحالمين بالجنان ! كان كل شيء هادئا وعاديا وهو يتوغل مع الرئيسة في حدائق قصر الضيافة الشاسعة وسط شمس متلألئة بأشعتها في سماء الكوكب ، حين راحت موائد تنبثق في كل مكان حسب سعته ، وقد زخرت بكافة أنواع المأكولات والمشروبات عدا سفافيد الشواء المنوعة التي راحت تنتصب في كل مكان على مقربة من الموائد ،وقد وقفت على مقربة منها مئات الفتيات الجميلات اللواتي ارتدين تنانيرقصيرة سوداء تنحسر عن السيقان والأفخاذ، وقمصان بيض تنحسر عن الأيدي والأكتاف والصدر وبالكاد تخفي حلمات النهود ، فبدون كالأقمارالمنتصبة على سيقان وأفخاذ من المرمر المصقول ، ونهود جامحة تكاد تطير محلقة في الفضاء ! ولم تخرج الرئيسة من دهشتها حين وجدت نفسها تجلس على أريكة في صالون طائر إلى جانب الملك وإلى مائدة تزخر بكل شيئ مشتهى وقد وقفت فتاتان في غاية الجمال لخدمتهما . وما أن نظرت إلى زجاجة وسكي على طاولة زخرت بالخمور المنوعة حتى أشارت الفتاة إلى الزجاجة لتطير إليها لتأخذها بيدها لتفتح وحدها ولتسكب الفتاة للرئيسة في كأسها ومن ثم تطلق الزجاجة لتعود محلقة إلى مكانها والغطاء يستقر على عنقها ليغلقه . شرب الملك نخب الرئيسة وهو يحلق بها فوق أكبر حدائق عاصمتها لترى أن الموائد نصبت فيها وأن الناس راحوا يهرعون من كل صوب إلى الموائد بعد أن سمعوا صوتا يهتف من السماء " أحبتنا أبناء كوكب الإلحاد ، الملك لقمان يدعوكم إلى مائدته ، فكلوا واشربوا من الطيبات .. هنيئا مريئا " وكانت الموائد قد انتصبت في كافة حدائق وساحات مدن وقرى الكوكب " هتفت الرئيسة متسائلة : - ما هذه المعجزات يا جلالة الملك ؟ ابتسم الملك وهو يقول : - مجرد دخول في الخيال ! - لكنه دخول يتحقق بشكل واقعي ملموس ! - تتحقق واقعيته بقدرما هو متخيل! - هل تريد أن تدخلنا في الإيمان ؟ - ومن قال أنكم خارج دائرة الإيمان ؟ - هل ترى أن الإيمان بالوجود إيمانا ؟ - أكيد ! إنه إيمان كأي إيمان آخر! - لكنه إيمان بفكر غير ديني ! - وقد يكون هو الإيمان الصحيح ! - كيف ؟ -لأنه يرقى إلى المطلق في طاقة الإنسان ! - لم أفهم ! - تحرر العقل من القيود والإيغال في المطلق المجهول ! قطعت الحوار رسالة تخاطرية من الملكة نور السماء التي راحت الغيرة تنهش قلبها وهي ترى إلى الملك يحلق مع رئيسة كوكب الإلحاد في صالون طائر : - هل تحتاج جلالتك إلى مساعدة ؟ أدرك الملك لقمان من لهجة الملكة وخطابها الرسمي أنها منزعجة ، فقرر أن يدعوها إلى الصالون الطائر : - عفوا حبيبتي كنت أظن أنني أريحك من المشاركة في حواراتنا . تعالي ! وظهرت الملكة محلقة في الفضاء لتحط على أرض الصالون المفروشة بالسجاد. عانقت الملك مقبلة ،ثم عانقت الرئيسة " أمنية العقل " وقد خمدت نار الغيرة بعض الشيء في دخيلتها . هتفت منية العقل مخاطبة الملكة : - ليتنا نعرف رأي الملكة في فهم الطاقة السارية في الكون عما إذا كانت تعتبر نفسها إلها أم لا ؟ أجابت بعض إطراقة : -الملك نفسه رأى في تأملاته أكثر من وجهة نظر . فبغض النظر عما إذا كانت الطاقة ألوهية أو غيرألوهية رأى أنه لا يمكن لعملية الخلق والتطور أن تتم دونها وحين ضرب مثلا بالطاقة الكهربائية ذهب إلى ما هوخارج الألوهة ، حين قال أن الكهرباء لا تعرف الضوء لكن لا يمكن للضوء أن يتم دونها . ففي هذه الحال تكون الطاقة غير ألوهية وإلا لعرفت نفسها ، كما ضرب مثلا آخر بالطاقة في الحافلة ، فالطاقة لا تعرف الحافلة لكن لا يمكن للحافلة أن تنطلق دونها . غير أن تأملاته اللاحقة قادته إلى العكس وهو إمكانية أن تعرف الكهرباء الضوء وتعرف الطاقة الحافلة وبالتالي تعرف الطاقة الخالقة أن الألوهة تكمن فيها ، أي أنها تعرف أنها إله ! - لقد عدنا إلى ما كنا نتحاور حوله وهو عدم الجزم بالمسألة ! وهنا تدخل الملك : - تظل إمكانية أن تكون الطاقة محايدة بغض النظر إن كانت ترى الألوهة في ذاتها أو لا تراها . فيفترض في الألوهة أنها رحيمة وتكره قتل الإنسان للإنسان ومع ذلك يقوم الإنسان بتوظيف الطاقة السارية في جسده لقتل الإنسان الآخر ، وهذه مسألة يمكن أن تعتبر خارج إرادة الألوهة وتوظيفا للطاقة في غير محلها . فالعقائد المعتبرة سماوية تقول لنا : لا تقتل : لا تزن . لا تسرق . على سبيل المثال ، وهذه إشارة إلى أن الألوهة غير قادرة على منع فعل القتل . ومن ناحية أخرى غير قادرة على تحقيق أماني المؤمنين بنصرهم على الكفرة والملحدين ! وبدا هذا الرأي مفيدا لفكرة الإلحاد . هتفت الرئيسة وهي تبتسم : - وهذا يشير أيضا إلى أن الطاقة ليست إلها وغير قادرة على كل شيء وبالتالي هي ليست إلها ! إنها طاقة سارية في الكون والكائنات يتم بواسطتها فعل ما هو خير وفعل ما هو شر أيضا في عملية الخلق . ولم يجد الملك إلا أن يوافق الملكة مؤقتا أو إلى حين . وهنا صدحت الموسيقى وراحت تتردد من كافة أرجاء الكون وظهرت في الفضاء آلاف الحوريات شبه العاريات اللواتي رحن يرقصن الباليه المدهشة في السماء ،ولم يجد الملك والملكة إلا تبادل الأنخاب مع الرئيسة الفاتنة والمثقفة ، والتمتع بمشاهدة الرقص الخلاب والدخول في الخيال المطلق بل والتوحد معه وهذا ما فعله جميع أبناء الكوكب الذين راحوا يشربون أنخاب الحوريات الراقصات في السماء ! |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [4] |
|
الأُدُباءْ
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
(31) * تجليات الحب على الأرض وفي السماء! كان يمكن للحوار أن ينتهي عند موافقة الملك لقمان على إمكانية أن تكون الطاقة السارية في الكون ليست إلها حسب ما رأت " أمنية العقل " رئيسة كوكب الإلحاد ، لكنه تدارك بعد لحظات من تأمل رقص الحوريات المدهش في الفضاء : - وهذا الأمر يقودنا أيضا إلى وجود خالق غير كامل وبالتالي غير قادر على كل شيء، وكذلك إلى خلق غير كامل يرتكب الإثم دون فعل الخير بالمطلق .. وأننا قد ننتظر مليار سنة أخرى إلى أن تكتمل قدرة الخلق والخالق فلا يقدمان إلا على فعل الخير وتحقيق قيم الحق والعدل والجمال وبناء الحضارة الإنسانية ! وعلقت الرئيسة " أمنية العقل " قائلة : - لن تخرجنا جلالتك من دوامة الشك وعدم وجود حقيقة مطلقة ! - وإلا دخلنا في الإيمان التقليدي الأعمى ، وكذلك في الفكرالفلسفي التقليدي . الحقيقة المطلقة ،أي الحقيقة التي ليس بعدها حقيقة أخرى، لا يعرف أحد ما هي حتى الخالق نفسه إن وجد ! ولو كان هناك خالق كامل وعرف الحقيقة المطلقة لبلغها منذ زمن ولما ترك البشرية تتخبط في آلاف العقائد والمفاهيم ،ولما بقي العلم عاجزا عن سبر الحقيقة . - هذا يعني جلالتك أن أفكارنا تظل ضمن دائرة المؤقت غير الثابت سواء أكانت في اتجاه الإيمان أو اتجاه الإلحاد . - بل وفي اتجاه أي فكر مهما كان وفي اتجاه أي علم أيضا . هل رأيت علما توقف عند اكتشاف معين ، حتى ما هو شبه متوقف يتم تطويره والنظر إليه من زاوية مختلفة أو حسب فهم مختلف. هل كان هناك إنسان قبل بضعة عقود يحلم بأن يرى العالم في صور حية أمامه ؟ وهل كان هناك قرد يعرف أنه سيصبح إنسانا ذات يوم ، يقود حافلة أو طائرة ؟! ضجت سماء الكوكب بآلاف فرق الرقص والغناء والموسيقى وضجت حدائقه بقرع الكؤوس وشرب الأنخاب والتهام الوجبات الشهية ، وقد دخل كثيرون وكثيرات في حالة سكرجماعية فريدة لم تحدث من قبل ،وراحوا يتبادلون القبل كما لم يتبادلوها من قبل ويرقصون بجنون كما لم يرقصوا من قبل ،ليختلط الواقع بالمتخيل والمتخيل بالواقع ،ولأول مرة في تاريخ الوجود تختلط إلى هذا الحد الأرض بالسماء وسكان هذه الأرض بسكان هذه السماء! هتفت الرئيسة : - سنجعل من هذا اليوم عيدا سنويا نحتفل فيه بالحب ! ودون أن يتفوه الملك بكلمه رفع يدا مفتوحة وأنزلها وكأنه يصدر أمرا وإذا بالكون كله ينتفض راقصا ، لتنهض البشرية في كل مكان وتشرع في الرقص ليغدو اليوم يوما للحب فعلا وتطهير النفوس من الآثام . وظهرت على مسرح السماء جماعات من الجن والشياطين وراحت تحتفل على طريقتها وتصعد بعض أبناء الإنس إلى موائدها المحلقة في الفضاء ، وأقام الملك شمنهور مائدة طائرة جلس إليها أعضاء المركبة الفضائية بصحبة بعض أبناء وبنات كوكب الإلحاد ،وبدوا وهم يرقصون بحركات عنيفة وكأنهم يودون قذف كل ما تعتلج به نفوسهم إلى الخارج . وظهرت على مسرح السماء أسراب من مخلوقات فائقة الجمال شبيهة بالبشر لا تعرف إناثهم من ذكورهم لشدة جمالهم ، بدت أجسادهم عبر ثياب حريرية شفافة وقد تألقت في جمال أخاذ لم يسبق أن شاهد بشر مثله ، وقد أدرك الجميع أنهم أمام أفواج من الملائكة راحت تجوب مسرح السماء متبخترة راقصة دون أن تقدم على تناول طعام أو شراب . وظهرت فجأة آلاف الخيول البيضاء التي راحت تحلق في أسراب منتظمة ليطير هؤلاء ويمتطونها لتحلق بهم في اتجاهات متعددة صعودا ونزولا ويمنة ويسرة في فراغ الفضاء ! كما ظهر الملك ابليس جالسا بوقار شديد مع مجموعة من أحفاده الشياطين محلقا على مائدة سماوية وراح يلوح بيديه محييا الملك لقمان وضيوفه ،فنهض الملك ورد التحية ملوحا راسما ابتسامات جميلة على شفتيه وأشار بحركة من يديه وإذا بأفواج من الورود المختلفة تحلق في أسراب منتظمة على مسرح السماء ، تبعتها أسراب من البرتقال والتفاح والعنب . وأسراب من الألوان الأخاذة المتلألئة التي راحت ترسم أقواس قزح تجوب الفضاء. "فضج الكون ، كل الكون ، بالألوان الألوان ، وراح يلثم عيون الحب ، فلثم الحب عيون الألوان " !! صرخ الملك شمنهور من على مسرحه وهو يرفع كأس الملك لقمان ليتردد صدى صوته من كافة أرجاء الكون " كأس مولاي العظيم لقمان محرر الجن من سجون سليمان " فارتفعت الكؤوس وقرعت في الكون من أقصاه إلى أقصاه ! دخل البشر والجن والشياطين والملائكة والكون والكائنات المختلفة في حالة من الفناء في الوجود ليشعر كل كائن أنه جزء منه ومتوحد معه. وشرع الملك لقمان في مراقصة الملكة نور السماء والرئيسة " أمنية العقل " معا ،وارتسمت على ملامح وجهه سعادة لم يستشعرها من قبل . غمرت الملكة رأسها أسفل عنق الملك لقمان لتقتل الغيرة في دخيلتها ،ويبدو أنها نجحت في ذلك فقد مدت يدها وضمت رأس أمنية العقل إلى رأسها ، ليصبح الرأسان على صدر الملك الذي احتضنهما بحنان فائق . دام الحفل ثلاثة أيام متتالية تجلى فيها الحب والمحبة بأسمى معانيهما وبما لم تشهد البشرية مثيلا له من قبل . **** (32) * الألوهة في الإنسان ،والإنسان في الألوهة ! وهي تجلس برفقة الملك لقمان والملكة نور السماء في أعلى برج في عاصمة كوكب الإلحاد هتفت " أمنية العقل " فيما الملك يجول بنظراته مختلف أنحاء المدينة الجميلة : - كم يسعدنا أن يمكث جلالتكم لبضعة أيام في كوكبنا . - أنتم محظوظون . ثم إن اختلافكم عن الآخرين أثار فضولي خاصة وأنني كنت ذات يوم أقرب في فهمي إلى الإلحاد مني إلى الإيمان . - وهل ترون العكس الآن ؟ - آضع الأمرين الآن في كفتي ميزان غير متوازيتين ترجح فيهما قليلا كفة الإيمان المختلف على الإلحاد. الإيمان بوجود غاية للوجود حتى وإن كانت البداية عبثية ومبهمة ، بغض النظر عن أزلية البداية أو عدمها ،وهي في الغالب أزلية . - هل هذا يعني أن الغاية بدأت توجد فيما بعد وتتطور؟ - بالضبط وهذا ما عبرت عنه في بعض أشعاري بالقول : " أنا في الهيولى البدئية كنت دون أن يكونني أحد أوجدت نفسي بنفسي لنفسي دون أن أدري ما الغاية وما القصد وبقيت دهورا كامنا لا أدري إن كنت أدري ما أريد وما لم أرد كجنين في رحم أم غافل عما يستجد إلى أن ضاق بي الكمون وضقت به فانفجرت محطما جدران الهيولى التي عنها انبثقت لأنتشر في كون شاسع حدوده لا تحد ولينبثق معي الخلق كائنا من رحم المهد فكل كائن كان فيّ وفي كل كائن كنت فأنا الكينونة دون حد وآفاقي لا تحد فليس للحد مني حد ولا حد حيث كنت أنا الله ال بلا حد لا غنى للخليقة عني ولا غنى لي عن الخليقة فنحن الواحد في الكل والكل في الواحد يتحد ! ****** وراحت أمنية العقل تصفق بحرارة وهي تهتف : - لم أسمع شعرا من قبل على هذا المستوى من الفهم لوحدة الوجود. فلا شيء منعزل عن الآخر. فالوجود سلسلة مترابطة نشأت من وجود بدئي بدائي مادي روحي واحد أطلقت عليه جلالتك الهيولى البدئية ، التي كانت تجري تفاعلات داخلها شبهتها بالتفاعلات التي تجري للجنين في الرحم دون أن يدري بها . وما الإنفجار الكوني إلا ولادة الجنين . - غير أن الجنين هنا هو الوجود الذي سيأتي منه كل شيء . والذي كان الخطوة المتقدمة الأولى لنشأة الكون والتي تطورت عبر مليارات السنين ،وحتى الآن لم تبلغ ذروة تطورها التي لا تعرف ما هي . إنها أشبه بالمولود الذي لا يعرف ماذا سيكون بعد سنوات من ولادته. - أنت أخضعت الوجود لنظرية النشوء والإرتقاء دون أن تغفل الجانب الروحي وهو وجود ألوهة غفلة . - هذا صحيح . لذلك أسمي فلسفتي "المادية الروحية" وأعتبرها صوفية حديثة كونها تؤكد على وحدة الوجود. الجديد في فلسفتي هو أنها لا ترى وجود ألوهة مطلقة سبقت الوجود المادي ، فإذا كان هناك ألوهة فهي نشأت فيما بعد ومن المادة نفسها كغاية لا غير . أي فكرة تتمثل في الطاقة وتتمظهر في المادة بكل تجلياتها الوجودية من إنسان وحيوان وجماد ونبات ومن عناصرمادية كونية أساسية تتمثل في الماء والهواء والتراب والنار . وتختلف عن الفكر المادي العلماني في أنها لم تتنكر للألوهة أو تلغيها ، أي أنها حاولت الإفادة من الفكرين المادي والمثالي لتخرج برؤيتها الفلسفية للوجود . ويمكن القول أنها الطريق الثالث في الفلسفة والدين معا. - هل ترى جلالتك ضرورة الحاجة الروحية للإنسان لكي يكون هناك معنى لحياته ، وأن هذا المعنى لا يمكن أن يتحقق إلا بإحساس الإنسان أن لوجوده غاية وضرورة وهي أن يساهم في تحقيق قيم الخير والعدل والحق والجمال وإقامة الحضارة الإنسانية ؟ - وليس هذا فحسب بل وأن وجوده وموته ضرورة لتجدد الحياة الإنسانية . وجوده لتحقيق القيم الإنسانية وإقامة الحضارة وموته لتجدد المادة والطاقة وإغنائهما . فكما الوجود أزلي أبدي . فإن وجود الإنسان أزلي وأبدي أيضا في شكلية الإنساني الوجودي في الحياة والمادي الطاقوي بعد الموت . - هل يعني هذا أن الإنسان قد يرقى أو يعود إلى الحالة الألوهية بعد الموت . أي إلى أصل الحياة :المادة والطاقة . - أجل ! - وهل يشعر بوجوده حينئذ كمادة وطاقة ؟ - لقد عدنا إلى ما تحاورنا حوله من أن الألوهة كطاقة تشعر بوجودها الإلهي أو لا تشعر! أنا أتمنى بل وأكاد أقول أنها تشعر بوجودها الإلهي ، وإذا لم يكن الأمر كذلك ، فإنه الغاية التي ما تزال الألوهة تسعى إليها لتحقيقها ، لتكتمل سلسلة الخلق الوجودية الأزلية التي لا بداية لها ولانهاية أيضا . وآمل أن ألتقي الله يوما لنضع حدا للفهم البشري للغاية من الوجود. وبالتأكيد ليس هناك غاية أجمل من أن يكون الإنسان إلها ويكون الإله إنسانا ! فتصوري أن يرى الإنسان نفسه في الألوهة وأن موته ليس موتا بل هو أجمل وجود لحياته بالإنتقال من الحياة الدنيوية إلى الحياة الأزلية في الألوهة بشكليها أو شكلها الواحد المادي الطاقوي !!؟؟ وهتفت أمنية العقل ضاحكة : - فكرك يجنن يا جلالة الملك ! وما هي رؤيتك لفكر أسلافنا من الأنبياء والرسل والحكماء والفلاسفة ؟ - يكثر خيرهم . يكفي أنهم فكروا حسب ثقافة زمنهم . المؤسف أن فكرهم أصبح يشكل عبئا ثقيلا على حاضر بعض الأمم . حين أرى الآلاف راكعين لإله يعتقدون أنه يحب الركوع والعبودية والعذاب الشديد،أشعر بألم فظيع ، وأقول لنفسي كيف يمكن انقاذ البشرية من جهلها !؟ - لقد دفعنا ثمنا باهظا جدا للخلاص من هذا العبء الثقيل .. - وآمل أن لا يدفع كوكب الأرض الثمن نفسه ! - سعادتي بالتعرف إلى جلالتك ومجالستك ومحاورتك أكبر من أن توصف أو تعبر عنها كلمات . اسمح لي أن أقبلك ! وهتف الملك وهو يدني رأسه من الرئيسة لتقبله على خده " أشكر سيادتك " فيما كانت الغيرة تعود لتنهش قلب الملكة نور السماء ، التي راحت تتمنى في دخيلتها أن يغادر الملك هذا الكوكب قبل أن يغرق في عشق رئيسته الملحدة وربما يقيم فيه .. بل وتمنت أن يحط على كوكب قادم لا نساء فيه ! *** (33) * بشر يتعبدون لأنفسهم دون أن يدروا !! أمضت " أمنية العقل" ليلها تبحث على شبكة النت عن فكر الملك لقمان عبر شخصية موجده محمود شاهين وتوقفت كثيرا عند مقولات تطرقت إلى فيزياء الكم .. فاجأت الملك لقمان حين التقته على مائدة غداء في أعلى شرفة في برج العاصمة مبادرة إلى التساؤل : - في الفقرة التي تحمل الرقم (143) من"أقوال ومقالات في الخلق والخالق والمعرفة " تقول جلالتك : "المادة تنطوي على الوعي كونها تنتجه والوعي ينطوي على المادة لآنه يدركها" حسب هذا الفهم الناجم عن قوانين فيزياء الكم فإن الوعي الكوني قد يدرك كل شيء يجري في الوجود وبالتالي يمكن أن يدرك ألوهيته إذا كان وجوده إلهيا. - هذا صحيح ، لكن الأمر يظل تحت دائرة الإحتمال . والكلام يلتقي مع كلام علماء في الفيزياء وكذلك مفكرين أوغلوا في سبر متاهات الوجود وأغوار النفس الإنسانية . يقول أحد المفكرين " إن النفس لا يمكن لها أن تستقل تماما عن المادة وإلا كيف تؤثر فيها ؟ والمادة ليست غريبة عن النفس فكيف تعمل على إنتاجها. إن المادة والنفس موجودتان في العالم نفسه . وكل واحدة منهما تتشارك في الأخرى ،وبدون هذا فإن أي تفاعل للفعل بينهما يغدو مستحيلا" ويتطرق هذا المفكرإلى مستقبل الفيزياء بالقول " فإذا قيض للبحث الجاري أن يتطور بما يكفي فإننا ولا شك واصلون إلى لقاء تام بين المفاهيم الفيزيائية المادية والمفاهيم السيكولوجية " جسم الإنسان مادة ينتج عنها وعي . وما الوعي إلا طاقة ناتجة عن مواد في جسم الإنسان المادي( الدماغ مثلا)" . لذلك في قوانين الفيزياء لا يمكن فصل الطاقة عن المادة . فما المادة إلا طاقة مكثفة، وما الطاقة ( الوعي ) إلا مادة متحولة . و حسب هذا الطرح الفيزيائي ليس هناك إجابة قاطعة على أن الوجود يدرك ألوهية في ذاته ، هوربما يدرك فعلا ماديا طاقويا مترابطا وغير منفصل يشير إلى وحدة وجود كونية قد تكون خارج مفهوم الألوهة . أنا أفضل الفكر الفلسفي على الفيزيائي لأنني لست فيزيائيا ،وإن كنت أستعين بالفيزياء وألجأ إليها بين حين وآخر لأعرف إلى أين وصلت في اكتشاف قوانين الكون . لقد تعددت النظريات الفيزيائية حول الوجود وآخرها نظرية الأوتار التي ترى أن الكون قائم على أوتار لونية دقيقة متعددة ! إن الأهم في فهم الوجود الواحد في الكون الواحد هو ضرورة العلاقة التكاملية بين الكائن والآخر . فوجود الإنسان ضرورة لوجود الكون ووجود الكون ضرورة لوجود الإنسان ، وإذا انتفى أحدهما انتفى الآخر ، وهو ما عبرنا عن وحدته في أكثر من مقال ومقولة ، حتى لو كان الوجود يدرك ألوهة في وجوده . فالألوهة في هذه الحال لا يمكن أن تتم بمعزل عن تمظهرها في الوجود المادي، فإذا انتفى تمظهرها في الوجود المادي انتفى وجودها. من هنا تأتي ضرورة وجود الإنسان للألوهة . وإذا ما عدنا إلى منطق العلم نجد أن وجود الإنسان تم خلال بضعة ملايين أخيرة معدودة من مليارات الأعوام في تطور الوجود . وهذا يشير إلى وجود غاية تمخضت بعد مليارات السنين من التطور المادي عن خلق الإنسان الذي لم يكتمل وجوده بعد . وبالتأكيد لن يكتمل ما لم يدرك الإنسان الغاية من وجوده ،وهي أنه مشارك أساس في عملية الخلق ، وعملية الخلق لا تعني الوجود الفيزيائي فحسب ، بل صنع الحضارة وتحقيق قيم الخير والحق والعدل والجمال. وكل هذا لا يمكن أن يتم دون الوعي السليم شبه المعدوم عند معظم البشر ،وخاصة ما يتعلق منه بوجود خالق ينشد العبادة ويحتاج إلى أن نصلي له كل يوم عدة مرات لكي ينقذنا من عذاب جحيمه ويتصدق علينا بنعيم سمائه والخلود في جنانه بعد الموت. إنه لأسوأ ما تمخض عنه العقل البشري حتى اليوم ، ولا بد من العودة إلى الوعي السليم ليدرك الإنسان الغاية من وجوده وضرورة وجوده لهذا الوجود. لهذا أشك في أن يكون الوعي الكوني قد دون شيئا من هذا الوعي السلبي للإفادة منه في تطوير الوجود . وصمت الملك لقمان لتضيف أمنية العقل قائلة : - هذا يعني أن الإنسان يصلي ويتعبد لنفسه دون أن يدري ! - بالضبط ، وبغض النظر عن ألوهية الوجود أو عدمها. - تصور العقل البشري لخالق جبار ينفصل وجوده عن الوجود يحتاج إلى عبادة ويعذب وينتقم ويحيي ويميت ويحلل ويحرم ، هو فعلا أسوأ ما أنتجه العقل البشري. ولا أعرف كيف لم يفكر العقل البشري في أنه لا يمكن تصور وجود إله في الوقت الذي لم يكن هناك وجود ، فلا مكان ولا زمان ولا فراغ . لم يكن هناك إلا العدم واللاشيء ؟ - لقد وضع الخالق خارج الوجود أي في العدم والنتيجة أن الخالق في هذه الحال هو العدم ! أعجبني قول لمفكرعربي يتحدث في كتابه عن الدين حيث يتساءل " إذا كان الخالق هو يسوع المسيح ، فمن كان يدير الكون خلال أيام موته الثلاثة ؟" رفعت أمنية العقل كأسها وشربت نخب الملك لقمان وتساءلت : - ألا تريد جلالتك أن تعرف شيئا أكثر عن كوكبنا ؟ - بل أريد أن أعرف الكثير ، فلا أظن أنني سأصادف كوكبا آخر لملحدين في الكون . - أنا جاهزة لإطلاعك على كل شيئ. لكن قبل ذلك أود أن أعرف شيئا عن الوعي الكوني الذي تطرقت إليه . - بالتأكيد إن مليارات السنين من التطور أوجدت وعيا أنتج معادلات وقوانين في الخلق ،فكان لا بد من تدوين هذه القوانين في أرشيف كوني تكون جاهزة للإستخدام عند الحاجة إليها في عملية الخلق . فتشكل الجنين في رحم الأم يتم عبر قوانين فيزيائية مدونة في المورثات . يقول العلماء أن عدد الخلايا في جسم الإنسان حوالي ستين تريليون خلية ،وأن نواة كل خلية تحمل في داخلها خمسة آلاف مليون معلومة ، وأن العلم لم يكتشف منها حتى اليوم إلا ثمانمئة معلومة . هذا ما يقوله لنا أرشيف الوعي الكوني . إنه نتاج ما توصل إليه العقل الكوني . إن كل ما نفعله ويصدر عنا يدون إن كان فيه ما يفيد الوعي الكوني . فوجودنا غير العبثي ينتج عنه ما قد يكون غير عبثي أيضا ويفيد عملية الخلق في تطورها الدائم . - الحديث مع جلالتك ممتع . أدعوك الآن لإكمال غدائك . وقد نعمل استراحة نقوم خلالها بالتجول في كوبنا إذا تشاء . - سأكون ممتنا لك . ***** (34) *مستقبل كوكب الأرض لا يبشر بالخير ! وهما يتجولان في حدائق قصر الضيافة سأل الملك لقمان الرئيسة منية العقل عما إذا مرت دول الكوكب بفترات حكم ديمقراطية أتاحت شكلا من التسامح الديني يتيح لكل طائفة دينية أن تمارس معتقدها بحرية بعيدا عن السياسة وأنظمة الحكم المدنية ؟ تساءلت الرئيسة بعد لحظات من التفكير : - لماذا تسأل عن هذه الفترة جلالتك ؟ - أريد أن أعرف عن ماذا تمخضت هذه الحقبة الزمنية لديكم ولماذا ارتد العالم إلى محاربة المعتقدات لتسود مفاهيم العلم بدلا من مفاهيم الدين ؟ - في الحقيقة لم يكن الدين ديمقراطيا ذات يوم في تاريخ أمم كوكبنا . حتى المعتقدات التي كانت تبدأ رسالاتها بخطاب سلمي ،ما تلبث أن تلجأ إلى العنف حين تقوى ليسود دينها بإخضاع أمم أخرى إليه . شمل هذا السلوك أهم الديانات الرئيسة ،وثمة بعض المعتقدات التي كانت تشيرإلى غضب الآلهة نتيجة لسلوك خاطئ لدى معتنقي الدين ، فتنزل العقاب بمعتنقي الدين ، أي أن الآلهة بحد ذاتها لم تكن يوما ديمقراطية حتى مع شعوبها . كانت الشعوب تتخبط في مفاهيمها ، فهي من ناحية تشن الحروب لإخضاع أمم أخرى إلى دينها ومن ناحية أخرى تفتك بمن يعترض على المفهوم السائد في الدين نفسه ! - وكأنك تتحدثين عن كوكب الأرض .فلدينا دين تمخض عن ثلاثة مذاهب رئيسة اتبعته . وكل مذهب تمخض عن عشرات المذاهب الأخرى ضمن المذهب نفسه ،وجميع هذه المذاهب وخاصة الرئيسة خاضت حروبا منوعة أزهقت أرواح الملايين من الشعوب . - وكان لا بد من الثورة على الدين لكن ليس لإلغائه بل لعزله عن الدولة وإقامة المجتمع المدني الديمقراطي . - لماذا عزله وليس القضاء عليه ؟ - لم يكن في الإمكان القضاء عليه . كان ذلك يعني قتل ملايين أخرى في الحروب. - سادت الأنظمة المدنية الديمقراطية بعض دول العالم مما أدى إلى ازدهار معظم الدول التي نهجت نهجا ديمقراطيا . وأصبح الإنسان يشعر بوجوده الإنساني إن تدين أو لم يتدين . لكن في المقابل كان ينشأ جماعات دينية لم تكن راضية عما يجري وخاصة فيما يتعلق بالتحرر الذي شكلت حرية المرأة فيه فجورا حسب رأي هذه الجماعات التي راحت تنمو داخل المجتمعات الديمقراطية وتنظر إلى الآخرين ككفرة وملحدين . ،وشرعت في شن أعمال ارهابية أزهقت أرواح الآلاف . بل وبلغت من القوة حدا أدى إلى اسقاط بعض الدول العلمانية وإقامة أنظمة دينية بدلا منها . فكان لا بد من أن يتحرك العالم لمواجهة هذه الجماعات التي شكلت دولا همجية بكل معنى الكلمة أصبح فيها جز الرؤوس بالسكاكين أسهل من قضم البسكويت وعلى أيدي أطفال صغار أحيانا لا يفقهون شيئا لا في الدين ولا في الحياة . اتحدت مجموعة من الدول لمحاربتها . لم يتم القضاء عليها بسهولة إلا أنه تم في النهاية . هذا الأمر تعلق بالديانات الأكثر تطرفا وهمجية . والديانات الوسطية أو المعتدلة والتي لم تلجأ إلى الإرهاب ظلت قائمة . فكان هناك تخوف من أن تنحو هذه الديانات منحى تلك التي تم القضاء عليها . فظهر من ينادي في أكثر من مجتمع بالثورة على الديانات بكل أشكالها وخاصة ما يرتبط منها بالسماء والألوهة . وكان لا بد من إيجاد بديل روحي أقرب إلى العلم منه إلى الدين ليسد الفراغ الذي سينجم عن القضاء على الدين الهمجي . فكان مذهب وحدة الوجود . لكن هذا المذهب ظل يراوح في فلك العقائد القديمة . فلم يلغ الأسس التي قامت عليها الديانات القديمة ،وخاصة ما يتعلق منها بالحساب والعقاب واليوم الآخر والتحليل والتحريم . أي أن التشريع الإلهي ظل قائما .فكان لا بد من انتصار العقل . أخذ الأمر قرونا إلى أن اتحدت دول الكوكب لتقيم نظاما علمانيا ديمقراطيا تتبعه أمم الكوكب . - ألم يبق هناك جماعات تعتقد بفكر ما ؟ - هناك جماعات تعتقد بفكر فلسفي يعيد العالم إلى مبادئ اجتهادية في خلق الكون ، لا تتبع مفهوما لإله ما ، بقدر ما تتبع منهجا فلسفيا يقوم على محرك أول للوجود . إن معظمها إن لم يكن جميعها تتبع نهجا طبيعيا في فلسفة الوجود. - إن تحليلك للتطور التاريخي على كوكبكم يشير إلى أن شعوب كوكب الأرض ستدفع ثمنا باهظا للتخلص من العقائد البالية التي يشن أتباعها الآن حروبا همجية في الكوكب تحت شعارات دينية بالية . وثمة دول استعمارية ورأسمالية ودكتاتورية وغيرها تغذي هذا الصراع حسب ما تقتضيه مصالحها . والضحية هي الشعوب المغلوب على أمرها والتي غدت إما مشردة وإما خانعة وإما وقودا لهذه الصراعات ! أود لو نعود إلى تاريخ كوكبكم الأقدم وبداية ظهور العقائد وإذا مررتم بعقائد تحكم فيها آلهة من النساء كانت أكثر عدالة من حكم آلهة رجال . - إنها الفترة الأكثر اشراقا في التاريخ القديم لكوكبنا. حين كانت الآلهة والحاكمات من الإناث كان ثمة عدالة أفضل وحروب شبه معدومة . لكن الذكر راح يستلب الألوهة من الأنثى ويحيلها إلى نفسه إلى أن غدت الألوهة بالمطلق ذكورية ،والمجتمعات بالمطلق تسير وفق منهج فكري ذكوري .وأصبح دور الأنثى هامشيا . كان الملك والرئيسة يتجولان سيرا على الأقدام في حدائق قصر الضيافة دون أن يتحرش بهما أو يعترض طريقهما أحد ولو من باب الفضول ، مع أنهما معروفان لكافة من يجلسون في الحدائق التي كانت مفتوحة لأبناء المدينة . ولم يكن هناك حرس خاص يرافق الملك والرئيسة . ولو لم يكونا يحييان بعض الجالسين حين يمران بهم لينهضوا احتراما لهما ، لما صدق أحد أن من يتجولان هما رئيسة اتحاد مجلس الكوكب وضيفها الملك لقمان . تساءل الملك وهما يمران من جانب شباب وفتيات نهضوا احتراما لهما : - لا أكاد أصدق هذا التهذيب لدى أبناء كوكبكم . كيف استطعتم خلق أجيال على هذا المستوى من الأخلاق الرفيعة . لو كنا على كوكب في الأرض لأخليت الحديقة من الناس جميعا ولكان الحراس والمرافقون ورجال الأمن ينتشرون في كل مكان في الحدائق والشوارع المحيطة بها . ضحكت الرئيسة ثم هتفت : - لقد دفعنا ثمنا باهظا لخلق هذه الأجيال . وإذا كان مذهب وحدة الوجود حسب مفهوم جلالتك يوحد البشر بأنفسهم وبالوجود فإنه عندنا لا يختلف عن ذلك فكل إنسان في كوكبنا يتوحد بالآخر في وحدة لا تنفصم ،وليس هناك انسان يفضل نفسه على الآخر . - وهذا يقودنا إلى الحديث عن نظامكم الإجتماعي . - لك أن تسأل ما شئت . - ليكن في لقاء قادم . ***** (35) * الوجود مادة وطاقة لا تنفصلان ! في حفل عشاء هادئ على متن المركبة الفضائية وبحضور الملكة نور السماء سأل الملك لقمان أمنية العقل : - ماذا عن التكاثر لديكم هل أبقيتم على المؤسسة الزوجية ؟ - طرحت بعض الجماعات الثقافية فكرة الغاء المؤسسة الزوجية غير أنها لم تنجح في التصويت حين تم طرحها على أمم الكوكب ، فبقيت إلى جانب أشكال أخرى من العلاقات الإجتماعية فالإنجاب دون زواج معترف به . ويمكن القول أننا لا نتدخل في حرية الإنسان في جسده ، فهي حق له ، لدينا علاقات مثلية مثلا ،ولدينا صديقتان لرجل واحد خلال فترة ما قد تطول أو تقصر ! - معقول ؟ - حالات شبه نادرة . لا يمكن منع امرأة من أن تحب رجلا لديه زوجة أو صديقة ، شريطة موافقة الزوجة أو الصديقة ! - وماذا عن العكس ، رجلان معا في حياة امرأة ؟ - غير ممنوع أيضا لكني لم أسمع عن علاقة من هذا النوع. لكن يوجد نساء يحببن تغيير الرجال بين فترة وأخرى ، فثمة نساء قد يعرفن في حياتهن عشرات الرجال ،كما هي الحال مع الرجال ، الذين يغيرون نساءهم دائما . - وماذا عن سهرات إباحية مثلا ؟ - قد تحدث لكن بشكل نادر وخاصة في بداية الشباب . توقف الملك للحظات عن طرح الأسئلة ثم طلب إلى منية العقل أن تتحدث عن الكوكب كما تشاء . قالت : - التعليم عندنا مجاني في كافة مراحلة . نخصص موازنة جيدة للأبحاث العلمية . لا يوجد عندنا فقر . نظامنا الإقتصادي يحض على التعاون الجماعي والحد من الثراء بزيادة الضرائب على الأثرياء . الدولة تتولى أهم المشاريع الإقتصادية . الضمان الصحي من المهد إلى اللحد مجاني لكل إنسان . قطعنا شوطا جيدا في التقدم العلمي . الثقافة عندنا مزدهرة في كافة أنواع الفنون والآداب . النظام الصحي الجيد أدى إلى رفع معدل عمر الإنسان إلى 120 سنة . ليس لدينا جيش . وليس لدينا أجهزة مخابرات تلاحق الناس. لدينا جهاز شرطة . المواصلات لدينا رخيصة جدا . الملكية الخاصة محدودة . ليس هناك من لديه قصر مثلا ، أو مجموعة شركات . ثمة اكتفاء ذاتي لدينا في كل شيئ ،ولدينا احتياطي في مواد كثيرة فائضة عن الحاجة . - لماذا ألغيتم وجود جيش مثلا ؟ - وما حاجتنا إلى جيش ودول الكوكب متحدة ؟ - ماذا لو غزا كوكبكم كوكب آخر ؟ - المسألة لن تكون سهلة على الغازي فالوصول إلى كوكبنا يحتاج إلى قدرا ت خارقة كتلك التي تملكونها جلالتكم . صمت الملك . رفعت الملكة نور السماء كأسها لتشرب نخب الملك والرئيسة منبهة بذلك إلى وجودها السلبي في الحوارات الدائرة بين الملك والرئيسة . لكن يبدو أنها قررت المشاركة ، فما أن قرعت الكؤوس حتى هتفت : - تظل مسألة الموت تشكل قلقا لدى الإنسان ،فأن يكون الموت نهاية المطاف دون أن يكون له دور في تجدد الحياة واستمرارها، يزيد من قلق الإنسان . فكيف عالجتم هذه المسألة الروحية ،إذا جاز التعبير ؟ أطرقت الرئيسة قليلا وما لبثت أن هتفت : - الروح حسب مفهومنا هي الحياة . وموت الإنسان يعني توقف الطاقة الحيوية عن السريان في مختلف أعضاء الجسم ، وبالتالي توقف الأعضاء عن العمل. والعكس صحيح أيضا أي أن توقف الأعضاء توقف لسريان الطاقة في الجسم المادى والأعضاء المادية ، دون أن يعني هذا نهاية الطاقة في الوجود ، فهي موجودة في كل مكان . وفي الوقت نفسه لا يعني الموت نهاية المادة فهي موجودة في الجسد الميت وفي كل مكان أيضا، لكن دون فعل أدواتها الممثلة في أعضاء الجسم . وبتحلل مادة الجسد في التربة وإعادتها إلى عناصرها الأولية يغني التربة دون شك كما تغني الطاقة الخارجة من الجسم الطاقة الكونية السارية في الكون . وهذا يعني أن الإنسان لدينا يدرك أن موته هو مشاركة ضرورية في تجدد الحياة واستمرارها . والمشكلة إذا كان هناك مشكلة تكمن في الإجابة عن التساؤل : هل يشعر المرء بوجوده المادي الطاقوي بعد الموت ،وهل هذا الوجود هو وجود طبيعي ( نتاج الطبيعة ) أم أنه وجود إلهي خارق للطبيعة ؟ وهذا مايشغل عقل الملك لقمان الذي يحبذ أن تكون المسألة متعلقة بألوهة ما تجسدها المادة بشكليها المادي والطاقوي. أما نحن فعلمنا تجاوز هذه النقطة بانتفاء الألوهة والإبقاء على فعل الطبيعة . وقد أثبت علماء فيزياء الكم عندنا أنه لا يوجد جزيء في الطبيعة منفصل عن آخر، فانطلاق جسمين في اتجاهين متعاكسين وحدوث تغييرفي وضع أحدهما يؤدي إلى تغيير فوري في وضع الآخرحتى لو كان يفصل بينهما آلاف السنين الضوئية. إنه اكتشاف مذهل في عالم الفيزياء الكمومية . الإنسان عندنا بات يدرك تماما أن لوجوده غاية وهي بناء الحضارة وتحقيق قيم الخير والجمال . ويدرك أن خلوده الحقيقي يكمن في عمله . ويدرك أنه ينبغي أن يعيش الحياة بأجمل ما يمكن أن تعاش ، ولا تقلقه مسألة الشعور بوجوده بعد الموت ، غير أنه لن يمانع في ذلك إذا ما تم . المشكلة أنه لم يعد أحد من الموت ليقول لنا ماذا حدث معه أو ماذا شعر ،وهل كان يحس بوجوده مهما كان ؟ وهل عاد هو نفسه إلى الحياة وذهب إلى جنة عاشر فيها حوريات يقمن تحت عرش الإله ؟! وحتى الملك لقمان يضع مسألة الألوهة ضمن دائرة الإحتمال دون أن يجزم بوجودها . وإذا كنا قد جزمنا وحسمنا المسألة لعدم وجود أي دليل علمي أو حتى منطقي يثبت وجودها ، فإننا لم نغلق باب البحث، بغض النظر إن وجدت قبل كل ما هو مادي ،أو وجدت فيما بعد من المادة حسب وجهة نظر الملك لقمان الإحتمالية . كانت إجابة الرئيسة أمنية العقل مقنعة إلى حد كبير للملكة نور السماء . فشكرتها وأثنت على طرحها ، دون أن تتخلص تماما من الشعور بالغيرة رغم إدراكها أن أي نوع من الغرام لم ينشأ بين الملك والرئيسة . وأراد الملك لقمان أن يضفي بعض الجمال على الجلسة ، فغير الموسيقى المنبعثة إلى موسيقى راقصة وظهرت ثلاث فتيات خارقات الجمال شرعن في الرقص على إيقاعها . هتفت الرئيسة : - تعجبني قدرات جلالتك الخارقة حين تنقلنا خلال لحظة من الواقع إلى الخيال ! - يا عزيزتي إذا كان هناك إله قبل أو بعد الوجود المادي فإن الخلق كله قد لا يكون إلا نتاج خياله ، ونأمل أن لا يتوقف يوما عن التخيل لينتفي بذلك وجودنا . ضحكت الرئيسة وأضافت : - بعض متصوفتنا في الزمن القديم أدلو بمثل هذا الفكر . واعتبروا أن الوجود افتراضي ، وأن الوجود الحقيقي هو لله وحده ،وحين يتوقف الله عن خياله الإفتراضي سينتفي وجودنا كما تفضلت . - وهناك من ذهب عندنا إلى أن الله أراد أن يظهر وجوده من الخفاء إلى العلن ليرى نفسه ويتمتع بوجوده فأظهرالوجود .ولهذا يعتبر بعض المتصوفة أن الله هو الوجود والوجود هو الله . ولا شك أن هذا الفكر جميل كونه يصب في مفهوم وحدة الوجود . - لكن ما المقصود بالخفاء أو الوجود الخفي ؟ - ما يبدو لي أنه الصورة المتخيلة للوجود في الخيال الإلهي ! غير أن بعض الكتب الدينية لدينا في كوكب الأرض تشير إلى أن الله لم ير حسن خلقه إلا بعد أن خلقه ،مما يشير إلى أنه لم يكن هناك تصور مسبق للنور أو للظلام أو لشكل الإنسان والكائنات في المخيلة الإلهية . غير أن هذا الدين كان دينا بدائيا نتاج عقل بدائي ،والمؤسف أن أكثر من مليار من البشر يتبعون هذا الدين في كوكبنا ! - يفترض أنه لا يمكن إيجاد شيء دون أن يكون هناك تصور مسبق له في المخيلة ، حتى لو كان تصورا غير مكتمل . اصطخبت الموسيقى . ودخل الملك شمنهور برفقة ربة الجمال وأستير ونسمة وزوجها وشرعوا في الرقص ،ما دفع الملك والرئيسة والملكة إلى النهوض والمشاركة في الرقص. ***** ( 36) * وحدة الوجود ومذهب الملك لقمان! وهما يحلقان بين قمتي هضبتين شاهقتين في حافلة معلقة تعمل بالطاقة ، فوق واد تخلله نهر وانتشرت على جانبيه وعلى السفوح أشجار مثمرة وغير مثمرة ومتنزهات ومطاعم ، سألت أمنية العقل رئيسة كوكب الإلحاد الملك لقمان : - هل لك أن تطلعني على مذهب وحدة الوجود بشكل أعمق كما تفهمه جلالتك ؟ أجاب الملك وهو يتأمل مبتسما انسياب النهر في الوادي على بعد حوالي ألف متر أسفلهما : - لماذا هل تريدين أن تؤمني به ؟ - كما تعلم نحن نؤمن بالمذهب إنما دون ألوهة . إنها وحدة الكون والطبيعة . - وماذا لو كانت الطبيعة بحد ذاتها بكائناتها الحية وغير الحية هي ما يمثل أو يشكل الألوهة ؟ هل ستؤمنون بها ؟ - ولماذا لا ، إذا كانت في حاجة إلى إيماننا ، مع أننا في هذه الحال سنكون جزءا من الألوهة نفسها ، أي أننا سنؤمن بأنفسنا وبوجودنا ، وهو ما نؤمن به الآن إنما دون ألوهة . - في الحقيقة يا عزيزتي أن المذهب قديم ولا يخلو من تأثيرات خارجية أثرت في تمثله في بعض الأشعار الصوفية الأولى .. إلى أن جاء رجل اعتبر من أهم مفكري دين لدينا أطلق عليه الدين الإسلامي ، وهذا الدين بدوره هو نتاج أديان وأساطير سابقة عليه . الرجل يدعى محيي الدين ابن عربي . وتكمن أهمية هذا الرجل في أنه وضع أسسا وقواعد لهذا المذهب . دون أن يخرج على المبادئ الأساسية للدين ، لكنه أوغل إلى أبعد الحدود في فهم الدين . فهو أول إنسان يضع أي دين وأي فكر بل وأي كائن ضمن الإيمان وليس خارجه ،حتى الإلحاد حسب فهمه هو إيمان ، كونه إيمان بفكر ، وكل فكر هو نتاج مصدر إلهي أو طاقة إلهية سارية في الكون . فهو القائل : لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني وهذا الكلام يعتبر ثورة بكل معنى الكلمة في زمنه . فهو يؤمن بكل ما سبقه من أديان وأفكار ليس انطلاقا من أنها نتاج طاقة أو إلهام إلهي فحسب ، بل وانطلاقا من أنها فكر اجتهادي يسعى إلى معرفة الوجود والغاية منه حسب زمنه . لذلك هو يحترمه لأنه فكر ، ولينتهي إلى الحب في النهاية ، لأن غاية أي دين أو أي فكر هي المحبة أخيرا وتحقيق قيم الخير والجمال . هذا الفكر احتوى كل ما سبقه وأضاف إليه مبدأ المحبة التي هي غاية الغايات الإنسانية . وإذا كان ثمة سلبيات في هذا الفكر فهي عدم خروجه على أسس الدين ومبادئه ،أي الإيمان بكل ما جاء به الدين . وهذه المسألة تتعلق كما أرى بخوف ابن عربي من القتل كونه في نظر المتدينين تحول إلى الإلحاد ، ولا شك أن ابن عربي كان يعرف ماذا جرى لمن فكروا في وحدة الوجود من قبل . فقد قتل وصلب معظمهم . حتى أن بعضهم دفنوا أحياء . قدم ابن عربي مفهوما لمراتب الألوهة والإيمان أيضا ، فليس كل مؤمن يفهم الدين بالمستوى نفسه من الفهم . ففهم الإنسان العادي ليس كفهم العالم المتدين . وفهم العالم ليس كفهم الفيلسوف المتحرر ولو بقدر من المفاهيم الدينية وهكذا . - أريد فهمك أنت ! - حسنا يا عزيزتي . سأنتقل إلى فهمي الذي آمل أن يكون صحيحا وأن يسود ذات يوم . وأنا لن أتأكد من صحة فكري إلا بلقاء الله نفسه ،وإن لم ألتقه سيظل فهمي اجتهادا كغيره قابلا للخطأ والصواب . إنطلاقا من أن كل فكر هو نتاج عقل بشري بما في ذلك الدين حتى لو كان ناجما عن طاقة إلهية سارية فينا . فالطاقة الإلهية تمنحنا القدرة على التفكير لكنها لا تتحكم في فكرنا ، بغض النظر عن الأسباب التي تحول دون هذا التحكم ، فهل هو لعجز في الألوهة نفسها ، أم أنه غاية لحاجة الألوهة إلى فكر الإنسان كونه جزءا من وجودها . أي أن تفكير الإنسان هو تفكير للألوهة ذاتها. لذلك يا عزيزتي ألغيت كل المبادئ التي قامت عليها الألوهة بدءا من العبادة - التي هي عندي عبودية مرفوضة – مرورا بالحساب والعقاب ،وانتهاء باليوم الآخر ، غير الموجود. وقدمت مفاهيم جديدة للخلق والخالق تتلخص في : 1- الخالق : طاقة سارية في الخلق كله . لم ينزل تشريعات ولم يرسل أنبياء . ( تفهم الأنبياء على أنهم عرفوا دورهم في المجتمعات بأن يكونوا أنبياء ، فكانوا ، أي هم من قرروا أن يكونوا أنبياء وليس الطاقة الخالقة ) 2- الطاقة طورت نفسها بنفسها عبر مليارات السنين من المادة التي وجدت فيها ،وما زالت تتطور لتصل إلى كمال ما غير معروف بالضبط . ولهذا فالخلق غير كامل بالمطلق حتى الآن . 3- الطاقة وجدت مع المادة الأولى منذ أن وجدت ( الهيولى البدئية ) لا قبل ولا بعد ، أي لم تأت من عدم ، إذ لم يكن هناك عدم ولن يكون . 4- الطاقة لا تنفصل عن المادة والمادة لا تنفصل عن الطاقة ، فكل مادة تتحول إلى طاقة إذا ما تحركت أو انطلقت أو تفاعلت بسرعة معينة ، والطاقة تتحول إلى مادة كلما أبطأت من سرعتها . 5- الوجود مكون من مادة وطاقة ولا شيء غير ذلك . 6- المادة أبدية لا تفنى . 7- الوجود واحد وليس وجودين ( خالق ومخلوق ) طاقة ومادة ولا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى .فالوجود المادي تمظهر للطاقة ولا شيء غير ذلك . 8- الكائنات تخلق نفسها بنفسها بفعل الطاقة الناجمة عن العناصر المادية الأولية التي توفرت لها ، وتفاعلها مع الطاقة الكلية الخالقة السارية في الكون. 9- الطاقة الناجمة لم تنجم إلا بفعل الطاقة الكلية السارية في الكون . 10 – عملية الخلق بحد ذاتها هي غاية وكل ما ينجم عنها له غاية أيضا هي أن يكون خالقا بدوره.( أي أن الغاية من خلق البشر هي أن يكونوا خالقين ) 11- عملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق ،( أي بين الطاقة والمادة ) فلا خالق دون خلق ولا خلق دون خالق فهما كل واحد لا يتجزأ . 12- الطاقة الخالقة هي الذات الكلية السارية في الكون والكائنات . 13- كل كائن يحمل بحد ذاته طاقته الخاصة ( ذاته) غير المنفصلة عن الذات الكلية ، دون أن يكون هو الذات الكلية . وليس من حق أي كائن أن يقول : أنا الذات الكلية ، أو أنا الطاقة الخالقة ، أو أنا الله . حسب ما كان يقول بعض المتصوفه .قد يجوز ذلك للوجود كله !! 14- مفردة الله مفردة لغوية أوجدها البشر باختراعهم اللغة في زمن قريب جدا من عمر الخلق المديد. وليس هناك أي مانع من إطلاقها على الطاقة الخالقة ، أو الذات الكلية ،كونها مفردة شمولية تعبر عن الطاقة القائمة بالخلق والسارية فيه . 15- كل ما تفكر فيه الكائنات وفي مقدمتها الإنسان لا ينفصل عن العقل الكلي (الكوني) للذات الكلية ( الطاقة الخالقة ) الله إن شئت . ولذلك لا يذهب كل فكر سدى بموت الإنسان . فهو مخزن في العقل الكلي للإفادة منه وتوظيفه في الخلق القادم . لتحافظ عملية الخلق على تطورها ولا تعود إلى الصفر في حال حدوث كوارث طبيعية أو غير طبيعية قد تدمر الحياة وخاصة على كوكب الأرض . 16- كل ما يصدر عن الكائنات مهما كان صغيرا لا يتم دون وجود الطاقة الكلية السارية في الكائن . 17- الطاقة الخالقة الكلية ليس لديها جنة ونار ولا تحاسب ولا تعاقب ولم تنزل تشريعات وقوانين ولم تحلل ولم تحرم ، فالحساب والعقاب والتشريعات مسائل تخص المجتمعات وهي من ينفذها ولا علاقة للطاقة الخالقة بها . 18- بما أن الخلق جميل فغايات الخلق ودون أي شك تنشد قيم الحق والخير والجمال وبناء الحضارة الإنسانية، ولا يمكن أن يكتمل الخلق دون أن تتحقق قيم الحق والخير والجمال على وجهها الأكمل . 19- جهنم والحساب والعقاب ليست قيما ولا تتناسب مع اية قيم رحمانية جمالية . 20- الجنة هي الكوكب الذي نعيش عليه إما أن نحيله إلى قيم خير وحق وجمال أو نحيله إلى جحيم كما يحدث الآن على كوكب الأرض. 21- العبادة . مسألة تخص الإنسان بينه وبين نفسه وبينه وبين خالقه ولا يمكن تكريسها إلا بالعمل الصالح والتأمل العميق في الوجود . 22- الفكر الإنساني كله فكر اجتهادي لم يصل إلى حقيقة مطلقة بما فيه فكرالملك لقمان ( أنا الباحث عن الحقيقة ) ! وبدت الرئيسة أمنية العقل مندهشة بعض الشيء لفكر الملك لقمان ولقرب فكره من الفكر الإلحادي لولا تمسكه بالألوهة . سألت : وماذا عن الحياة والموت ؟ أجاب الملك : - أظن أننا تطرقنا إلى هذا الأمر . يمكن القول : أنه لا حياة دون موت ،ولا موت دون حياة ،فكما لا خلق دون خالق ، ولا خالق دون خلق ،ولا وجود دون غاية ، ولا غاية دون وجود .. لا أحد يمكنه أن يتصور خالقا دون خلق ، فلن يكون هناك إلا العدم ، والعدم ليس خالقا .فالخالق يتجلى بخلقه ، والخلق يتجلون بخالقهم . فإذا كان الوجود مكون من مادة وطاقة فإن الخالق يكمن في المادة والطاقة ،وقد يكون هو المادة والطاقة ولا شيء غير ذلك . إن تجلي الوجود بما فيه تجلي الكائنات الحية والبشر في مقدمتها هو تجل للمادة والطاقة أو تجل للألوهة . فوجودنا مادي وفعلنا طاقة . - ما المقصود هنا بالفعل الطاقوي؟ - إنه الحياة السارية فينا ، أي الطاقة . ماذا لو لو لم يكن هناك موت ؟ أين ستعيش مليارات الكائنات بما فيهم البشر، هل سيحيون فوق بعضهم بعضا ، ثم هل سيوجد غذاء يكفيهم ؟ ثم هل تظل الأرض خصبة وقادرة على انتاج غذاء للجميع . مستحيل ! إذن الموت ضرورة حتمية لكل الكائنات الحية . ضرورة لتستمر الحياة في توازنها ، فدون هذا التوازن ستدمر الحياة . والموت ضرورة للكائن الحي الأكبر، مبعث الحياة كلها : الأرض !! من الأرض جئنا ، وإلى الأرض نعود ، نعود إلى التراب المقدس ، نعود إلى المنشأ الذي جئنا منه . والأرض في حاجة إلى غذاء دائم لتظل قادرة على العطاء ،والغذاء هو أجسادنا وأجساد الكائنات . فكما تحافظ الأرض على بقائها وتوازنها بأن تتنفس بالبراكين والينابيع والزلازل ، حتى لا تتفجر وتدمر الحياة ،فإنها تحتاج إلى غذاء لتستمرفي العطاء .وليس لها غذاء مادي يمنحها طاقة جديدة إلا أجساد الكائنات ، لتستمر دورة الحياة . ويفترض أن الطاقة في الكائن الميت تذهب في الألوهة كما تذهب مادة جسده في المادة . وآمل أن يكون الإنسان حينذاك يحس ويشعر بوجوده الطاقوي ويتمتع بالحياة . وهذا الإفتراض لن يجيبني عنه إلا الله نفسه إن وجد ! وفي حال العكس أي أن طاقة الإنسان الميت لا تشعر بوجودها الأخروي حتى لو انضمت إلى الطاقة السارية في الكون فيمكن تصور التالي : حين يموت الإنسان . نقول : طلعت روحه ! فاضت روحه ! مات ! ماذا يعني فاضت روحه أو طلعت روحه أو مات . يعني ببساطة أنه لم يعد فيه حياة . فالروح هي الحياة ، الطاقة الحيوية ،القدرة على الفعل ،ولا شيء غير ذلك . الطاقة توقفت عن الفعل . وكي أسهل الفهم سأستعمل تعبير الحياة . توقفت الحياة في جسد الإنسان بالموت ، لكن الحياة موجودة في الكائنات الأخرى كلها، وفي الكون والفضاء المحيط بنا كطاقة . إن موت الحياة في الإنسان مقارنة بالحياة في الوجود هي كمن يأخذ قطرة ماء من محيطات وأنهار الأرض ويرشها على الشاطىء. هذا الإنسان الميت مستمر كمادة وطاقة. مستمر كمادة بجسده في التراب. جسده الذي سيكون مادة غنية لإثراء التربة القادرة على انتاج طاقة خلاقة . ومن الأفضل أن يوضع جسد الإنسان على التراب مباشرة لكي يتحلل في التربة ويختلط معها .. فالدود الذي ينشأ بعد فترة وجيزة في الجسد بتأثيرالطاقة الناجمة عن تفاعل مادة الجسد بمادة الأرض ، يساعد على نقل وتسرب المادة والطاقة في التربة . ولا يتخيلن أحد أن الطاقة السارية في الأرض منفصلة عن الطاقة السارية في الكون . المادة الكونية متصلة ،والطاقة الكونية متصلة ،حتى وإن تشكلت المادة من ذرات متناهية في الصغر. وماذا عن هذا الإنسان الذي مات وتحول جسده إلى مجرد غذاء للتربة . فهل إذا كان عالما أو مفكرا يذهب فكره أدراج الرياح ؟! أبدا ، فإضافة إلى التوثيق البشري الذي يقوم به الناس هناك التوثيق الكوني الذي يقوم به الخالق ، أو الطاقة الخالقة. فإذا كان الإنسان عظيما فإن فكره سيخلد للإفادة منه في تطوير الخلق. وإذا كان حمارا فعوضه على الخالق ، يكفيه أنه عاش الحياة وربما كان ثريا وتنعم بها ،وسيكون في موته فائدة لتغذية المادة وإنتاج الطاقة . وراحت الرئيسة تضحك ! فيما الملك يتابع : أظن أنني أطلت .. وهناك مسائل كثيرة لم نتحدث عنها .. أهم شيء ينبغي أن يدركه الإنسان أن الإنسان الكامل والخلق الكامل لم يوجدا بعد ،وأن عملية الخلق وتطويره مستمرة إلى ما لا نهاية ، وقد يأتي إنسان في عصر ما له ثلاثة عيون ، وعقل أكبر من مليون عقل في زمننا !! وحدقت الرئيسة في وجه الملك للحظات وابتسامة فرحة تطوف على شفتيها ،وما لبثت أن ألقت رأسها على صدر الملك لقمان ، ليحتضنها بدوره ويقبل شعرها، وفي هذه اللحظة بالذات ظهرت الملكة الجنية نور السماء محلقة في الفضاء قادمة نحوهما ، وقد عادت الغيرة تنهش قلبها خاصة وأن الملك والرئيسة يبدوان في غاية الإنسجام وربما الغرام . **** (37) * غيرة ملكية وحديقة محلقة في الفضاء ! تنبه الملك لقمان وهو يحتضن أمنية العقل رئيسة كوكب الإلحاد للملكة نور السماء محلقة في الفضاء وقادمة نحوهما .. لكنها عدلت عن القدوم حين رأت الملك يحتض الرئيسة ويقبل شعرها ، فقد توقفت للحظات ثم استدارت في الفضاء وأقفلت راجعة . ربت الملك على ظهر أمنية العقل وهو يردد " انزعجت الملكة " ! رفعت أمنية العقل رأسها عن صدر الملك ونظرت إلى وجهه وهي تتساءل " ماذا " أشار الملك نحو الفضاء حيث كانت الملكة تبتعد محلقة وراحت ترتفع أعلى فأعلى راسمة دوائر منتظمة وكأنها تقوم باستعراض فضائي. نظرت أمنية العقل لترى : - هل انزعجت منا ؟ - أجل ! كانت قادمة نحونا ثم عدلت عن الأمر حين شاهدتنا في هذا الوضع . أبعدت أمنية رأسها عن صدر الملك وتساءلت : - هل تغار ؟ - أجل هي تغار وقد سبق لها أن تقمصت شخصية أستير في رحلتي السابقة وتمددت عارية في سريري لتثيرني ! - وهل واقعتها ؟ - لا ! عرفت أنها هي وليست أستير . - قدرتها على التقمص والتحول عجيبة . - إنها جنية ! - لكننا لم نفعل شيئا مجرد عاطفة إنسانية اجتاحتني نحوك ! - أدرك ذلك يا عزيزتي . - هل تتوقع أن تدفعها الغيرة لتتخذ اجراء ما ضدي ؟ ، خاصة وأنها جنية تستطيع أن تفعل المعجزات ! - لا أظن فهي تتخوف من غضبي . وفجاة ظهر في الفضاء عشرات الشباب وراحوا يحفون بالملكة من كل جانب . بدوا جميلين جدا وفي غاية الوسامة وهم يرسمون حول الملكة حلقات كرنفالية . - ياي ! ما هذا ؟ - يبدو أنها جنت ! - ماذا سنفعل . - لا عليك سأخاطرها. وشرع الملك في التحدث إلى الملكة تخاطرا ،مسخرا قدراته ليجعل أمنية العقل تدرك هذا التخاطر: - ما هذا يا حبيبتي ؟ - مجرد لهو كما تفعل أنت مع زعيمة دولة الإلحاد ! - لك أن تفعلي ما تشائين . وليس هناك أي شيئ بيني وبين الرئيسة، مجرد تبادل مشاعر إنسانية . إنها مثل ابنتي . ولا تنسي أنني رجل عجوز ولا أظن أن الرئيسة ستغرم برجل عجوز مثلي . ومن ناحيتي ليس لدي مانع أن تعيشي حياتك وتتمتعي بجمال عنفوان الشباب . وبدا أن الملكة فوجئت بما يقوله الملك فراحت تعتذر : - معذرة يا حبيبي ، أغفر لي غيرتي ، خاصة وأنك تمضي الكثير من الوقت مع الرئيسة . - نحن في حاجة إلى هذا الحوار كوننا نشكل أعلى مرحلتين في الفكر الإنساني . الإيمان المختلف الذي أمثله أنا والإلحاد الذي تمثله الرئيسة . وأكاد أجزم أن مستقبل العقل البشري يكمن في هذين المستويين من الفكر ، إما الإيمان المختلف وإما الإلحاد . - هل تسمح لي بأن أنضم إليكما ؟ - لست في حاجة إلى اذن مني يا حبيبتي! اختفى عشرات الشباب وكأنهم لم يكونوا . وهبطت الملكة محلقة لتحط على المحفة . قبلت الملك والرئيسة . لم تصدق الرئيسة أن المسألة انتهت بهذه البساطة . والحق أنها في قرارة نفسها لم تكن متأكدة تماما من أن مشاعرها تجاه الملك مجرد عواطف إنسانية ، خاصة وأن ممارسة الغرام حسب مفهومها ، أرقى المشاعر الإنسانية ولا تتناقض معها إطلاقا . وهذا ما قد لا تدركه الملكة الجنية ، بينما يدركه الملك لقمان . - هل ستتناولون الغداء هنا ؟ سألت الملكة . - لماذا لا ، وليكن غداء من تحت يديك ! - ماذا ترغبان ؟ - أنا في بالي اقريدس وحجل مشوي وسلطة فطر ! وكأس وسكي ! هتفت الرئيسة ! - وأنت حبيبي ! - مثل ما طلبت سيادتها ! - وأنا كذلك ! كانت المحفة معلقة بمجموعة أسلاك تقطع الوادي بين الهضبتين أو تعبر منتصفه لتحلق فوق النهر . أطرقت الملكة للحظات تستحث قواها الخارقة وإذا بالمحفة تتحول إلى حديقة ساحرة تعج بأجمل الورود وقد انتصبت في منتصفها مائدة فاخرة أحاط بها أربع فتيات خارقات الجمال يرتدين فساتين قصيرة وقمصانا تنحسر عن الأكتاف والصدور فيما تقاطعت نوافير مياه ملونة في اتجاهين متعاكسين على ارتفاع مترين فوق المائدة ،وانطلقت من سفوح الهضبتين نوافير أخرى راحت تقطع فضاء الوادي في اتجاهين متعاكسين لتمر من فوقهم على ارتفاع حوالي عشرة أمتار! - ياي ياي ! هتفت الرئيسة وهي تجد نفسها جالسة إلى المائدة وتنظر بدهشة خالجتها الإبتسامات والفرح إلى عالم أقرب إلى السحر منه إلى الواقع . وما لبثت أن هتفت محيية الجن ! - يعيش الجن الذين أنجبوك أيتها الملكة ! - تشكري عزيزتي لم أفعل إلا ما يليق بمقامك ومقام الملك ! لم يبد على الملك لقمان انه تفاجأ بالأمر وإن بدا مسرورا لما أقدمت عليه الملكة . رفع كأسه ليشرب نخب الرئيسة والملكة . هتفت أمنية العقل بعد أن أخذت جرعة من كأس وسكي وأعادته إلى مكانه : - لا أصدق أن ما يتخيله الجن يتحقق بهذه السرعة الخارقة ، إلى حد أنني لم أعد أعرف هل نحن في عالم متخيل أم في عالم من السحر أم في واقع ! أجاب الملك : - الأمر بسيط ويتعلق بكلمة ( كن ) التي بدأ بها الخلق حسب معتقداتنا الأرضية ! كل ما في الأمر أن الملكة قالت في سريرتها ليكن كذا فكان ! - وهل الملكة إلهة حتى يلبى طلبها ؟ - لا ! الألوهة منحت قدراتها للجن دون الإنس ! - ولماذا الجن دون الإنس ! - هذا السؤال لن يجيب عنه إلا الله نفسه ! - وهل نحن الآن في واقع أم في خيال ؟ - نحن في واقع متخيل ومتخيل غيرواقعي ! هتف الملك وتابع : - تفضلي سيادتك إلى الطعام ! مدت الرئيسة يدها بشوكة وتناولت قطعة اقريدس راحت تتلذذ بطعمها ! ***** (38) * انقلاب تكنولوجي ينتج إلها تكنولوجيا !! وهم يتناولون القهوة بعد الغداء في الحديقة المعلقة حدث ما لم يكن في الحسبان ، فقد خاطر الملك شمنهور الملك لقمان صارخا " مولاي ثمة عشرات الصورايخ العابرة للكون تتجه إلى الكوكب لتدمره " انتفض الملك لقمان في جلسته وطلب إلى الملك شمنهور أن يتصدى للصواريخ بكل قواه . هتفت الرئيسة أمنية العقل رئيسة كوكب الإلحاد : - هل هناك شيء جلالتك ؟ - أجل ! ثمة صواريخ تتجه نحو كوكبكم . هل لكم أعداء ؟ - صورايخ ؟ لو نعرف لنا أعداء لما ألغينا الجيوش . بل وكنا نعتقد أنه لا يمكن لسكان كوكب آخر أن يغزو كوكبنا . هل فعلت شيئا جلالتك ؟ - أكيد ! لن أسمح بتدمير كوكب يقيم عليه بشر ! فكيف بكوكب أنا في ضيافته ؟ وظهرت شاشة ضخمة منتصبة في الفضاء لتبدوعشرات الصواريخ هائلة الحجم تنطلق في الفضاء نحو الكوكب ، فيما انطلقت لمواجهتها عشرات الأجرام والنيازك والشهب الضخمة المشتعلة ، وما لبثت أن اصطدمت بالصواريخ لينتج عنها انفجارات ضخمة بدا واضحا للملك لقمان أنها انفجارات نووية . صرخت الرئيسة هلعة وهي ترقب صراع الخيال الديني مع الخيال التكنولوجي العلمي، لم تصدق ما تراه عيناها ، كان الفضاء يلتهب بالنار والإشعاعات المنطلقة في اتجاهات مختلفة التي راحت تصهر ما يعترضها لتحيلة إلى غازات ملتهبة . - هل هذا الجحيم بعيد عن كوكبنا أيها الملك ؟ - لا تخافي عزيزتي إنه بعيد ولن يؤثر على كوكبكم ! - هل أنت متأكد ؟ - أجل لا تخافي ، ولن نخبر سكان الكوكب بما يجري حتى لا يصابوا بالرعب . - لكني خائفة ! - أرجوك لا تخافي . ليس هناك قوة تقدر على مواجهتي إلا قوة الله إن وجد ! وظهر على الشاشة مئات الصواريخ هذه المرة التي بدت أكبر من سابقتها وحين اصطدمت بالنيازك والشهب والمذنبات والأجرام التي يطلقها الملك شمنهور انفجرت مطلقة طاقة شعاعية بيضاء راحت تتمدد بسرعات هائلة لتغطي كونا بأكمله مدمرة عشرات الكواكب والنجوم . بدت رئيسة كوكب الإلحاد في حالة من الرعب الفظيع رغم أن الملك لقمان طمأنها بل وضمها إلى جنبه وراح يربت على كتفها وهي تحدق هلعة في الشاشة الفضائية ، فيما بدت الملكة نور السماء في غاية الدهشة إنما دون أن يبدو عليها أي رعب . تساءلت الرئيسة: - ما هذه الطاقة الرهيبة ، شيء لا يصدقه العقل . كواكب بأكملها تنصهر ! - إنها صورايخ محملة برؤؤس نووية وهيدرجونية . - أي مجنون هو من يفعل هذا ؟ - سأرى يا عزيزتي . شرع الملك لقمان في مخاطبة الملك شمنهورجهرا : - هيا أيها الملك أرسل جيشا يقتحم كل القواعد العسكرية على هذا الكوكب ويسيطر عليها . حاول قدر الإمكان أن لا تؤذي أحدا . لقد توقفوا عن إطلاق الصواريخ وهذا يعني أنهم أدركوا أن ليس في إمكانهم مواجهتنا . لم تمر سوى لحظات حين خاطب الملك شمنهورالملك لقمان بما لم يتوقعه على الإطلاق : - مولاي نحن نحارب جيوشا آلية وليست بشرية! - هل أنت متأكد أيها الملك ؟ - أجل يا مولاي الجيوش التي نراها هي من الجنود الآليين الذين يقودون طائرات ودبابات وسفنا وغواصات ويقفون خلف مدافع وقاذفات صواريخ عملاقه . - سيطر عليهم بأية وسيلة أو دمرهم . وانظر لي في أحوال هذا الكوكب ما هو ؟ سخر الملك شمنهور جيشا من مليون جني شرعوا في الإنقضاض على الكوكب وراحوا يسيطرون على كل القوى العسكرية بأن يحملوا الجنود الآليين ويقذفوا بهم بعيدا عن دباباتهم وطائراتهم وسفنهم ومدافعهم . جابوا أنحاء الكوكب كله . وتقمص بعضهم أشكالا إنسانية وتحدثوا إلى بشر عاديين في بعض الدول . وأرسلوا تقاريرهم إلى الملك شمنهور . الذي شرع في إخبار الملك لقمان : - مولاي هذا الكوكب يحوي مجموعة دول تحت سيطرة الدولة الآلية التي يحكمها إنسان آلي جعل من نفسه إلها!! الدولة الآلية كانت أكثر الدول في الكوكب تطورا ،فصنعت جيشا آليا .. غير أن قائد هذا الجيش الآلي لتفوقه العقلي التكنولوجي أصبح مع مرور الزمن يطور قدراته بنفسه إلى أن أصبح يملك قدرات تفوق قدرات الدماغ البشري من حيث المحاكمة والتعقل والتبصر والطموح والغاية والتميز والسيطرة . فقام بانقلاب آلي وأسقط زعيم البلد وفتك به وبالملايين من سكان الكوكب واستولى على السلطة ، ثم راح يغزو الدول المجاورة ليبسط سيطرته عليها . فاستطاع بجيوشه الآلية أن يهزم جميع الجيوش البشرية ويسيطر على كافة الدول ويضعها تحت نفوذه . وهو الآن الحاكم المطلق للكوكب وقد توج نفسه إلها وشرع في مد نفوذه إلى كواكب أخرى . وما الصورايخ التي واجهناها بقوانا إلا بداية الغزو لكوكب الإلحاد . بدا الملك لقمان والملكة والرئيسة في غاية الدهشة وهم يستمعون إلى تقرير الملك شمنهور . هتفت الرئيسة : - هل يعقل هذا ؟ كيف يمكن لإنسان آلي أن يتفوق على البرمجة التي صمم عليها ويمتلك وعيا ذاتيا خارج البرمجة ؟! إنه انقلاب تكنولوجي على صانعيه ! - ما يبدو لي أنه برمجته أصبحت تؤثر في الإنتخاب الطبيعي لتؤثر هذه الأخيرة في برمجته ، ونظرا لأن برمجته متطورة ، فقد اكتسبت قدرات الإنتخاب الطبيعي خلال فترة وجيزة ووظفتها في تطوير نفسها ! - هذا شيء يفوق التصور ! - وأن يصبح إنسان آلي جنرالا غازيا ومهيمنا وإلها مسألة تفوق التصور أيضا . هتف الملك شمنهور : - هل أحضره يا مولاي ليمثل أمام جلالتك !؟ - أحسنت أيها الملك كنت أفكر في الذهاب إليه ! - سيكون بين يديك خلال لحظات يا مولاي ! انتزع جني مخفي الإله من عرش الألوهة في القصر الإلهي وانطلق به بسرعات هائلة . كان بحجم ثلاثة رجال على الأقل . مرت لحظات صمت وتوجس وترقب قبل أن يظهر في شكل إنساني يقدم عبر الفضاء ، وبدا وهو يحاول الإفلات ممن يحمله ويطير به دون جدوي . توقف في الفضاء على مسافة أمتار من مجلس الملك لقمان . أشار الملك إلى الجني أن يجلسه على كرسي . لم يبد عليه أنه إنسان آلي ، فجسده الخارجي بدا كجسد إنسان ،غير أنه كان عملاقا يرتدي زيا عسكريا جنراليا . وهذا ما جعل الملك لقمان يشك في أن البرمجة جرت لإنسان مطور إنسانيا وتكنولوجيا بأعضاء صناعية متطورة جدا . هتف بصوت إنساني متجهم مخاطبا الملك لقمان : - من أنت حتى تجرؤ على محاربة الله وأسره بقواك ؟! - أنا الذي يسأل هنا جل جلالك ! ! ضحكت الملكة نور السماء حين وجدت الملك لقمان يخاطب هذا الكائن كإله فيما كانت الرئيسة تحدق بدهشة إلى هذا الكائن الضخم . - ها أنت تعترف بمقامي الإلهي السامي فلماذا تحاربني ؟ - لأنك تسعى إلى الهيمنة بوسائل فتاكة ! - ماذا تريد ؟ - أريد أن أخلص البشرية من الآلهة القتلة الذين أمثالك ! صمت الإله وكأنه لم يجد ما يرد به على الملك ، فيما كان الملك يتساءل في نفسه عما إذا كان هذا الكائن يعمل بطاقة ذاتية أم طاقة تحتاج إلى شحن من الخارج بين فترة وأخرى ، بل وفكر في ما هو أبعد من ذلك كأن يحصل على الطاقة بتناول الطعام والشراب ، لكنه لا يعرف ما إذا كان يأكل ويشرب ، رغم وجود فم له. سأله : - هل تأكل وتشرب جل جلالك ؟ - لا ! أنا الله فكيف آكل ! - وكيف تحصل على الطاقة لتستمر في الحياة والعمل . - لن أقول لك إلا إذا أعطيتني وعدا بعدم تدميري ! فكر الملك لقمان للحظات " هل يعقل أن يعد هذا السفاح بعدم تدميره ، لو كان انسانا عاديا لسهل الأمر . لكن كيف يحصل على الطاقة ، وخطر في باله ما هو فوق التصور: هل يمكن أن يستمد طاقته من الطاقة الكلية السارية في الكون دون أي وسيط كالطعام والشراب ؟! مستحيل ! هذا يعني أنه إله أو شبه إله أو أن لديه قدرات خارقة للطبيعة ،أو أن الطاقة التي تنتجها أجهزته الصناعية كافية لتتفاعل مع الطاقة الكلية فتسير حركته. هتف الملك : - هيا انزع ملابسك ؟ - لا تسأل نفذ أوامري وإلا سأدمرك ! - دمرني إذن ! - أف ! ألا تهمك ألوهيتك ؟ - بل تهمني جدا ! - إذن اشلح ! - الإله لا يشلح أمام أحد !! - هكذا إذن ! أشار الملك بحركة من يده وإذا بأزرار ملابسه تفك نفسها والملابس تنتزع دون أن يقدر الإله على وقف العملية . - انهض ! أدرك الإله الآلي أنه إن لم ينهض بخاطره نهض بالقوة . نهض . لم يكن لديه أعضاء تناسلية . وبدا جسده من أمام خاليا من أي مأخذ يمكن أن تدخل منه طاقة . - استدر . استدار . - انحن ! انحنى . لم يكن له شرج . ولم ير الملك أي مأخذ في جسده يمكن أن تدخل منه طاقة . لعل المأخذ في أخمصي قدميه . - ارفع قدميك لأرى أسفلهما . أدرك الكائن الإله ان الملك يبحث عن مأخذ للطاقة في جسده . هتف : - ليس هناك مأخذ للطاقة في قدمي ولا في أي موضع في جسدي. - لكن قد تكذب علي أرني . رفع رجليه في مواجهة الملك . لم يكن فيهما مأخذ فعلا . لم يبق أمام الملك لقمان إلا ما توقعه : إنه يستمد طاقته من الطاقة الكلية السارية في الكون ! أطبق الملك لقمان بيديه على رأسه وهو يهتف " يا إلهي يا إلهي ، هل يعقل أن تسري طاقتك في هذا الكائن إن كنت حقا إلها ؟! " استوعبت الملكة والرئيسة ما توصل إليه الملك لقمان عبر أسئلته وبحثه في جسد الكائن الآلي .. نهض واقترب من جسده . بدا له أن الجسد مصنوع من البلاستك والسيلكون . كان الملك يدرك أن شعورا مثل المحبة والخوف شبه معدومين عند هذا الكائن . ومع ذلك قرر أن يفاجئه ليرى : - سأدمرك أيها الإله ! - دمرني ! - ألا تخاف ! - لم أعرف أبعاد الخوف بعد ! أشار الملك بحركة من يده وإذا بجسد الإله الآلي ينقسم إلى نصفين لتبدو الأجهزة الصناعية في جسده وقد تشابكت عبر مئات الأسلاك الدقيقة . أشار الملك إلى رئيسة كوكب الإلحاد قائلا : - قد يفيد علماؤكم من البحث في كيفية عمل هذه الأعضاء الصناعية والأهم كيف طورت نفسها بنفسها لتبدو وكأنها نتاج انتخاب طبيعي . هتفت الرئيسة : - أشكر جلالتك . أشار الملك لقمان إلى جني أن يحمل نصفي الإله إلى أقرب مركز بحوث علمي على الكوكب . وأخبر الرئيسة أنه سيضطر إلى الذهاب إلى كوكب الإله ليلتقي البشر وليس الجيوش الآلية . ورحب بالرئيسة إذا أحبت أن ترافقه . فأشارت إلى أن الأمر يسرها . وهذا ما حدث . ****** (39) * قوانين خارقة وإعجازية ! وهو يمثل أمام الملك لقمان بملابسه الرثة القذرة وشعره الطويل المشعث وقدميه العاريتين الوسختين هتف العالم المجنون مخترع الإنسان الآلي المطور الذي تمرد عليه وجعل من نفسه إلها أزهق أرواح ملايين البشر وأخضع دول الكوكب لسيطرته . هتف متسائلا مخاطبا الملك : - من أنت وماذا تريد مني ؟ قيل للملك لقمان أن العالم جن حين هاله ما رأى من أفعال الإنسان الآلي الذي صنعه . فقد راح يفعل ما يتناقض مع البرمجة التي صمم عليها . وبطرحه هذا السؤال على الملك لقمان جعل الملك يشعر أن الرجل غير مجنون إلى الحد الذي قيل له عنه . فقد بدا له أنه لم يحتمل الصدمة التي تلقاها من مصنوعه فحدث له ردة فعل إرادية سلبية . - أريد أن أعرف على ماذا برمجت إنسانك وهل انقلب فعلا على ما برمجته عليه أم أن حب السيطرة والهيمنة والتسلط وحتى فكرة الألوهة كانت من أصل البرمجة ؟ لكن قبل أن تجيبني أريدك نظيفا وبملابس نظيفة . وكان الملك لقمان قد سخر قواه لجعل العالم يتقبل ما يطرحه عليه بل ويستعيد ما يمكن أن يكون قد فقده من قواه العقلية . لم يقاوم العالم حين وجد نفسه يحمل إلى حمام بخاري وتنزع ملابسه ليجلس وسط حوض من البلاط يتصاعد منه بخار ساخن .. ***** عاد العالم بعد أن أصبح إنسانا آخر يليق به العلم ليمثل في حضرة الملك لقمان ،وقد ارتدى زيا عصريا أسود وشذب شعر رأسه وذقنه اللذين غزاهما الشيب ليغلب بياضهما على سمارهما ، وقد تفوح منه رائحة عطر أخاذ ضمخه به الخدم الجن . وبدا الرجل لا يخلو من وسامة يخالجها وقار العلماء . - هه ! الآن أنت الإنسان العالم كما أريدك أن تكون ! هتف الملك لقمن . - أشكر حضرتك . لو أن بني قومي اهتموا بي كما اهتممت أنت لما جننت ! - لماذا لم يهتموا بك ؟ - لأنهم رأوا أن علمي قادهم إلى الخراب ، فهم لا يعرفون حقيقة الإنسان الذي صنعته وخاصة حين لم يروا منه إلا ما رأوه . هذا هو الموضوع الذي سنتناقش حوله . لكن الآن أنت جائع ، تفضل لتناول بعض الطعام والشراب . وسيكون بيننا حديث قد يطول . لم تخبرني ما اسمك ؟ - اسمي عالم ! وربما هنا يكمن سر تعلقي بالعلم ! - أنا اسمي لقمان . يقال أنني ملك على الجن بالدرجة الأولى وربما على الإنس بالدرجة الثانية . رغم أن أحدا لم يتوجني على الإنس كما أنني لم أتوج نفسي على أحد . وهذه زوجتي الملكة نور السماء . وهذه السيدة هي أمنية العقل رئيسة كوكب الإلحاد الذي قرر مخلوقك أين يغزوه ! - وأين هو الآن ! - للأسف دمرته ! لأنقذ كوكبكم من شره . - فعلت خيرا ! لو تمكنت من الوصول إليه لدمرته بنفسي . كان يحيط نفسه بالآلاف من الحراس الآليين . - أعرف ذلك . ***** بعد تناول طعام الغداء على مائدة زخرت بالمأكولات المختلفة والمشروبات المنوعة . هتف الملك لقمان : - سنعود الآن إلى السؤال الذي طرحته عليك في البداية ،وقبل أن تدخل الحمام ." أريد أن أعرف على ماذا برمجت إنسانك وهل انقلب فعلا على ما برمجته عليه أم أن حب السيطرة والهيمنة والتسلط وحتى فكرة الألوهة كانت من أصل البرمجة ؟" - سؤال جلالتك صعب للغاية وليس في الإمكان الإجابة عنه إجابة قاطعة ! - لماذا ؟ - لأن البرمجة لا تستند إلى مفردة لغوية فحسب بل إلى قصص وتعاليم تترجم أو تشرح المفردة ، فإذا ما أردنا أن نبرمج المحبة مثلا في إنسان آلي لا يكفي أن نضع في البرمجة مفردة " محبة " أو ما يرمز إليها ، لكي يمارس الإنسان الآلي المحبة ، فهو لن يعرف معنى المفردة إلا إذا وجدت شرحا وافيا لمعناها . وإذا ما أردنا برمجة أشمل ،فلا بد من مئات القصص المتنوعة عن الحب ،وإذا ما أردنا موسوعة عن الحب والمحبة فقد نحتاج إلى ملايين القصص والتعابير ولن تكون البرمجة مكتملة بالمطلق لمعاني الكلمة ، فالمعاني ليست معان فقط بل حالات إنسانية . ولنفترض أن إنسانا ما سأل إنسانا آليا ، قائلا " هل تحبني ؟" فإن الإنسان الآلي لن يجيب ب ( أحبك ) أو ( أنا أحب كل الناس ) أو أية إجابة محتملة أخرى ما لم تكن موجودة ضمن البرمجة . - وهل برمجت المحبة في إنسانك أم أنك أهملتها ؟ - للأسف لم يخطر في بالي أن إنساني سيسعى إلى المحبة أو أن أحدأ سيسأله عنها ، ولهذا أهملتها وربما هنا يكمن خطأي الفادح . فإنساني كان مبرمجا على التنفيذ فقط بالدرجة الأولى وعلى محاولة الحد الأدنى من الإبداع بالدرجة الثانية ، كأن يكون قادرا على المحاكمة العقلية إذا ما واجه موقفا لم يكن مبرمجا عليه . ولم يخطر ببالي أنه سيبدع أكثر مما توقعت في هذا المجال . - هل برمجته على معاني التفوق والتميز والتسلط والألوهة مثلا ؟ - بحدود وخاصة في التفوق . لكني لم أعرف أنه سيكون قابلا للتأثير في الكائنات والتأثر بها بحيث اكتسب منها وخاصة من الإنسان غريزة البقاء بل والبقاء للأقوى فنما في برمجته الخارجة عن إرادتي عشق الألوهة كونه وجد أنها الأقوى والأبقى . وهذا ما لا أستطيع معرفة الآلية التي تم بها . فهي مسألة تتجاوز قوانين العلم لتدخل في قوانين الطبيعة التي تشكلت وتطورت عبر مليارات السنين . وما تشكل عبر مليارات السنين وأصبح في الإمكان اختزاله في نواة متناهية في الصغر ، لا يمكن معرفة آليته خلال بضع مئات أو آلاف من السنين . ما أعرفه توقعا أن الكائنات تتأثر بسلوك وأفعال وجمال الكائنات الأخرى فينتج لديها طموح في أن يكون لها سلوكها وأفعالها وجمالها بل وهيكلها. يختزن هذا الطموح في وعي الكائنات ويتفاعل إلى أن يصار إلى انتاجه في الكائنات اللاحقة عبر صيرورة معقدة وخارقة وإعجازية من تفاعلات المادة والطاقة . - هذا ما نسميه الإنتخاب الطبيعي عندنا . لكن ألا ترى أن هناك طاقة كونية وعقلا كونيا لهما دور أساس في المسألة . - أكيد . الطاقة معروفة ومكتشفه وهي موجودة في كل مكان ،ولا يمكن لشيئ أن يتم دونها ، لكن السؤال هل يتم بعقل أم بدون عقل . وهل العقل كوني أم أنه ذاتي . على الأغلب أنه كوني . - هل تعترف بالألوهة ووجود إله ؟ - لا أستطيع أن أجزم بوجود إله ، كما لا أستطيع أن أجزم بعدم وجود إله ، فهذه مسألة لم يحلها العلم بعد ، ما أجزم به ، هو أن المفاهيم التي قدمها أسلافنا عن الألوهة هي مفاهيم بشرية خاطئة بالمطلق ! قد نستثني المسؤولية عن الخلق إنما بمنطق خطأ. - هل يمكن أن تكون الطاقة السارية في الكون هي الألوهة أو ما يمثلها ؟ - احتمال ممكن . - وهل تعرف وجودها كألوهة أو لا تعرف ؟ - هذا يحتاج إلى الألوهة نفسها للإجابة عنه . أي إلى الله ! - هل في مقدورك تحديد الثغرات التي استغلها إنسانك لينقلب عليك وعلى المجتمعات ويحمل فكرا عدوانيا . - للأسف ليس بالضبط . إنساني مبرج على أكثر من خمسين مليار معلومة فلا أستطيع تحديد المعلومات المستغلة . لكن في الإمكان القول أنها المعلومات المتعلقة بالتفوق والتميز والمحاكمة والإبداع وما إلى ذلك . - أشكرك أيها العالم . سنكمل حوارنا . إنما حول ما تراه لمستقبل دول كوكبكم بعد أن قضيت لكم على الطاغية . وآمل أن لا أكون قد ارتكبت خطأ بتدميرة . على أية حال المعلومات التي يحتويها لم تدمر . الجهاز الخارجي هو الذي دمر فقط . - المعلومات مخزنة في أرشيفنا فلا مشكلة . - في مقدورك الآن أن تأخذ بعض الراحة . ****** (40) * العشاء في بحر معلق في السماء ! لقاء حميم جمع الملك لقمان بزعماء كوكب الإله الآلي الذي اتفق على أن يسمى "كوكب الحضارة الإنسانية " وأن يكون الإنسان ورقيه وسعادته هو الغاية التي يسعى الجميع إليها، عبر نظام ديمقراطي علماني يحترم الإنسان ويضعه في مكانة سامية أقرب إلى القداسة ،فأصبح بذلك أول كوكب في الوجود كله يؤمن بالإنسان بالمعنى القداسي ، أي أنه حل محل الألوهة والإلحاد أيضا ، ليصبح الكوكب خارج الإلحاد وخارج الإيمان بإله . الإيمان بالإنسان وحده صانع الحضارة والمعجزات . خاصة وأن الكوكب أصبح على درجة من العلم تمكنه من التحكم بالطقس ، وإنزال الأمطار وتوقفها ، وصنع كافة الأجهزة والآلات التي يحتاجها المجتمع بما فيها أعضاء الجسم الإنساني . واتفق على إعادة صهر الآلات العسكرية والأسلحة لإنتاج آلات تخدم الزراعة والصناعة ومختلف الأعمال . وإعادة برمجة الآليين العسكريين للقيام بأعمال وخدمات إنسانية . وتوظيف الطاقة في كافة مجالات الحياة البشرية . وإقامة نظام اجتماعي اقتصادي يحقق قدرا رفيعا من المستوى المعيشي لسكان الكوكب كافة . وانتخب الحضور مجلسا مؤقتا من خمسة عشر عضوا برئاسة العالم يتولى إدارة شؤون البلاد إلى ان تجري انتخابات حرة . وما أن انتهى الإجتماع حتى دعا الملك لقمان زعماء وزعيمات الكوكب إلى حفل عشاء حضره قرابة عشرة آلاف مدعو ومدعوة . أقام الملك لقمان الحفل في بحر معلق في السماء غير أنه لم يدع المدعوين يقيمون في الماء بل على موائد أقيمت في روض ضمن تجويف بيضوي الشكل بدا ككهف واسع نزلت وتصاعدت من جدرانه صخور مرجانية وتخللت ممراته شعب مرجانية حية وورود مختلفة الألوان والأحجام وتم الدخول إليه عبر ممر تخلل الشعب المرجانية ، صعد المدعوون إليه بمحفات طائرة. وكانت مياه البحر تبدو من شقوق وكوى كبيرة في الممر وفي جدران الكهف تطل منها حوريات عاريات أو أسماك برؤوس حوريات ، يرمقن الحضور بنظرات ساحرة ويوزعن عليهم ابتسامات أخاذة ، ودون أن يندفع الماء إلى الكهف وكأن حاجزا غير مرئي يوقفه . وقد انتصبت مناقل وكوانين الشواء في كافة ممرات الكهف ووقف إلى جانبها أجمل الحوريات الجنيات مرتديات ما يشبه البكيني إنما من قطعة واحدة فقط تستر الفروج ، فيما ظلت النهود حرة وطليقة تزهو بجمالها الفريد لتمتع أنظار المدعوين وتزيدهم إحساسا بالمتعة والجمال. وكن يشرفن على تقليب العجول الصغيرة والخراف والجداء والإوز على الجمر المتوهج في الكوانين . وفي مقصورات مرجانية في الجدران جلست عازفات فاتنات خلف آلاتهن الموسيقية وشرعن في عزف موسيقى وجودية حالمة حلقت بالمدعوين إلى آفاق غير محدودة . وبدت الموائد عامرة بكافة المقبلات المنوعة والخمور والكؤوس الجميلة . وبدا جميع المدعوين والمدعوات في غاية الدهشة وهم يرقبون جمال المكان الذي وجدو أنفسهم يجلسون فيه على موائد لم يحفلوا بمثلها من قبل . وراحوا يتعجبون لقدرات الملك لقمان وقدرات الجن الخارقة لكل ما هو واقعي وعلمي ، ولم يعودوا يعرفون أنفسهم وعما إذا كانوا يجلسون في عالم واقعي أم عالم متخيل . لم يلجأ الملك لقمان لتناول المشروبات إلى خدمة خارقة ، فجعل الحوريات يقمن بملء كؤوس الضيوف احتراما وتكريما لهم . وقد جلس على مائدته الملكة نور السماء وأمنية العقل رئيسة كوكب الإلحاد والعالم وعشرة زعماء وعشر زعيمات من زعماء الكوكب . نهض الملك رافعا كأسه ليشرب نخب ضيوفه فنهض الجميع وشربوا الأنخاب وتبادلوا قرع الكؤوس وصدحت حورية من مقصورة مرجانية في جدار الكهف بصوت عذب : يا ميجنا ويا ميجنا وياميجنا / حب الأحبة ملح زادنا وعشقنا ! ردد كورس الحوريات الذي كان يقف في مقصورة تعلو مقصورة المغنية الكلمات ولم يلبث الحضور أن رددوا الكلمات بعد أن سخر الملك لقمان قواه لأن يفهم جميع الحضور اللغة العربية ويتذوقوها . إلكم نفرد أحضان السما / والنجوم زفة عرس لفرحنا والكون يهبط من سابع سما / وكواكب عشق لصدرا اتضمنا ! ياميجنا ويا ميجنا ويا ميجنا / حب الأحبة ملح زادنا وعشقنا ! نهض الألاف وشرعوا يرقصون متمايلين بأجسادهم مترنمين بالكلمات التي نقلتهم إلى عالم الحب والأكوان والأحلام غير الواقعية ، كما هي الأحلام في معظم الحالات . وظهرت على مسرح انبثق ضمن مقصورة واسعة في جدار الكهف فرقة راقصات شرقيات بأزياء رقص عربية وشرعن في الرقص بأن رحن يهززن نهودهن وخصورهن ويرقصن أرجلهن ويهززن أردافهن في حركات سريعة مدهشة . تمايلت أجساد المدعوين والمدعوات ودار أثر الخمرة في الرؤوس فترنحت الأجساد ، واحتكت الأفخاذ بالأفخاذ ، وتبودل الضم والعناق ،وصدحت الأصوات بما يعتلج النفوس من أشواق ، وحلقت في فضاء الكهف نجوم فسفورية راحت تتراقص على أنغام الموسيقى . وطال الهيام بالحضور فاصطخب الكهف بالأصوات المغنية والأجساد المتراقصة ،ولم يعد الناس إلى الجلوس إلا بعد أن دعا الملك لقمان الحضور إلى تناول الطعام . أقدم الملك لقمان على عكس ما فعله في تقديم المشروبات فقد أحب أن يري ضيوفه أرقى أشكال الخدمة الجنية التي تتم بالطاقة البصرية ، أي ما أن يشتهي المرء شيئا حتى ينظر إليه ليأتي إليه ويضع في صحنه ما يريد موظفا قدرات خارقة غير معقولة دون استخدام شوكا وسكاكين أو أنها غير مرئية . صدح صوت حورية في كافة أرجاء الروض مرشدة المدعوين إلى طريقة الخدمة البصرية منوهة إلى أنه في الإمكان الإستعانة بالحوريات لمن يواجه أية مشكلة . راحت السفافيد المحملة بالعجول والخراف والجداء والإوز تحلق في فضاء الروض قاصدة الموائد المختلفة وكذلك أطباق المقبلات والسلطات ، دون أن يصطدم سفود بسفود أو طبق بطبق وكأن كل شيء يتحرك وفق منظومة دقيقة يستحيل أن تخطئ! أشار الملك لقمان إلى أربعة سفافيد مختلفة ( عجل وخروف وجدي وإوزة ) طارت من أماكنها لتقف على ارتفاع يقارب المتر عن المائدة . هتف إلى أمنية العقل : - ماذا تفضلين عزيزتي ؟ - أشارت إلى جزء من فخذ العجل . وإذا به ينقطع من مكانه ليحط في طبقها ! ( اوه ) هتفت متعجبة ! فيما كانت قطع اللحوم تنفصل من أماكنها المختلفة حسب الطلب وتحط في الأطباق لتعلو تأوهات المدعوين من هذه القدرات الخارقة في الخدمة . |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [5] |
|
الأُدُباءْ
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
(41) * الأنوناكي والطوبى التي لا يعرف الكهنة ما هي ! ودع الملك لقمان كوكب الإلحاد ممثلا برئيسته " أمنية العقل " التي رجت الملك أن لا يحرم الكوكب من زيارة ثانية تطول أكثر من هذه. وفيما كان يحلق موغلا في الكون غير المتناهي دون أن يصل إلى حدود ما، خطرت في باله فكرة ، فسأل الملكة التي كانت تجلس إلى جانبه : - هل يمكن أن يتمدد الكون بسرعات فائقة تفوق أقصى سرعة لمركبتنا بحيث لن نستطيع بلوغ حد له ؟ هتفت الملكة بعد إطراقة : - هذا ممكن جدا خاصة إذا كان الكون يتوسع بسنين ضوئية . - يبدو أنني لن أتوصل إلى حقيقة أي شيئ وسأظل أراوح في مكاني . كم بودي أن أعثر على كوكب الأنوناكي الذين يقال أنهم كائنات فضائية متطورة هبطت على الأرض وساهمت في خلق الإنسان وأوجدت الحضارة السومرية . ضحكت الملكة وهي تتساءل : - يا إلهي إذا عثرت على الأنوناكي وتبين لك أنهم من خلق الإنسان فسيصبح خلقنا موضع شك وتساؤل ! - أنتم نتاج خيال بشري بدائي كالمعتقدات يا حبيبتي ولم توجدوا يوما !!! قهقهت الملكة هذه المرة وهي تحاول إدراك وجودها المتخيل بضم رأس الملك إلى حضنها ! - خسارة إذا لم نكن موجودين ! - وأنا من أكبر الخاسرين يا حبيبتي . وصدح صوت قائد المركبة معلنا عن دخول مجرة جديدة وأن ثقبا أسود تحيط به هالة سوداء يعترض طريقهم . أشار الملك إليه بالإبتعاد عن الثقوب والهالات السود لأنه ليس مهيئا للدخول في ما يمكن أن يكون جحيما ! ولم تمر سوى دقائق حين خابره ثانية مؤكدا أنهم دخلوا سماء كوكب مأهول وأنهم الآن يحلقون فوق جبال وهضاب تعلوها مئات المعابد كما يبدو من شكلها . بدا الملك مترددا وهو يفكر في شأن المعابد فيما كانت الملكة متحمسة للنزول متوقعة وجود إله مختلف هنا ! - تقصدين مفهوما مختلفا للإله ! - ما أدراك يا حبيبي قد نجد الإله نفسه هنا ؟ أعجبت الملك الفكرة : - هيا أيها القائد أهبط على مقربة من أكبر هذه المعابد . أطلق بعض الصواريخ على المركبة وهي تقترب من الأرض . تصدى لها الملك شمنهور ببعض االنيازك ، فيما أعلن قائد المركبة أنهم رسل سلام. **** توقفت المركبة على ارتفاع بضعة أمتار من الأرض وعلى مقربة من المعبد الذي يغطي مساحة كبيرة من الهضبة . كان بعض القاطنين في المعبد يرقبون المركبة من الشرفات . بدوا كالرهبان بعضهم بزي أبيض يغطي كامل أجسادهم وبعضهم بزي أسود . نزل الملك والملكة من المركبة وسارا على الأرض في انتظار أن يأتي أحد من المعبد يرحب بهم . فتح باب ضخم خرج منه اثنان قدما في اتجاه الملك والملكة . كان الملك والملكة يلبسان زيا عصريا لا علاقة له بالملكية ، ولا يضعان شيئا على رأسيهما،فلا يشير مظهرهما على أنهما ملكان . أدى الرجلان التحية بحركة من يديهما وهما يقتربان من الملك والملكة ويتوقفان . رد الملك على التحية بحركة من يده أيضا . تساءل أحد الرجلين : - من أنتم وماذا تريدون ؟ - نحن رسل سلام ومحبة ونرغب في ضيافتكم ! أجاب الملك ! انصرف الرجلان عائدين ليظهر بعد لحظات رجل يرتدي الزي الكهنوتي يتبعه رجل وامرأة وبضعة أطفال يحملون كل واحد وردة . توقفوا في فسحة صغيرة أمام المعبد . تقدم الملك والملكة .. قدم الرجل نفسه كرئيس للمعبد يحمل أعلى مرتبة كهنوتية ، وقدم الرجل والمرأة كمساعدين له . تقدم طفلان بوردتين للملك والملكة فقبلاهما . استقبل رئيس الدير الملك والملكة في صالون واسع بعض الشيء لم يخل مظهره من بذخ . - هل ترغبان حضرتكم في شيء ؟ قال رئيس المعبد ! - يا ليت لو تعرفنا سيادتك على هذا الكوكب فهبوطنا عندكم كان أول هبوط لنا عليه ؟ - هذا كوكب تقام عليه دول كثيرة متحدة يرأسها مجلس اتحادي . - وماذا عن دياناته ؟ - هناك ديانات كثيرة . - وهل هي متصالحة مع بعضها ؟ - بعضها أجل لكن بعضها لا . - ماذا عن ديانتكم أنتم . - ديانتنا تنسب إلى مؤسسها ما قبل التاريخ وتدعى الزودية نسبة إلى مؤسسها زودي ! - هل هو إله ؟ - لا ليس إلها لكنه مقدس ! ثمة من يؤلهونه بين طوائفنا! - ومن الإله ؟ - لا يوجد إله ! - لا تعبدون إلها معينا ! - لا لا نعبد ! - هل هذا يعني أنكم لا تعترفون بوجود إله ؟ - لا نعرف إن كان هناك إله لكي نعترف به ! - ماذا تعبدون إذن ؟ - نحن لا نعبد شيئا ! نحن نسعى للتخلص من الآلام بالتغلب على الشهوات ،والخلود في الطوبى ! - ماذا تقصد بالطوبى ؟ - يمكن القول السعادة الأزلية لصعوبة تعريفها. - وما هي الشهوات التي ينبغي التخلص منها ؟ - كثيرة بدءا بالطعام والشراب مرورا بحب التملك وانتهاء بالجنس ! - لكن ليس في الإمكان الإستغناء عن الطعام والشراب ! - يمكن تناول الطعام البسيط مرة واحدة في اليوم ! - وهل تفعلون ذلك هنا في معبدكم ؟ - لا . لا نستطيع !بعضنا يكتفون بوجبتين . - وماذا عن شهوة الجنس ؟ - الجنس شهوة ملعونة ينبغي تطهير النفس من شرورها ! - لكن هذه الشهوة ضرورية لبقاء البشرية أم أنكم تريدون لها أن تنقرض . - لذلك أتحنا الزواج لمن يريد . - وهل الرهبنة عندكم للذكور والإناث ؟ - أجل ! وللأطفال فوق سن الثانية عشرة . - هل لديكم مدارس هنا في المعبد ؟ - لدينا مدارس لتعليم الأطفال الإستقامة والنشء السليم! - والرهبنة ؟ - طبعا الإستقامة تعني الرهبنة ، أي الترفع عن ملذات الحياة ومحاولة العيش من أجل الوصول إلى الطوبى ! - هل الطوبى هي المسؤولة عن الخلق ؟ - الخلق موجود ليس له بداية وليس له نهاية . - الطوبى نتاج الخلق إذن وليس العكس . - لا أعرف ! - إذا كنت أنت لا تعرف فمن يعرف إذن ؟ - لا أحد يعرف . لم يعد أحد من آخر موت له ليخبرنا عن الطوبى ؟ - ماذا تقصد بآخر موت . - الأرواح عندنا تتناسخ في خلق متجدد إلى أن تحظى بموت أخير يخرجها من دورة التناسخ ويحيلها إلى الطوبى ! - طيب هل الطوبى حالة ؟ - لا أعرف . - طيب هل هي طاقة أم مادة ؟ - أيضا لا أعرف! - طيب هل لديكم فكرة عن الحال التي يكون عليها المرء بعد دخوله أو اتحاده في الطوبى ! - الدخول المطلق في الطوبى لا يتم إلا بعد الموت الذي لا رجعة منه . لذلك لا يعرف أحد ما هي الحال التي يكون عليها ! صمت الملك لقمان للحظة وهو يستمع إلى تخاطر من الملك شمنهور يخبره أنهم رأوا من شرفات المركبة أطفالا يبدون مذعورين يستنجدون من خلف زجاج النوافذ . فأرسل جنيا مخفيا تقمص شكل رجل عادي وظهر بين الأطفال ليتوسلوا إليه وهم في غاية الرعب ، أن ننقذهم ، لأنهم يتعرضون للإغتصاب بشكل دائم من قبل الرهبان ! " اللعنة " هتف الملك لقمان في نفسه وهو ينظر إلى وجه الكاهن الرئيس الذي يتحدث عن التطهر من لعنة الجنس والتغلب على الشهوات والإنتصار على مبعث الآلام ! - حسنا أيها الرئيس . أشكرك على كل ما أطلعتني عليه . قد نستكمل حوارنا . ******** (42) * قوانين طبيعية وطموحات لقمانية !! بدا الملك لقمان في حيرة من أمر هذا الكوكب الذي بدا أنه يتشابه مع كوكب الأرض حتى بعقائده ودياناته . كان يجلس أرضا في مواجهة الملكة ويعبث بعود في قشرة الأرض التي كانت جافة . تساءل وهو يرنو إلى وجه الملكة الذي بدا متألقا تحت أشعة شمس دافئة: - يحيرني أمر هذا الكوكب يا حبيبتي لا أعرف ماذا في مقدوري أن أفعل مع آلاف المعتقدات ؟ وماذا سأفعل بهؤلاء الكهنة مغتصبي الأطفال . - أشك في أن يصعب هذا الأمر عليك يا حبيبي ! - ما يحيرني في هذه المعتقدات أن كل معتقد يظن أنه المعتقد الصحيح وباقي المعتقدات خطأ وأن أتباعها كفرة . والمشكلة التي لا تقل أهمية في المعتقد نفسه ، الذي يبدو أنه إيمان في ظاهره ، بينما الفسق والفجور ينخران باطنه ! تأملي هذا المعتقد الذي نحن أمامه الآن إيمان في الظاهر واغتصاب أطفال في الباطن ، رغم أن الدين يقوم على كبح الشهوات واحتقار الملذات ! - لكن ماذا يفعل المجلس الإتحادي الذي يشرف على الكوكب ، لماذا لا يضع حدا لهذه الصراعات ؟ - يبدو لي أنه مثل الامم المتحدة ومجلس الأمن على كوكب الأرض عاجزان عن الفعل ! فاجأ الملك والملكة سرب من الجرذان البيض يقدم نحوهما . توقفا للحظات عن الحوار وراحا يتأملان السرب القادم . توقف السرب على مقربة منهما وشرعت بعض الجرذان في الوقوف على قوائمها الخلفية وكأنها تؤدي تحية للملك والملكة. هتفت الملكة : - ماذا تريد هذه الجرذان ولماذا لا يبدو أنها خائفة منا ؟! بدا الملك مطرقا متفكرا ويبدو أنه ذهب بعيدا في طرح التساؤلات وعثر على الإجابات : - يبدو أنها جائعة ! وأشار الملك بحركة من يده وإذا ببركة كبيرة من الحليب تنبثق على بعد خطوات منهما. شرعت الجرذان في الهروع نحو البركة واحتساء الحليب لتشكل بأجسادها دائرة بيضوية حول بركة الحليب . - ولماذا لم تخف وبدا أنها متآلفة معنا كما هي متآلفة مع الناس ؟ - لأنها اعتادت التآلف معها من قبل الناس خلال آلاف الأعوام ! - وهل الأمر نفسه يحدث مع الجرذان في دولة أخرى قد تبعد عن هذه مئات أو آلاف الكيلو مترات ؟ - بالتأكيد لا . فربما يقتلونها هناك . أو يأكلون لحمها . فينتفي التآلف ! - هل ستدخلنا في الإنتخاب الطبيعي يا حبيبي ؟ - ممكن ! - كيف ؟ - يبدو لي أن معظم العقائد في هذه الدولة وربما في بعض الدول الأخرى وليس جميع دول الكوكب ذات منشأ واحد ،وكلها أو معظمها تتفق على احترام الحيوان ، بغض النظر إن كان الحيوان نتاجا روحيا لدورة تناسخية بشرية أدت إلى أن تحل الروح الإنسانية بعد الموت فيه ، أو عدم ذلك . هذا الإحترام الذي نشأ من آلاف الأعوام كون المعتقدات قديمة جدا ، راح يؤثر في الكائنات الحيوانية ويصبح جزءا من طبيعتها ، بل ويدون في المورثات ، لتنشأ الحيوانات اللاحقة على طبيعة عدم الخوف من الإنسان . وبالمقابل نشأ الإنسان الذي يحترم الحيوان . انظري إلى الحمام في بعض دول الأرض يحط على أكتاف الناس في بعض الدول ويهرب منهم في أخرى . لذلك يكون صيدا سهلا لمن يضطرون من الدول التي تأكل الحمام إلى الإقامة في دول لا تأكل لحمه ، فما عليه إلا أن يجلس في حديقة مصطحبا بعض الحبوب ليفردها في كف يده! شعرت الملكة أن الملك أدخلها في دوامة من الأسئلة التي لا تنتهي. هتفت بعد لحظة صمت : - هذا يعني أن المعتقد أو بعض ما يأتي فيه وخاصة الأسس التي يقوم عليها يمكن أن يؤثر بيولوجيا في الإنسان ويصبح جزءا من طبيعته بغض النظر عن سلبيته أو إيجابيته ! - هذا صحيح يا حبيبتي . - كيف تفسر إذن وجود معتقد كالذي نحن أمامه الآن يرى أن الجنس دنس وينبغي تطهير النفس منه ، ومع ذلك يحدث العكس فيتم اغتصاب الأطفال ؟! - سؤالك رهيب يا حبيبتي ! الإجابة باختصار هي : لأن المعتقد من أساسه خطأ ، لأنه يتناقض مع قوانين الطبيعة !! وكل معتقد خطأ لن تكتب له الديمومة ، وإلا لكنا الآن نعبد عشتار بكل تجلياتها ، مع أن عبادتها كانت تعبر عن عصور تجلي الأمومة ، واحترام المرأة ، بل وتقديسها ، عكس العصور البذيئة التي رأت المرأة دنسا وكائدة وناقصة عقل ، وما زالت تمتد فينا !! الجنس والتلاقح بشكل عام أساس غريزة البقاء والتكاثروهو حق للإنسان والحيوان والنبات أوجدته وأقرته قوانين الطبيعة ، ولا يحق لأي دين اعتباره دنسا! وهنا قررت الملكة أن تذهب بعيدا في الخيال . سألت : - وهل تظن يا حبيبي أنه سيأتي يوم يشهد فيه ولو فئة من البشر، مثلا : أن لا إله إلا الله وأن لقمان حبيب الله " ضحك الملك وهتف : - آه منك يا عفريتة أنت !! قد يحدث هذا يا حبيبتي ،وهذا لا يعني أن المعتقد سيكون بالضرورة صحيحا ، وإذا كان صحيحا أو شبه صحيح قد يحتاج إلى مليون عام ليؤثر في التكوين البيولوجي للبشرية ، وإلى مليون عام أخرى ليصبح قانونا طبيعيا ! - يأ إلهي يا حبيبي أنت تنسف كل شيء في المفاهيم البشرية ! - أبدا يا حبيبتي أنا لم أنسف كل شيئ . فكل ما لم ولن يتناقض مع قوانين الطبيعة سيبقى . وحين أقول قوانين الطبيعة، لا أستبعد أي كائن من الطبيعة نفسها ، وعلى البشرية أن تدرك أن فكرا اجتهاديا دينيا أو فلسفيا مر عليه بضعة آلاف أو بضع مئات من الأعوام ، ليس أكثر من نقطة في محيط فهم الوجود وهو ليس الحقيقة المطلقة وإن كان في بعض جوانبه يحمل شيئا منها . - حسنا يا حبيبي . لنعود إلى ما سألتني حوله من البداية . ماذا ستفعل بالكهنة مغتصبي الأطفال هنا ؟ - سألتك لتساعديني يا حبيبتي ! - أقترح أن نتحقق من الأمر أولا كي يكون في يديك ما تواجه به رئيس الكهنة . - كيف ؟ - سندخل بشكل سري إلى غرف الأطفال والراهبات . - أحسنت ! هيا إلى العمل يا حبيبتي . أشار الملك بحركة من يده . وإذا بهما يختفيان هو والملكة ليظهرا في غرفة يقيم فيها بعض الأطفال . ***** (43) * اعترافات رهبانية وفظائع عقائدية ! ثلاثة أطفال ذكور وطفلان إناث يقيمون في غرفة واحدة على خمسة أسرة ، ثلاثة منها متجاورة للذكور وإثنان في مواجهتها للأنثيين. بدا الأطفال جميعا في حدود الثانية عشرة من أعمارهم ، كما بدا أن الأطفال الذكور لا يقلون جمالا عن الأنثيين . ارتابوا قليلا حين ظهر الملك لقمان والملكة نور السماء فجأة في الغرفة . فتجمعوا إلى جوار سرير،وراحوا يحدقون إلى الملك والملكة. - لا تخافوا يا عمو . هتف الملك لقمان . وراح يتقدم من الأطفال مالسا بيده على رؤوسهم . - هل طلبتم نجدتنا يا عمو؟ ترددوا في الإجابة وهم يتفوهون متلعثمين ببعض الكلمات . - لا تخافوا يا عمو نحن جئنا لمساعدتكم إن كنتم تشكون من شيء. تجرأ أحدهم وتحدث دون تلكؤ: - أجل يا عمو إنهم يغتصبوننا ! - من يغتصبكم ؟ - معظم الرهبان في الدير! - وما أدراكم أنتم هل اغتصبكم كثيرون منهم ! - نحن نخص رئيس المعبد، لكنا نعرف من الأطفال الآخرين حين يتاح لنا أن نلتقي بهم. - انتم تخصون رئيس المعبد وحده ؟ - أجل يا عمو! - كيف عرفتم ؟ - لأنه يستدعينا فرادى أو مجتمعين لمواقعتنا ! - كيف مجتمعين ؟ هل يواقع الخمسة معا ؟ - في الغالب نعم وأحيانا يختار اثنين أو ثلاثة ونادرا ما يختار واحدا لوحده . ربما يكون مزاجه مختلفا حين يفعل ذلك . - وماذا يفعل مع خمسة ؟ - يوزع أفعالنا حسب رغباته ونحن نمتثل حسب ما علمتنا المعلمة ! - هل هناك معلمة لكم ؟ - أجل هناك راهبة تعلمنا فنون الحب ! لم يتوقع الملك وجود معلمين للجنس في المعبد " لا شك أن المعلمة تعرف معظم أسرار الرهبان والأطفال " أطرق الملك للحظات متأملا وجوه الأطفال . بدا له أن البراءة أوشكت على مغادرة سحنهم . - وماذا يعلمونكم غير الحب يا عمو؟ - يعلموننا أصول العقيدة ! - وهل الحب من أصول العقيدة ؟ - أجل . لكنها ليست الأصول التي ينبغي أن يعرفها العامة ! لم يصدق الملك ما يسمع : - وهل تقتنعون بذلك يا عمو؟ - نحن يجب أن نستمع ونخنع وننفذ ، وقناعتنا لا تهم أحدا! - إذن كيف أحسستم أن وضعكم غير طبيعي وفكرتم بالإستنجاد بنا ؟ - لشك في أنفسنا أن ما يجري قد يكون أمرا منافيا للعقيدة ! ولم يجد الملك إلا أن يقول : - أجل يا عمو ، إن ما يجري معكم ليس أمرا منافيا للعقيدة فحسب ،بل من أكبر الجرائم الفاحشة ! سنعمل على خلاصكم من هذا الجحيم يا عمو لتعيشوا طفولتكم كما ينبغي أن تعاش. نظر إلى الملكة متسائلا . هتفت : - يفضل أن نذهب لنقابل الراهبة المعلمة ! - ممكن ! وراح يملس على رؤوس الأطفال مودعا . ****** كانت مقابلة الراهبة تتطلب إذنا مسبقا لتهيء نفسها للقاء سري مع الملك الهابط من الفضاء. وهذا ما تم عبر رسول جني . بدت الراهبة في سني الشباب بعد فلا يبدو عليها أنها تجاوزت الثلاثين من عمرها مع أنها تجاوزت ذلك ببضعة أعوام . نهضت مرحبة بالملك والملكة في صالون جناحها الذي زين بتماثيل للحكيم المقدس منشئ الديانة . - نأمل أن لا تسبب زيارتنا المفاجئة إزعاجا لك . هتف الملك . - أهلا بكما . ماذا تشربان ؟ - شكرا،لا نريد إلا أن نستمع منك كمسؤولة في هذا المعبد عن بعض نشاطاته وما يقوم به في سبيل عقيدتكم . - كأي معبد آخر يدرس أصول العقيدة وكيفية آداء الطقوس . وكيف يمكن للإنسان أن يرقى بمراتب السلوك لبلوغ حالة أرقى في حياته الدنيوية . شعر الملك أن الراهبة ستقود الحوار إلى غير ما جاء من أجله ، فقرر مقاربة الموضوع : - لكن ألا يمكن أن يحدث في المعبد ما قد يخدش أصول العقيدة أو يسيء إليها. ترددت الراهبة في الإجابة قبل أن تقول : - يمكن أن تحدث أعمال فردية نعالجها . - تعالجونها حسب أصول العقيدة ؟ - أجل ! أدرك الملك أن الراهبة تتهرب من الإجابة ، فقرر المواجهة : - وإذا تبين لنا أنكم لم تعالجوها ؟ ارتبكت الراهبة وقد أدركت أن الملك جاء ليحقق ويحاسب أيضا : - عفوا جلالتك (إذا كنت ملكا فعلا ) فهل جئت لتحقق معنا وتحاسبنا أم لتعرف أصول عقيدتنا ؟ - بل جئت لأنقذ الأطفال الذين تختارينهم حضرتك لأسيادك الرهبان وتعلمينهم فنون الجنس ليمتعوهم على أكمل وجه ! شهقت الراهبة وهي تفتح فمها على وسعه وتضع يدها على صدرها في محاولة لمنع إغماءة قد تداهمها،وقد أدركت أن الملك عرف بعض الحقائق قبل قدومه إليها . لم تعرف ماذا تقول ،ولم تعد قادرة على النظر إلى وجه الملك . وبدا أنها ستنهار خلال لحظات وقد أدركت أن هذا الملك يتمتع بقدرات خارقة ويستطيع أن يفعل كل ما يريد . انطرحت فجأة على قدمي الملكة وراحت تتوسل إليها باكية : - أتوسل إلى جلالتك أن تنقذيني . أنا عبدة مأمورة مغلوبة على أمري. اغتصبت وأنا لم أتجاوز العاشرة من عمري و مورس علي كل أنواع الإضطهاد والعنف، إلى أن رضخت مرغمة لكل ما يريده هؤلاء وخاصة رئيس المعبد. وانهارت الراهبة في نحيب مؤلم . ربتت الملكة على ظهرها . وأنهضتها لتضمها إلى حضنها وتملس على شعرها وتمسح دموعها .. - لا تخافي . اهدأي لن يطالك أذى ،وسننقذك مع الآخرين . راحت الراهبة تهدأ شيئا فشيئا دون أن تتوقف عن النشغ ! ولم يعد الملك يطرح أسئلة وترك الأمر للملكة . - حدثينا بصراحة وباختصار ولا تخافي من شيئ. هتفت الملكة . شرعت الراهبة في الإعتراف دون أن ترفع رأسها عن حضن الملكة : - مولاتي ! بداية لا بد لي من القول أن ما يجري في هذا المعبد يستحيل أن يجري في أي معبد آخر من معابدنا . ربما تحدث تجاوزات أو أفعال فردية لكن ليس بشكل شبه جماعي كما في هذا المعبد. رئيس هذا المعبد زنديق شوه مفهوم العقيدة حسب مشيئته ، نظرا لتمتعه بشخصية قوية قادرة على إقناع الآخرين وإخضاعهم لإرادتها . فحول المعبد إلى وكر للملذات والشهوات راح يمارسها معظم القاطنين فيه . اختارني رغما عني لهذه الوظيفة الحقيرة لاختيار الأطفال الأجمل له أولا ولأعوانه ثانيا ولعامة الرهبان ثالثا ، وتعليمهم بل وتدريبهم على فنون الجنس . هناك بعض الرهبان المعدودين الذين يمارسون الجنس مع راهبات بالغات برضاهن ، بعد أن مارسنه في طفولتهن رغما عنهن . وهناك بعض الرهبان والراهبات المثليين .. معظم الأطفال يتعرضون للعنف الجنسي وتمارس عليهم سادية فظيعة وخاصة الذين يبدون ممانعة ما . توقفت الراهبة للحظات وهي تنشغ بين فترة وأخرى . هتفت مختتمة اعترافاتها: - هذا ما اعرفه يا مولاتي . وقد قلته لكما . - حسنا يا عزيزتي . عودي إلى مكانك وكوني مطمئنة أن أحدا لن يمسك بسوء بعد اليوم . ***** (44) * منطق الظاهر ومنطق الباطن في فلسفة عقيدة الكاهن الطوبي !! وهما يقفان ظاهرين أمام غرفة الراهبة المعلمة تساءلت الملكة نور السماء موجهة كلامها إلى الملك لقمان : - لا بد أن هذا الراهب يحمل منطقا فلسفيا ولو من وجهة نظره ، أدى إلى إقناع طاقم معبد - قد يتجاوز عدد رهبانه وراهباته المئات - بهذا الفكر الإنقلابي . لقد تحدثت الراهبة عن زنديق يبطن عكس ما يظهر في فهم معتقده ،حين يتطلب الأمر أن يواجه الناس خارج معبده . - لا شك أن لديه منطقه . سنرى ذلك خلال لقائه . سار الملك والملكة بشكل مكشوف في ردهات المعبد. ظهورهم المفاجئ في الردهات بعث الخوف لكل من رآهم ، فراحوا يهرولون إلى غرفهم ليلوذوا بها . وقد طلب الملك لقمان من الملك شمنهور وضع حراسة جنية خفية على غرف الأطفال فلم يعد أحد قادرا على الدخول إلى غرفهم ، فما أن يقدم أحدهم للدخول إلى غرفة حتى يشعر بيدين خفيتين تصدانه عن الباب، وإذا ما حاول المقاومة فإن قوة الدفعة تزداد حسب ردة الفعل ، وقد تؤدي إلى سقوط القادم . بدا الأطفال في غاية الفرح وهم يرقبون بعض ما يجري على مرآهم ليشعروا بأمان لم يستشعروه من قبل . ****** فاجأ الملك والملكة رئيس المعبد وهو يجلس مطرقا في مكتبه متفكرا كما يبدو في هؤلاء القوم الذين حطوا بمركبتهم على مقربة من المعبد ، وبدا أنه يتوقع حدوث ما لا تحمد عقباه . نهض مرتبكا حين رأى الملك والملكة يقفان في مواجهته دون أن يتفوها بكلمة . هتف متلكئا : - ككككك كيف دخلتم ولِم لمْ تستأذنوا للدخول ومقابلتي ؟ تجاهل الملك تساؤله وجلس على أريكة في مواجهته فيما جلست الملكة على أريكة إلى جانبها . وبدا أنه قرر المواجهة من البداية فقد راح يحدج الكاهن باحتقار ويهتف : - أمثالك لا يستحقون الإحترام لكي يُستأذنوا ! ارتعد جسد الكاهن وكأن صدمة كهربائية مسته ، وحاول أن يتمالك أعصابه ويستعيد رباطة جأشه ، بأن هتف متلعثما : - لا لا لا أسمح لك ! هتف الملك بهدوء : - اجلس أمامي وأجب عن أسئلتي حتى لا ترى ما لا يسرك ! كان الكاهن ما يزال واقفا خلف منضدة مكتبه ، تردد في الإستجابة لطلب الملك ، بل وتشجع لأن يهتف وهو يضغط على زر أمامه طالبا نجدة من رهبان الدير : - ومن أنت حتى تحقق معي ! ولم يكد ينهي عبارته حتى وجد نفسه يحمل بعنف ليخبط جسده على أريكة في مواجهة الملك ، فيما كان بعض الرهبان يهرعون متدافعين خلف الباب وايدي خفية تصدهم عن الدخول . هتف الملك : - هل عرفت من أنا أيها الكاهن ؟ - ماذا تريد مني ، وبأي حق تستجوبني ؟ - أريد الحقيقة ؟ وأستجوبك باسم العدالة ! دُفع الرهبان بعيدا من أمام المكتب دون أن يعرفوا من يدفعهم ! - أي حقيقة وأية عدالة ؟ - حقيقة معتقدك واللاعدالة التي جعلتك تحول معبدا إلى مبغى ! ارتجف الكاهن وقد أدرك أن هذا الرجل عرف كل شيئ ! حاول أن يتهرب وينكر قدر الإمكان : - هذا غير صحيح يا سيد ! - وهل يكذب الأطفال الخمسة الذين تغتصبهم ، أم لعل المعلمة المدربة تكذب ؟ صعقت المفاجأة الكاهن " كيف استطاع هذا (الشيطان ) الوصول إلى أطفاله وإلى المعلمة "؟ - ليست الحقيقة كما عرفت يا سيد ؟ - كيف ؟ - إن ما أفعله هو من أصول معتقدنا ! - وهل تدريب الأطفال على فنون الجنس ومن ثم اغتصابهم هو من أصول المعتقد ؟ - نعم ! - وأين ذهب الدنس والترفع عن المتع والرغبات ورغد العيش والسعي إلى الطوبى ؟ - معتقدنا يا سيد يفهم من كل فئة اجتماعية حسب مرتبتها الإجتماعية ووعيها وثقافتها . فالدين له وجهان : ظاهر وباطن ! فالعامة لهم ظاهرالدين وكل ما يمكن فهمه ببساطة وعليهم أن يتقيدوا بتشريعاته وقوانينه ! والفئة الأرقى في المجتمع عليها التقيد بمعظم الفهم الظاهر والقليل من فهم الباطن ! والفئة الأرقى تتقيد بما يمكن القول أنه نصف الظاهر ونصف الباطن . أما الفئة السامية التي بلغت من مراتب الرفعة والسمو والثقافة والتبصر في المعتقد أعلاها وأرفعها ، وهي فئة كبار الرهبان والكهنة ، فهي لا تمارس المعتقد إلا حسب فهمه الباطني ، الذي هو أقرب إلى الطوبى التي تنطفئ أو تذوب أرواحنا فيها وتتحد معها بعد الموت الأخير ولا تعود إطلاقا إلى دورات التناسخ المديدة . فنحن كما عرفت نمارس المعتقد على وجهه الأكمل ! ونحن لم نصل إلى هذه المرتبة الرفيعة من المكانة والسلوك والتمتع بملذات الحياة الدنيوية إلا بعد دورات تناسخية ربما دامت لعصور ! وتوقف الكاهن عن شرح منطقه الفلسفي ! فيما نظر الملك لقمان إلى الملكة مبتسما وهو يهز رأسه وكأنه يقول لها " أرأيت ما هو منطق الكاهن الفلسفي "؟ - لكنك لم تخبرني بهذا الفهم في لقائنا الأول ،ولم تطلعني إلا على الفهم الظاهر أو الدارج الذي يتبعه عامة الناس ! - وهل تريدني أن أطلعك على ما يمكن ألا تفهمه كما يحدث الآن ؟ - طيب لنأخذ مسألة واحدة فقط وهي مسألة الجنس . كيف عرفتم أن حكيمكم مؤسس المعتقد قصد عكس ما أظهره وقاله للناس ! - لأنه ببساطة شديدة لم يتخذ موقفا مضادا من المرأة والجنس إلا لأنه لم يكن قادرا على تحقيق رغباته الدنيوية منهما ، فالنفس تواقة دوما إلى الجمال ،وبما أنه لم يكن قادرا على تحقيق رغباتها كانت ردة الفعل هذه ، وليحيل الأمر إلى الطوبى التي فيها السعادة الأبدية المطلقة ! - هل هذا يعني أنه يمكن أن يوجد جنس في الطوبى ؟ - لا نعرف ! ما نعرفه أن المتعة في الإنطفاء في الطوبى هي المتعة التي لا تضاهيها أية متعة على الإطلاق . يمكن القول أنها متعة المتع . - طيب ولماذا اخترتم الأطفال تحديدا لممارسة متعكم ؟ كان يمكن أن تختاروا نساء بالغات ؟ - وهل البالغات أجمل وأمتع من الصغار الجميلين ؟ - ألا ترون أنكم ترتكبون أكثر الفواحش إجراما ؟ - أبدا هؤلاء الأطفال سيفتخرون ذات يوم بأنهم كانوا محظوظين بعلاقتهم مع النخبة الأرقى في المجتمع ، نخبة كبار الكهنة ! وهؤلاء لن تحل أرواحهم بعد الموت في بشر أو حتى كائنات أقل شأنا ، ستحل حتما في بشر أرقى وأرفع متجاوزين أكثر من دورة تناسخية ! - يعني ممكن إلى المرتبة التي أنتم فيها ! مرتبة ما قبل الطوبى ! - هذا صحيح ! - قل لي ؟ هل المعابد الأخرى من المعتقد نفسه تفعل ما تفعلونه أنتم ؟ - بالـتأكيد لا ،لأنهم لم يبلغوا مرتبتنا لا الإجتماعية ولا الدينية ! - حسنا أيها السيد الكاهن بما أنني لم أقتنع بفلسفتك ولا بمنطقك ، رغم احترامي للمعتقد وللعامة من معتقديه حسب أصوله . فقد قررت أن أبقيك سجينا في مكتبك هذا إلى أن أنظر في أمرك وأمر رهبانك وراهباتك ! أما الأطفال فسأعيدهم إلى ذويهم ليخبروا بما جرى لهم وليعيشوا طفولة سوية بعيدا عنك وعن أمثالك . واختفى الملك والملكة . ليغلق الباب على الكاهن . ****** (45) * نسور لقمانية تنفذ أحكام القضاء! في اليوم التالي أقام الملك لقمان حفل إفطار إلى ما يقرب من خمسمائة طفل من أطفال المعبد، أقامه في الهواء الطلق وسط أشعة شمس سطعت على عشرات الموائد الحافلة بالعسل وحليب الظباء وعصير الفواكه وبيض الحجل وشرائح اللحم المقدد المختلفة وعشرة أنواع من الخبز إضافة إلى الشاي والقهوة والكاكاو وقطع الشوكلاتة والبسكويت. وقد ألبس الملك الأطفال أجمل الملابس وأهدى كل واحد وواحدة منهم فرسا جنية،وجدوها في انتظارهم حين خرجوا من المعبد ،فامتطوها لتطير بهم وتحلق في الفضاء في أسراب منتظمة بديعة ،فعلت قهقهاتهم وصخب مرحهم، فبدوا في سعادة لم يبلغها طفل من قبل . دعاهم الملك للتوقف لتناول الإفطار معلنا لهم أن الخيول ستبقى لهم ومعهم مدى الحياة. هبطت الخيول على الأرض لتحيط بالروض الذي أقامه الملك ولينزل الأطفال عن ظهورها ويجلسوا لتناول الطعام الذي لم يأكلوا مثله من قبل ، وقد أشرف على خدمتهم عشرات الحوريات الجنيات . ****** حين فرغ الأطفال من تناول الطعام أمر الملك لقمان بإخراج جميع الرهبان والكهنة والراهبات من المعبد . خرج قرابة ثلاثمائة راهب وقرابة مائتي راهبة . وقفوا في صفوف منتظمة كل على حده . بدا الملك محتارا وهو يفكر في فرز المغتصبين من الذين لم يغتصبوا أطفالا واكتفوا بإقامة علاقات مقبولة مع راهبات بالغات . سأل الملكة التي كانت تجلس إلى جانبه . قالت : - اسأل الراهبات أولا يا حبيبي من قبلت منهن بعلاقة ومن اغتصبت اغتصابا ! فكر الملك للحظات . - لكنهن اغتصبن جميعا أو معظمهن في طفولتهن ! - ماذا ستعمل إذن ؟ - مسألة محيرة . سأجعل الرهبان والكهنة يتقدمون أمام الأطفال والراهبات واحدا واحدا، وكل من اغتصب من قبل أحدهم عليه أن يرفع يده . هكذا سنعرف المغتصبين من غير المغتصبين ! - فكرة معقولة ! أشار الملك إلى جنود الجن أن يبدأوا بتقديم الرهبان . كان الكاهن رئيس المعبد أول المتقدمين بضع خطوات أمام الصف . سأل الملك الأطفال : - من اغتصبه منكم ومنكن هذا الوحش ليرفع يده ! ولم يكن في مقدور أي كائن على الإطلاق أن يدرك مدى دهشة الملك لقمان حين رأى عشرات الأيدي ترتفع ،فهتف : - يخرب بيتك ! أي وحش أنت ؟ أحصى الملك شمنهور الأطفال ذكورا وإناثا فكانوا تسعة وسبعين ! وجميعهم بين سن التاسعة والثالثة عشرة ! اتجه الملك إلى الراهبات طارحا السؤال نفسه . رفعت تسع عشرة راهبة أيديهن ! كرر الملك لقمان شتيمته معتذرا من الوحوش التي لا يمكنها أن تمارس هذا القدر من الوحشية مهما بلغت وحشيتها ! وأشار إلى أن يقف الكاهن جانبا . تقدم كاهن ثان . لم يرفع أي من الأطفال يده . وحين نظر الملك إلى الراهبات وجد الأمر نفسه . أعجب الملك بهذا الكاهن الذي استطاع الحفاظ على نبله وسط هذا الفسق الفظيع . تساءل وهو ينظرإلى الراهبات : - أليس ولو حب في حياة هذا الكاهن النبيل ؟ رفعت إحدى الراهبات يدها وهي تهتف " إنه صديقي يا سيدي " تقدم الملك لقمان من الكاهن وربت على كتفه وقلده وساما أسماه" وسام الملك لقمان للنبل وحسن الأخلاق " وسط تصفيق الأطفال والراهبات وبعض الرهبان . وطلب إليه أن يجلس إلى مائدة الأطفال ويأخذ ما يرغب فيه ؟ تقدم كاهن ثالث . لم يرفع طفل يده أيضا ، لكن اثنتين من الراهبات رفعن أيديهن . فكر الملك . " هل سيكون عقاب هذا كعقاب مغتصب الأطفال ؟ " وألقى نظرة نحو الملكة مستشيرا . - كله اغتصاب جلالتك ! - حسنا ! وأشار إلى الكاهن أن يقف مع الكاهن الأكبر. خطرت للملك فكرة أسرع مما اتبعه . بأن يجعل كل من لم يغتصب طفلا أو راهبة يخرج من الصفوف ويقف إلى ناحية ،ليعرضهم واحدا واحدا على الأطفال والراهبات . ما أن بلغ الملك شمنهور الرهبان بالأمر حتى راحوا ينسلون واحدا واحدا من بين الصفوف ويقفون جانبا . خرج قرابة ثلاثين من بينهم . أدرك الملك أن بينهم من اغتصب ويطمح أن يغض الأطفال والراهبات الطرف عنه ليتجنب عقاب الملك لقمان الذي سيكون قاسيا دون شك . تقدم أحدهم ووقف . كان هناك " طفلة " مترددة في حدود الحادية عشرة من عمرها. رفعت يدها ثم أنزلتها. ولم ترفع أي راهبة يدها . أشار الملك إلى الطفلة أن تحضرإليه . ضمها الملك إلى حضنه وسألها : - لماذا أنت مترددة يا حبيبتي ؟ همست الطفلة في أذن الملك لقمان قائلة أن الراهب لم يغتصبها ، فاخذها فقط . وأنها تريد أن تصفح عنه . - حبيبتي عمو . شو اسمك حبيبتي : - حوراء! - يا ! هذا اسم ولا قصيدة شعر ؟! هتف الملك وهو يعانق الطفلة . ثم قلدها وسام "الطفولة المحبة " وأشار إلى الراهب أن يقترب ويسجد أمام قدميها . سجد الراهب وظل ساجدا إلى أن أمرته الطفلة أن ينهض. هتف الملك : - لقد سامحتك حوراء أما أنا فلم أسامحك باسم الحق العام ! - عفوك مولاي ! - اذهب كرمي لعيني الطفلة التي سامحتك ! تقدم راهب آخر . رفع ثلاثة أطفال وراهبة أيديهم . هتف الملك : - يخرب بيتك هل كنت تتوقع أن يغض كل هؤلاء الطرف عنك ؟ عد إلى صفوف المجرمين . تقدم واحد . تبين أنه اغتصب راهبة ،وهي تريد أن تسامحه على أن يقبل صداقتها . وافق . عفا عنه الملك . كان هناك سبعة عشر راهبا فقط بين هؤلاء لم يغتصبوا أطفالا وراهبات . وتبين أن الآخرين كذابون. ******* انتهى فرز المجرمين من غير المجرمين . لم يكن هناك مجرمات من بين الراهبات جميعا ، ما عدا الراهبة التي كانت مرغمة على التدريب والتعليم وهي بدورها تعرضت للأغتصاب . بدا الملك لقمان مترددا وهو يفكر في العقوبة التي سينزلها بهؤلاء . سأل الملكة رأيها: - كم بودي أن أراك تطبق الإعدام مرة ! - سأل الراهبات فأشار بعضهن بالإعدام وبعضهن بالسجن المؤبد. سأل الأطفال ،فكان رأيهم متفقا مع رأي الراهبات. سأل الكاهن والرهبان النبلاء . أجاب معظمهم بالإعدام . أطرق الملك للحظات متفكرا .. أحس باضطراب في ضميره بين رغبة تدفعه نحو قرار الإعدام ورغبة اعتاد أن ينفذها بالإبعاد ، اي ما يشبه السجن المؤبد. وفجأة شعر بصوت يهتف في دخيلته : - حذاري يا لقمان ! إياك أن تصدر أحكاما بالإعدام !! تساءل الملك : - من أنت ؟ - أنا محمود شاهين يا لقمان ! أنا من أحياك ثانية لتنفذ شريعتي التي أطمح أن تكون شريعة الله وشريعتك . - لكن جرائم هؤلاء فظيعة ! - هناك جرائم أكثر فظاعة منها ولم تحكم على مرتكبيها بالإعدام ! شعرت الملكة أن الملك ذهب في حوار داخلي مع نفسه . ضمت رأسه إليها وراحت تربت عليه متمنية أن يتخذ قرارا يريح نفسه . لم تمر سوى لحظات حين بدأت النسور العملاقة تقدم في أسراب عبر الفضاء. شكرت الملكة الله وأتاحت للملك أن يعدل جلسته ويخاطب الراهبات والرهبان والأطفال : - حكمت أنا الملك لقمان رسول المحبة والسلام ،واستنادا إلى رحمة الله ،وطاقته السارية في الكون والكائنات أن أحكم على هؤلاء المجرمين بالإبعاد إلى جزيرة نائية لا نساء ولا بشر فيها ، ليعيشوا شظف العيش إلى الأبد. وما أن أنهى اصدار حكمه حتى شرعت النسور في الإنقضاض ثلاثة ثلاثة لتحمل المجرمين بمخالبها وتحلق بهم في فضاء المكان على ارتفاع مئات الأمتار،فيما كان صراخهم يعلو ،وسط دهشة الراهبات والرهبان والأطفال . حلقت النسور بالمجرمين دورتين كاملتين إلى أن أشار إليها الملك لقمان بإكمال مهمتها . أشار الملك لقمان إلى الأطفال أن يمتطوا خيولهم ويعودوا إلى ذويهم أينما كانوا. وإلى الراهبات ومن تبقى من الرهبان أن يختاروا بين العودة إلى ديارهم أو العيش أحرارا ،وينتظروا ما سيحل بدولتهم في المستقبل القريب على أمل أن يكون هناك دين جديد للكوكب كله يمكن أن يتبعوه . شرع الأطفال في عناق الملك لقمان ،وامتطاء خيولهم ملوحين بأيديهم للملك والراهبات والرهبان .. انطلقت الخيول في أسراب عبر الفضاء وسط فرح الأطفال وأيديهم الملوحة . ( 46) * الله على المسرح السماوي! وهما يجلسان في شرفة المركبة الفضائية ويتأملان الجبال والأودية مرا فوق نهر عريض يستحم فيه الملايين من البشر ، فيما كانت مئات المواكب تنحدر من الهضاب والجبال عبر طرق متعرجة نحو النهر. هتفت الملكة متسائلة " ما ذا يفعل هؤلاء الناس ؟" أجاب الملك وهويرقب أفواج الجماهير بدهشة: " يبدو أن ثمة أقارب للهندوس على الكوكب ! إنهم يحجون إلى النهر الذي استحم فيه الإله !" " يحجون ؟!" " ولماذا لا ؟" " وهل يستحم الآلهة ؟" " لماذا لا ؟ " " هل هم مثل البشر ؟" " ممكن.. حسب معتقدهم " " لدي فضول لأن أتعرف على آلهتهم" "سنحاول. لكن لدي الآن فكرة" " ما هي ؟" " سأ رسل لهم إلها لأرى ردة الفعل عندهم" " هل تريد أن تجننهم يا حبيبي" " لا اطمئني " ! خاطر الملك الملك شمنهور قائلا: " أريدك أن تكون إلها لبعض الوقت أيها الملك " أخافت الفكرة الملك شمنهور فتساءل: " إله مرة واحدة يا مولاي ! ماذا سأقول للإله الذي خلقني؟" " لن تكون الذي خلقك أيها الملك " " من سأكون إذن ؟" " أحد آلهة هؤلاء الناس " " وهل لهم أكثر من إله ؟" " هذا ما أعتقده" " ستظهر بحجم هائل .. جالسا على كرسي العرش فوق محفة إلهية كبيرة وعظيمة يحف بها مجموعة من الجن العمالقة ، تحلق بك في سماء النهر وأنت تلوح بيدك محييا معبوديك الكرام " " أية فكرة جنونية هذه يا مولاي؟ " " ألا تريد أن ترى نفسك إلها أيها الملك ؟" " الفكرة تخيفني ! لا أرغب في الإعتداء على حقوق الآلهة " " لن تعتدي على أية حقوق ،أنت تمثل فقط ! أم أنك ظننت أنك ستصير إلها بجد ؟ " " ماذا سألبس يا مولاي ؟" " البس زيا ملكيا فاخرا محلى بالجواهر . وضع على رأسك تاجا عملاقا من الذهب الخالص المرصع بالألماس .. أريدك أن تمثل الدور بشكل جيد " " حسنا يا مولاي" كانت الملكة تضحك للفكرة الطريفة دون أن تسأل الملك عما ينوي فعله لاحقا ،منتظرة بشغف بدء العرض المسرحي وما سينجم عنه وما سيؤول إليه. وبدا أن الملك شمنهور تحمس للفكرة وقرر أن ينفذها كما تخيلها هو وليس كما أوحى له الملك لقمان في محاولة منه لإرضاء الملك. وكان الناس قد توقفوا عن ممارسة طقوسهم وراحوا ينظرون إلى المركبة المحلقة في الفضاء بدهشة وحيرة ، دون أن يعرفوا أن القادم أعظم. ظهر الملك شمنهور في أبهة إلهية كما تخيلها عقله. فقد ظهر بحجم جبل شاهق بطول يقارب ألفي متر جالسا على كرسي العرش الضخم فوق محفة هائلة خضراء مرتديا ملابس بيضاء ، وقد أحاط به ثماني حوريات عملاقات وقفن في مختلف أركان المحفة.ورافق الموكب ستمائة فارس من العمالقة ممتطيي الخيول العملاقة . فكان هناك مئة فارس يحلقون فوق العرش ومئة أسفله ومئة عن يمينه ومئة عن شماله ومئة أمامه ومئة خلفه، وقد انتظموا في مجموعات وأسراب مختلفة رباعية وخماسية وسداسية لتشكل موكبا مهيبا يحف بالعرش الإلهي. هتف الملك لقمان مخاطرا الملك شمنهور " أحسنت أيها الملك " فيما شخص ملايين البشر بعيونهم رافعين رؤوسهم متطاولين بأعنا قهم مدركين أن من ظهر لهم في السماء هو أحد آلهتهم إن لم يكن كبير الآلهة شخصيا . وقد ساد هذا الإقتناع الجميع حين راح الله يلوح بيده محييا معبوديه الذين راحوا يلوحون بأيديهم بدورهم فيما شرع كثيرون بنضح الماء بحفنات أيديهم ورشه في الفضاء نحو موكب الإله ، وبعضهم وقف صامتا بخشوع أو انحنى احتراما للإله أو جلس في الماء على مقربة من الشاطئ مطبقا يديه وضاممهما إلى منتصف وجهه مقدما احترامه وولاءه المطلق للإله متضرعا إليه أن يعيده إلى مرتبة أرقى في دورة الحياة القادمة وأن لا يجعل روحه تحل في جرذ أو كلب أو خنزيرأو بعوضة أو حتى إنسانا من درجة أدنى، وخاصة من هؤلاء الذين قدر لهم أن يمضوا حياتهم مشردين على الأرصفة أو هائمين في الغابات مع زوجاتهم وأولادهم . أدرك الجميع أن هذه فرصتهم للتضرع إلى الإله ليحقق رغباتهم في حياة أفضل، فراح الجميع يتضرعون مطالبين بما لم يتحقق لهم حتى في الحياة الدنيا ،كأن يهبهم الله زوجات جميلات وأبناء صالحين وثروات تنقذهم من حياة الفقر والعوز . فما كان من الإله شمنهور إلا أن أمطر عليهم ذهبا وماسا وأنزل عليهم ملايين الحوريات خارقات الجمال وهو ما زال يحلق في الفضاء بموكبه المهيب متمتعا بتمثيل دور الله ، متضرعا في دخيلته إلى الله أن لا يغضب منه لتمثيل هذا الدور الذي فرضه عليه الملك لقمان . وكان الملك لقمان يرقب المشهد الملحمي بدهشة وذهول متخوفا من العواقب التي ستنتج عن هذا التصرف ، فيما الملك شمنهور يخاطره متسائلا عما إذا كان يتوجب عليه أن يوجه كلمة لملايين البشر، فلم يعرف بماذا يجيب ، فقد شعر أن التمادي في تمثيل الدور قد يسبب صدمة قوية للناس إذا ما عرفوا الحقيقة ،ولم يعرف كيف ينهي العرض الذي أراد منه أن يعلمهم أن آلهتهم التي يتعبدون لها ليست الخالق الحق وأنها مجرد تصور اجتهادي لعقول حكمائهم عبر العصور لم تبلغ حقيقة مطلقة. نظر إلى الملكة مستشيرا فلم تعرف ماذا تقول غير أنها أدركت قائلة " أعتقد أن شرحا موجزا لفلسفتك قد يكون مقنعا لهم يا حبيبي " " وماذا تفيد فلسفتي أمام الحوريات والجواهر التي أنزلها الملك ؟ " " أجزم أنك قادر على الإقناع" " للأسف. أشعر أنني لن أنجح ،ولن يفهم الناس أو حتى يتقبلوا فكرا فلسفيا ليس حقيقة مطلقة " اوغل الملك شمنهور في الخيال بأن جعل حيتانا ودلافين في النهرالذي لم يكن فيه لا دلافين ولا حيتان ،كما أنه راح يضاعف مياهه شيئا فشيئا لتغدو قابلة لوجود الحيتان والدلافين والأسماك الكبيرة والكائنات البحرية الأخرى التي راح يغرق النهر بها . راح الناس يسبحون أو يعدون نحو الشواطئ مبتعدين عن أعماق النهر الذي بدأ يتحول إلى بحر كما يبدو. الكهنة المقيمون في مئات المعابد على قمم الجبال والهضاب والسفوح هالهم ما يجري وقد أيقنوا أنهم أمام كبير الآلهة دون أي جدال ! المشكلة أن الجواهر التي أمطرت بها السماء لم تنزل عليهم دون الناس وكأن الملك شمنهور أدرك أن الملك لقمان الذي كان دائما ضد الكهنة والرهبان والشيوخ سيغضب إذا أمطر عليهم . وهذا الأمر أقلق الكهنة إلى حد كبير فهاهم العوام والغوغاء والسوقة يصبحون أثرياء ومن علية القوم متجاوزين جميع المراتب الطبقية ! وأبدو قلقهم من المشيئة الإلهية التي تخلت عن المجتمع الطبقي كما يبدو وهذا يعني إمكانية أن تحل أرواح هؤلاء الغوغاء في أعلى مرتبة كهنوتية بعد الموت ، ولن يعودوا جرذانا أو حتى غزلان ! يا للمصيبة ! والأسوأ أن كبير الآلهة سيبتلعهم عند انتهاء الدورة الكونية الحالية ليصبحوا جزءا من ذاته الإلهية ! وإذا ما صح هذا الرأي فإن المصائب ستحل بدولة العقائد المتعددة على الكوكب ! زاد الملك شمنهور الطين بلة بأن أوجد حوريات في البحر الذي أنشأه ليحول المنطقة إلى جنة حقيقية وشرع في جعل الكائنات البحرية الجديدة تصعد إلى السماء في مواكب منتظمة وتمر أمام عرشه الذي توقف في السماء فيما انتحى موكب الفرسان المحلقين في الأمام إلى جانبي محفة العرش ، ليبدو العرش مفتوحا أمام ملايين البشر وقد انتصب الإله في أبهى طلعة ربانية والمواكب تمر من أمامه ملوحا لها بيده . فكان أول المواكب المارة موكب آلاف الحوريات الفاتنات اللواتي سلب جمالهن العقول ،ثم موكب ألاف الحيتان فموكف آلاف الدلافين فموكب آلاف أسماك القرش فموكب آلاف الشعب المرجانية ، لتبدو السماء وقد ازدانت بجمال وأبهة ومهابة الألوهة وقدراتها العظيمة . وكانت المفاجأة الأخيرة بأن أظهر الملك شمنهور مئات الآلهة القدامى الذين راحوا يمرون على محفات أمام عرشه. فكان منهم آلهة لكل شيء : آلهة للنور . وآلهة للظلام . وآلهة للريح . وآلهة للمطر. وآلهة للخصب . وآلهة للخير. وآلهة للشر . وآلهة للحب . وآلهة للجمال . وآلهة للأنهار . وآلهة للبحار . وآلهة للمحيطات . وآلهة للموت . وآلهة للخمر. وآلهة للهو . كان الملك لقمان والملكة نور السماء وأسرة المركبة يحدقون مشدوهين بألوهية الملك شمنهور متوقعين أن يبقى إلها إلى الأبد بعد أن تبين أنه تمثل الدور وهام به ، غير أنه فاجأ الملك لقمان حين خاطره هاتفا : " ماذا يتوجب علي أن أفعل أيضا يامولاي " ؟ فكر الملك للحظات وما لبث أن خاطره : " يتوجب عليك أن تعلن الآن للناس أنك لست الإله المنشود وأنك لست إلها على الإطلاق ،وإذا كنت قد استوعبت عقيدتي فعليك أن تبشر بها وتقول للناس ما هو الإله " " ولماذا تلقي بهذا الحمل الثقيل على كاهلي يا مولاي " " ألم تتعهد بأن تخدمني مدى الحياة حين أخرجتك من قمقم سليمان الذي سجنت فيه طوال ثلاثة آلاف عام ؟" " أجل يا مولاي وما زلت على عهدي " " أرى أنك أفضل من يحمل رسالتي إلى الإنسانية ويبشر بها ، فأنا حياتي قصيرة كما تعلم أما أنت فلا تموت " " سأفعل يا مولاي وسأظل مخلصا لك مدى الدهر، في حياتك وبعد رحيلك عن الدنيا " " أشكرك أيها الملك . هيا نفذ " وقف الملك شمنهور بقامته العملاقة أمام كرسي العرش ،ليتوقف كل شيئ في السماء،وشرع في الكلام فيما تجمد ملايين البشر في مواقعهم وقد تحولوا إلى آذان مصغية مدركين أن كبير الآلهة سيلقي كلمة عليهم : " أحبتي أبناء الدولة متعددة العقائد والمذاهب والديانات كما هو العالم كذلك .. اسمحوا لي أن أفاجئكم آسفا بأن أقول لكم وقد آمنتم بألوهيتي ، أنني لست إلها ! ( تعالت همهمات وتأوهات وأصوات مختلفة من الجماهير وما لبثت أن هدأت ليتابع الملك ) وما أنا إلا مخلوق مثلكم لخالق عظيم لم يدركه العقل البشري بعد في بحثه عما وراء الخلق، وإذا كنتم مخلوقين بفعل قدرة هذا الخالق فما أنا إلا مخلوق بفعل خيالكم ، أقصد الخيال البشري، الذي خلق آلاف الآلهة وآلاف العقائد والديانات والمذاهب " ( أطرق جميع الناس وهم يسمعون كلاما لم يسمعوه من قبل ، مدركين أن ما يتوجب عليهم في موقف كالذي وجدوا أنفسهم أمامه ، هو الصمت والإصغاء ) " إن الخالق أيها الأحبة هو القدرة على الفعل السارية في أجسادكم وفي الكون والكائنات كطاقة. فابحثوا عن الله في أنفسكم وفي قلوبكم وفي كل خلية في أجسادكم فأنتم التجلي الأكمل للذات الإلهية ، أنتم الله . أجل أيها الأحبة أنتم الله ،ومن لم يجد الله في نفسه وفي قلبه وفي عمله ، فلن يجده على الإطلاق ، حتى لو تنسك أو تعبد أو صلى كل يوم ألف مرة" ! ( كان الناس يبدون شهقات الدهشة وهم يستمعون متعجبين ) " الله محبة أيها الأحبة ولن يحيل الناس إلى جراذين ! فكونوا محبين يحبكم الله . والله في حاجة إليكم بقدر حاجتكم إليه . وقد خلقكم لتحققوا قيم الخير والحق والعدل والجمال ،وتقيموا الحضارة الإنسانية . فعملية الخلق تكاملية بينكم وبين الله " هذه هي الغاية من وجودكم أيها الأحبة ،ولا غاية غيرها. وقد جاء في كتاب يتبعه بعض أهل كوكب الأرض " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" أجل أيها الأحبة. اعملوا لإزالة الفوارق الطبقية قدر الإمكا ن ،واعملوا لتحقيق العدالة وإنشاء الحضارة الإنسانية ، حضارة المحبة ،قدر الإمكان أيضا ، ليتخلص الكون والكواكب من ويلات النزاعات والحروب . النزاعات بكل أنواعها العقائدية وغير العقائدية ،والحروب بكل أنواعها أيضا " " قد يخطر في بالكم أن تسألوني عن الموت ومصيركم بعده ! أقول لكم : إن الموت ضرورة لاستمرار الحياة ، فلن يكون هناك مكان يتسع للبشرية إذا لم يكن هناك موت . أما عما بعد الموت ،فإني أقول لكم إن الخالق في حاجة إلى مادة اجسادكم ليغني بها تربة الارض كي لا تنضب وكي تعطي أكلا وخلقا حسنا ،وفي حاجة إلى القدرة الطاقوية التي كانت تسري في أجسادكم لتتحد مع طاقته الأبدية التي لا تفنى . وآمل يا أحبتي أنكم ستشعرون بوجودكم الطاقوي في الألوهة حينئذ لتتمتعوا بوجودكم الإلهي ! هذا باختصار ما وددت قوله لكم . وأود أن أعلمكم أن كل ما قلته لكم هو فكر مولاي رسول المحبة والسلام الملك لقمان العظيم الجالس هناك في شرفة المركبة الفضائية ،وهو الذي أدين له بالإفراج عني من سجن دام لثلاثة آلاف عام في قمقم لعين ، كوني جنيا ولست إنسيا "! ( وقف الملك لقمان وراح يلوح بيديه لملايين البشر، الذين ردوا التلويحة بمثلها ) "في الختام ،لايسعني إلا أن أودعكم أيها الأحبة ،وأقول لكم السلام عليكم ،ومحبة الله ورحمته وبركاته " وخلال لحظة اختفى كل شيئ من السماء وكأنه لم يكن ، ما عدا المركبة الفضائية ومن عليها . نهاية الجزء الأول . يتبع : الجزء الثاني |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [6] |
|
الأُدُباءْ
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
(الجزء الثاني) (47) * مهرجان القضيب المقدس ! " مولاي نحن نحلق في سماء مدينة يطوف شوارعها مئات الآلاف من البشر خلف نصب لقضيب ذكري هائل الحجم محمولا على الأكتاف " هكذا خاطر الملك شمنهور الملك لقمان . اعتدل الملك لقمان من استرخائه على أريكة كان يضع خلالها رأسه على حضن الملكة نور السماء .وكان الملك قد قرر مغادرة سماء دولة العقائد المتعددة دون أن ينزل على أي معبد آخر من معابدها تاركا الناس والكهنة يتخبطون في أفكارهم بين أن يكون الإله الذي ظهرلهم في السماء وأحدث كل هذه المعجزات هو كبير آلهتهم أو أحد أعوانه وبين أن يكون مجرد جني وغير إله حسب ما قال لهم . وأن المعتقد الصحيح والممكن ليس إلا المعتقد الذي حدثهم عنه . " هل تمزح أيها الملك " " أبدا يا مولاي ! قضيب ضخم جدا يحتفون به " أخبر الملك الملكة. قالت : " لعله طقس قديم لديهم من زمن طقوس الخصب المقدس " " لعله طقس تموزي أو بعلي أو عشتاري! هل ترغبين أن ننزل إليهم ؟" " تنتابني رغبة شديدة في أن أشاركهم الإحتفال فهو يذكرني بأزمان مضت " " آه منك ! وإذا كانوا يمارسون طقوسا لن نتقبل فعلها "؟ " لا أظن أنهم سيرغموننا على أن نفعل مثلهم " وتهيئا للنزول من المركبة . خاطر الملك الملك شمنهور : " هل سترافقنا أيها الملك ؟ " " لو كان مهرجانا للفرج لرافقتكم يا مولاي ، أما للقضيب ..فلا ! " هرعت أستير وهي تهتف : " أريد مرافقتكم يا مولاي " ثم هرعت نسمة مبدية رغبتها . وخلال لحظات بدا للملك أن اسرة المركبة كلها ترغب المشاركة حتى زوجتي ملك الملوك شمنهور الجبار وابنته وعشيقته ربة الجمال . وحينها اضطر الملك شمنهور إلى تغيير رأيه . أخبر قائد المركبة الملك لقمان أنه تلقى رسالة سئل فيها عن هوية المركبة وطاقمها ، فأعلمهم أنهم رسل محبة وسلام بقيادة الملك لقمان ، فأبدوا ترحيبهم بهم . هبطت أسرة المركبة كلها محلقة عبر الفضاء ما عدا الأطفال وقائد المركبة ومساعدوه . وحين رأى منظمو المهرجان أن ضيوفا هبطوا من السماء لمشاركتهم الإحتفال أفسحوا لهم مكانا خلف حملة القضيب الخشبي الضخم الذي كان منتصبا بطول ستة أمتار وسمك يقارب المتر والنصف على قاعدة خشبية كبيرة أقيمت على منتصف أربعة أضلاع خشبية مستطيلة بالغة الطول كانت عشرات الفتيات يقللنها على أكتافهن من أمام محفة النصب ومن تحته ومن خلفه . استُقبل الضيوف بصمت شديد وهم يأخذون أماكنهم بانتظام خلف مجموعة من الفتيات محتضنات القضبان الصغيرة كن يسرن بانتظام خلف الموكب . وزع المستقبلون قضبان صغيرة على الإناث من الضيوف دون الذكور . شكرالملك لقمان الله في سره أنهم لم يوزعوا على الذكور ربما كونهم يملكون أعضاء طبيعية ! كان المحتفلون يسيرون بصمت ومهابة وكأن المحتفى به هو الله نفسه . مواكب مختلطة لشباب وفتيات ومواكب لفتيات أو لشباب فقط . حمد الملك لقمان الله في سره ثانية لأن المهرجان كان قد أوشك على الإنتهاء من السير للتوقف في ساحة معبد ضخم لتوزع حلوى قضبانية على الحضور لامتصاصها !وليبتاع الناس قضبانا خشبية أو بلاستيكية أو حجرية لاقتنائها. بلغ الموكب ساحة المعبد حيث أنزلت محفة القضيب لترتكز على قاعدة حجرية ضخمة وليقف مئات الآلاف من الناس في الساحة الفسيحة ليحصلوا على الحلوى القضيبية من أمام المعبد ومن أماكن منتشرة حول الساحة حيث جرى إعدادها مسبقا وشرع رهبان وفتيات وشبان في توزيعها على من يرغب . راح الملك لقمان يضحك وهوى يرى إلى الملكة وأستير ونسمة وسارة يمصصن الحلوى القضيبية . كانت الملكة بالكاد تلعق رأس الحلوى بلسانها أما أستير فكانت تولج قضيب الحلوى في فمها إلى آخره . تولجه بهدوء وتسحبه بهدوء في حالة أقرب إلى النشوة . تنبه الملك والملكة لها . شعرت الملكة بعاطفة تجاهها وهي تدرك أنها ما تزال عذراء ومحرومة من الجنس وأنها ترغب في معاشرة الملك ، خاطرت الملك هامسة : " لقد أحزنتني أستير يا حبيبي ، ليتك تواقعها ،ولا مانع لدي إن أردت أن تتخذها عشيقة " فوجئ الملك بمخاطرة الملكة غير المتوقعة ! هل يعقل أنها تخلت عن غيرتها أم أنها قتلتها في دخيلتها ؟ " لا أكاد أصدق ما تقولينه يا حبيبتي " " بل صدق .. وإن أتحت لي فرجة على هذه المواقعة مع من كانت ملكة إنسية ذات يوم ، سأكون ممتنة " " ها ها ! آه يا ملعونة تريدين أن تتمتعي معنا " ؟ " إن أردت يا حبيبي ! عندي رغبة شديدة . لأن أراها تتلوى تحتك كثعبان ، وهي تصارع قضيبا لم ولن ترى مثله قط !" " سأرى " " في أمر المواقعة أم في أمر المشاهدة "؟ " في الأمرين معا " على مقربة منهم كانت فتاتان في سني المراهقة ترتديان تنورتين زرقاوين تكشفان أفخاذهما وقميصين أبيضين انسدلت عليهما ربطتا عنق كحليتين وحملتا تحت إبطيهما قضيبين بلاستيكين وراحتا تتبادلان امتصاص قضيبي الحلوى بمتعة وهما تبتسمان أحيانا وتضحكان أحيانا أخرى ، لكنهما كانتا تصمتان حين تولج إحداهما قضيب الحلوى قدر الإمكان في فم الأخرى. بدا الملك شمنهور مضطربا بعض الشيء وهو يرقب المشهد وخالجه شعور جنسي إنسي ، فخاطر الملك لقمان : " مولاي ! من زمن طويل لم أواقع إنسية " " إياك أن تغوي فتاة من هنا ! نحن ضيوف وسكان هذه البلاد لا يعرفوننا " " إذن لننصرف يا مولاي فهاتان المراهقتان أطارتا صوابي " " يخرب بيتك واقعت آلاف النساء ولديك عشرات النساء والعشيقات وخاصة ربة الجمال التي اختلست خيالي ووظفته لخلقها ولم تشبع بعد ؟" " ثلاثة آلاف عام في قمقم سليمان يا مولاي أورثتني كبتا مزمنا لن أتخلص منه بسهولة " " بالمناسبة أين ربة الجمال ألم تنزل معنا ؟ " " ها هي يا مولاي تمتص الحلوى بخجل " وأشار إليها الملك لقمان لتقترب . فاقتربت منه ليضمها ويقبلها ويسألها : " هل أنت سعيدة أيتها الربة " " بوجود مليكي أنا دائما في غاية السعادة " قبلها الملك ثانية . واتجه نحو أحد الرهبان الواقفين أمام المعبد وهو يخاطر الملكة : " لا بد من مقابلة كاهن المعبد لأعرف شيئا عن هذا المعتقد " " أهلا بكم ياسيدي ! تفضلوا معي لمقابلة الكاهن الأعظم " هتف الراهب بعد أن عرف طلب الملك . " جزيل شكري " هتف الملك لقمان . وسار مع جماعته خلف الراهب إلى داخل المعبد . (48) * آلهة بلا حدود ! قبل الدخول إلى المعبد ألقى الملك لقمان نظرة على مرافقيه فلم يرق له مظهر النساء وهن يلعقن القضبان أو يمصصنها ويضعن أخرى خشبية أو بلاستيكية تحت آباطهن أو يحملنها بأيديهن فأشار إليهن أن يبقين في الخارج . تنبه الراهب للأمر وأشار إلى الملك أن في مقدورهن أن يبقين في بهو المعبد ،ومن تريد مرافقتة في مقدورها أن تترك قضيبها في مكان في البهو وتلتهم الحلوى قبل الدخول لمقابلة الكاهن . واستأذن الراهب ليسبقهم ويعلم الكاهن ويعود إليهم . دخل الجميع إلى البهو الفسيح الذي انتصبت فيه عشرات المنحوتات لرجال ونساء وأعضاء تناسلية ذكورية وأنثوية ، في حين حفر في الجدران والسقف أوضاع لممارسات جنسية مختلفة . بدا المكان للملك ومرافقيه وكأنه متحف أكثر منه معبد وهم يتأملون المنحوتات والنقوش الجدارية بدهشة . أشار الملك لقمان إلى الجميع بالبقاء في البهو أو الخروج إلى الساحة والتجول فيها أو الجلوس في أحد المقاهي المحيطة بساحة المعبد أفضل لهم من مرافقته لمقابلة الكاهن التي ستختصر على الحوار، غير أن الملكة أحبت مرافقة الملك ،فأشار إليها أن تلتهم قضيب الحلوى بسرعة وأن تترك القضيب الذي تحمله مع أستير . أعطت الملكة القضيب إلى أستير وسارعت إلى التهام الحلوى حين رأت الراهب يعود من الداخل . كان الكاهن في حدود الخمسين من عمره. توحي هيئته بالوقار الشديد والتواضع. وقد استقبل الملك والملكة باحترام بالغ، مع أنهما لم يقدما نفسيهما كملكين ، فقد انحنى أكثر من المعتاد وأبدى كل ما يعرفه من كلمات الترحيب . وسارع إلى إخبار زوجته للقدوم حين عرف أن السيدة المرافقة للضيف ( رسول السلام ) هي زوجته . وقد بالغت هي الأخرى في الترحيب بالضيفين . بعد أن قدم الكاهن مشروبا محليا للضيفين سألهما عما في مقدوره أن يخدمهما به . أجاب الملك لقمان : - في الحقيقة لفت انتباهنا ونحن نمر في سماء بلدكم طقسكم الإحتفالي ، فأحببنا أن نشارك فيه ونطلع على معتقدكم . فأنا شخصيا أحاول الإطلاع على معتقدات البشرية في محاولة للتقريب فيما بينها ، لإيجاد عالم جديد تسوده المحبة والتعاون الخلاق بدلا من الحروب والنزاعات . أطرق الكاهن للحظات وهو يشبك يديه على صدره : - نأمل ألا يكون احتفال شبابنا وشاباتنا بالقضيب الذكري قد أعطاكم فكرة سلبية عن معتقدنا الشنوتي . والحقيقة أن هذا الطقس ليس الوحيد في معتقدنا ،فهناك طقوس كثيرة ناجمة عن مفاهيم مختلفة للمعتقد نفسه ، وهذا الطقس تحديدا يمارس على نطاق ضيق في بلدنا ، وهو يلاقي رواجا وترحيبا عند فئة من الشباب الطامحين في أن يحيوا الحياة بعيدا عما يمكنني أن أسميه التزمت ، رغم أن معتقدنا بعيد كل البعد عن التزمت لكن ليس إلى حد الإبتذال في السلوك . فالحياة في معتقدنا ينبغي أن تعاش بلحظاتها لحظة بلحظة لأن روح الخالق تسري فيها ، وأنها سائرة إلى زوال بعد الموت ، ولذلك ينبغي أن تعاش ويتمتع بها . وهنا قاطع الملك لقمان الكاهن متسائلا : - ماذا تقصد بالخالق ؟ هل تقصد به الله ؟ - في الحقيقة هذا تعبير مجازي وظفته لأقرّب مفهوم معتقدنا الغامض جدا إليكم ، فيمكن القول أن لدينا مئات الآلهة التي يقف خلفها خالق كوني واحد مع انه ليس إلها، فهو القدرة الفاعلة في كل شيء. فنحن نقدس الشمس والقمر والنجوم والسماء والكواكب والأشجار والنباتات والزهور والجبال والأنهاروالصخور والينابيع والبشر ذكورا وإناثا والحيوانات ، وفي الإمكان القول أننا نقدس كل شيء حتى الفرج والقضيب كونهما قائمين على الحياة الإنسانية . - ماذا لو قلنا أن نيافتك تتحدث عن طاقة هي بمثابة ألوهة تسري في الكون والكائنات يتم الخلق والفعل بكل تمظهراته الكونية والإنسانية وغيرها بواسطته. فلا هي معزولة عن الكون والكائنات ولا هما معزولان عنها ،ولذلك ينبغي احترام كل شيء لأنها تسري فيه . بدا الكاهن معجبا بهذا التأويل اللقماني : - أحسنت سيادتك ! إن ما قلته هو الشرح الأفضل لمعتقدنا. ولا يمكن للكهنة جميعا وعلى اختلاف معتقداتهم أن يتصوروا مدى دهشة الكاهن حين هتف الملك لقمان قائلا: - هذا هو معتقدي نيافتك ! فتح الكاهن فمه على وسعه مبديا دهشة بالغة ، لاعتقاده أن معتقده لم تعرفه أمة من قبل . تساءل : - لا أصدق أن ثمة أمة في الكون تعتقد بما نعتقده ! عقب الملك : - عفوا نيافتك ! أنا قلت معتقدي ولم أقل أنه معتقد أمة، رغم وجود بعض الأفكار التي تقارب المعتقد في معتقدات الأمم جميعا . ثم إننا نتحدث عما هو قائم بالخلق ، ولم نتطرق إلى المفاهيم والتشريعات العقائدية الأخرى ، فأنتم كما فهمت لا تعتقدون بيوم آخِر وقيامة وبعث ونشور بعد الموت ،وهذا ما أختلف مع نيافتك حوله! - هذا صحيح ، فهذه مسائل أكبر من أن يحلها العقل البشري! - ولماذا لا يجتهد العقل البشري ويحاول، خاصة وأنكم تعرفون أن معتقدكم هو اجتهاد عقل بشري قبل آلاف الأعوام ، وليس فكرا إلهيا . - الحق معك ! نحن كرسنا وقتنا للعلم والعمل والمحبة ، ولم نول مسألة الخلق أهمية في الزمن المعاصر . - ما أعتقده لو أنكم أعطيتم مسألة االخلق القدر الذي أعطيتموه للعلم ، لتصبحوا متفوقين في العالم المعاصر ، لقدمتم للبشرية طريقا أفضل للخلاص من مشاكلها ، خاصة وأنكم تتبعون منهجا حضاريا في فهم المعتقد. ولكنتم بهذا حققتم النجاح في الأمرين العلم والخلق أو الروح إذا جاز التعبير . شعر الكاهن أنه أمام إنسان لا يخلو من عبقرية فريدة ،وأنه يحمل فكرا مستنيرا يكمل فكره ويغنيه ، وأنه يطمح في الإستماع إليه والإفادة منه . قال : - كم يسعدني أن أستمع إليكم يا سيدي ،فيا ليتكم تمنحوني بعض وقتكم لأستنيرمن معرفتكم . - سنلتقي نيافتك ، لكن الآن يتوجب علينا المغادرة لوجود أصدقاء معنا وربما تعبوا وهم ينتظروننا .د خروج الملك والملكة من المعبد فوجئ الملك لقمان بما رآه في أيدي بعض مرافقيه . فقد ابتاعت أستير أربعة قضبان بلاستيكية مختلفة الأحجام . والمفاجأة الأخطر أن نسمة المتزوجة حديثا ابتاعت قضيبين! حتى زوجها ابتاع قضيبا ، وهناك نساء أخريات ورجال ابتاعوا قضبانا ،وإذا كان الملك مقدرا لظروف أستير التي حرمت نفسها من الجنس إلا مع الملك نفسه ، فإنه لم يفهم ظروف الآخرين وخاصة نسمة ، فلم يستطع منع نفسه من اقتحام خصوصيتها .ضمها إليه وهو يسألها " ما هذا يا حبيبتي ؟" ألقت رأسها على كتفه وهي تهمس: " عريسي عضوه صغير يا عمو " أجاب الملك : - لكن ليس من الضرورة أن تكون المتعة بكبر القضيب ! وقربت نسمة فمها من أذن الملك : - الكبير مثير ياعمو ! ثم إن عريسي مخ ..! ألا ترى أنه ابتاع لنفسه واحدا ؟! " وراح الملك يلعن في سريرته حظ نسمة التي كان يعتبرها بمثابة ابنته . ضمها إليه وقبلها وتابعوا سيرهم خلف الآخرين الذين سبقوهم . **** (49) * الالوهة مادة وطاقة !!! في اللقاء الثاني الذي جمع الملك لقمان بالكاهن الشنوتي واقتصر عليهما بحضور الملكة نور السماء وزوجة الكاهن، عرّف الملك لقمان نفسه كملك واقترح على الكاهن أن يتم اللقاء في شرفة على المركبة الفضائية فوافق الآخر ،وقد ابتدأ الكاهن الحوار بالتساؤل : - أشرت جلالتكم إلى أن معتقدكم يختلف عن معتقدنا بأنكم تعتقدون بحياة بعد الموت ، فهل لكم أن توضحوا لنا هذه المسألة ؟ ودون أن يطرق الملك لقمان كثيرا تساءل بدوره : - أشرت نيافتك إلى أن القدرة الفاعلة في الكون والتمظهرات الكونية هي قدرة سارية في كل شيء وهي ليست معزولة عن أي شيئ، ولذلك تكادون أن تقدسوا كل شيء، وهذا ما فسرته أنا بالطاقة وتمظهراتها المادية المختلفة ، وسؤالي هنا هل ترى نيافتك أن الطاقة تموت خاصة وأنكم قطعتم شوطا متقدما في وعيكم للمادة والطاقة ؟ رد الكاهن على الفور : - أبدا الطاقة لا تموت كأهم تجليات المادة وتحولاتها ! وهنا عقب الملك لقمان متسائلا ، مدركا إلى أنه يقود الحوار إلى حيث يريد : - إذا كانت المادة بتحولاتها وتجلياتها أزلية وأبدية ولا تموت فكيف يمكن أن تموت بموت الإنسان أو أي كائن آخر ؟! أطرق الكاهن للحظة ثم هتف متسائلا: - ماذا يمكن أن يكون الموت في هذه الحال ؟ هتف الملك دون تردد : - إنه مرحلة لا غيرمن تحولات المادة والطاقة ؟ أبدى الكاهن اعجابه بهذا الرأي وتساءل : - وما الذي يمكن أن يجري بعد هذه المرحلة ؟ فكر الملك لقمان قليلا قبل أن يجيب : - للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التطرق إلى الأسباب التي تطلبت أو أدت إلى الوصول إلى هذه المرحلة ، والتأكد من ضرورتها لبقاء المادة والطاقة في صيرورتهما الأبدية . تحوّل الكاهن إلى مجموعة آذان كي لا يضيع حرفا مما سيتفوه به الملك : - تخيل نيافتك لو لم يكن هناك موت أو نهاية لحياة الكائنات بما فيها البشر ، أي خلود أبدي ! فما الذي سيحصل حينئذ ؟ تفكر الكاهن للحظات ويبدو أن خياله أوغل عميقا في التصور : - قد يأكل الناس بعضهم بعضا ! - أجل عزيزي لن يبقى هناك مكان يتسع للبشر على كوكبهم ، وقد يأتون على كل شيء حتى أنهم قد يضطرون إلى أكل بعضهم بعضا كما تفضلت! ففي هذه الحال ماذا يمكننا أن نعتبر الموت ؟ أجاب الكاهن : - مرحلة ضرورية لاستمرار الحياة ! - أجل نيافتكم مرحلة ضرورية لاستمرار الحياة وتجددها . فدون مادة أجساد الكائنات ستفقد الأرض غذاءها أيضا أي أنها ستفقد مادتها وطاقتها، ولن تنبت فاكهة وخضارا وأشجارا ونباتات ،وبالتالي ستموت الأرض نفسها ، وعلى البشرية أن تنتظر مليارات الأعوام لإنتاج حياة في دورة كونية جديدة . أو إنتاج كوكب قابل للحياة عليه . أبدى الكاهن إعجابه وموافقته على كل ما تفوه به الملك . تساءل : - وهل ينتهي الأمر هنا ؟ - أبدا نيافتك . هنا يبدأ الدخول في المطلق الأزلي الأبدي . أي الدخول في الألوهة نفسها كمادة وطاقة والتوحد معها ! وهنا عقب الكاهن وقد أدرك أبعاد وعمق فكر الملك لقمان : - أي أننا نعود إلى الأصل الذي جئنا منه ! - أجل نيافتك . نعود إلى المطلق الأزلي الأبدي الوجودي المادي الطاقوي الألوهي الذي نشأنا منه ونعود إليه ، فنحن هو ، وهو نحن ، لاغنى لنا عنه ولا غنى له عنا ، فنحن الواحد في الكل، والكل في الواحد يتحد ! إنها الحياة الأبدية التي لا تنتهي ولا تزول ! راح الكاهن يبدي أعجابه وهو في غاية الدهشة والفرح وكأنه وجد ما كان يبحث عنه طوال عمره ولم يجده أو يعرف كيف يهتدي إليه ، ولم يجد نفسه إلا وقد اغرورقت عيناه بالدموع فرحا باكتشاف الحقيقة التي بدت له مطلقة، وهمّ لتقبيل يد الملك لقمان ، غير أن الملك أبى بأن سحب يده وسارع إلى احتضان الكاهن ومعانقته . راح الكاهن يشكر الملك . وبدا أنه اكتفى بالنتيجة التي أوصله إليها الملك ، فلم يسأل عما إذا كان الإنسان يحس بوجوده المادي الطاقوي في المطلق ( الألوهة ) . فمجرد وجوده في أبدية الألوهة ذاتها هو بالنسبة إليه أجمل ما يمكن أن يتصوره خياله ! - عاجز عن شكر جلالتكم لمنحي هذه المعرفة الخلّاقة . واسمحو لي أن أبشر بها إذا وافق الإمبراطور على ذلك ! - هذا يسرني نيافتكم . حاول الكاهن أن يدعو الملك إلى مائدة غداء غير أن الملك أبى كون الكاهن ضيفه ويتوجب عليه القيام بواجب الضيافة ، فأقام حفل غداء خرافي كالعادة على شرف الكاهن . وافترقا على أن يلتقيا مجددا ! *** (50) * الملك لقمان في ضيافة الإمبراطور الإله ! لم يتوقع الملك لقمان أن يدعوه الإمبراطور الشنوتي إلى جلسة حوار وحفل غداء بعد أن أخبره الكاهن بقصة الملك الضيف القادم من الفضاء والذي يحمل رؤية قد تغني العقيدة الشنوتية . وكان الكاهن قد قدم للإمبراطور كممثل أعلى وأوحد للعقيدة ملخصاً وافياً للحوار الذي دار بينه وبين الملك . جرى حفل استقبال مهيب للملك وحاشيته رفعت فيه الأعلام البيض في عاصمة الدولة بناء على التشاور مع الملك لقمان ، وعزفت فيه الموسيقى لحنا كونيا ً إضافة إلى اللحن الوطني للدولة ، وأدت التحية للملك ثلة من حرس الشرف الإمبراطوري .. وانطلق الموكب بالملك والإمبراطور من المطار عبر شارع طويل يوصل إلى القصر الإمبراطوري وسط حشود من الجماهير المرحبة بالإمبراطور وضيفه الملك وحاشيته رافعة الأعلام البيض وملوحة بها عند مرور الموكب من أمامها وسط تلويح الإمبراطور وضيفه الملك وقرينته الملكة والإمبراطورة . جرى الحوار بعد انتهاء حفل الغداء الذي كانت الأسماك المنوعة والمشروبات المحلية من عناصره الأساسية . ابتدأ الإمبراطور الحوار بأصعب الأسئلة وأعقدها كما توقع الملك لقمان: - هل ترون جلالتكم أن للوجود علة أوغاية وهل وجد بفعل موجد من خارجه أم أنه أوجد نفسه بنفسه ؟! فوجئ الإمبراطور بالسرعة التي أجاب بها الملك لقمان مما يشير إلى أنه فكر في الأمر من قبل : - احتمال وجود موجد من خارج الوجود البدئي احتمال لا يتقبله العقل المستند إلى المنطق والعلم ، أي إلى الفلسفة والعلوم معا ، ففي هذه الحال يكون الموجد موجودا في العدم وأوجد وجودا من العدم . وهذه مسألة لا يتقبلها العقل ، كون العدم يعني أللاشيء. فالإحتمال الممكن هو أن الوجود البدئي بدأ منذ الأزل في هيولى بدئية أوجدت نفسها بنفسها لنفسها، وتطورت ذاتيا عبر تفاعلات وتحولات استغرقت مليارات السنين وعلى الأرجح قرابة أربعة عشر مليارا من السنين كما يرى العلم . بغض النظر عن دقة الرقم في تحديد عمر هذه الهيولى ، فقد يكون أكثر من ذلك . ولو أننا انتقلنا إلى العلة،وأنا افضل استعمال مفردة الغاية سنطرح احتمالين : الإحتمال الأول : أن تكون هذه الهيولى تحمل غاية غفلة في ذاتها لا تدرك ما هي ، وإذا أردت أن أضرب مثلا يقارب المسألة سأضرب مثلا بطفل يلعب بالألوان دون أن يدرك أنه سيكون رساما سيبدع عالما جميلا في مستقبل عمره . الإحتمال الثاني : هو أن الغاية لدى هذه الهيولى قد نجمت فيما بعد ، وبعد تفاعلات فيها ربما دامت لملايين السنين ، وقد تكون الغاية التي وجدت هي الغاية الغفلة التي تحدثت عنها في الفقرة السابقة ، والتي استغرق تطورها مليارات السنين لتصبح غاية تريد شيئا ما وليكن خلقا لكنها تجهل كيف يكون الخلق وعلى أي شكل سيكون . وفي الإحتمالين الأول والثاني سنطرح تساؤلا رغم أنني أرجح الإحتمال الأول : إذا كان عمر الوجود ( الكون ) أربعة عشر مليارسنة أو أكثر ولم تنشأ الحياة إلا منذ قرابة خمسمائة مليون سنة ،ولم يتجاوز عمر الإنسان العاقل منها بضعة آلاف محدودة من السنين ،وأن الإنسان العقلاني ( أي الإنسان الذي يفكر بمنطق فلسفي أقرب إلى العلم ) لم يتجاوز عمره ألفين وستمائة عام على الأكثر -إذا اعتبرنا بدء التفكيرالفلسفي فكرا أقرب إلى العلم - أما الإنسان العقلاني العلماني المتخلص تماما من الفكر المثالي والعقائدي الديني فقد لا يزيد عمره على ثلاثمائة عام ،وهو حسب أمة الأرض بداية عصر أطلق عليه عصر التنوير الأوروبي .فحسب هذه الرؤية ندرك أن الغاية المثلى من الوجود لم تبلغ ذروتها بعد وأن أحدا لا يعرف ما هي بالضبط وما هو الكمال وكيف سيكون ،وهذا يعني أن البشرية ما تزال ناقصة ، وأن الطاقة السارية في الكون ما تزال ناقصة أيضا ، ولم تبلغ ذروة تطورها . وإذا جاز لي أن أطرح تصوري للغاية من الوجود ، وبشكل خاص وجود الإنسان ، فإنني أقول إن الغاية من وجود الإنسان هي أن يكون موجدا بدوره ، وبتعبير مجازي ، أي أن يكون خالقا ليكتمل الوجود به ، وإن شئت الغاية المثلى لوجوده ، فهي ليست إلا إقامة الحضارة الإنسانية وتحقيق قيم الخير والحق والعدل والجمال . وللأسف يبدو لي أن الإنسان ما يزال بعيدا كل البعد عن هذا الفهم . آمل أن أكون قد أجبت على تساؤل جلالتكم . شكر الإمبراطور الملك لهذه الإجابة الفائضة وتساءل مجددا : - هل تعتبرون أن هذه الهيولى البدئية بحد ذاتها تعبر عن ألوهية ما أو تعتبر تجسيدا لها وبالتالي أن كل ما نشأ عنها يمكن اعتباره ألوهة ؟! أدرك الملك لقمان خطورة السؤال خاصة وأن الإمبراطور يعتبر نفسه بمثابة إله حسب معتقده : - ليست مشكلة لدي على الإطلاق في أن تكون الهيولى البدئية ألوهة، ويكون الوجود برمته هو الألوهة وأن الألوهة لا تنزه إلا بمفردة لغوية هي : الله ، أو الكامي ، أو جاد ، أو التاو ، أو براهمان ،أو حتى بوذا ، المشكلة لدي ما هي الألوهة وكيف نفهمها ،وهل هي خارج المادة والطاقة أم أنها من صلبها . في كوكبنا الأرضي ثمة معتقدات تفهم الألوهة على أنها منزهة عن الوجود ،وأنها تحاسب وتعاقب ولديها جنة ونار ، الأولى للمؤمنين والثانية للكفرة والملحدين ،وينبغي التسليم بقضائها وقدرها ،وإطاعة شرائعها والصلاة لها كل يوم أكثر من مرة ! ابتسم الإمبراطور وهو يتساءل : - تقصد نارا يحرق فيها الله البشر غير المؤمنين به ؟ - أجل جلالتك ،والمعذب فيها لا يموت ويظل يحترق إلى الأبد ، وكلما احترق جلده أو دماغه استبدل بجلد ودماغ جديدين لإدامة عملية الحرق ! لم يصدق الإمبراطور ما سمعه ، فتساءل عن مكافأة المؤمنين في الجنة وما فيها من نعم : - كل ما يتمناه المؤمن من نعم لم تتوفر له في الحياة الدنيا بدءا بلحم الطيور والظباء مرورا بأجمل الحوريات وانتهاء بالقصور الفخمة للمؤمنين ، طبعا مع الخلود وعدم العمل ، فالمؤمن يتمتع بالطعام والشراب والنساء ولا شيء غير ذلك عليه أن يفعله ، حتى العبادة ترفع عنه ! وهنا مازح الإمبراطور الملك قائلا : - من سوء حظنا أننا أنا وأنت لسنا مؤمنين ! وثنى الملك على المزحة بقوله : - أمر مؤسف جلالتك ! وهنا شعر الإمبراطور أنه أثقل على الملك بسؤاله الذي تضمن شقين ، ولم يتوقع أن تكون الإجابة مطولة إلى هذا الحد . قال: - أظن أنني أثقلت عليكم وتحتاجون إلى راحة . وقد نحتاج إلى لقاءات كثيرة إذا كانت كل إجابة على سؤال ستستغرق هذا الوقت ! تفضلوا وحاشيتكم إلى قصر الضيافة . فأهلا ومرحبا بكم في بلدكم ! ***** (51) * ألخالق العظيم ! الصراع بين الواقع والخيال في دخيلة الملك لقمان قاداه إلى الإعتقاد بأن الوجود لم ينشأ إلا من خيال مطلق أوجدته الهيولى البدئية عبر تفاعلات مديدة في مادتها نتج عنها طاقة هائلة عقلانية لديها القدرة على التخيل ، فشرعت في التخيل وتحقيق ما تخيلته . هذا التفكير لدى الملك جعله يجزم بإمكانية أن تدرك الطاقة وجودها المادي الطاقوي دون أن يستبعد أن يكون ذلك هو الألوهة عينها . وبناء عليه قرر أن يقيم حفل عشاء للإمبراطورالشنوتي وشعبه، يحيل فيه ما تخيله إلى واقع واقعي مستحثا "الطاقة الكونية بل العقل الكوني بل الألوهة بل الخالق العظيم" على تحقيق ما تخيله . اطمأن في نفسه لتعبيري الألوهة والخالق العظيم ، أكثر مما اطمأن للتعبيرين السابقين ، رغم إدراكه أن التعبيرين ( السابقين ) لا بد أن يكونا معبرين عن جوهر وطبيعة الألوهة إن وجدت ،وإذا كان ثمة مشكلة في تفكيره فهي إمكانية أن ترى الطاقة في وجودها ألوهة ، وأنها ترضى عن هذا التعبير وتقبل أن يطلق عليها " لا لا! لا بد أنها تفضل مفردة " ألله " لا لا ! ألخالق العظيم " !! لم تكن الحفلات التي أقامها الملك أو الملك الجني شمنهورأو الشياطين ، تخلو من هذا الأمر ، فكان الجميع يشعرون أنهم يحيون في واقع واقعي وليس في خيال ، دون أن يسألوا كيف يتحقق هذا الإعجاز ،إدراكا منهم لاستجابة الخالق العظيم لرغبات هؤلاء انطلاقا من قدرته الإعجازية غير المحدودة . ففي لحظة تأمل من على شرفة في المركبة المحلقة في الفضاء جاهد الملك لأن يخرج من حالة الصراع التي تمور في دخيلته وراح يستحث قواه والقوى المؤيدة لرسالته والقوة الكونية السارية في الخلق بل و"الخالق العظيم" نفسه أن تحقق ما تخيله ، قاصدا من جراء ذلك أن يجعل الإمبراطور وشعبه يؤمنون برسالته . انبثق في الفضاء كوكب مصغرمن آلاف الجزرالصغيرة المستديرة المتجاورة المحلقة في الفراغ، أقيم عليها ملايين الموائد (المستديرة أيضا ) على أرضية نباتية ملونة بدت وكأنها منسوجة من أفخرأنواع السجاد ، وقد أحيطت بكراس وثيرة. تخلل الفراغات بين الموائد جداول صغيرة من الخمورالفاخرة انسابت بين آلاف أشجارالزهوروالنباتات وآلاف الطيور والأسماك والغزلان والأرانب والخراف والعجول الصغيرة، إلى جانب آلاف مناقل الشواء التي تفوحت منها رائحة شواء الطيور والحيوانات التي كانت تتقلب على سفافيد مختلفة الأحجام بإشراف حوريات لا يوجد لجمالهن نظير.وتوسط هذا الكوكب حديقة مستديرة مستقلة بجزيرتها عن جزر الموائد انبعث منها آلاف النوافير المائية الملونة التي كانت تندفع في الفضاء بشكل قوسي في كافة الإتجاهات مجتازة فضاء جزرالموائد لتسقط خلف أشجار مثمرة وزهور شكلت دائرة هائلة أحاطت الكوكب ، ولتشكل المياه المتساقطة من النوافير القوسية نهرا ملونا محلقا في الفضاء خلف الأشجار محيطا بالكوكب كله دون أن يكون جاريا على أرضية، فبدا وكأنه سيل ماء يحلق في الفضاء حول الكوكب. وقد زين الفضاء العلوي للكوكب بأسراب من ثريات نجومية وأقمار مشعة بألوان مختلفة راحت تحلق راقصة في فضاء جزر الموائد . حفلت الموائد بكافة أنواع المقبلات والفواكه وكؤؤس كريستالية وصحون وشوك وملاعق وسكاكين من فضة ملونة بماء الذهب ! كانت كل مائدة تدور حول نفسها ببطء في الوقت الذي تدور فيه الجزيرة حول نفسها أيضا لتدور الموائد والجزر كلها حول حديقة مركز الكوكب التي كانت بدورها تدور حول نفسها ، ليشكل الكوكب بذلك تناغما فريدا بين مختلف جزره وموائده، على وقع موسيقى كونية راحت تحاكي الوجود. بدأ ملايين المدعوين بالصعود إلى الكوكب في جماعات منتظمة ممتطين مقاعد وثيرة تموضعت على أرضية نباتية سجادية. وكان آخر الوافدين الملك لقمان والإمبراطورالشنوتي وحاشيتهما .. (52) * في رحاب الخالق العظيم !!* قبل النزول إلى مائدة العشاء الكونية ، حرص الملك لقمان على إقامة حفل استقبال للإمبراطور لم يشهد فضاء الكون مثيلا له، فكان أن أقدم على خطوتين اسطوريتين، تمثلت الأولى في إقامة روض شاسع مسطح على أرضية سجادية نباتية ، أحاطت جوانبه وفضاءه هلامات لونية شفافة متداخلة متذبذبة يومض منها ذرات مشعة بمئات الألوان المختلفة، رؤي من خلالها مئات الحوريات المحلقات في الفضاء، الملوحات بأعلام الإمبراطورية في حركات راقصة. وعلى مسافة منهن في الفضاء بدت كواكب ونجوم وشهب ومذنبات صغيرة تحلق في الفضاء في أسراب أخاذة . ومدت على الروض سجادة حمراء لتمر عليها عربة الإمبراطور وضيفه الملك وقرينتاهما الإمبراطورة والملكة . انتصب على جانبيها مئتا شاب يشرعون سيوفا باستقامة أمام أجسادهم تلاهم مائتا حورية يرتدين الملابس البيض ويحملن آلات موسيقية ويعزفن اللحن الوطني للإمبراطورية ، تلاهن مائة فارس يقفون على يمين السجادة ممتطين خيولا بيض لها رؤوس حوريات ، ومائة فارس على يسارها يمتطون خيولا حمر لبعضها رؤوس خيول ولأخرى رؤوس دلافين وحوريات ، تلاهم مئتا حورية من حوريات البحرالمجنحات فمئتا ظبية برؤوس حوريات ومئتا حمامة بيضاء ومئة زرافة. وتمثلت الخطوة الثانية في أن أقدم الملك لقمان على تغيير الوضع المسطح لكوكب الجزر ليتيح لملايين الجالسين على موائده مشاهدة حفل الإستقبال ، فأماله بحركة من يده ليغدو مسرح الحفل في مواجهته . شعر جميع الجالسين بالحركة دون أن يتغير شيء في وضع جلوسهم ودون أن يسقط كأس عن مائدة ودون أن ينقلب كرسي بالجالس عليه ، لكنهم جزموا أن حركة قد تمت لكوكبهم حين وجدوا أنفسهم في مواجهة مسرح حفل الإستقبال الذي أعد للإمبراطور . ووجد الجميع بصرهم وقد أصبح حادا بحيث في مقدور أي واحد أن يرى كل شيء وكأنه يجري على مسافة أمتار منه . افترقت حاشية الملك والإمبراطورعنهما لتهبط على موائدها في الجزيرة المخصصة لها، فيما هبط جلالتهما على عربة صممت على شكل نسرله ظهر مسطح ، ووقفت الملكة والإمبراطورة خلفهما . انطلقت العربة ببطء ليرفع الأربعة أيديهم في حركة تحية ، وليبدأ حفل الإستقبال وسط أجواء خيالية جعلت الإمبراطور يشعر أنه ليس في ضيافة ملك ، بل في ضيافة الخالق نفسه ! وخاصة حين راحت الهالة الهلامية اللونية الشفافة تزحف وتنتشر لتغمر روض الإستقبال وسماءه ، ومن ثم راحت تنتشر وتتوسع لتشمل كوكب الجزر والمدعوين ، مضفية ألوانها الأخاذة وذراتها المشعة ، ليتدرج الكون كله بالألوان التي راحت تتبادل القبل مع ألوانها ومع الحوريات وترسلها في فقاعات لونية ورذاذا يمطر خدود وأعناق المحتفين . ليبدو الجميع في عالم يبدو وكأنه ما فوق السحرأو ما فوق الطبيعة، بل عالم لا يجيد صنعه إلا الآلهة ! وقد تأكد لهم ذلك حين هبط موكب الإمبراطور والملك على المائدة المخصصة لهما ، فيما كان جميع المدعوين يقفون احتراما لهما ، وليشرع الملك لقمان في الترحيب بالجميع مستهلا كلامه بالترحيب بالإمبراطور والإمبراطورة والحاشية من الوزراء والعلماء والأدباء والمواطنين من سيدات ورجال مختتما كلامه بالقول : أهلا ومرحبا بكم على مائدة الخالق العظيم ! (53) * الدخول في الأسئلة الصعبة ! فيما كانت سفافيد الشواء تحلق في فضاء الموائد ملبية رغبات المحتفين من اللحوم ، والحوريات يملأن أباريق الخمر من الجداول الجارية ويجبن بين الموائد ليترعن كؤوس المحتفلين بالخمر ، كانت مخيلة الإمبراطورتحضر بعضا من الإسئلة الصعبة التي بدا أنه في حاجة ماسة إلى معرفة رأي الملك لقمان فيها رغم أن لديه أجوبته كممثل للخالق أو للخالقين على الأرض ، لكنه وكما بدا واضحا للملك غير متيقن منها وغير متعصب لها على الإطلاق في الوقت نفسه. ورغم أن الملك لقمان لا يدعي اليقين المطلق أيضا ، إلا أن استجابات الطبيعة لرغباته كانت تثير حيرته ، كما أن إدراك الملك أن الوجود لم يكن عبثيا وأن له غاية من الأساس مسألة يتفق عليها الإمبراطورمع الملك . أخذ جرعة من الخمر أعقبها بقطعة صغيرة من فخذ ظبي ، مسح شفتيه بفوطة المائدة بعد أن ابتلعها ، وشبك أصابع يديه على المائدة ناظرا إلى الملك لقمان في مواجهته . أدرك الملك أن ثمة سؤالا إعجازيا يحضّره الإمبراطورفي الطريق إليه ، ولم يكد يخرج من توقعاته حتى هتف الإمبراطور بلغة رسمية مهذبة : - هل في مقدور جلالتكم أن تخبرونا ما إذا كنا الآن نأكل ونشرب ونعيش في واقع متخيل أم في واقع واقعي ؟! أدرك الملك ما كان يتوقعه . مسح فمه بعد أن ابتلع قطعة فخذ الحمام التي كان يلوكها، وشبك أصابع يديه بدوره، ثم هتف بثقة : - نحن الآن في واقع واقعي ناتج عن خيال متخيل ! كانت الإجابة صعبة إلى حد ما على الإمبراطور، فتساءل : - كيف ؟ - هذا الواقع ناتج عما تخيلته أنا ،وما تخيلته أنا ناتج عن عقلي ، وما عقلي وما ينتح عنه من خيال وتحقق إلا بفعل الطاقة السارية في جسدي المتصلة بالطاقة الكونية السارية في الخلق ، وإن شئت الألوهة وإن شئت الخالق العظيم ! وطالما أننا نحس بوجودنا فهو من منظورنا واقع واقعي بغض النظر عما إذا كان من منظور الألوهة واقعا حقيقيا أو افتراضيا متخيلا . وهنا طرح الإمبراطور السؤال الأكثر إعجازا حيث بدا له أن إجابة الملك لم تكن مقنعة تماما ، وتحتمل الشك فيها إلى حد كبير : - وكيف تستجيب الطاقة الكونية لرغبات جلالتكم وما تتخيلونه حتى لو كنا الآن في واقع افتراضي من منظور إلهي ؟! أطرق الملك للحظات : - ما أظنه أن الألوهة تدرك عبر عقلها الكوني ( الكلي ) أن ما يتخيله المرء (وهو هنا أنا ) يتفق مع غاية إنسانية نبيلة تنشدها هي بدورها فتقوم بتحقيقها . ورغم أن الإمبراطور كان مدركا إلى حد ما للغاية من هذا الحفل . إلا أنه أراد أن يضع النقاط على الحروف ليكون الأمر واضحا لديه : - وما هي الغاية النبيلة من هذا الحفل فوق الطبيعي الذي أقمتموه جلالتكم لنا ؟ أدرك الملك أبعاد السؤال الذي بدا له أنه أقرب إلى السذاجة . أجاب: - الغاية هي إكرام مقامكم وتحقيق أسمى آيات المحبة بيننا وبينكم رغم أن معتقدكم يخالف معتقدنا ، وما لا يقل أهمية هي تقريب معتقدكم من معتقدنا بل واتباعه حين ترون أن ما يقوم عليه معتقدنا قادر على تحقيق رغباتنا . أطرق الإمبراطور للحظات لإحساسه أن هذه المعجزة التي يعيش فصولها الآن مسألة أكبر من العقل البشري لأن يجيب عنها ، فراح يتساءل : - لا أعرف جلالتكم ! أشعر أن الأمرإعجازأكبر من كل ما هو منطقي وعلماني ! شعر الملك لقمان بإحباط قد يودي بكل رسالته إلى الهاوية . تساءل : - ألا ترون جلالتكم إعجازا في خلق الكون والوجود كله ؟ - بلى ! - إذن لماذا تنكرون الإعجاز البسيط هنا مقارنة بخلق الوجود؟ أطرق الإمبراطور للحظات بدا عليه القلق خلالها . تساءل بقليل من الإنفعال : - أنا لا أنكر الإعجاز هنا كوننا نعيشه بغض النظر عن حقيقته الإفتراضية المتجسدة واقعيا أو افتراضيا ، لكنني أتساءل انطلاقا من أن الألوهة طاقة سارية في الخلق حسب معتقدكم ، فأين تكون الألوهة حين يقدم القاتل على القتل بغض النظر عن معتقده ، وحين يقدم سفاح على تدمير المدن ( وتابع الإمبراطور بحزن وانفعال ) وأين كانت الألوهة حين أسقطت قنابل نووية على شعبنا ذات يوم لتبيد منه مئات الآلاف ؟ أدرك الملك أبعاد السؤال الصعب . أجاب بعد لحظات من الصمت : - أقدر شعور جلالتكم وما تفكرون فيه ، وأبدي أسفي وتعاطفي مع شعبكم . لن أخوض في تحليل الماضي وحتى تحليل الحاضر، لأقول : إن كل فعل نقدم عليه هو بفعل الطاقة السارية في أجسادنا ، لكن ليس بتحكمها فيه ، فنحن إن ارتكبنا خيرا أو شرا نرتكبه بفعل هذه الطاقة دون أن يخالجني شك بأن الطاقة مع فعل الخير وليست مع فعل الشر . وستسألني لماذا ؟ وسأقول أيضا دون أن يخالجني شك أن الطاقة غير قادرة على منع فعل الشر الذي لا ينسجم مع مبادئ الألوهة . وقد تسألني لماذا ؟ وسأقول : إن الطاقة الخالقة التي دام تطورها قرابة أربعة عشر مليارا من الأعوام حتى وصلت إلى ما وصلت إليه ، لم تصل بعد إلى كل ما تريده من قدرة شبه مطلقة على تحقيق قيم الخيروالجمال بالمطلق ، وإن تحقيق هذه القيم لن يتم دون أن يقدم العقل الإنساني على العمل لتحقيقها ، فما يتصوره العقل الإنساني ويتخيله يتفاعل مع العقل الكوني عبر الطاقة الكلية السارية في الخلق ، ليتحقق الأمر المنشود ويتم تكامل عملية الخلق بين المخلوق العظيم والخالق الأعظم !! صمت الإمبراطور للحظات متفكرا ليبدو على ملامحه أنه استمع إلى إجابة منطقية مرضية . فرفع كأسه ليشرب نخب الملك والملكة والإمبراطورة وهو يهتف : - في صحتكم . أشكر جلالتكم لهذه الإجابة المنطقية . سنتابع الحوار. دعا الملك لقمان إلى استئناف تناول الطعام والشراب ، وأشار بحركة من يده وإذا بموسيقى صوفية كونية تعم أرجاء الكون داعية إلى التوحد بالوجود ! (54) * الرقص في الزمن المتوقف في المكان الكوني ! شعر الإمبراطور بذكائه أن ثمة توقفا للزمن أراده الملك لقمان . وإذا كان الزمن لا يقاس إلا بحركة الكائنات فيه ، فإنها هنا ما تزال تتحرك في محاولة منها لكسر القاعدة، فالموائد تدور حول نفسها في الوقت الذي تدور فيه حول مركزكوكب الجزر ، فكيف يمكن أن يتم هذا الأعجاز ليبدو الزمان الخارجي غير مرتبط بحركة المكان ؟! ما جعله يشعر بذلك هو مرور الكثير من الوقت دون أن ينتهي الليل ودون أن ينبثق فجر أو تبزغ شمس ، حتى أن الإحساس بالشبع من تناول الطعام لم يحدث ،والأمر نفسه ينطبق على الإحساس بالسكر، فهو شبه معدوم رغم تناول الخمر اللذيذ الذي لم يشرب أحد مثله قط ، إلا أن النشوة المطمئنة للنفس قد حققت تأثيرها كما يبدو من انتشاء المحتفلين، الذين كانوا يرقصون بالملايين على وقع موسيقى كونية لم يسمع مثلها قط . إنس مع حوريات وجن مع إنسيات يتمايلون ويتحاضنون ويتبادلون القبل الحارة في لحظات تجلت فيها وحدة الخلق العظيم بوحدة الخالق الأعظم ، ليشعر الجميع بذلك وليتمنوا جميعا أن يتوقف الزمن على هذا الجمال الخلاق بل وأن تتوقف حياتهم عليه ولو بالموت . كان الإمبراطور متمتعا برقصة الأمبرطورة مع الملك الجني شمنهور الجبار الذي كان يراقص الإمبراطورة برقص إنساني أقرب منه إلى الرقص الجني المثير، بعد أن خاطبه الملك لقمان تخا طرا بمراعاة التكوين الإنساني للإمبراطورة وأن لا يشرع في شقلبتها بما هو غير ممكن لإنسان أن يقوم به ، ويبدو أن شمنهور راعى طلب الملك بحدود حين جعل الإمبراطورة تتشقلب على يديه بحركة بطيئة لثلاث شقلبات متتالية جعلت الإمبراطورة في غاية الفرح ، فلم تشعر إلا وهي تعانق الملك شمنهور بحرارة بعد الشقلبة التي أثارت دهشة الجميع ، خارجة بذلك عن الحدود الرسمية الإمبراطورية التي لا تحبذ ذلك ! وبدا أن الإمبراطور بدوره فرح للشقلبة التي كانت بهلوانية ساحرة وإن لم يكن راضيا عن القبلة المثيرة التي كانت حقا قبلة فريدة من نوعها وخاصة حين تفاعل الملك شمنهور مع القبلة ولم يكتف بالتهام شفتي الإمبراطورة بل راح يوسع من دائرة شفتيه ليبدو وكأنه يود احتواء أنفها وخديها. خاطره الملك لقمان أن لا يتمادى مع الإمبراطورة ويحافظ على آداب الرقص! بدت الإمبراطورة الشابة في غاية السعادة بعد القبلة فألقت رأسها على صدر الملك شمنهور الذي أضفى عليها بدوره عاطفة بالغة الحنان مما دفعها إلى الإحساس بأن تبقى في حضنه إلى الأبد وأن يتوقف الزمن على تلك اللحظة . أما عن رقصة الملكة نور السماء مع شاب وسيم من الإمبراطورية فقد حفلت بكل ما هو ممكن من الإعجازات الجنية . فكانت الشقلبة حركة عادية أمام الحركات المتبادلة والمتناظرة التي كانت تقوم بها مع الشاب . ففي الشقلبة شقلبت نفسها معه لينحسر فستانها الملون وليبدو جسدها فائق الجمال لا يستره من أسفل النهدين إلا سروال صغير أسود التصق بين فخذيها وردفيها ،وتكررت الشقلبة في خمس دورات كانت سرعتها تزيد ثم تتباطأ ليقفا على رأسيهما للحظات ثم يتشقلبان ليقفا في الهواء على مسافة من مسرح الرقص ولتضم الشاب إليها وتبادله قبلة ثم تقذفه في الهواء وتتبعه محلقة ليتمددا في استقامة في الفضاء شابكين أصابع أيديهما وليقوما بالدوران في الفضاء ببطء ثم بسرعة فائقة وفائقة جدا ففائقة جدا جدا بحيث بديا كمتحركين دائريين يدوران في الفضاء في أشكال مختلفة سطحية وعرضية وشاقولية ، وتمنى الملك لقمان أن لا تزيد الملكة سرعة الدوران لتبلغ سرعة الضوء ، حيث سيتحولان حينها إلى طاقة ولا يعرف بعد ذلك إلا الخالق الشكل الذي سيتمخضان عنه إذا ما عادا إلى إبطاء سرعتهما .. عادت سرعة دورانهما إلى التباطؤ شيئا فشيئا إلى أن عادا إلى طبيعتهما . هبطا محلقين إلى الأرض ووقفا ليؤديا التحية إلى الملك والإمبراطور والجمهور وليتعانقا في قبلة دامت لبضع دقائق أغمي على الشاب بعدها من شدة المتعة التي شعر بها ،ولم يعرف المشاهدون ما إذا كان ذلك ملحقا للرقصة أم أنه جرى بفعل القبلة ، حتى بعد أن رشت الملكة عطرا على وجه الشاب الذي مددته على أرضية مسرح الرقص وقبلت شفتيه بعمق ليصحو ولينهضا معا ويؤديا التحية للجمهور ! فوجئ المحتفون بموسيقى شرقية تنبعث وبأستير تقتحم صالة الرقص كعاصفة هوجاء بجسد يهتز كل شيء فيه برقص فائق الإبداع ،وبملابس رقص شرقية ذهبية تبدي كافة مفاتن جسدها ، فلم يستر نهديها فائقي الجمال إلا دائرة ذهبية صغيرة مشعة ألصقت على الحلمتين، فيما انتشرت دائرة من ذرات ذهبية وفضية مشعة حول سرتها، و أحاطت خصرها بنطاق ذهبي دقيق تدلى منه قطعتان مستطيلتان طويلتان من قماش ذهبي ملون تخللهما ثنيات صغيرة مستطيلة بدورها. وإذا كان الرقص في الواقع الواقعي لا يتيح لراقصة أن تهز نهديها كل نهد على حدة ، فإن أستير فعلتها ، فبعد أن كان نهداها يهتزان معا باهتزازات سريعة في الإتجاهين أوقفتهما معا بإيقاع من ضربة موسيقية وحين سمعت الضربة الثانية راحت تهز نهدها الأيسر وحده يمينا وشمالا وسط دهشة الجميع الذي شرعوا في التصفيق ،وما لبثت أن ألقت نظرة على النهد الأيمن وكأنها تقول له " تحرك " غيرأن النهد بدا وكأنه يرفض دون أن يتوقف النهد الأيسر عن الرقص فنظرت نحو الأيسر فتوقف لتنظر إلى الأيمن لينطلق في الإهتزاز بجنون وليزداد التصفيق اشتعالا .. وما لبثت أن نظرت إلى الأيسر فانطلق مهتزا ليتناغم مع النهد الأيمن وليتناغم النهدان مع اهتزاز الردفين والخصر وأرجفة الساقين باهتزازات سريعة ،ولتدور أستير على نفسها كعاصفة وشريحتا القماش ترتفعان لترسما دائرة متصلة حول جسدها دون أن تتوقف اية حركة أخرى في جسدها عن فعلها ، فبدا فخذاها وساقاها الفاتنان وهما يدوران بها بسرعة فائقة ليدورا بجسدها ليبدو كعاصفة تدور حول نفسها أو كبركان فجر كل ما في دخيلته وراح يدور بمقذوفاته حول نفسه ! حين أنهت أستير رقصتها العاصفة . انحنت لتبادل الجمهور الإحترام وتوزع قبلاتها على الجميع . هب الجميع وقوفا وهم يصفقون . ما أن جلسوا حتى همست الملكة نور السماء للملك " متى يا حبيبي تلبي رغبة أستير في ممارسة الحب معك "؟ أجاب الملك هامسا أيضا : - لم تعد في حاجة إلي بعد أن ابتاعات أربعة قضبان من أمام المعبد ! - أشك في أن القضبان ستغنيها عنك ! وربما أهملتها أو كسرتها ! - وأنا ؟ - ما بك أنت ؟ - أصبحت تهملني بتفكيرك الدائم في الخلق والخالق ! - معذرة يا حبيبتي أنا رجل عجوز كما تعرفين ولم أعد شابا ولا أرغب في منح جسدي طاقة جديدة إن كنت قادرا على ذلك . - ولو من أجلي ! - قد يحدث ذلك يوما ! وفي مقدورك أن تتدبري أمرك دون أخذ رأيي ! - الشاب الذي رقصت معه هام بي ! - عليك به وأتمنى لك لحظات جميلة وممتعه معه ! ولم تجد إلا أن تضم رأس الملك وتقبله على خده ليقبلها بدوره . وأطرقت للحظات وهي تفكر في أن الملك لقمان ليس هو الملك لقمان الذي عرفته في رحلته السماوية الأولى . لا تكاد تصدق نفسها وهي تفكر في ممارسة الحب مع إنسي آخر غير الملك لقمان . بدا لها الأمر غير أخلاقي رغم أن الملك لا يمانع في الأمر . قطع الإمبراطور صمتهما ليسأل : - هل تخبرني جلالتكم أين نعيش الآن ، فهل نحن خارج الزمان والمكان أم أننا نعيش خارج الزمان وحده ؟هذا شطر واحد من السؤال . أما الشطر الثاني وهو الأهم : هل كانت الهيولى البدئية تحمل عقلا في مادتها نتج عنه خيال نتج عنه الإنفجار الكوني إذا صحت نظرية الإنفجار الكوني . وهل كانت المادة الأولى تحمل دماغا بما أن العقل لا ينجم إلا عن دماغ والخيال لا ينجم إلى عن عقل ؟! أدرك الملك لقمان صعوبة الأسئلة .. قال : - سأجيب جلالتكم لكن بعد تناول المزيد من الطعام والشراب فنحن في حاجة إلى طاقة متجددة !! ورفع الملك كأسه ليشرب نخب الجميع فيما كانت الموائد تدورببطء شديد حول نفسها وحول الجزر الدائرة بدورها حول نفسها ،وليدور الكل حول مركز الكوكب وليدور الكل بدوره حول مركز الكون المتحرك إلى ما لا نهاية في تناغم مبدع لا يمكن أن يكون إلا من صنع خالق عظيم . (55) * في العقل ونشأة الكون! في عالم ليس كالعالم لا قتل فيه،لا إنهمار صواريخ أو جز رؤوس بالسكاكين، لا دمار ولا خراب ولا أشلاء بشرية متناثرة، ولا أمعاء ذاوية من شدة الجوع، ولا تشرد لحفاة من أطفال ورجال ونساء، يهيمون على رؤوسهم في البراري والآفاق، أو تتقاذف أجسادهم أمواج البحارالمصطخبة بحثا عن خلاص ما، حتى لو كان في حضن شيطان أو في أعماق بحر! هنا في كوكب الملك لقمان وضيافة الخالق العظيم تحلق المحبة محمولة على أجنحة حمام أبيض ملقية عطرها الفواح على رؤوس المحتفين ، لتصدح الموسيقى بأنغام وحدة الوجود ، وتتمايل الأجساد وتترنح وتهتز وتنتشي وتهيم بجمال الخلق والخالق ، وتترع الأباريق من جداول الخمرلتملأ الكؤوس ،وتتهادى الحوريات بين الموائد وكأنهن رذاذ مطر ينعش القلوب ويملأ النفوس بقدسية الحياة ! وتحلق سفافيد الشواء فوق الموائد بلا أجنحة ، متبعة طرق تحليقها المرسومة دون أن يصطدم سفود بسفود أو برأس إنسان . هنا يتحاب الإنس والجن في أسمى قلائد الحب مؤكدين أن الخالق محبة وخلق وجمال ، وأن وجوده لا يكتمل إلا بمحبتهم وخلقهم وجمالهم ، لتكتمل عملية الخلق وتسود المحبة بين الخالق العظيم والمخلوق الإنسان . توقف الإمبراطور عن النظر إلى أجساد المحتفين المتعانقة في الرقص ، والتفت نحو الملك لقمان الذي كان يضم رأس الملكة نور السماء إلى حضنه ويملس على شعرها . - لم تجيبوني جلالتكم ! أبعد الملك رأس الملكة برفق عن حضنه . أطرق للحظات مسترجعا الأسئلة في ذاكرته . ثم شرع في الحديث : - لن أطيل على جلالتكم في الإجابة وسأ ختصر إلى حد كبير، لأن الدخول في العقل الإنساني والدماغ والنفس والروح والضمير والزمان وحتى المكان والله نفسه ووجوده ، مصطلحات أوجدها العقل البشري بعد اختراع اللغة قبل بضعة آلاف معدودة من السنين ، ولم تكن معروفة للبشر قبل ذلك . وهي مسائل أو مصطلحات أعجزت العقل البشري حتى الآن عن إيجاد أجوبة قاطعة لها، وخاصة فيما يتعلق بالله والعقل. في الإمكان القول أننا نعيش الآن في توقف خارجي للزمن الكوني الكلي للمجموهة الشمسية التي نتبع لها، أما في واقعنا الحالي فالزمن يسير ببطء شديد بناء على رغبتي ، لذلك لا نشعر ببطئه ، وبالتأكيد نعيش في المكان وليس خارجه ، وأننا نتمتع بكل لحظة زمنية في مكاننا الحالي، وبالتالي لسنا خارج الزمان والمكان ! أما عن أسئلتك المعقدة الأخرى عما إذا كانت الهيولى البدئية تحوي دماغا نتج عنه عقل ونتج عن العقل خيال نتج عنه الإنفجار الكوني الذي بدأت عملية الخلق به ، سأجيبك حسب معرفتي وليس بالضرورة أن تكون معرفتي حقيقة مطلقة . لن أتطرق إلى حجم وشكل الهيولى البدئية، وما إذا كانت مادة أم طاقة، رغم أن الطاقة ليست إلا شكلا متحولا للمادة نفسها، هذا ما يقوله العلم ، لكني أجزم أن العقل البشري حتى اليوم ، لم يصل إلى الحقيقة المطلقة لجوهر المادة والطاقة . توصل إلى حقائق نسبية تظل محدودة جدا في علاقتها بالحقيقة المطلقة للوجود. لقد احتار العقل البشري بكل فلسفاته وعلومه وآلاف أبحاثه في تحديد ماهية العقل . فالعقل والتفكير جوهران غيرماديين لم يجد علماء الفيزياء مركزا لهما في الدماغ ،واصطدموا بحاجز مغلق . لكن التفكير ظل منصبا ومركزا على الدماغ على أمل العثور في المستقبل على إجابات قاطعة بتطور العلوم والتقنيات التكنولوجية. بعض الأديان حلت المسألة على طريقتها بأن جعلت العقل يصدر عن القلب وليس عن الدماغ ! وهذا ما لم يأخذ به العلم . بعض العلماء افترضوا " بعد دراسات عديدة على مستوى فيزياء الجسيمات الدقيقة وطاقات العقل ، وجود طاقة خامسة غير معروفة فيزيائيا في العقل ، فقال أحدهم " إن الفيزياء المعاصرة اعترفت بأربعة أنماط من القوى( في الكون ) ، هي القوى الشديدة( النووية ) والقوى الكهرومغناطيسية ،والقوى الضعيفة ( النووية ) وقوى الجذب الكتلي ( الجاذبية ) وكلها تخضع لقوانين خاصة بها ، لكن ليس هناك استحالة مقررة سلفا، تمنعنا من افتراض نظام آخر أو نمط آخر من التفاعل ، بل إننا بانتظار المزيد من البحوث المكثفة " وهذا الطرح يتفق تماما مع طرحنا . وثمة بادرة أمل أخرى قاد إليها البحث في الظواهر الخارقة للطبيعة ( الباراسيكولوجية ) تكمن في" الطاقة الحيوية " حتى أن العلماء المتحدثين عنها " طالبوا ببناء جهاز طاقوي لفسيولوجية الأعضاء الإنسانية . " هذه الطاقة تحتوي على كل " الأنواع المعروفة عن الطاقة ولكنها في نفس الوقت لا تتميز ولا تتصرف كما يتصرف أي نوع منها " إنها الطاقة الحيوية المحيطة بكل كائن حي " في مستويات متباينة من التطور" هذا الإكتشاف هو الأكثر قربا من اجتهادنا الفلسفي بأن الخالق العظيم ليس إلا طاقة الطاقات السارية في الخلق من أعلاه إلى أدناه وأنها تتمظهر وتتجلى في الوجود بكل مكوناته . وأن الكائنات الحية لا تستطيع أن تقدم على فعل أي شيء دون هذه الطاقة . وإذا ما أردنا الدخول في عملية الشروع في الفعل لدى العقل فإننا نرى أن أمرا طاقويا فوق ألكتروني هائل السرعة يصدرعن الدماغ إلى المجال الطاقوي الحيوي المحيط بالإنسان المتصل بطاقة الكون الكلية والعقل الكوني ليقوم العقل بالتفكيرأو الفعل . لقد ثبت علميا أن الميت لا يحسب ميتا بتوقف قلبه عن النبض ، بل بتوقف دماغه عن العمل . وإذا ما تم التأكد من موت الدماغ فالميت يحسب ميتا حتى لو كان قلبه يعمل. هذا يشير إلى أهمية ودور الدماغ في الإنسان ، كون الأوامرالصادرة عنه، وخاصة ما يتعلق منها بالعقل، على اتصال مباشر بطاقة الخلق الكونية . بناء على ما تقدم جلالتكم يمكنني القول أن ثمة إمكانية لوجود دماغ في الهيولى البدئية وثمة إمكانية لعدم وجود دماغ أيضا إذا كانت الهيولى هي عقل وعقل فقط، ليس في حاجة إلى دماغ ينجم عنه . الإنسان وبعض الكائنات هي من يحتاج إلى الدماغ لتنتج عقلا وفكرا وليس الخالق العظيم مصدر العقل وكل شيء في الوجود . وليس باضرورة أن يصدر العقل الكوني عن دماغ كالدماغ البشري. في هذه الحال ليس غريبا على عقل خالق حتى لو كان في بدء تشكله، أن يشغل خياله في تصور ما بدئي للوجود، ربما بعد ملايين السنين من الكمون والتخيل ، بل وإعادة التخيل، إلى أن وصل إلى اكتمال ما في الخيال، ليتم الشروع في الخلق، وليبدا الإنفجار العظيم وتبدأ نشأة الكون . آمل أن أكون قد وفقت في اجتهادي وأجبت على تساؤلات جلالتكم . أخذ الإمبراطور نفسا عميقا . ومسح وجهه براحتي يديه . وهتف : - أشكر جلالتكم .. كنت أتوقع أن أستمع منكم إلى ما لم أسمعه من قبل . جزيل شكري لكم . وكان لا بد من استراحة راقصة حين طلبت الملكة نور السماء يد الإمبراطور للرقص . وهكذا فعلت الإمبراطورة بطلب يد الملك . لم يكتف الجمهور بالتفرج على الرقصة بل هب ليشارك الإمبراطور والملك رقصهما مع الملكة والإمبراطورة لتكون أشهر رقصة عرفها الكون على الإطلاق ! (56) * في الحقيقة والغاية ! في هدأة الليل العابق برائحة المسك والشواء وسحر الألوان المتماوجة ورنيم الأنغام الحالمة، ورفيف ذبالات الشموع على الموائد ، وتهادي نسيم الحوريات ، وتحليق أسراب الكائنات ، يدخل المعقول في اللامعقول ، والواقع في المستحيل ، والغريزي في الخارق ، فلا يمل الراقصون من تبادل القبل ، ولا يشعر امرؤ بالشبع ، ولا بالحاجة لقضاء الحاجة ، ولا يتنبه أحد لطول الليل ومضي الزمن ، ولا يشعر بالنعاس أو التعب والحاجة إلى النوم ! يطرق الإمبراطور متفكرا متأملا ومئات الإسئلة تتصارع في مخيلته وهو يعيش في الواقع المستحيل ، فيما يبدو له الملك لقمان هادئا في نفسه وقورا في هيئته لا يعكر صفو مخيلته شيء! يتساءل : - هل تسمحون لي جلالتكم بتوجيه سؤال خاص لكم ! - تفضل جلالتك ! - من أنتم ؟ لم يبد على الملك أنه تفاجأ بالسؤال . - أنا الباحث عن الحقيقة، وإن شئت كي لا أطيل الحديث ، عن الخالق أو الله! - لقد حفل التاريخ بآلاف الباحثين عن الحقيقة ولم يتوصلوا إليها، وإن كان بعضهم يرى في ما توصل إليه حقيقة مطلقة لا تقبل الشك ، لذلك استكانت الأمم إلى معارفها ومعتقداتها وتوقفت أو كاد بعضها أن يتوقف عن التفكير في الأمر، فهل تعتقدون جلالتكم أنكم ستتوصلون إليها ؟ - أنا أحاول فإن توصلت فهذا جيد وإن لم أتوصل فقد أكون قد أنرت شمعة في غياهب الظلام ! - وهل تتوقعون أن الخالق يعرف الحقيقة المطلقة ؟ - يفترض أنه يعرف القدر الأكبر من الحقيقة إذا لا يعرف الحقيقة المطلقة . - وهل هناك حقيقة مطلقة ؟ - ممكن ! وممكن لا ! - ما هي الحقيقة المطلقة من وجهة نظركم ؟ - هي حقيقة الحقائق التي ليس بعدها حقيقة . ويمكن القول أنها اكتمال الغاية . - وإذا لم يكن هناك غاية ؟ - يكون الوجود عبثا ولا ضرورة له ! وهذه مسألة شبه مستحيلة ! - لماذا ؟ - لأن من جهد أربعة عشر مليارا من الأعوام لم يجهد لإيجاد وجود عبثي ! وإذا كان الأمر كذلك فهو كائن مجنون أو عقل مجنون ! - وما هي الغاية ؟ - تحقيق قيم الخيروالمحبة والعدل والجمال . - وكيف عرفتم ذلك. - كل ما في الكون يشير إلى ذلك ، بدءا من جمال الكون بحد ذاته ، مرورا بجمال الطبيعة وانتهاء بجمال الإنسان كشكل! . ويمكن القول أن قيم الجمال، ولوفي الشكل، قد تحققت إلى حد ما ، ولم يبق إلا القيم الأخرى التي لم تتحقق إلا بنسب ضئيلة متفاوتة . - لماذا حسب رأيكم ؟ - لأن الإنسان لم يدرك حتى الآن الغاية من وجوده . فهو يتخبط في طرق التدين والعبادات والشرائع وتصور الآلهة وإعمال القتل والبغض بدل المحبة وعدم تحقيق العدل . - وهل تحقيق هذه القيم هوالغاية من خلق الإنسان ؟ - هذا ما أراه ! - ولماذا لم يحققها الخالق نفسه ؟ - وجود الخالق غير منفصل عن وجودنا ولم يخلقنا من ذاته إلى لنشارك في عملية الخلق ، فالخالق لا يبني مدنا ولا يقيم حضارات ، ولا يحقق قيما ، وقد خلقنا لذلك ! فعملية الخلق حسب هذا الفهم عملية تكاملية بين الخالق والمخلوق ،ولا يمكن أن يصل الخلق إلى كمال ما ، ما لم تتضافر عملية الخلق بين الخالق والإنسان ، أي أن يعرف الإنسان أن الغاية من وجوده هي أن يكون خالقا لأن الخالق يكمن فيه، وبمعنى أدق ، الطاقة السارية في جسده والمحيطة به وبالكون . والمادة المتشكل منها ! صمت الإمبراطور للحظات وهو يفكر في كلام الملك ،وما لبث أن تكلم : - حسب فهم جلالتكم نحن الآن في بلدنا نساهم في تطوير العلوم كافة ،وقد قطعنا شوطا جيدا في تطويرها وخاصة العلوم التكنولوجية والإلكترونية ، وأننا نجهد لأن نعيش بمحبة وسلام مع أنفسنا ومع الآخرين وأن نحقق قدرا مقبولا من العدالة الإجتماعية ، وهذا يعني أننا نقوم بدورنا في عملية الخلق وصنع الحضارة الإنسانية ،وأن المشكلة تكمن في أننا لا نعي أن هذه هي الغاية من وجودنا ! - بالضبط جلالتكم . أنتم تقومون بصنع الحضارة أي بدور مهم في الغاية من الخلق بشكل عام وخلق الإنسان بشكل خاص . عملية الخلق الآن في بداية طورها الأخير وقد لا تستغرق ملايين السنين إذا ما عرف الإنسان أن الغاية من وجوده هي أن يكون خالقا مساهما في عملية الخلق . |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [7] |
|
الأُدُباءْ
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
(57) * في الخلق والخالق والبعث والنشور ! أبرق ليل السماء دون غيم ، ودون أن يتبعه رعد . سرب أوتار ملونة تبرق متعرجة متذبذبة في خطوط متجانبة لتشدو بأنغام تحاكي ليل الوجود ، وتتسرب إلى نفوس تبحث عن طمأنينة في غيهب الدخيلة الإنسانية . وحلقت في الفضاء نساء ملائكيات يراقصن شبابا ملائكيين على لحن كوني يحاكي سرمدية الأبدية. تأوّه المحتفلون من أعماقهم عجبا بروعة الجمال المتجلي في سماء الخالق ، واستشعروا طمأنينة ومتعة تتسلل إلى نفوسهم وتهيم بهم في عالم فوق الخيال. قطع الإمبراطور تأملاته واستمتاعه بهذا العالم الساحر ليشرب نخب الخالق العظيم رافعاً كأسه . رفع الملك لقمان والملكة نور السماء والإمبراطورة كؤوسهم وشربوا النخب . مسح الإمبراطور شفتيه بمنديل المائدة وهتف وهو ينظرإلى الملك لقمان : - يبدو لي جلالتكم أننا متقاربون معكم في معتقدنا حول تفسير الوجود ، فنحن نستند في فهمنا إلى المبدأ الكلي الناظم للكون والمتخلل له وأن الوجود يستمد طاقته منه ، لذلك نقدس الظواهر كونها تستمد طاقتها من هذا المبدأ الكلي . غير أننا نختلف عنكم في التفسير، وليس لدينا تصور لما بعد الموت كالبعث والنشور أو التناسخ أو حلول الأرواح في كائنات جديدة وما إلى ذلك كما في بعض المعتقدات . - في الحقيقة جلالتكم ، أن المعتقدات كانت تسعى لبعث الأمل في النفس البشرية بعد الموت ، بإيجاد حياة أخروية في ملكوت السماء مع الله ، أو في جنته ، كما في المذاهب السماوية ، أو في التناسخ وحلول الأرواح أو الفناء في المبدأ الكلي حسب معتقدات أخرى. وهو اجتهاد يبعث الأمل في النفس ويحاول أن يعطي معنى للحياة حتى لا تتحول إلى حالة عبثية لا معنى لها . أنا وحسب اعتقادي اجتهدت في الإتجاه نفسه ، أي ببعث الأمل في النفس وإن اختلفت صورة البعث بعد الموت . فالموت عندي ضرورة لاستمرار الحياة وتجددها . حتى لا ينضب مخزون الأرض وبالتالي الكون من المادة والطاقة . فالجسد يتحلل ليعود إلى عناصره الأولية . ذرات من الكلس والفسفور والحديد والزنك والنحاس والمغنيزيوم والبوتاس والكربون والسيليكون والفضة والذهب والكبريت والألمنيوم والصوديوم واليود وغير ذلك .. وكل ذرة من هذه الذرات تحتوي على طاقة كهربائية سالبة مقابل شحنة موجبة للبروتونات التي تقع في نواة كل ذرة . التفاعل بين هذه المكونات والطاقة السارية في الكون يحيلها إلى طاقة متجددة تتحد مع الطاقة الكونية لتكون جزءا منها ، وبالتالي جزءا من الذات الكونية ، وبمعنى أدق جزءا من الذات الخالقة القائمة بالخلق( الخالق العظيم ) تمنح جذور النباتات في الأرض ما تحتاج إليه من مادة وطاقة لتمنحنا ثمارا شهية ، وتمنح الكون مادة وطاقة تساهم في عملية الخلق ، خلق الإنسان الجميل ، في الطريق نحو خلق الإنسان الكامل ، الإنسان المدرك لوجوده والغاية منه . بدا الإمبرطور مندهشا للحظات لهذا المنطق الذي يربط بين العلم والروح . تساءل : - أنتم تفضلون مفردة الخالق العظيم على المفردات الأخرى ، فلماذا ؟ - أرى أن مفردة الخالق العظيم قد تشمل أي تصور للخالق مهما كان حتى لو كان الطبيعة ! - وماذا لو كان الله أو الألوهة أو الكامي أو غيرذلك؟ - الخالق العظيم مفردة تحتويها كلها رغم أنها مفردات لغوية أوجدها البشر بعد اختراع اللغة من زمن قريب جدا ، ولم تكن قبل ذلك . - ومفردة الخالق العظيم أيضا مفردة لغوية حديثة . - صحيح لكنها تعطي شمولية أكثر . فحين نوظف مفردة ( الله ) العربية الإسلامية مثلا ، يتبادر إلى الذهن الله في مفهومه الإسلامي ، الذي لا يعتبر الفكرالديني الإسلامي اجتهادا بشريا بل حقيقة مطلقة كونه كلاما منزلا من الله على نبيه . والأمر نفسه ينطبق على (الرب ) المسيحي ،وحتى على ( يهوه ) اليهودي . - هل يعتبر جلالتكم نفسه مسلما ؟ - أجل أنا مسلم تنويري حسب فهمي . - وهل تنويركم هو تطوير للدين نفسه ؟ - أجل . بل وتطوير للعقائد البشرية كلها وربما معظم الفلسفات أيضا إن لم يكن كلها ، فثقافتي ليست اسلامية فحسب وكذالك معرفتي ، فأنا أستند إلى ثقافة البشرية ومعرفتها بالقدر الذي أتيح لي أن أعرفه وأستوعبه . - وهل ثمة ما يشير في الدين الإسلامي إلى حاجته لتطوير ؟ - ثمة الكثير مما يشير إلى ذلك في أحاديث النبي محمد والقرأن . وأهمها أن الأمة في حاجة كل مائة عام إلى من يجدد لها دينها . المؤسف أن معظم المسلمين أعادوا الدين إلى الوراء دهورا ولم يهتموا بالتطوير ، إنطلاقا من أن كل ما جاء به الدين حقائق مطلقة لا تخضع لزمن ! - هل جلالتكم تعتبرون نفسكم نبياً ؟ ابتسم الملك لقمان وقد أدرك أن الإمبراطور تجاهل بعض حديثه عن الغاية من خلق الإنسان : - لقد تحدثت لجلالتكم عن أن الغاية من خلق الإنسان هي أن يكون خالقا بدوره ومساهما في عملية الخلق مع الخالق ، المشكلة أن الإنسان لا يعي ذلك ، وحسب هذا الفهم فأنا إنسان ، قد أكون فيلسوفا أو حكيما أساهم في تطوير المعرفة الإنسانية لفهم الخلق والخالق والغاية من الوجود والخلق . ولا أحبذ أن أكون نبيا . - ما هو موقف جلالتكم من فكر الانبياء والفلاسفة والحكماء؟ - أحترم الفكر الإنساني كله . واحترم كل من كان نبيا أو فيلسوفا أو حكيما . فلولا فكرهم والفكر المعاصر لما كان فكري . ولولا ما ارتكبوه من أخطاء حسب ثقافة زمنهم لما عرفنا الصواب ، أو لما عرفنا أن نجتهد لمعرفة الصواب. وآمل أنني أصبت في اجتهادي ولو بحدود. - حسب ما فهمت من فلسفتكم أنكم لا تنزهون الذات الخالقة عن الوجود فهل هي كذلك ؟ - بل ننزهها بمفردة لغوية هي (الله) أو الخالق أو ما يشير إلى ذلك في أي لغة، وإن كان هذا التنزيه هو داخل الوجود نفسه وليس خارجه، لكنه يعبر عنه بشكل مجرد. - أثقلت على جلالتكم بأسئلتي . سأسأل سؤالا أخيرا وآمل أن لا يجرنا إلى أسئلة أخرى . - هل ترون أن الألوهة تدرك وجودها، وإن كانت عقلا هل هو منزه عن المادة والطاقة ؟ - إذا كانت الألوهة أو الخالق عقلا فهو طاقة ناتجة عن طاقة ، ولا يعقل أن لا يعي العقل وجوده . حسب رؤيتي ما الوجود كله إلا تجليات المادة والطاقة . كما سبق وأن قلت . - وهل يحق لأي إنسان أن يعتبر نفسه إلها أو عقلا أو خالقا !؟ - بالتأكيد لا لأن تمظهرالألوهة في الوجود كله وليس في كائن بعينه . فأي كائن ليس أكثر من جزء صغير جدا من التمظهر والتجلي الكوني في الوجود . - ليسمح لي جلالتكم بأن أتساءل ،رغم أننا ما زلنا في بدايات الحوار، إلا أنني بدأت أشعر أنكم تمتلكون أجوبة شبه مقنعة لكل تساؤل ، فلماذا تبحثون عن الله ؟ هل تشكون في وجوده ؟ أدرك الملك لقمان البعد الديكارتي في السؤال الإمبراطوري . ابتسم ثم أجاب : - أجل جلالتكم . أنا اجتهد ، وأدرك أن اجتهادي ليس حقيقة مطلقة ، بل وقد لا يكون حتى حقيقة نسبية ، فقد يكون الله هو يهوة ويرقبنا الآن من أعالي سماواته !وأبحث عن الله ليحل لي هذا اللغز الإشكالي . - وإذا ما وجدت أنه يهوة ؟ ورفع الملك لقمان يديه في حركة استسلام قائلا : - لن أجد إلا الإستسلام لجبروته ! ضحك الإمبراطور والإمبراطورة والملكة . هتف الإمبراطور : - وسنؤجل الإجابة عن سؤال : وإذا لم تجد الله ، إلى الحوار القادم ! جزيل شكري لجلالتكم . - العفو. **** (58) * تجليات إعجازية للخالق والخلق ! ازدحمت في الأفق أفلاك ودنت كواكب من كواكب وتألقت في السماء نجوم وهام في الكون أقمار دنت من أقمار،وطاردت شهب شهباً ومذنبات مذنبات ،وهبت على الكون روح الخالق بنسيم منعش فضجت الآهات بالآهات، وتأوهت نفوس من أعماق متاهات الروح ليختلط الكون كله بالخلق والكائنات ، وشدا في الآفاق لحن تردد صداه من أرجاء سحيقة خشع له الأحياء والأموات ، وتفجرت في أديم الأرض طاقة أحالت عناصر ألأجداث إلى كائنات طاقوية وطاقات ،أحدثت لجة في معمعة الخلق ، فتأججت نيران براكين وانفجرت مرسلة إلى السماء نذيرا بهول القادم من آيات ! فتراقصت وتلوت وصعدت متحدية قوانين الخلق لتظل صاعدة في الفضاء إلى ما لا نهاية آبية أن تهلك مقدار ذرة من أديم الأرض ومن آيات الخالق والمعجزات ! واتكأ في بطينة الأرض جبل على جبل فزلزلت الدخيلة دون أن ينهار سقف بيت على طفل وكهل وفتيات فاتنات. فتنفست الأرض من أعماقها وسبحت باسم الخالق والآيات . وخالط الكل رذاذ عطرتفوح لينعش الكون والكائنات ، فهامت نفوس الإنس بشدو تردد صداه ليرافق أنغاما شدت بحسن وجمال الخالق والخلق والمخلوقات ! وهو يتأمل ما يعجز الكلام عن وصفه ، قطع الإمبراطور تأملاته وهو يدرك أن ما يراه ويسمعه من معجزات يدور بالتأكيد في مخيلة الملك لقمان أولا ثم يتجسد ماديا في الكون ، حتى أنه شعر بآخر كلمات كانت تصطخب بها مخيلته ، وكاد أن يقول لنفسه إن لقمان هذا الجالس في مواجهته على مائدة طعام وخمر محلقة في الفضاء مع ملايين الموائد ليس إلا الخالق نفسه ، طالما أن كل ما يحدث في الكون هو من نتاج خياله ، بل وكاد أن يسأله " لقمان هل أنت الله " ؟! المشكلة أن لقمان سبق وأن قال له أنه مجرد إنسان وأن الخالق يستجيب إلى رغباته ربما لمحبته له . أبعد الإمبراطور هذه التساؤلات من مخيلته وسأل الملك عما كان يدور في مخيلته من كلامه الإيقاعي الأخير : - شعرت جلالتكم أن كل ما يجري في الكون وفي باطن الكواكب هو برغبة منكم يسبقها خيال معبر عنه بكلام إيقاعي يصوغه جلالتكم في مخيلته ويستجيب له الخالق ويطبقه بسرعة فائقة تفوق سرعة الضوء ،حتى أنني التقطت آخر كلمات تفوهتم بها فأحببت أن أسألكم : في الجملة الأخيرة جاء أن "نفوس الإنس شدت بحسن جمال الخالق والخلق والمخلوقات " أليس المخلوقات هي الخلق نفسه وأنكم أتيتم بها لاكتمال الإيقاع لما كان يدور في مخيلتكم ؟ ابتسم الملك لنباهة الإمبراطورالبلاغية وأجاب بعد قليل من الصمت : - المخلوقات هنا قصدت بها ما خلقه الإنسان من حضارة إنسانية تشمل المدن بكل ما أبدعه الإنسان من حضارة هندسية ،وتشمل الزراعة والصناعة والعلوم والآداب والتكنولوجيا . أما مفردة الخلق التي سبقتها فهي خلق الكائنات الحية وغير الحية ،وهو عندي يتم بفعل رغبة الكائنات نفسها في الخلق والتطور ، فهذه الرغبة لم تنشأ إلا من رغبات بدائية كان يتلوها رغبات ترفض واقعها فتنقرض أو تتطور ، فلولا القرد البشع الذي كان يرفض شكله ويطمح في شكل أجمل وقدرات عضوية أرقى لما جاء الإنسان الأجمل والأكثر تطورا في بنيته العضوية مارا بحقب كثيرة من التفاعل بين طاقتين ،الطاقة السارية في الكون التي تتطور بدورها في الكون كله والطاقة الصادرة عن الكائن نفسه ،ودون هذا التفاعل بين الطاقتين لن يتطور الخلق في زمننا إلى ما هو أجمل وأكثر كمالا . لذلك قلنا من جملة ما قلناه " إن عملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق ، فالكائنات تخلق نفسها بنفسها من الطاقة الناجمة عن العناصر المادية التي توفرت لها وتفاعلها مع الطاقة الكونية ( الكلية ) السارية في الكون " وهنا سأل الإمبراطور سؤالا قد لا يستطيع الإجابة عنه إلا الخالق نفسه : - وكيف يتم هذا التفاعل ، وبمعنى أشمل كيف تنتج الطاقة عن المادة ؟ أدرك الملك لقمان إعجازية السؤال . قال : - يمكن القول لجلالتكم أن ما تم حدوثه خلال أربعة عشر مليار سنة لا يمكن معرفة حقيقته المطلقه إلا من الخالق نفسه حسب زمننا الحالي ،أما في الزمن المستقبلي فيمكن القول أن العلم قد يتوصل إلى معرفة قوانين الخلق ،وقد يمكنه أن يخلق كائنات حية وربما إنسانا متطورا جدا . لكن يمكن القول إذا ما نظرنا إلى معجزات الخلية وما تكوده من معلومات هائلة جدا في نواتها يعجز العقل البشري عن معرفتها وإحصائها ، أن عقل الخالق كان يدون كل شيء يتحقق من صحته في معادلات مرمزة ليقوم بوظيفته على أكمل وجه . فالمادة كذا مثلا التي يرمز لها بالرمز كذا ينتج عنها الطاقة كذا إذا ما تفاعلت مع الرمزالكوني كذا . وهكذا .. إن أجساد الكائنات هي عبارة عن مختبر هائل للكيمياء والفيزياء لإنتاج الطاقة . - هل ترى جلالتكم أن الله يعرف لغة ؟ - بالتأكيد لا يعرف وخاصة في بداية التكوين ،لكن يمكن القول أنه ابتكر لغته المرمزة الخاصة . - وماذا عن اليوم ؟ - إن لغات البشر المعاصرة تدون من قبل البشر أنفسهم وتدوينهم لا ينفصل عن تدوين العقل الكوني كما لا ينفصل كل ما يبدعه العقل البشري عن العقل الكوني للوصول إلى كمال ما ذات يوم . ويمكن القول إن كل لغات العالم هي لغات الخالق لأنها لم تتم دون طاقته السارية في الخلق . والحال نفسها تنطبق على ما ابدعه الخالق ،فكل شيء في النهاية هو إبداع الخالق . - هل ترى جلالتكم أن الخالق في بداية التكوين قد مر بتجارب كثيرة إلى أن بدأ بالإمساك بحقائق نظرية ! - بالتأكيد وإلا لما دامت عملية الخلق أربعة عشر مليار سنة . وما هو مؤكد أن التجارب بدأت صدفية عشوائية ولا يعلم إلا الخالق نفسه كم دامت هذه الحقبة ،ربما مليار سنة ، إلى أن أصبحت التجارب مبنية على أسس ممكنة وليست عشوائية . أتصور أن الخالق قام بمليار تجربة فاشلة قبل أن يصل إلى تجربة واحدة ناجحة ،ويبدو لي أن علماء الفيزياء والكيمياء سيحتاجون إلى القدر نفسه من التجارب ليصلوا إلى نتائج صحيحة قطعية . - إذن مسألة الخلق في ستة أيام أو بالكلمة ( كن ) ليست واردة في حكمتك الفلسفية . - هذا مجرد اجتهاد لعقل بدائي لم يكن يعرف العلم ولا الكيمياء ولا الفيزياء . الجيد في الأمر أنه فكر ولو بخطأ في التفكير . - ثمة أسئلة كثيرة ما تزال تدور في مخيلتي . سأختتم حوارنا في هذه الجلسة بالسؤال الذي أجلته من الحوار السابق : - وإذا لم يجد جلالتكم الخالق في بحثه عنه ؟ تنهد الملك لقمان بعمق ثم استمد طاقة من الملكة نور السماء بأن ضمها وقبلها على خدها : - يخالجني إحساس أنني عثرت على الله من زمان ، لكن عنادي هو الذي يصر على الحقيقة في مطلقها ، وليس في نسبيتها. - أشكر جلالتكم ***** (59) * النهود الجامحات العابثات الدانيات ! كوّع الليل على الليل ، وعانق ليل كوكب الملك ليل السماوات ، وهامت في الكون أفلاك واضطربت أمواج المحيطات صاعدة لتشق عنان السماء برقص حوريات وجنيات ، وصدحت أنغام على أوتار لونية أبرقت متلألئة مضفية على الدجى سحر الآيات ! واحتضنت كواكبٌ كواكبَ، وتراقصت مجرات مع مجرات ، وتألقت في الرقص على مسارح كوكب الملك لقمان نهود كاعبات "حانيات كقطوف دانيات، ناهدات دافقات جامحات عابثات " في فضاء خالق لم يضع للخلق حدّاًّ دون أن يكتمل كمال الخلق وإبداع الخالق والمخلوقات ! بدا الإمبراطوروقد هام في عوالم إله الملك لقمان، ولم يعد يعرف إن كان في عالم متخيل أوعالم من صنع سحرة خارقين ،أو من صنع آلهة ، ولم يجد إلا أن يضم رأس الإمبراطورة إلى حضنه وهو يرنو إلى نهود الحوريات والإنسيات وقد تمردت على أستار الحياء وراحت تهتز بحركات عبثية تحاكي الوجود وجمال الآلهة ! تنبه الملك لقمان إلى الإمبراطور وقد هام في سحر العوالم فبدا كالمخدَّر. خاطر الملكة نور السماء التي كانت تلقي رأسها على صدره فيما هو يمسد على شعرها براحة يده اليمنى " هل تتوقعين أن الإمبراطور ثمل أم أنه هائم في ما يراه ويحيط به ؟" قالت : لا يبدو عليه أنه ثمل ،يبدو أنه مسحور بالعوالم التي وجد نفسه فيها وخاصة كل ما هو خارق للطبيعة ، من عدم انتهاء لليل ،وعدم الإحساس بالشبع ، وعدم الإحساس بالحاجة إلى التبول والتبرز ، وعدم الإحساس بالتعب والنعاس والحاجة إلى الراحة والنوم . - إنها فرصة لي لأريح عقلي من التفكير في الإجابة على أسئلته الرهيبة ! -لا أظن أنه سيطيل الإستراحة وربما يفكر الآن في كل الإجابات التي سمعها منك ليعرف ماذا سيسأل . - آمل أن أجد إجابات مقبولة تدعم رغبتي في أن لا أغادر هذه الدولة إلا وجميع سكانها يؤمنون بمذهبي ! - أتمنى لك التوفيق يا حبيبي رغم أنني أشك في صعوبة مهمتك ! - لا تحبطيني يا نور ! تنبهت الملكة إلى أنه خاطبها بشطر من اسمها متجاهلا مخاطبتها كحبيبة وحتى متجاهلا لكامل اسمها . همست : - ألم أعد حبيبتك ؟ أدرك الملك غيرتها .. - بلى يا حبيبتي لا تذهبي بعيدا في خيالك ! - لا أستطيع تصور المخاطبة بيننا إلا بالحب ! وقاطع الإمبراطور تخاطرهما حين استند في جلسته مبعدا رأس الإمبراطورة عن صدره برفق ، متسائلا : - هل في الإمكان متابعة حوارنا جلالتكم ؟ - تفضل جلالتك ! لكن لا تعقد الأسئلة ! - لا لن أعقدها . أريد رأيكم في المبدأ الكلي الذي يستمد الخلق طاقته منه في مفهومنا الفلسفي ؟ شعر الملك أن الإمبراطور بدأ يشك في معتقده . أجاب : - المبدأ الكلي ؟ المحرك الأول ؟ اسمان متشابهان . المشكلة ليست هنا . المشكلة تكمن في الجوهر والماهية . فهل هما مادة أم طاقة . وإذا كانا طاقة فهل هي طاقة فوق الطاقة؟ أي طاقة خارقة للطاقة لم تعرف بعد للعقل البشري ؟! وهل هما ثابتان أم متحركان وينبثق عنهما كل شيء في الوجود ؟ الفكر الفلسفي بشقيه المثالي (الديني) والمادي ( العلماني المنطقي ) توقف عند هذين المفهومين ولم يبحث عن ثالث لهما . إذاعدنا إلى المفهوم الأول ( المثالي ) سنجد أن مفهوم المبدأ الكلي لا يختلف عن مفهوم الألوهة التي كانت أولا وكان وجودها خارج المادة والطاقة كون المادة خلق ولا يمكن أن يكون الله كائنا مادياً . وإذا ما عدنا إلى المفهوم الثاني حيث المادة الموجودة منذ الأزل دون أن توجدها ألوهة ما ، سنرى أنه ليس هناك إله . السؤال الذي لم تطرحه الفلسفة : أليس في الإمكان أن تنتج المادة ألوهة ما ؟ أو ألم يكن في الإمكان التفكيرفي أن المادة ومنذ وجودها كانت تحمل بذورألوهيتها أو خلقها فيها وراحت توجد نفسها بنفسها وتطورها ،وما زالت تطورها حتى اليوم دون أن تصل إلى مبتغاها أو ما تطمح إليه ، كفنان يمضي عمره في تطوير فنه ويموت دون أن يبلغ كمالا يرضى عنه . لقد تطرقنا إلى هذا الأمر من قبل جلالتكم وآمل أن أكون قد أضفت جديدا إلى هذا الفهم . علما أنني أستعمل تعبير( ألوهة) كتعبير مجازي عن الخالق . أطرق الإمبراطور للحظات . تساءل : - مسألة أن يكون هناك خالق وغير كامل مسألة لا يتقبلها عقلي ، فهذا يعني أن وجود المبدأ الكلي الذي نؤمن به غير مكتمل حتى اليوم . كيف ترى أن الخلق غير مكتمل حتى اليوم ؟ - هناك الكثير مما يشير إلى أن الخلق غير مكتمل وبما أن ألخالق في مفهومي لا ينفصل عن الخلق فهو غير مكتمل أيضا . تصور أن الإنسان يحتاج إلى ثماني عشرة سنة ليكتمل نموه ،ويحتاج إلى زمن طويل ليثقف نفسه ويتعلم مهنة أو أكثر في حياته . ولو تطرقنا إلى سنين الحمل وولادة مولود جاهل يحتاح إلى سنين ليتعلم لغة أبويه ويحتاج إلى سنين ليتعلم لغة أخرى، وقد يموت دون أن يعرف الغاية من وجوده ، فإننا سنجد أن الخلق غير مكتمل . الإنسان يولد جاهلا وبمعنى آخر ناقصا ، ويموت وهو ناقص أيضا . ليست هذه إلا أمثلة بسيطة لنقص الخلق تتمثل في خلق الإنسان، الغاية المثلى التي وصلت إليها عملية الخلق ولم تكتمل بعد . لقد مارست الأدب والفن في حياتي ولم أشعر يوما أنني بلغت الكمال لا في فني ولا في أدبي ولا في فكري الحالي ، فما بالك بالخالق العظيم هل يشعر أنه أكمل عملية الخلق وهو الآن في راحة أبدية ؟ أبدا . لن يكتمل الخلق أو يبلغ حدا مقبولا دون أن يولد الإنسان المتكلم العارف للغة ابوية من المهد ،والعارف الغاية من وجوده ،وهي المساهمة في عملية الخلق بتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال . ودون أن تتحقق هذه القيم على وجهها الأكمل سيظل الخلق ناقصا والخالق ناقصا( رغم عظمته ) لأنه لم يقدر على تحقيق هذه القيم ، فكمال الخلق من كمال الخالق . ****** (60) * سحر الألوهة المؤنثة لربة الجمال يتجلى رقصا في حضرة الكون !! سكن الليل . توقفت حركة المجرات . تقوقع المكان على المكان واستكان الزمان إلى الزمان. تقلصت موجات الجاذبية . خلدت الكواكب إلى غياهب أحضان المجرات . اتكأ قمرعلى قمر في فضاء المسكونة، وألقت نجمة رأسها على صدر نجمة . أسدلت شهب أذيالها النارية، وأذعنت المذنبات لنداء الكون ! خمدت أمواج المحيطات والبحار . هبطت على الكون ضربة إيقاع موسيقية تردد صداها مدويا من أرجاء المعمورة . صمت البشر والجن جميعا في كوكب الملك لقمان وراحوا يترقبون الحدث القادم . انطلقت ربة الجمال محلقة صعودا في الفضاء وسط هالة مائية مرتدية ثيابا بيضاء فضفاضة شفافة بالغة الطول محسورة عن كتفيها وصدرها ويديها ، مشقوقة على طول جانبيها . ماددة يديها في استقامة أمامها محركة قدميها وساقيها بحركات بطيئة قصيرة وكأنها تسبح في بحرمحلق في السماء وليس في هالة مائية ، مرسلة جمالا أخاذا راح يتوهج ملقيا على الجمهور سحرا انثويا لم يبلغه إلا إلاهات الخلق وربّاته . ضج ملايين الحضور على موائد الملك بالتصفيق . توقفت الربة عن الصعود في الفضاء وشرعت في الدوران حول نفسها ليدور معها الثوب الفضفاض والهالة المائية . انبثقت في الفضاء خشبة مسرح هائلة الحجم ، هبطت الربة عليها وهي تدور حول نفسها وسط الهالة المائية . وما لبثت أن وقفت على أصابع قدمها اليسرى ماددة ساقها اليمنى في استقامة مشكلة زاوية قائمة فيما رسم فستانها دائرة محلقة حول جسدها وهي تدور بسرعة خارقة للغاية بحيث لم يعد في الإمكان مشاهدة جسدها وسط الهالة المائية التي كانت تدور معها .. ضج الملايين بالتصفيق وهم لا يعرفون كيف أصبحت أبصارهم حادة بحيث يرون المشهد وكأنه أمامهم . راحت الربة تبطء من دورانها شيئا فشيئا وبدلا من أن تتوقف رفعت قدمها عن الأرض بقفزة في الهواء لتقلب نفسها رأسا على عقب وتشرع في الدوران حول نفسها في الفراغ وتنزل نحو الخشبة ماددة يدها اليسرى لتتكئ على أرض الخشبة بسبابتها فقط وتستمر في الدوران بجسدها والهالة تدور معها وبدلا من أن ينسدل فستانها إلى الاسفل توقف عند خصرها ماددا أجنحته حول جسدها ليرسم دائرة تحلق معها . فيما تألق فخذاها وساقاها في جمال أخاذ شع منه نور رباني ! أبطأت الربة من دورانها حول نفسها لتنقلب في الهواء واقفة على قدميها . ضج الحضور بالتصفيق . مدت الربة يدا منقبضة ونفضتها مطلقة أصابعها وإذا بربة فائقة الجمال تنبعث منتصبة على المسرح في وقفة فنية مرتدية زيا يشبه زي الربة . ومدت الربة يدها اليسرى كما فعلت باليمنى لتنبثق ربة أخرى ، وراحت الربة تكرر مد يديها ونفضهما حول دائرة خشبة المسرح السماوي ،وكلما نفضت يدا انبثقت ربة لتنبثق تسع وتسعون ربة يرسمن ثلاث دوائر فنية حول ربة الجمال، كل دائرة من ثلاث وثلاثين ربة ، وحين شرعت ربة الجمال في رقص رباني لا يجيده إلا الربات شرعن يقلدنها في تناظر مدهش . وحين راحت الربة ترتفع في الفضاء وهي تدور حول نفسها شرعن في الإرتفاع عن الخشبة في الوضع الذي هن عليه ليحلقن على مسافة من الربة ويشرعن في الدوران حول أنفسهن كما تفعل الربة ،وقد انفصلت دوائرهن إلى ثلاث طبقات تكبر إحداها سابقتها . شرعت الربة تمد يديها في الفضاء وتنفضهما على إيقاع الموسيقى الكونية والربات يقلدنها تماما دون أن تشذ حركة واحدة عن الوضع المرسوم لها ، لينبثق تسع وتسعون وصيفة حورية شكلن بدورهن ثلاث طبقات تكبر كل دائرة التي فوقها ،وشرعن يرقصن في الفضاء مقلدات رقص الربات . وما لبثت ربة الجمال التي كانت تعلو دوائر الراقصات أن شرعت في مد يديها ونفضهما لتقلدها الربات ولتنبثق تسع وتسعون نجمة في شكل إنسي وتحلق في ثلاث طبقات أسفل الطبقات السابقة وعلى النسق نفسه ، فكل حلقة دائرية كانت أكبر من سابقتها ، وظلت الربة تكرر رقصها وانتفاضة يديها وهي تصعد في الفضاء وجميع الراقصات يقلدنها ، فقد تلا حلقات النجوم الإنسانية ، حلقات لدلافين برؤوس حوريات وحلقات لأسماك حوريات وحلقات لكواكب كالبشر، وحلقات لأقمار كالبشر ،وحلقات لشموس في هيئة إنسانية مشعة ،وحلقات لشهب ،وحلقات لمذنبات ، وحلقات لغيوم وحلقات لزهور في شكل إنساني ،وحلقات من هلامات مائية كالبشر وحلقات من أشجار الزيتون فحلقات من أشجار التفاح وحلقات لحيوانات مختلفة . وكان آخر الحلقات المنبعثة حلقات مكثفة للمجرات في جماعات إنسانية كل مجموعة كانت تشكل هيئة إنسانية ، لتبدو الحلقات في الفضاء وقد شكلت هرما مخروطيا كونيا يتطاول في أعالي السماء ، رأسه ربة الجمال وقاعدته المجرات ، وشرع في الرقص على إيقاع موسيقى كونية راح صداها يتردد من أرجاء الكون . لم يعد الإمبراطور والإمبراطورة والملايين من ضيوف الله والملك لقمان والملكة نور السماء قادرين على تصور هذا الجمال الذي يعجز الكلام عن وصفه ، فبدوا في غاية الدهشة وهم يتسمرون في مقاعدهم كالمسحورين مطبقين بأيديهم على رؤوسهم فاتحين أفواههم متأوهين متعجبين لا يعرفون إن كانوا يحيون في واقع أم في خيال لا يمكن تصوره . الملك شمنهور وحده أدرك أن كل هذه المعجزات لم تحدث لو لم يتدخل الملك لقمان ويوظف خياله مستحثا إلهه لمساعدة ربة الجمال في رقصتها كونها من بنات خياله . راحت الموسيقى تتصارع في إيقاعات تتردد من كافة أرجاء الكون توحي بالمطلق المجهول ، لتكف الكائنات والربات عن الرقص المتشابه ليعبر كل كائن عن إحساسه كما يشعر وكما توحي إليه الموسيقى الكونية .. فانبعثت أشكال من الرقص لا حصر لها . وفجأة بدأ فجر في الإنبلاج . أدرك الجميع أن الليل الطويل الذي لم يعيشوه من قبل قط سينجلي ، وستعود الحياة إلى طبيعتها دون أن ينسوا ولو للحظة جمال ومتعة هذا الليل في حضرة الألوهة نفسها . ودون أن يعرفوا أنهم أمضوا ليلا يعادل ألف عام من أيامهم ، ودون أن يتغير شيء في واقع حياتهم ،وكأنهم لم يمضوا إلا ليلة واحدة حسب زمنهم !! راحت الكائنات تتبدد وتنتشر في الفضاء بحركات راقصة لتختفي في الآفاق وتتلاشى . كانت تتبدد على دفعات من الأسفل إلى الأعلى ،فبدأ التبدد بالمجرات .. وكانت الحلقات تهبط إلى أسفل الكون كلما تفرقت حلقة .. راح الجميع يرقبون تفرق الحلقات وتبددها واختفائها .. وحين بدأت الشمس في الشروق كانت حلقة الربات تتفرق وتتبدد لتحط ربة الجمال وحدها على خشبة المسرح الكوني وتنحني تحية واحتراما لجمهور الملايين ،الذين نهضوا وهم يصفقون للربة التي رقصت الكون برقصها . **** (61) * حُب وقُبل ما بعد الموت !! وهو يسترخي على أريكة في حديقة قصره منتظرا قدوم الملك لقمان إليه بعد بضعة أيام من الحفل السماوي الخارق للطبيعة ، راح الإمبراطور الشنوتي يفكر في قدرات هذا الملك الإعجازية وكيف تنفتح له أبواب السماء وتستجيب لرغباته . مسألة أكبر من قدرة العقل على استيعابها ، بغض النظر إن كانت حقيقة أم خيالا أو سحراً . فهل هذا الرجل مجرد ملك أم ملاك أو نبي أو حتى إله ، طالما اعتقد ( الإمبراطور ) بوجود آلهة متعددة تستمد قدسيتها من المبدأ الكلي الشمولي المتخلل في الكون . ثمة تقارب ما في فهم المعتقدين ، رغم إصرار الملك على أن فهمه اجتهادي ، وهذه مسألة تحير أيضاً ، فهل تستجيب السماء لفهم اجتهادي وتحقق المعجزات ، ليلتبس الواقع بالخيال والممكن بالمستحيل والمحدود بالمطلق وكل شيء بكل شيء . أقبل الملك لقمان محلقا وحده في الفضاء ،ومسألة (التحليق) هذه معجزة أخرى تضاف إلى معجزات الملك ، فكيف يتمكن من التحليق بقامته في الفضاء دون أجنحة ودون أي شيء يساعده على الأمر ؟ حط الملك على مقربة من الإمبراطور الذي نهض لاستقباله . تصافحا بحرارة وقد رفعت الكلفة بينهما بحدود. - أراك وحيدا ؟! هتف الملك وهو يجلس إلى جانب الإمبراطور على الأريكة . - أحببت أن أخلد إلى نفسي لأفكر في ما تقوله وما تفعله جلالتكم ! - وهل توصلتم إلى نتيجة ؟ - ثمة تقارب ما بين مفهومينا إذا استثنينا مسألة ما بعد الموت كمرحلة ضرورية في تجدد دورة الحياة الكونية . - وهل لجلالتكم اعتراض على هذه الفكرة ؟ - بالعكس لقد أراحتني وأجابت لي عن الكثير من الأسئلة المقلقة . فمسألة انتهاء أمر الإنسان بالموت كانت وما تزال مسألة مقلقة للبشرية . أنتم زرعتم الأمل في النفس البشرية . - لقد كنت لبضعة أعوام خلت أظن أن حياة الإنسان تنتهي بالموت ، لم أكن مرتاحا لهذه الفكرة إلى أن عثرت على الحل في ليلة أمضيتها في التأمل . ربما أسعفني التوحد بالذات الإلهية في الفكر الصوفي والحلول في المبدأ الكلي القائم بالكون حسب بعض المعتقدات . - وهل حسمتم الأمر في أن الإنسان يدرك وجوده المادي الطاقوي في الذات الكونية الخالقة ؟ - أجل حسمتها أيضا . ففكرة أن الطاقة لا تدرك وجودها ( وضربت مثلا بالطاقة الكهربائية التي لا تدرك وجودها رغم أن الضوء مثلا لا يمكن أن يتم دونها ) لم تكن مقنعة لي ، إلى أن اهتديت إلى اعتبارالطاقة الخالقة طاقة الطاقات كلها وليست مجرد طاقة كهربائية ، حتى لو كانت الطاقة الكهربائية تدرك وجودها كطاقة . فلا يعقل أن لا يدرك خالق الكون وجوده . فنحن كبشر ندرك وجودنا والكائنات وخاصة الحية منها تدرك وجودها فكيف لا يدرك الخالق وجوده ؟! مسألة لم تكن مريحة ومقنعة لي فحللتها بالإدراك . - وهل يدرك الإنسان وجوده المادي الطاقوي في الخالق أو الألوهة أو المبدأ الكلي حسب معتقدنا ؟ - يفترض أنه اتحد مع الذات الخالقة كمادة وطاقة وأصبح جزءا منها ،أي من مادتها وطاقتها ، ففي هذه الحال لا يشعر بوجود إنساني بل بوجود كوني شامل وغير محدود . إنه وجود ألوهية. - وهل يتمتع بذلك ؟ - يفترض ذلك . - كيف ؟ ضحك الملك لقمان وهو يقول : - حين أصبح خالقا أو إلها سأخبر جلالتكم ! ضحك الإمبراطور بدوره . تابع الملك متنبئا : - أظن أنني لن أتمتع بعملية الخلق فقط بل وبالقبل التي يتبادلها البشر، وربما ما هو أكثر من ذلك كأن أتمتع بممارستهم للحب والعمل..ألخ ! ضحك الإمبراطور وتابع بدوره و كم الأسئلة يتوارد في مخيلته : - إنطلاقا من رؤية جلالتكم الإجتهادية واعتقادكم بالنشوء والإرتقاء ، ألا يمكن أن تكون هذه الأفكار ما تزال قيد التحقق لدى الخالق . أقصد ما يتعلق منها بإدراك الإنسان لوجوده في الذات الخالقة ؟ أطرق الملك للحظات . - هذا أمر ممكن ، لكن إذا اعتبرنا أن الذات الخالقة مدركة لوجودها فلا يعقل لمن يتحد معها أن لا يدرك وجوده كونه أصبح جزءا منها . وافق الإمبراطور الملك على وجهة نظره . وأطرق يفكر في أي الأسئلة التالية سيطرح على الملك. وما لبث أن هتف : - هل في مقدور جلالتكم أن ترتب لي أطوار بدء عملية الخلق حسب تسلسلها . أدرك الملك صعوبة السؤال . أجاب بعد برهة تفكير : - المادة الأولية . أو الهيولى البدئية أوجدت نفسها بنفسها لنفسها وهي ما تزال تحقق نفسها بنفسها لنفسها دون أن تبلغ كمالا ما . فنحن نفسها وهي نفسنا والوجود نفسها وهي نفسه ، وكل ما نقوم به ويقوم به الوجود وتقوم به هي، هو تحقيق لنفسها بنفسها ، أو لذاتها بذاتها. الهيولى البدئية مادة وطاقة . كانت تحمل عقلا بدائيا ، وغاية بدائية غير مدركة بوضوح . نتج عن العقل خيال . الخيال طور الغاية ، إلى أن أصبحت تصورا بدائيا . نتج عن ذلك ظهور بدائي ، فسره العلم بأنه الإنفجار الكوني . وبغض النظر عن صحة نظرية الإنفجار أو عدمها ، فإن الحاجة إلى الظهور والتجلي للمادة الأولية كان ضروريا ولا بد منه . لا أحد يستطيع تحديد فترة الكمون . ربما دامت مليار عام . وهذه الفترة تسبق الإنفجار الكوني المفترض ، وإذا كان العلم قد حدد فترة الإنفجار الكوني قبل قرابة أربعة عشر مليار عام ، فإن الهيولى حسب فرضيتنا كانت موجودة من خمسة عشر مليار عام . لا أحد يستطيع معرفة ماهية العقل البدائي الذي كانت تحمله الهيولى . لكن في الإمكان القول أنه لا يشبه العقل البشري الناتج عن دماغ . ما يمكننا قوله هو أنه نتج عن طاقة نتجت عن مادة عبر تفاعلات مديدة . وإذا ما أردنا أن نسلسل مكونات هذه المادة الهيولية فليس في مقدورنا إلا القول : مادة . طاقة . عقل . خيال . تصور . تحقق بدءا بالإنفجار أو غيره ، ليس بالضرورة أن تكون بداية التحقق أو التجلي والظهور انفجارا . لن ندخل في تفاصيل ما بعد ذلك لأن العلم اكتشفها أو اكتشف معظمها . لكن في الإمكان القول أن تشكل الكون قبل ما عرف بالكائنات الحية أو تشكل الخلية الحية قد دام ما لا يقل عن ثلاثة عشر مليارا من الأعوام . وفي الإمكان القول ثلاثة عشر مليارا من التفاعل والإنقسام . لكن ثمة مسألة لا بد من وضعها قيد الإحتمال . إذا كانت مادة الكون قد جاءت من المادة الأولية فإننا لا نستبعد أن تكون كل مادة في الكون تحمل العناصر الأولية نفسها أو بعضها على الأقل . وأظن أن أول من أشار إلى ذلك تاريخيا هو الفيلسوف اليوناني أناكسيماندر، في القرن الخامس قبل الميلاد . وأشار أيضا إلى عودة الأشياء الميتة إلى العنصر الأولي ( اللانهائي ) الذي جاءت منه . ظل الإمبراطور صامتا للحظات يفكر في ما قاله الملك لقمان ، دون أن يصل إلى قناعة يقينية في ذلك ، خاصة وهو يدرك أن الملك يرى في فكره اجتهادا وليس يقينا مطلقا . - أشكر جلالتكم . سنتابع فيما بعد . **** (62) * الإمبراطور يتمتع بتذوق طعم القُبل ! ظل عقل الإمبراطور منشغلا بتحولات وتمظهرات المادة والطاقة وعما إذا كانت تحولا وتمظهرا لخالق أو لألوهة أو لمبدأ كلي يتخلل الوجود . فبينما كانا يتجولان هو والملك لقمان في حديقة القصر الإمبراطوري ، توقفا إلى جانب شجيرات لزهور مختلفة الألوان تفوحت منها راحة أخاذة ، طرح الإمبراطور سؤاله المحير على الملك . تساءل الملك : - لقد سبق وأن تطرقنا لهذه المسألة . قال الإمبراطور : - لكننا لم نشبعها بحثا ! ليس هناك مسألة في الوجود يمكن اشباعها بحثا وتخيلا خاصة إذا ما كانت مسألة غيبية . ولو كانت غير ذلك لما وجدنا آلاف العقائد والفلسفات ولأمكن الإهتداء إلى فلسفة محددة أو عقيدة مقنعة اتبعتها البشرية . والمسألة نفسها ما تزال مطروحة علميا وفلسفيا ودينيا دون أن يتوصل العقل البشري إلى حقيقة مطلقة وأشك في أنه سيتوصل في المدى المنظور . إذا اعتبرنا أن مفردات الله والألوهة والمبدأ الكلي ومثيلاتها ، لم توجد إلا بعد اختراع اللغات منذ وقت قريب تاريخيا فإننا سنستبعد إمكانية أن تعرّف الطاقة نفسها بها ،حتى بمفردات المادة والطاقة والتحولات والتمظهرات وكل ما تعبر به البشرية لغويا عن هذه الظواهر، يمكن القول أن للمادة والطاقة لغتهما الخاصة التي كوّدت بها ملايين المعلومات في نواة كل خلية ، هذه اللغة (الشيفرة) ما تزال مجهولة حتى اليوم للعقل البشري ، وإن استطاع معرفة عمل القليل جدا جدا من رموزها كالكروموزومات .فجسم الإنسان مثلا وحسب بعض المراجع يحتوي على ستين تريليون خلية أنا سأقذف نصف هذا الرقم بعيدا وأفترض ثلاثين تريليون ،وليس هناك خلية إلا وتحتوي على مليارات الكودات التي لها عمل محدد ووظيفة مختلفة في الغالب. تقول بعض المصادر أن نواة الخلية تحتوي على خمسة آلاف مليون معلومة ولم يكتشف العلم منها حتى اليوم إلا ثمانمئة معلومة فقط يتعلق معظمها بالمورثات ! على ضوء هذه المعلومات قلنا من قبل أن فكرة الألوهة أو الله أو المبدأ الكلي قد لا تكفي هذه القدرة للتعبير عن نفسها بها ، وربما لها لغتها الخاصة ومفرداتها الخاصة التي تعبربها عن نفسها . لذلك فضلت استعمال مفردة الخالق . لكن إذا ما تناولنا المسألة من زاوية أخرى نعتبر فيها وجودنا لا ينفصل عن وجود هذه المادة الطاقوية الكونية وأن كل ما نفعله ونخترعه بما في ذلك اللغة التي نتكلمها هو بفعل هذه الطاقة ، فإننا قد نتقبل إطلاق هذه المفردات على الطاقة وقد تتقبلها هي وتعتبرها من جملة أسمائها وصفاتها، بل وتعتبر أي لغة مهما كانت هي لغتها كونها من نتاج قدرتها الخارقة فينا . توقف الملك لقمان عن الكلام منتظرا رأي الإمبراطور الذي بدا متفكرا ومخيلته تسترجع تصورات الملك . لم يتكلم . هتف الملك : - هل أضفت شيئا إلى فهم المسألة ؟ - أجل جلالتكم لكنكم فتحتم آفاقا جديدة للأسئلة . - أدرك ذلك في مقدور جلالتكم أن يسأل! - إذا اعتبرنا أن كل لغة يمكن أن تعتبر لغة إلهية فهذا يعني أن كل كتاب كونه مكتوبا بلغة ما قد يكون إلهيا أيضا . والأمر نفسه ينطبق على المخترعات الإنسانية . - أجل جلالتك . كل شيء يجري بفعل طاقة الخالق، لكن الخالق قد لا يأخذ بما يتنافى مع مبادئه في تحقيق قيم الخير والعدل والجمال . - لكنك بهذا الرأي تنزّه الخالق عن الخلق ! - أبدا. ولو نظرنا إلى أي فعل منكر يقوم به إنسان ما لوجدنا آلاف البشر يستنكرون الفعل الذي قام به ذاك الإنسان . ولنفترض انسانا يقتل إنسانا سنجد ملايين يستنكرون فعل القتل والقاتل. ففعل القتل تم بتوظيف طاقة الخالق السارية في الإنسان وفعل الإستنكار تم بالأمر نفسه. - ولماذا ترك الخالق الإنسان مخيرا بين الفعل الإنساني ونقيضه ، أي بين الخير والشر ؟ - هو لم يتركه . هذا ما توصلت إليه عملية الخلق غير المكتملة حتى اليوم. لقد سبق وأن قلت أن عملية الخلق في تطورها بلغت حد التكامل بين الخالق والمخلوق وخاصة الإنسان ، فالخالق في حاجة إلى ما يخلقه الإنسان والإنسان في حاجة إلى ما يخلقه الخالق . المشكلة في فعل الشر الذي يرتكبه الإنسان والذي لم يستطع الخالق أن يضع له حدا حتى الآن ، وأعتقد أن الأمر لن يتم إلا بتضافر عملية الخلق بين الخالق والمخلوق . المخلوق الذي هو جزء من ذات الخالق ،والخالق الذي هو جزء من ذات المخلوق .وآمل أن يصل الخلق ذات يوم إلى تحقيق قيم الخير والحق والعدل والمحبة والجمال. - هل نعتبر حسب هذا الفهم أن من يقتل إنسانا يقتل الله ؟ - مجازا نعم . أما واقعيا فلا، فالذات الإلهية طاقة سارية ومادة متجلية في الكون كله في أشكال متعددة بما في ذلك الإنسان والكائنات الحية ، وليس في الإمكان قتلها بقتل إنسان ما أو مجموعة بشرية . لكن في مقدورنا القول أن من يقتل إنسانا يقتل جزءا من الذات الإلهية الخالقة . وأن الخالق يحزن ويغضب ويتألم لذلك. يحزن ويغضب ويتألم بحزن وغضب وألم بشريته . وهذا ينطبق على كل فعل شراني يرتكبه الإنسان . - وماذا عن قتل الإنسان للحيوان لأكله، وافتراس الحيوان للحيوان للغاية ذاتها ؟ - هنا المسألة تختلف لأن هذا القتل أو الإفتراس قانون إلهي مجاز أو قوانين خلق مباحة ضمن حدودها ، وهو ما يسميه البشر قوانين الطبيعة . والأمر نفسه ينطبق على أكل الأعشاب والخضار والفواكه . فنحن نفترس ثمار كائنات حية . وحتى اليوم لا يمكن تجاوز هذا القانون . - أخذتني بعيدا جلالتكم . سأعود إلى التمتع بعملية الخلق ما بعد الموت ،حين يعود الإنسان بعد موته متحللا إلى عناصره الأولية ليتحد مع مادة الخلق وطاقته ليصبح خالقا بدوره ، هل أغنيت لي هذه الفكرة ؟ - حسنا .. حين لم يكن الخالق في مادته الأولية (الهيولى البدئية ) يملك عيونا يرى بها وآذانا يسمع بها وغير ذلك كثير، خلق بعد مليارات السنين من تطورعملية الخلق الكائنات الحية بما فيها الإنسان ، ليرى بأعينها ويسمع بآذانها ، ويتكلم بلغتها ،ويفكر بعقلها ، وهذا لا يعني أنه ليس لدى الخالق كمصدر للطاقة بشمولية تنوعها عقل مثلا، وإلا لما استطاع أن يخلق كونا ومخلوقات ، لكنه كان في حاجة إلى إغناء وجوده ، بخلق كائنات حية لها عيون وآذان وأدمغة وحواس ، تساعده في عملية الخلق ويحقق وجودا أشمل لوجوده . وإذا ما عدت إلى سؤالك كيف يتمتع الإنسان بعد موته باتحاده مع الذات الخالقة، بوجوده أو بعملية الخلق . إنه يتمتع بما تبصره عيون مخلوقاته وإن شئت عيونه ، فيرى ما في أعماق البحار وفي باطن الأرض ،وجمال الطبيعة بكل مظاهرها . والأمر نفسه ينطبق على السمع والحواس كلها المكتشف منها من قبل العلم وغير المكتشف . واتحاد المخلوق بالخالق سيحيله من صفته الإنسانية إلى صفته الألوهية إذا جاز التعبير ، ليحس ويشعر ويرى ويسمع ويفكر ويخلق، بما يخلق به الخالق ويحس به ويشعر به ويراه ويسمعه ويفكر فيه . وهنا علق الإمبراطور ضاحكا : - عفوا لا تنس التذوق ، فأنا يهمني أن أتمتع بتذوق طعم القبل وما إلى ذلك ، حين أتحد مع الذات الإلهية ! ضحك الملك وأجاب : - ستتمتع جلالتك وربما يكون هذا التمتع من أجمل ما يقدمه الخالق للمخلوق ! - سؤال للتوضيح ! هل يحس الإنسان بلحظة اتحاده مع الذات الخالقة ، التي يفقد بعدها ذاته فيها ليغدو ذاتا إلهية ؟! أدرك الملك لقمان إعجازية السؤال وتمنى لو انه سُئل لبوذي وليس له ، عما إذا كان المؤمن البوذي يحس بلحظة انطفائه في النيرفانا الكونية أو لا يحس . ابتسم وهو يدرك أن الإمبراطور لن يؤمن بمعتقده إلا إذا استطاع أن يعرف كل شيء عنه . هتف : - أنت تعقدها جلالتكم . سأجيبك اجتهادا وآمل أن يكون صحيحا . شخصيا أرى أن لحظة الإنطفاء في الألوهة أو الحلول فيها تبدأ بعد موت الإنسان مباشرة ،وقد تمر بمراحل تبدأ بالموت وتنتهي باندماج وتفاعل مادة جسد الإنسان بمادة الكون في التراب واندماج طاقة جسده وتفاعلها مع الطاقة الكونية ، وقد يكون ثمة إحساس ما بالعملية ، تبلغ ذروتها بالتحول إلى طاقة ، أي لحظة الإندماج بالطاقة الكونية الألوهية . حين يفقد الإنسان كل إحساس إنساني ليتحول إلى إحساس ألوهي كوني . لم يبد أن الإمبراطور اقتنع باجتهاد الملك وإن أحس أنه اجتهاد ممكن القبول ، فقد راح يزم شفتيه ليطبق السفلى على العليا ، ومن ثم يهتف كالعادة : - أشكر جلالتكم ! إنه اجتهاد جميل ! سنتابع فيما بعد ! **** (63) * لو آمنت البشرية بالمحبة الإنسانية وحدها ..! وهما يستلقيان وحدهما على أعشاب حديقة القصر الإمبراطوري ، في استراحة قصيرة دون حوارات قلقة حول الوجود والغاية منه ، ودون نساء يضفين بهجة ما على النزهة ، ودون أجواء فانتازية تجود بها مخيلة الملك لقمان لتلبيها السماء ، تساءل الإمبراطور في نفسه عما إذا كان العقل قد وجد أولا قبل المادة .. ورغم إدراكه أن هذا السؤال يحتمل اللامنطقية بل ويكاد يعرف مسبقا بماذا سيجيب الملك لقمان عنه ،إلا أنه قرر أن يسأله للملك . أجاب الملك بعد أن مال على جنبه وكوع على العشب محتضنا خده براحة يده ، وقد رفع الكلفة تماما بينه وبين الإمبراطور : - ما بك يا رجل هل ستعيدنا إلى البداية؟ أجاب الإمبراطور وقد كوع بدوره في مواجهة الملك ورفع الكلفة أيضا : - أتساءل لماذا ليس في الإمكان أن يكون العقل أولا وبه تم خلق الوجود! أجاب الملك بصوت لا يخلو من انفعال : - لأنه لا يمكن أن يوجد عقل في العدم ومن العدم ! هل ستعيدنا إلى البدء بالكلمة ليكن كذا فكان ! أي أنه كان يوجد عقل في العدم ويعرف لغة أيضا ؟! - أليس العقل طاقة ؟ - أجل! طاقة لكنها غير مادية وإن انطوت على المادة بإدراكها لها ! - كيف تدركها ؟ - هذا ما اصطدمت أمامه قوانين الفيزياء! - في هذه الحال تكون المادة موجودة في العقل ! - تكون موجودة بشكلها الطاقوي المتحول إلى عقل ، لأن العقل في الإساس ينتج عنها وليس العكس . - كيف ينتج ؟ - بفعل الطاقة الكونية السارية في المادة . - هل لك أن توضح لي ذلك . - لو أخذنا عقل الإنسان مثلا ، فإنه لا ينتج إلا عن جسم الإنسان كمادة وطاقة . وليس في الإمكان انتاج عقل دون جسد مادي يصدر عنه . ولو انتفى جسد الإنسان لما كان هناك عقل . - وما هو جسد المبدأ الكلي أو الخالق أو الألوهة في هذه الحال التي تنتج عقلا ؟ أدرك الملك أن الإمبراطور يدرك ذلك من الحوارات السابقة ، لكنه يريد أن يجدد معلوماته ليستوعبها على أكمل وجه ! - جسد الخالق حاليا هو الوجود كله وبكل كائناته المنظورة للبشر وغير المنظورة ! وفي البدء كان الهيولى البدئية. أخذ الإمبراطور نفسا عميقا . مسد براحة يده على العشب . انثنى العشب تحت راحة يده وعاد إلى الإنتصاب بعد مرورها عنه . تساءل وهو ما زال يمسد على العشب : - هل في الإمكان القول أنني الآن إله يداعب عشبا إلهيا ؟! - مجازا نعم كون الألوهة مجسدة في خلقها كله ، وخلقها كله مجسد فيها ، أما واقعيا فغير ممكن لأنك والعشب لستما الوجود كله . فأنتما قد لا تشكلان ذرة صغيرة في محيط الوجود الإلهي. وهنا كان خطأ المتصوفة حين كان أحدهم يرى أنه الله والله هو . تخلى الإمبراطور عن التكويع في مواجهة الملك وجلس طاويا ساقيه تحت جسده : - هل تعرف جلالتكم لماذا أعيد طرح أسئلة تتعلق بمفاهيم طرحناها ؟ تنبه الملك إلى أن الإمبراطور عاد إلى خطاب المجاملة : - لتتأكد من استيعابك وفهمك لما قلته لك ، ثم إن فهمكم للمبدأ الكلي غير مجسد. إنه أشبه بالعقل أو الطاقة السارية في الكون دون التجسد فيه ،وبهذا يفقد وجوده المادي . أو أن له وجودا ثابتا يصدر عنه العقل والخلق . وهذا الفهم يتفق مع الفلسفة المثالية في عقائد كثيرة ،كما يتفق مع فلسفة أرسطو عن المحرك الأول غير المتحرك . - أين تضعون جلالتكم فكركم من وجهة نظر فلسفية ؟ ضحك الملك لهذه المبالغة في التخاطب التي عادت إلى لسان الإمبراطور . هتف بلهجة مبسطة جدا : - ما بك يا زلمه عدت إلى مخاطبتي بتهذيب فائق ، ما أنا إلا راع ابن راع كنته ذات يوم ! ضحك الإمبراطور وهو يهتف : - لو كان الرعاة والبشر بشكل عام على القدر الذي تحملونه من المعرفة والتهذيب لكان العالم بألف خير ! كلما حاولت أن أقنع نفسي أنني أخاطب صديقا لا يختلف عني ، أجد أنني على خطأ ! - لا لست على خطأ جلالتكم . حين اطلعت على معتقدكم وأنا أبحث عن فكر يغني فكري شعرت أنكم لم تتركوا لي شيئا أفكرفيه . وأمضيت بضع سنوات إلى أن تجاوزت مفاهيمه . أنا أعتبر أن فلسفتي مادية روحية، كونها لم تلغ وجود خالق بغض النظر عن كونه إلها أو خالقا ، ولم تلغ منطق العلم . - حقاً ؟ هل أغنى فكرنا فكركم ؟ - إنها الحقيقة ! وفي المجمل وكوني إنسانا ينتمي إلى كوكب الأرض شعرت أن بعض معتقدات الشرق الأقصى وأقصى جنوب آسيا تتفوق في فهمها للوجود على معتقدات الشرق الأوسط المسماة سماوية . وفي رحلتي الكونية عثرت على معتقدات لم أجد إلا أن أحترم معتنقيها ولم أتدخل في شؤونهم . لأنني وجدت أنها معتقدات في غاية الإنسانية . تحترم الإنسان وتجله ،وهذه مسألة لها غاية الأهمية في معتقدي . - أنا في غاية السعادة بالتعرف إلى جلالتكم . ولا أعرف إذا في الإمكان أن نتابع حوارنا لهذه الجلسة . - تفضل . لدينا وقت . - كيف تفهمون مسألة مثل الحساب والعقاب في بعض المعتقدات . كما تعلم في مفهومنا ليس هناك حساب وعقاب ويوم آخر وحياة آخرة بعد الموت . - بالتأكيد حسب مفهومي ومعتقدي لا يمكن لخالق أن يحاسب ويعاقب ، لأنه حسب مفهومي سيحاسب ويعاقب نفسه ولو مجازا، وهذه مسألة غير ممكنة . فالحساب والعقاب والتشريعات هي من شأن الأمم وليست من شأن الخالق ، لأن الخالق حسب فهمي هو محبة مطلقة وخير مطلق وجمال مطلق . وهو يسمو على كل ما يتناقض مع المحبة والخير والعدل والجمال . وكخالق لا يمكن إلا أن يكون كذلك . ولا أستطيع أن أتصور خالقا بهذه العظمة يقلّب جسد إنسان في نار لأي سبب مهما كان . - وماذا عن الجنة حسب بعض العقائد ؟ - ليس هناك جنة . الجنة هي وجودنا أينما كنا ، على كوكب الأرض أو على كوكب في السماء ، فإما أن نحيله إلى جنة أو إلى جحيم ، كما يحدث على كوكب الأرض اليوم ! - لماذا يحدث ذلك حسب فهمكم ؟ - المشكلة تتعلق في خطأ العقل البشري في اجتهاده المعرفي . فالإنسان حتى الآن يتخبط في معرفة الوجود والغاية منه ، ويتخبط في معرفة الخالق والغاية من الخلق ، دون أن يهتدي إلى الصواب . الوجود في أزمة معرفية. والعقل البشري في محنة . لو أن العقل البشري على كوكب الأرض آمن بالمحبة الإنسانية وحدها ،وكرس جهده لتحقيقها ، متخليا عن أسلحة الدمار ، لتحول كوكب الأرض إلى جنة حقيقية تنعم فيها البشرية بالمحبة والطمأنية والخير . ولخلصنا الوجود من أهم أزماته !! وفيما كان الإمبراطور يشكر الملك على حسن فهمه ، أقبلت الملكة نور السماء محلقة في الفضاء ، وليس في هذا الأمر ما هو مثير للإستغراب ، المثير هو قدوم الإمبراطورة محلقة معها ، لأول مرة في حياتها ، كانت تضحك بملء فيها فبدت كطفلة ، وحين بلغتا فضاء الملك والإمبراطور أبت الإمبراطورة النزول ورجت الملكة أن تبقى محلقة بها فوافقتها على طلبها لتبدو في غاية الفرح والسعادة والملكة تطيرها معها صعودا ونزولا ، في أشكال مختلفة . وبهذا يكون الوضع قد خرج من الواقع المؤلم إلى الخيال الجميل . ضحك الإمبراطور وابتسم الملك . وكان لا بد من جلسة خيالية تسمو على الواقع الواقعي. *** (64) * حوريات عربيات يسبحن في أعماق محيط في السماء ! ما أن انتهت الإمبراطورة من تحليقها المبهج في الفضاء برفقة الملكة نور السماء وحطتا في مواجهة الملك لقمان والإمبراطور، حتى تمنت وهي في هذه الفرحة الغامرة أن تتناول غداء شواء في مكان اسطوري ! أحبط الإمبراطور الذي ليس في مقدوره أن يحقق أساطير ، فنظرإلى الملك لقمان آملا المساعدة . هتف الملك وقد أدرك أنه المقصود بالطلب " طلبات الإمبراطورة أوامر ينبغي أن تلبى " وتابع موجها كلامه للإمبراطورة : - أين تفضلين المكان جلالتك، في السماء أم في أعماق المحيط ؟ لم تتوقع الإمبراطورة هذين الخيارين فكادت أن ترقص فرحا وهي تزم قبضتيها وتهزهما هاتفة " ياي ياي " وما لبثت أن حسمت أمرها : - في أعماق المحيط ! ليكن في أعماق المحيط ! - أنت تأمرين جلالتك ! وبما أن الحفل سيكون على شرفك في مقدورك أن تدعي من تشائين ! طارت الإمبراطورة فرحا ، ونست أنها امبراطورة ينبغي عليها أن تبدي ولو القليل من الإتزان في سلوكها وردود فعلها على ما تسمع ، فبدت كطفلة تفاجأ بظواهر الأشياء لأول مرة في حياتها : - ياي ياي ! ِ ويبدو أنها أدركت خروجها على التقاليد الإمبراطورية التي تستدعي التهذيب : - أشكر جلالتكم ! سأدعو مرافقيكم جميعهم وعشرة من المقربين إلينا ! شعر الملك أن الإمبراطوره لا تريد أن تثقل عليه بكثرة المدعوين . - هذا عدد قليل جلالتك ! في مقدورك أن تدعي ملايين إن أردت ! لم تصدق الإمبراطورة ما سمعته ، لكن حين تذكرت حفل العشاء الذي شارك فيه الملايين من سكان الإمبراطورية والذي دام لزمن أسطوري دون أن ينتهي الليل . قررت أن تدعو مليون إنسان . **** لم تمر سوى لحظات حين حلقت في الفضاء مئات السفن العملاقة من زجاج شفاف وآلاف البشر يصعدون إليها ليجلسوا على مقاعد وثيرة . وما أن انتهى صعود البشر حتى شرعت السفن في الهبوط إلى مياه المحيط محلقة تحت الماء وسط آلاف الأنواع من الأسماك والدلافين والحيتان والأخطبوطات والشعب المرجانية والطيور المائية والحوريات والأفراس البحرية والنهرية ،ومئات الكائنات غير المعروفة مختلفة الأشكال والألوان والأحجام . جلس الملك لقمان محتضنا الطفلة عناة فيما بدت الإمبراطورة وركاب السفينة منبهرين بما يحيط بهم من عوالم . قفزت بعض الجنيات والإنسيات والرجال والشباب وراحوا يرافقون السفن سباحة في الأعماق دون أن يتعبوا ودون أن يبتلوا بالماء ودون أن يحتاجوا إلى اسطوانات أكسجين . تساءل الإمبراطور بدهشة مخاطبا الملك وهو يدرك أنهم في عالم خارق لقوانين الطبيعة : - أين نحن أيها الملك ؟ أجاب الملك : - نحن في المطلق النسبي ! استعصى الفهم على الإمبراطور . فتساءل عن ماهية هذا المطلق النسبي ! أجاب الملك : - نسبية الحقيقة المطلقة التي لن يعرفها البشر بسهولة . - هل يعني هذا أننا الآن لسنا في حقيقة مطلقة ؟ - أكيد ! أخذت السفن تجتاز سهلا ربيعيا بين سلسلة جبال مرجانية عملاقة انتصبت فيه مئات آلاف الموائد العامرة بكل أنواع المقبلات والخمور وأحيطت بآلاف مناقل الشواء التي كان يشوى عليها كافة أنواع اللحوم ! ووقف إلى جانبها آلاف الحوريات والشباب الصغار الذين بدوا في غاية الجمال !! فجأة انشقت السفن عن أبواب من أسفلها لتنزلق المقاعد بمن عليها لتحط جالسة إلى موائد الطعام ،وانطلق صوت يشير إلى الناس بأن يبقوا طبيعيين وكأنهم على اليابسة وليس تحت الماء ، فيما ارتفعت السفن من الأعماق لتختفي خلال لحظات من صعودها وكأنها لم تكن . بدت الإمبراطورة في غاية الدهشة وهي تجد نفسها جالسة إلى مائدة في ماء لا يبدو أنه ماء ، فلا يبتل المرء فيه ويتنفس بشكل طبيعي ،والموائد تحفل بكافة أنواع المقبلات دون أن تبتل والكؤوس تملأ بالخمور دون أن يختلط الخمر بالماء ، وأعجوبة العجائب النار المشتعلة في الماء وتشوى عليها اللحوم دون أن يطفئها الماء ، وحين راحت تجوب بنظراتها في فضاء المكان لترى الحوريات السابحات مع مئات الكائنات ، والجبال المرجانية الشاهقة التي بدت في غاية الروعة والجمال ،شعرت أنها في عالم من أحلام لا يمكن لبشر أن يحلموا به على الإطلاق . تساءلت عن أكثر ما أدهشها : - هل تخبرنا جلالتك عن سر هذه النار المشتعلة في الماء ؟ أطرق الملك للحظات وما لبث أن هتف : - نحن يا سيدتي في عالم لا يدركه إلا خالقه ! في الإمكان القول أننا في عالم يتآخى فيه الماء والنار ، فلا الماء يطفئ النار ولا النار تؤثر على الماء ، وهذا ينطبق على الكائنات كلها هنا . كل يجري بما يتناقض مع المعرفة الإنسانية وقوانين الطبيعة . إنه قانون الخالق حين يشاء أن يخرق القوانين وخاصة تلك التي عرفها الإنسان . صدحت موسيقى حالمة جعلت المحتفلين يهيمون في العالم الذي وجدوا أنفسهم فيه . نهض الملك لقمان طالبا شرب نخب الإمبراطورة المحتفى بها . شرع الجميع في النهوض وقرع الكؤوس . عانقت الإمبراطورة الملك شاكرة له كل هذه الحفاوة ألتي أحاطها بها . تساءلت عن الحوريات المحلقات في الماء عما إذا كن حوريات سماويات أم أنهن من كواكب أرضية ؟ قال الملك : - هؤلاء حوريات سماويات لا يوجد منهن إلا في السماء ، إن شئت حوريات من كواكب أرضية سأحضر من أجلك ! وهنا هتفت الإمبراطورة : - هل هذا ممكن ؟ - بقدرة الخالق لن يصعب علي شيء ! - أريد حوريات من كوكب جلالتك ! - على عيني !! أنا أنتمي لمنطقة عربية يقال لها بلاد الشام فيها أربعة بلدان هي سورية والأردن ولبنان وفلسطين . انظري هؤلاء حوريات من بلاد الشام ! تنحت الكائنات المحلقة في الماء جانبا لتفسح مكانا في الأعماق للقادمات الجديدات .. ظهرت مائة فتاة سورية بلباس السباحة ، تبعهن سرب من مائة فتاة أردنية ، فسرب من مائة فتاة فلسطينية ، فسرب من مائة فتاة لبنانية ، فبدون كالأقمار وهن يحلقن في لجة الماء . بدت الإمبراطورة وكأنها غير قادرة على تحمل كل هذا الفرح ، حين نهضت وشرعت بالتصفيق الحار لكل هذا الجمال ، فنهض كل من في الروض المحيطي وشرعوا في التصفيق . ***** (65) * اختلاط الجن بالإنس ! لم يكد الجمهور ينتهي من التصفيق للشاميات حتى ظهرت في أعماق المحيط أفواج من نساء الكرة الأرضية لا حصر لهن ، فظهر فوج عربيات من مصر والعراق والمغرب والخليج والجزائر كما ظهرت أفواج لنساء آسيويات من كردستان وإيران وتركيا والصين واليابان وأندونيسيا وماليزيا والهند وباكستان ، وأفواج لنساء سود من افريقيا ،وأفواج لنساء من أوروبا وافواج لنساء من الأمريكيتين ... كادت الإمبراطورة أن تطير من الفرح والملك لقمان يضعها في عالم من أساطير الأساطير التي لم ولن ترى مثيلا لها على الإطلاق ، ولم تعرف كيف تشكر الملك لكل هذا العالم فوق الخيالي . اختلط الجن بالإنس وحور العين السماويات بحور العين الأرضيات والشباب ببنات الأرضين وبنات السماوات ومخلوقات البر بمخلوقات البحر والشعب المرجانية بالورود والنباتات ، فقربت المسافات وشدت الألحان وترنمت الأوتار وشنفت الأسماع بما لم تسمعه آذان وتمتعت الأنظار بما لم تبصره عيون ، وعبقت العطور وأوغلت الأحلام في روعة عجائب المكان ، وسما الذوق وبودلت القبل والعناق والتفت في لجة الماء سيقان الشباب بسيقان الفتيات ، حتى سفافيد الشواء تألقت رقصا في عالم سما بالحب معلنا محبة الخالق للمخلوقات ! نهضت الإمبراطورة إلى الرقص مرتدية ملابس سباحة فنهضت الملكة نور السماء والملك لقمان والإمبراطور وربة الجمال ونسمة وأستيروعناة وكل من كانوا على موائد الطعام .. وشرع ملك الملوك شمنهور الجبار في تقليب فتيات الجن والإنس على راحتي يديه وقد كبر حجمه ليغدو كطود زلزل أعماق المحيط ،فشرعت الفتيات على التشبث بيديه الهائلتين لترقيص سيقانهن وأجسادهن في الماء والتسلق عليهما، أو السباحة على صدره الفسيح ليتقلبن عليه ويقهقهن وهن في غاية الفرح والسرور . حين عاد الملك والملكة والإمبراطور والإمبراطورة إلى موائد الطعام دعا الملك جميع الإنسيات وجميع الحوريات للمشاركة في تناول الطعام . حلقت سفافيد الشواء في أعماق المحيط وقد تفوحت رائحة الشواء لتعم الأعماق . هتف الإمبراطور متسائلا بدهشة : -هل يعقل أن تخرق قوانين الطبيعة إلى هذا الحد غير المعقول ؟ استغرب الملك السؤال ، إذ بدا له أن الإمبراطور غير قادر على تقبل وجود عالم خارق لكل القوانين الفيزيائية والكيمائية وكل قانون حتى ما لم يدركه عقل بشري بعد ! هتف : - ألا ترون جلالتكم أن من أبدع القوانين وأوجدها قادر على خرقها ؟ عبث الإمبراطور بشعر رأسه وهو يرنو إلى بخار يصعد من سفود العجل الصغير المتوقف على ارتفاع من المائدة وقطع اللحم تفصل عنه لتحط في أطباق الآكلين . وما لبث أن هتف : - لا أعرف أشعر أنني في عالم فوق طبيعي وليس خارقا للقوانين فحسب . - هي فوق طبيعية وخارقة لك أنت وربما لي أيضا لكن ليس لمن أوجدها ! - كيف لا تكون خارقة لمن أوجدها ؟ - لأنها لا شيء إذا ما قورنت بالوجود المطلق الذي أوجده . - وإذا كان موجدها هو الطبيعة ؟ - تكون الطبيعة هي الموجد وبمعنى أدق : الخالق . وهي في هذه الحال قادرة على خرق قوانين أوجدتها ! - ولماذا تريد خرق ذلك في هذا الجو والمكان بالذات ؟ أدرك الملك أن الإمبراطور بدأ بتعقيد الأسئلة . تسأءل : - ألم تطرح جلالتكم هذا السؤال من قبل ؟ - نسيت ! - أظن أنك طرحته وأظن أنني أجبت ! - أكون شاكرا لو أجبتني مرة ثانية ! - حسنا ! ثمة احتمال أنها تريد أن تقول لنا . أيها البشر مهما فكرتم لن تتوصلوا إلى حقيقتي المطلقة ،أو شبه المطلقة، بسهولة . لذلك ينبغي عليكم أن توظفوا عقولكم على وجهها الأكمل قدر الإمكان لتصلوا إلى حقيقتي ، وحقيقتكم ،والغاية من وجودكم ! وثمة احتمال آخر يتعلق بتحقق ما أتخيله أنا من قبلها ، فتقف إلى جانبي ، لأن غايتي في نهاية الأمرتتفق إلى حد ما مع غايتها . - ولماذا أنت بالذات وليس أحد غيرك ؟ - لأنني قد أكون الوحيد الذي سعى إليها واتفق سعيه مع غايتها. - ألم تسعى هي إليك ؟ - لا أظن ، فهي لا تسعى إلى أحد يفترض أن الغاية من وجوده معروفة لديه ، لكن حين رأت أن سعيي دون الآخرين يتفق مع غايتها . وقفت إلى جانبي . ويمكن القول أنها سعت إلي ! - وما هي غايتها ؟ - أن تحقق وجودها على شكله الأكمل ،وإن شئت تحقق ذاتها ! - وكيف يمكن أن يكون وجودها الأكمل ؟! - سبق وأن تطرقنا إلى هذا الأمر . ليس هناك غاية أجمل ووجود أكمل ، من تحقيق قيم الخير والحق والعدل والجمال . - وهل هذا الأمر لن يتحقق إلا بعمل الإنسان ورقيه ؟ - أجل . فهو منها وهي منه . - ولماذا لم تحققه هي وحدها دون الإنسان ؟ - لماذا تفصل وجود الإنسان عن وجودها ، فالإنسان أرقى ما أوجدته ، ليشاركها، وإن شئت ليساعدها في عملية الخلق والغاية منه ؟ ولو أنها قادرة على تحقيق ذلك دون عقل الإنسان وعمله ، لفعلت ، وقد تفعل كما خلقت الوجود دون أن يكون هناك إنسان ، لكن هذا قد لا يتم قبل مليار سنة أخرى ؟! - وهل ترى جلالتكم أن الإنسان يسير في الإتجاه المفترض له أم أنه شذ عن القاعدة ؟ - يمكنني القول أن الإنسان بشكل عام شذ عن القاعدة ، بدليل الحروب والقتل والدمار وعدم نصرة الحق وتحقيق قيم العدل والجمال بين الأمم، فالمصالح الذاتية والخاصة والأنانية ما زالت تتحكم بالإنسان ،حتى تكاد المحبة أن تنتفي بين البشر، ومع ذلك يمكن القول أن ثمة شعوبا بدأت تتلمس طريقها نحو حضارة إنسانية تحترم الإنسان ، وثمة علماء ومفكرون وفلاسفة وأدباء ساهموا في ذلك أيضا وما زالوا يساهمون في تطوير الحضارة ، إنما بشقيها الإيجابي والسلبي . فلا يمكن مثلا اعتبار صناعة أسلحة الدمار بكل أنواعها تساهم في تطوير الحضارة الإنسانية ، هي تساهم في تطوير حضارة القتل ، وتفوق القوي على الضعيف . والسبب بكل تأكيد هو أن الإنسان لم يعرف بعد الغاية التي وجد من أجلها ، وأن وجوده لا ينفصل عن الوجود ، بغض النظر عما إذا كان الوجود وموجده هو الطبيعة أو الخالق أو حتى الله في مفهومه المطلق كخالق وليس كإله يحتاج إلى عبادة، بل إلى خالقين ومبدعين يساهمون معه في عملية الخلق وتحقيق الحضارة الإنسانية ، وإن شئت الكونية . ظل الإمبراطور متفكرا للحظات ليهتف : أشكر جلالتكم .. رغم أن أسئلتي تكاد تكون مكررة إلا أن إجاباتكم تغنيها كل مرة عن سابقتها وتضيف إليها ما هو جديد . رفعت الإمبراطورة كأس الملك والإمبراطور لتشرب نخبهما ، فرفعت الملكة كأسها لترفع آلاف الكؤوس بل ولتقرع محدثة رنينا في أعماق المحيط . **** (66) ليلة حلبية مغمسة بدموع الملك لقمان !* في الإستراحة التي أعقبت الحوار بين الملك لقمان والإمبراطور ألقى الملك نظرة على السفوح المرجانية المحيطة بجانبي الروض وإذا بها تتحول إلى مئات الألوان، ثم على الكائنات المحلقة في أعماق المحيط وإذا بها تتحول كذلك، ثم على الأعشاب البحرية ، فعلى موائد الروض ،وإذا بالعالم يضج في عالم من الألوان المتغيرة بحيث لا يشبه لون لونا آخر، وسط موسيقى رومانسية هادئة كانت تتردد من كافة أرجاء الروض ، والفتيات يلقين رؤوسهن على صدور الشباب ليمطروا رؤسهن بالقبل وليهيم الجميع في عالم من السحر والمحبة دون حدود . ما أن أنهت الموسيقى وصلتها الرومانسية حتى انفتح باب هائل وسط سفح مرجاني ليتكشف عن مسرح هائل تقف عليه أكثر من مائة فتاة يرتدين ثياب رقص بيضاء . وظهرت في عمق المسرح فرقة موسيقية وقف خلفها عشرات فتيات الكورال ، شرعت في عزف موسيقى عربية حلبية . وقدم من عمق المسرح شاب وسيم فائق الجمال يرتدي طقما أسود . وقف على مقدمة الخشبة أمام الفتيات الواقفات بانتظام . بقدراته الخارقة جعل الملك لقمان جميع المحتفين يعرفون اللغة العربية ويتذوقونها حتى أنه نمّى إحساسهم الجمالي العربي ليعيشوا الجو كأنهم عرب . شرعت الموسيقى في عزف لحن " آه يا حلو يامسليني " شرع الملك لقمان وجميع المحتفين بالتصفيق. انطلق صوت الشاب يشدو بأبدع ما تجود به الأصوات : " آه يا حلو يا مسليني .. يلي بنار الهجر كويني إملا المدام يا جميل وسقيني يا عيني .. من كتر شوقي إليك ما بنام " ! رفع الملك لقمان كأسه ووقف يشرب نخب الفرقة . ولم يعد إلى الجلوس ،بل وضع الكأس وشرع يغني مع المغني والفرقة ويرقص وهو في حالة هيام عجيب، وقد راحت دموع تنزلق من عينيه وتنحدر في انزلاقها على وجنتيه لتسقط على صدره . " حبيت جميل يا ريتني ظلّه .. حاش الجمال والحسن دا كلّه لما رأيته ملك فؤادي .. صبّرت قلبي وحملت غلّو" أدرك الجميع أن الملك يعيش حالة وجدانية ذكرته بسورية وبأوطانه الحزينة المنكوبة، فنهضوا يرقصون معه، كما نهض كثيرون من الجالسين .احتضنته الملكة وشرعت تراقصه وهي تحتضنه ضامة رأسه إلى صدرها ماسحة دموعه . تمايلت الأجساد بين الموائد بل ووقفت بعض الفتيات السوريات عليها وشرعن في رقص معبّر تفاعل مع أقصى إمكانيات الجسد ، فيما انطلق بعضهن في الماء ليرقصن بمرافقة الدلافين . أنهت الفرقة الوصلة ودخلت في وصلة جديدة : " خمرة الحب اسقنيها .. همّ قلبي تنسني عيشة لا حب فيها .. جدول لا ماء فيه يا ربة الوجه الصبوح .. أنت عنوان الأمل اسكريني بلثم روحي .. خمرة الروح القُبل أن تجودي فصليني .. اسوة بالعاشقين أو تضني فاندبيني .. في ظلال الياسمين " وشرع الملك لقمان يكرر المقطع الأخير بانفعال ، دون أن تنضب دموعه: " أن تجودي فصليني .. أسوة بالعاشقين " ولم تجد الملكة إلا أن تحتويه تاركة دموعة تنزلق على راحتها ، مدركة أن ذلك يريحه كثيرا ،وأن رغبته في البكاء والحنين إلى سورية والأوطان المنكوبة يكتنف دخيلته . وتمنت الملكة لو في مقدورها أن تشق صدرها لتضع الملك فيه ، حين قفلت الموسيقى الوصلة ودخلت في وصلة جديدة بمرافقة صوت المغني الذي تجلّى عن إمكانيات ومساحات هائلة في صوته : " ابعث لي جواب وطمني .. ولو إنه عتاب ما تحرمني ابعث لي جواب وطمني . غيابك طال .. وبستنا .. وقلبك مال .. تتهنا . إن كنت هويت ونسيتني .. وعليه جنيت وما رعيتني ابعث لي جواب وطمني .. صبرت عليك وذقت مرار.. وبعثت إليك أخبار وأخبار أتاريك نسيتني مع الأيام .. ورضيت تفوتني على الآلام ابعت لي جواب وطمني .. أنا ليه إله يعرفني .. من حر الآه ينصفني مش قادر أقول انته الجاني .. حاصبر على طول على أحزاني ابعث لي جواب .. وطمني " أنهك جسد الملك لقمان من الرقص والبكاء ومرافقة الغناء في بعض المقاطع ،وكاد أن ينسى أنه في السماء ، بل في شوارع حلب الجميلة غير المدمرة ، حيث تتكئ النوافذ على النوافذ وتحاكي الشرفات الشرفات وتنام الحارات على صدر الحارات، وتنثر قلعتها من أعالي قمتها تحية الصباح زهورا على الحلبيين . أجلسته الملكة وظلت تحتوي رأسه إلى صدرها وتمسح بيدها ما بقي من آثار دموع على وجنتيه . همس لها : - هل دعوتم الفرقة للجلوس معنا . - أجل يا حبيبي دعونا الجميع . المغني والموسيقيين والكورال والراقصات . - اعتذري لي من الإمبراطور والإمبراطورة .. يبدو أنني ثملت ! - لا يا حبيبي لم تثمل مجرد حالة حزن انتابتك لتذكر سورية والأوطان المنكوبة . - تقولين منكوبة ؟ ألم يقل لي الملك شمنهور في بداية رحلتنا أنه سحب السلاح من كوكب الأرض وأن السلام قد عم وأعيد إعمار سورية وأن الفلسطينيين والإسرائيليين تصالحوا وأقاموا دولة ديمقراطية ؟ - أجل يا حبيبي أجل ! - إذن لماذا رأيت حلب وحمص مدمرتين ، هل تكذبون علي ! - لا يا حبيبي ربما حلم انتابك ! - أين أنا الآن ؟ - في السماء يا حبيبي في أعماق محيط ! - وهل هذا صحيح ؟ - أجل يا حبيبي . - وهل هو واقع أم خيال ؟ - بل واقع واقع واقع ! - خلص صدقت طالما أنت تلحين وتصرين على ذلك ! لكن إياك أن أعود إلى الواقع الآخر ! - لا لن تعود يا حبيبي ! - سأعيد الملك شمنهور وملوكه وجيوشه إلى قماقم سليمان إن عدت !!! احتوته الملكة وراحت تقبله وتربت على ظهره . إلى أن غفا في حضنها . وسط صخب المحتفين وقرع الكؤوس وصدح الموسيقى وتحليق الكائنات في الماء . **** |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [8] |
|
الأُدُباءْ
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
(67) * رؤيا الملك لقمان بالحلول في الذات الإلهية المطلقة!! انتفض جسد الملك لقمان أكثر من مرة خلال نومه العميق على صدر الملكة نور السماء . أدركت الملكة أن الملك يحلم وإلا لما انتفض جسده . ربتت على ظهره وقبلت جبينة ، فيما كان الإمبراطور والإمبراطورة ومئات الآلاف من المحتفين يمتعون أنظارهم بالعوالم الساحرة وتحليق الكائنات في أعماق المحيط ،ومئات الآلاف يشاركونها التحليق والسباحة دون أن ينتهي نهار أو ينقضي ليل ، ولم يعد أحد يعرف إن كان في نهار أم في ليل ،كما لم يعد أحد يشعر بمرور الزمن ،وكأن قوانين الطبيعة قد اخترقت للمرة الثانية في هذه المسألة أيضا . رفع الملك جفنيه ببطء عن عينيه على أثر انتفاضة صغيرة من جسده. لم يعد إلى كامل وعيه بعد . لم يعرف أين هو . عبق أنفه بالعطر المتفوح من صدر الملكة . رفع يده قليلا وحركها في الماء ليدرك أنه ما زال في أعماق المحيط . تنبهت الملكة إلى استيقاظه . قبلت وجنته . - هل استيقظت يا حبيبي ؟ همس : - أجل . - هل كنت تحلم ؟ - أجل ! - كان جسدك ينتفض بين فترة وأخرى . - كنت أحلم بما لا يتصوره عقل على الإطلاق ! - بماذا يا حبيبي ؟ - حلمت أنني حللت في المطلق الأزلي الأبدي! - الله ؟ - الله . الألوهة . الخالق . المطلق ! قبلت الملكة جبينه . وهمست : - هذه رؤيا رائعة ! - كلمة رائعة وكل مفردات اللغة لا تكفي للتعبير عنها ! - ألا يمكنك أن تخبرني شيئا عما رأيته وكنته ؟ - إنه فوق قدرة العقل على التصور! - كيف ؟ - يمكن القول أنني رأيت نفسي في كل مكان وخارج حدود أي مكان ! أتمنى أن ألقى خالقي بالشكل الذي رأيته فيه في هذه الرؤيا . - يا ألله يا حبيبي ! قص علي الرؤيا من بدايتها ! - كنت جالسا في ظل صخرة كبيرة في سهل فسيح صحراوي تنتصب فيه مئات الصخور العملاقة، التي بدت كمنحوتات هائلة فائقة الجمال،أتأمل في الوجود الإلهي . وكنتم تجلسون على شرفة المركبة على مسافة عشرات الأمتار مني ، دون أن يجرؤ أحد على الإقتراب مني أو اقتحام خلوتي وقطع تأملاتي ، حتى أنت لم يكن مسموحا لك أن تقتربي مني ! كان قد مر على عزلتي بضعة أيام لم آكل فيها ولم أشرب ،وقد قررت أن أحيا في زهد وتقشف إلى أن أصل إلى الله أو أموت دون ذلك ، بعد أن فشلت في تحقيق العالم الذي أطمح أن أعيش فيه ، وبعد أن تبين لي أنه لم يتحقق شيء مما كنت أظن أنه تحقق. كان كل شيء مجرد أحلام وأوهام وتخيلات . - حبيبي ! كنت تهرعين نحوي بين فترة وأخرى ،فأشير بيدي إليك أن لا تقتربي مني ، فتتوقفين وتشرعين في البكاء والتوسل إلي أن أكف عما وضعت نفسي فيه ، ويهرع خلفك الملك شمنهور ونسمة وعناة وأستير وربة الجمال وآخرون ويشرعون في البكاء والتوسل بدورهم ، دون جدوى مني . شرعت الملكة في ضم جسد الملك بشيء من الشدة وكأنها تريد أن تدخل جسده في جسدها،وهي تهمس " حبيبي " فيما هو يتابع : كنت أجلس إلى جوار الصخرة بصمت مطبق مرتديا ثوبا أبيض طويلا وكوفية بيضاء،أمضي نهاري مستندا إليها وأمضي ليلي مستلقيا أو نائما إلى جوارها. لم أشعر بعد ثلاثة أيام من اعتزالي بحاجتي إلى قضاء الحاجة ، كما لم أشعر بحاجتي إلى الطعام والماء ، فلم أجع ولم أعطش ولم أبرد ولم يتغير شيء في . أدركت أن هذا الخرق لقوانين الجسد لم يحدث إلا من قبل واضع القوانين نفسه ، وأنه معي ويدرك ما أطمح إليه . أنتم من تغيرت أحوالكم بسببي فلم تعودوا قادرين على حياة البذخ والترف وأنتم ترون الزهد الذي قررت أن أعيش فيه . في اليوم السابع من اعتزالي ظهرلي فجأة شخص يشبهني . كان يجلس أمامي في جلال مهيب . سألته " من أنت " قال " أنا الله يا لقمان " لم أصدق أن أرى نفسي أمام نفسي بعد مليارات السنين الضوئية التي قطعتها بحثا عن الله . فلو عرفت أن المسألة بسيطة إلى هذا الحد لكنت وفرت على نفسي كل هذا العناء . قلت للرجل شبيهي " أنت لست الله ولن تكونه " قال بعد صمت " أجل أيها الحبيب لقمان ، أنا لست الله ، فوجودي حسب فهمك موجود في كل شيئ وكل شيئ موجود في وجودي ، فكيف أكون أنا أنت وتكون أنت أنا ؟ كل ما في الأمر أنني قررت التجسد في انسان لمخاطبتك ، وفضلت أن يكون الإنسان يشبهك كي لا أدعك تذهب بعيدا في انطباعات مختلفة . لم أتمكن من ذلك بسهولة خاصة وأنك أول إنسان أتمكن من التجسد في مثيل له منذ أن وجد الإنسان " بدأت أقتنع بكلام الرجل بل وصدقت أنني أمام تجسد للذات الإلهية وإن لم يكن الذات الإلهية نفسها أو كلها . لم أعرف ماذا يتوجب علي أن أفعل هل أعانقه ؟ وهل سأشعر أنني أعانق الله ولا أعانق نفسي ؟ ودون أن أخرج من حيرتي مددت يدي وأشرعت حضني ليلقي الله نفسه عليه . احتضنته واحتضنني ، لنشرع في البكاء على كتفينا . نبكي فرحا بلقائنا وحزنا على عدم تحقيق طموحاتنا . فقد بدا الله حزينا لأنه لم بستطع بعد أربعة عشر مليار عام من عملية الخلق أن يحقق الوجود الكامل والإنسان الكامل ،وأنا بدوري فشلت في أن أهدي إنسانا إلى إيماني . جففنا دموعنا ونحن نعود إلى جلوسنا ، أحدنا في مقابل الآخر . سألت الله : - لماذا كلفت نفسك وتجسدت في صورتي لتظهر لي يا إلهي ؟ قال : - لأنني في حاجة إليك لأن تكون معي على كوكب الأرض وليس في الكون كله ! - أنت بعظمتك في حاجة إلي أنا الإنسان الضعيف ؟ - أجل يا لقمان . وأدعوك لأن تكون مع فكرك . لأن فكرك هو فكري . ألست القائل بتكامل عملية الخلق بين الخالق والمخلوق . ألست القائل بأن الغاية من خلق الإنسان هي أن يشارك في عملية الخلق وأن يبني الحضارة الإنسانية ويحقق قيم الخير والحق والعدل والجمال . هل تراني كنت قادرا على تحقيق ذلك ولم أفعل ؟! - لكني فشلت يا إلهي ولم أمنع حتى قتل عصفور ! ولم أنجح في جعل إنسان يحب إنسانا آخر . - ينبغي عليك أن تصبر كما صبرت أنا . وأنت تدرك كم طال صبري إلى أن تمكنت من خلق الإنسان والوصول إلى ما وصلت إليه . - يا إلهي لن يكون لدي هذا الصبر كإنسان . لن يكون إلا إذا كنت معك وفيك !! خاصة وأن عمري قصير جدا إذا ما قورن بعمرك. وأطرق الله للحظات يا حبيبتي قبل أن يتساءل : - هل هذا قرارك الأخير أيها الحبيب ؟ قلت: أجل يا إلهي . فطمعي في محبتك لا يضاهيه طمع . وحلمي بأن أكون معك وفيك لا يرقى إليه حلم . قال: - حسنا أيها الحبيب لقمان . سيكون لك ما أردت . وستكون دون البشرأول إنسان يتحد مع وجودي ويحل فيه وهوحي ودون أن يموت. أتمنى لك وجودا جميلا في وجودي . وسأجعل من اتحادك بي وحلولك في آية وعبرة ومعجزة للبشرية كلها .. لتسير في اليوم القريب على خطاك . ولنحقق ما لم نحققه معا من قبل ، ليرقى الخلق بالحضارة الإنسانية إلى أسمى معانيها ولتسود المحبة العالم . ومد الله يديه ووضعهما على كتفي قبل أن يعانقني مودعا . قال . - أنت بعد اليوم لن تكون أنت . وصورتي هذه لن تكون ثانية . أودعك أيها الحبيب. وعانقني الله مودعا يا حبيبتي . وعانقته وأنا أبكي فرحا وأشكره . ارتفع بضعة أمتار عن الأرض ليختفي بعد ذلك وكأنه لم يكن . لم تمر سوى لحظات على إختفاء الله في وجوده المطلق . حتى أحسست بقوة تدفعني نحو الفضاء لأرتفع كما أنا في جلستي . أدركت أن وعد الله لي سيتحقق . ضممت أصابع يدي إلى شفتي وأرسلت لك ولطاقم المركبة بضع قبلات عبر الأثير.. وما حدث بعد ذلك لا يمكن لعقل بشري أن يتصوره . فأول ما حدث هو أن جميع المنحوتات الصخرية بما فيها الصخرة التي كنت أجلس إليها طوال سبعة أيام قد نهضت خلفي في أسراب منتظمة . تقدمتها الصخرة التي كنت أجلس إليها . لا أعرف كيف سأستطيع أن أكمل لك هذه الرؤيا يا حبيبتي وأن أصفها بدقة ، فهي كما أشرت أكبر من أن توصف . ضمت الملكة الملك إليها . وعانقته . طالبة إليه أن يأخذ راحة ليكمل لها الرؤيا فيما بعد ، حسب ما يمكن للغة أن تعبر عنه . **** (68) المعراج السماوي والحلول في الذات الإلهية حسب رؤيا الملك لقمان . * حين رأى الملك لقمان أن الإمبراطور والإمبراطورة يتحاضنان بانسجام رومانسي ويرقبان سحر العوالم المحيطة بهما في أعماق المحيط، ألقى رأسه ثانية على صدر الملكة وشرع في إكمال قصة الرؤيا لها . قال: " رأيتك يا حبيبتي تثبين وتقفزين في الفضاء لتلحقي بي، وليثب خلفك كل من على المركبة . ونظرا لأن الصخور كانت تتقدمكم في صعودها خلفي فقد توقفت في الفضاء للحظات لتتيح لكم أن تتقدموها . وبالفعل تم ذلك إكراما لكم . فأصبحت تحلقين على مسافة أمتار خلفي تتبعك نسمة وأستير، فنساء وفتيات المركبة، فالملك شمنهور وباقي الرجال من الجن والإنس . تابعت صعودي لتصعدوا خلفي تتبعكم الصخور. تغير خط صعودي العمودي لينحني في شبه قوس .أتاح لي تغيير مسار صعودي أن أنظر خلفي إلى أسافل الفضاء لأرى الهول : كون بأكمله يصعد بانتظام خلفي ،وقد تجزأت عوالمه إلى مجموعات انتظمت في أسراب محلقة خلف الصخور : جبال ، تلال ، كروم ،حدائق ، ورود ، أشجار ، أنهار ، بحار ، محيطات، ينابيع ، شلالات ،كواكب ، شموس ،أقمار ،نجوم ، شهب ، مذنبات ، مجموعات بشرية من نساء وأطفال . كل ما لا يحصى من أنواع الطيور والحيوانات، نسور،صقور ، عقبان ، حمام ، حجل ، لقلق ، رخم ، نوارس ،قبرات ، غزلان ،زرافات ، وعول ، أرانب ، نمور ، أسود ، ذئاب ،قطط ، كلاب.. حيتان ،دلافين ، أسماك ، أخطبوطات ،أفاع .. وشعرت أنه أصبح لدي قدرة فائقة على الإبصار بحيث رأيت بين الأسراب المحلقة خلفي ما لا يصدقه عقل : أسراب من حبات الزيتون الأخضر ،وأسراب من سنابل القمح ، وأسراب من قطوف العنب ، وأسراب من التفاح ،وأسراب من البرتقال ، وأسراب من الفريز ،وأسراب من البلح ! وما أثار في نفسي البهجة أكثر هو أسراب الألوان التي أضفت ألوانها على الكائنات كلها ، وأسراب الروايات والأقاصيص، وأسراب الكلام ، وأسراب الأشعار . وأسراب الألحان . وأسراب النايات والأعواد والربابات والكمنجات.. وأسراب الرائحة التي تفوحت ليعبق عطرها في موكب المعراج كله . أجل يا حبيبتي . أدركت أن الله أراد أن يجعل لي آية تكون نبراسا للبشرية مصدقة لما جئت به، من أنه الواحد في الكل ،والكل في واحديته يتحد ، فجعل آيته في هذا المعراج الكوني الذي أقامه لي . صدحت موسيقى كونية . شرعت الكائنات كلها ترقص في السماء صاعدة خلفي في طريق لولبي وقد لفتني هالة سديمية من ذرات فضية مشعة . ليس في مقدوري أن أصف لك شعوري ومدى فرحتي وأنا أدرك أن الخالق اصطفاني من بين البشر وأنني الآن أزف إليه في هذا المعراج المهيب لأحل في ذاته وأتحد بها إلى الأبد . شعرت أنني أحلق في سقف الكون ،وأنه لم يعد ثمة مجال للصعود أكثر، حين انعطف خط تحليقي راسما دائرة في الكون، لترسم الكائنات ما لا يحصى من دوائر تحليقها خلفي . انبثقت أمامي هالة سديمية من نور أشبه بغيمة ناصعة البياض تخللتها إضاءة خافتة بدت كأنها أنوار شموع . أحسست بجسدي يتوقف قبل ولوج الهالة . أدركت أنها بداية النهاية . ضممت أصابع يدي إلى شفتي وألقيت عليك وعلى الكائنات عشرات القبل . وقبل بضعة أمتار من اقترابك مني هبط موكبك ليمرعلى مسافة أمتار أسفل مكاني .. لوحت لك بيدي . فلوحت بيدك وقد أدركت أنها النهاية . لم تكوني حزينة ولم تكوني فرحة ، وبدا واضحا أنك تقبلت إرادتي وإرادة الخالق شبه مرغمة، وأنك تجاهدين قدرالإمكان كي لا تبكي . ابتعدت في رسم الدائرة تتبعك الكائنات إلى أن أصبحت في منتصف قطر دائرة في مواجهتي وأنت تلوحين بيديك وترسلين القبل لي . لوح طاقم المركبة وزغردت الكائنات . ألقيت علىيك وعلى الجميع قبلتي الأخيرة ، واسترخيت متمددا على طولي داخلا في هالة النور السديمية .. اجتاح جسدي خدر لذيذ لم أشعر بما هو ألذ منه في حياتي .. توغلت في عمق الهالة . وكلما توغلت في عمقها ازداد شعوري بالمتعة، إلى أن فقدت إحساسي بوجودي دون أن أفقد إحساسي بالمتعة . ولم أعرف أن وجودي المادي كله سيتحول إلى متعة مطلقة دون أن أعرف كيف ، فما وجدت نفسي فيه لا يمكن وصفه . إنه المتعة المطلقة . المتعة التي لا يشعر بها إلا من كان في مرتبة الألوهة . هل تعرفين ما معنى أن تكوني في كل مكان وأن تشعري بوجود كل مكان ؟ أن تكوني في الأصغر الذي لا يوجد أصغر منه على الأطلاق . ولو أنني ضربت لك مثلا عن حجم هذا الأصغر لقلت لك أننا لو كبرناه تريليون مرة لكان بحجم رأس دبوس !! فكيف سأصف لك هذه المتعة التي أشعر بها وأنا في هذا الأصغرالمعجزة وأقوم بعملي فيه ! وأن أكون في الأكبرالذي لا يوجد أكبر منه ، فهذا يعني أنني كنت في الكون كله . كنت في ترليونات المجرات وأحلق في فضاءاتها وسماواتها . فهل هناك ما هو أجمل من ذلك ؟ وكنت في كل مكان وأرى كل شيء في كل مكان ، وهذا ما لا يمكن وصفه . تخيلي نفسك وأن لك آلاف العيون منتشرة في كافة أنحاء جسدك داخله وخارجه ،فماذا سترين حينئذ ؟ هذا مثال بسيط ولا يمكن أن يعطي الصورة المتخيلة ،فللخالق تريليونات تريليونات العيون، وليس هناك عين في الكون إلا ويرى الله بها كل مكان في الكون وما هو خارج حدود المكان وفي أعماق الكواكب والبحار والمحيطات . كل عيون الكائنات مهما صغرت ومهما كبرت وأينما كانت هي عيون الله التي يرى بها . فهل في مقدورك أن تتصوري ماذا كنت أرى حين حللت في الألوهة ؟ وهل في مقدوري أن أقول لك ماذا رأيت . لم يبق شيئ في الوجود إلا رأيته من أصغرجزيء في ذرة أو في نواة إلى أكبر مجرة . وليس هذا إلا غيض من فيض مما رأيته وشعرت به وأدركته .كيف سأحدثك عن مكاني الذي أصبح الوجود كله ؟ وكيف سأحدثك عن زماني الذي أصبح الزمان كله ، لا ماضي له ولا مستقبل كزمن واحد . فالزمان والمكان يجريان في داخلي وليس خارجي . فليس هناك مكان خارجي لأنه لا شيء خارج ذاتي ،وليس هناك زمان مستقل عن ذاتي أو خارجها ، فالزمن يجري ضمن زمني الكلي الذاتي الثابت . فالمجرات تدور في ذاتي أوفي دخيلتي إن شئت . كيف سأصف لك ذلك يا حبيبتي ؟ وكيف سأصف لك شعوري بمتعة القدرة على الخلق التي صرت إليها.. كنت أمنح جذور النباتات والأشجارفي باطن الأرض ما تحتاج إليه من معادن وماء. وأمنح الأجنة في الأرحام طاقة النمو والتشكل . كنت أهب الحياة لكل كائن أينما كان ،والقدرة على النطق للإنسان ،وما إلى ذلك من كافة أشكال الخلق بما فيها السيطرة على توازن حركة الكون ، بالتحكم بالقوى الجاذبية والكهرومغناطيسية والنووية بشقيها ،وغيرها من الطاقات التي لم يكتشفها العقل البشري بعد" توقف الملك للحظات عن سرد رؤياه للملكة التي كانت منبهرة في كل ما سمعته. عانقته مقبلة وجنته ثم سألته : - هل أحسست بوجود مادي أو طاقوي لك حينئذ ؟ - لا يا حبيبتي لم أحس على الإطلاق وكأنني كنت خارج المادة والطاقة . لم أشعر إلا بمتعة ما أفعل دون أن أدرك ما أنا ، حتى أنني لم أعرف إن كنت إلها ، كل ما أعرفه أنني كنت أقوم بعملية خلق وإبداع في غاية المتعة ! المادة والطاقة مفردتان لغويتان أوجدهما البشر بعد اختراع اللغة وتقدم العلوم, ولا تكفيان لا هما ولا الطبيعة ولا حتى طاقة الطاقات أو الطاقة المطلقة أوالقدرة الخارقة للتعبير عن القدرة الخالقة . إن أفضل تعبير لغوي اخترعه البشر حتى الآن للتعبير عن هذه القدرة هو الخالق أوالألوهة ، أو الله . - وأنت أصبحت إلها وكنت الله ؟ - فكيف سأصف لك ألوهيتي وما كنته وما رأيته خلالها ؟ إن الألوهة مسألة صعبة على الوصف . وإن كانت مفردة الطاقة هي الأقرب علميا للتعبيرعنها دون أن تفيها حقها ! - هل تتوقع يا حبيبي أن تكون نهايتك كما رأيتها في هذه الرؤيا ؟ - أتمنى ذلك ! لم يعرف الملك أنه بذلك ينكأ جروحا مندملة في دخيلة الملكة، فقد شردت بخيالها إلى الماضي البعيد حين تنبأ الملك ليلة زفافهما في رحلته السماوية الأولى بأنهما سينجبان ابنا فائق الجمال يدعى سحب السماوات، ستنتحر الفتيات على مذبح عشقه، وأن الملك نفسه سيقتل غيلة وغدرا ليستلم الملك شمنهور الحكم من بعده ويشرع في تدمير الكون انتقاما لمقتله ،فتنشب حروب طاحنة بينها وبين الملك شمنهور لم يحسمها إلا وقوف بعض ملوك الجن إلى جانبها ليقتل شمنهور، ولتتولى هي الحكم بعد ذلك وتشرع في إعادة المحبة التي كان ينشدها الملك إلى الناس . - هل سيحدث ما تتمناه يا حبيبي قبل تحقيق تنبؤاتك ليلة زفافنا في رحلتك الأولى . - أوه يا حبيبتي.. أين سرحت بخيالك ؟ إنها مجرد أحلام ورؤى .. - وابننا سحب السماوات ألن يأتي ؟ - قد يأتي يا حبيبتي ما أدراك فقد لا تتحقق رؤياي قبل عقود ! - آمل ذلك يا حبيبي . أريد ابنا أتمتع بجماله ووجوده معي.. يكفيني أنك ستذهب في الألوهة وتتركني !! أدرك ألملك أن الملكة بدأت تغار حتى من الله ! فقرر أن يواقعها بقصد الإنجاب ويلبي لها رغبتها في ابن . بل وقرر أن يطلب إلى الله أن يساعده في حمل سريع ونمو أسرع للطفل ، لعله يرضي الملكة . **** (69) * الملك لقمان يعد الملكة بطفل معجزة ! فكرتان أصبحتا تهيمنان على عقل الملكة نور السماء بعد رؤيا التوحد مع الألوهة التي قصها عليها الملك ، الأولى ، أن يرحل الملك ويتلاشى منطفئا وحالّا في عالم الألوهة ومتحدا به قبل أن تنجب طفلا منه ، خاصة وأن أحلامه كما يبدو ليست بعيدة عن التحقق ، والثانية أن يتعرض للقتل كما في حلمه القديم ويرحل أيضا دون أن يحقق لها الحلم . وثمة قلق آخر مبعثه التنبؤ بمقتله ، والحروب الطاحنة التي ستنشأ بينها وبين الملك شمنهور لمنعه من تدمير الكون .. هاتفته الملكة وهو يرقب الكائنات المبتهجة باختلاطها الذي لم يسبق له مثيل في أعماق المحيط ، ملقيا رأسه على صدرها كما من قبل : - حبيبي ! - حبيبتي !! - أريد طفلا في أسرع وقت ! أدرك الملك أن قلق الملكة يزداد . ابتسم : - حسنا يا حبيبتي . أعدك أنني سأفعل ذلك ما أن ننهي الحفل ونخرج من أعماق هذا المحيط ، وستكون مواقعة بقصد الحمل بطفل ذكر! " ياي " وقبلت الملك مبتهجة وهي تهتف : - آمل أن يلبي الله رغبتنا يا حبيبي ! - اطمئني يا حبيبتي ! لبّى الله لي معجزات أكبر من هذه بكثير، ألن يلبي لي هذا الطلب ؟ وكي تفرحي أكثر أبشرك منذ الآن بما لا تحلمين به ! - ماذا يا حبيبي ؟ - ستحملين من مواقعة واحدة في يوم واحد وينمو الحمل تسعة أشهروعشرة أيام في اليوم نفسه وتلدينه في آخر اكتمال اليوم !! " ي....ا....ي ... ياي " - كل هذا في يوم واحد يا حبيبي ؟ - طبعا ! هذه إرادة إلهي العظيم حين يشاء ! - يسعد إلهك ما أحلاه وما أكرمه يا حبيبي ! هذه تكاد معجزة ولادة حورس من إيزيس ! - لا يا حبيبتي . لا ولادة حورس ولا المسيح ،ولا عشتار ، ولا مردوخ، ولا جلجامش، ولا حتى زيوس ! معجزة ولادتك لابننا ( سحب السماوات ) ستكون أهم معجزة عرفتها البشرية ، فأنت لا تعرفين ماذا سيحدث بعد الولادة . - ما ذا سيحدث يا حبيبي ؟ - لا يجوز إفشاء السر الإلهي يا حبيبتي . سأتركه حتى حينه ، فقد لا تصدق تنبؤاتي ! وباتت الملكة في عجلة من أمرها لإنهاء الحفل والخروج من أعماق المحيط ! - ألن تنهي الحفل يا حبيبي ؟ - يا حبيبتي أنظري إلى البهجة التي ينعم بها ضيوفنا هل ترين أنه من اللائق إنهاء الحفل ؟ - طيب يا حبيبي أريد أن تطمئني على مسألة أخرى لتكتمل سعادتي! - ما هي ؟ - ألا تخبرني إن كنت ستقتل فيما بعد ؟ - يا حبيبتي هذه رؤيا عابرة ليس من الضروري أن تتحقق ! - ألا تعرف ذلك ؟ - لا أعرف لأنني لم أفكر فيها أصلا إلا ليلة زفافنا ! - أرجوك حاول من أجلي . - يا حبيبتي تعرفين أنني تعرضت لمحاولات إغتيال كثيرة في رحلتنا السابقة ونجوت منها كلها . فحتى لو حدث ذلك ، فإنني سأنجو بالتأكيد ، ألا تعرفين كم القوى التي تحرسني ؟ - طيب في هذه الحال أريد أمرا منك ! - ما هو ؟ - أن تأخذ عهدا من الملك شمنهور أن يمتثل لإرادتي ويكون تحت إمرتي وأن لا يرفع سلاحا أو يسخّر جنّا لمحاربتي إذا ما حدث لك أي مكروه ! - وإذا عاهدني الآن ونقض عهده حينذاك ؟ - ما يهمني الآن وحالا أن تأخذ منه عهدا . - طيب حبيبتي . خاطر الملك الملك شمنهور بلهجة آمرة ، وإذا به يحضر بملابس سباحة ويقف في مواجهة الملك : - أمر مولاي العظيم لقمان محرر أرواح الجان من قماقم سليمان ! - ماذا ستفعل أيها الملك إن قتلني أحدهم يوما ما ؟ - ماذا تقول يا مولاي ؟ هل يمكن أن يحدث هذا وأنا على قيد الحياة ؟ - لنفترض أنه حدث ! - مولاي! دونك لن أقبل بأي وجود للكون وسأحارب حتى من خلقني إن استطعت ! - مجنون ! إسمع ! - مولاي ! أنا منذ الآن أسامح قاتلي ! ولا أريد أي ثأر أو عقوبة له مهما كانت ! بل أريد مسامحته ! - مولاي ! - أصمت! - وأريدك أن تعاهدني على ذلك وأن تكون رهن إرادة الملكة نور السماء من بعدي ،وأن تعمل تحت حكمها ! أطرق شمنهور للحظات ،وما لبث أن هتف بهدوء : - مولاي أنت تخرق قوانين الطبيعة التي وجدنا عليها ؟ لذلك أعاهدك على الإخلاص للملكة فقط ! - وما هي هذه القوانين ؟ - الإخلاص لأسيادنا فما بالك بمن أنقذنا من السجون الرهيبة !؟ - وهل كان قبولكم السجن في قماقم سليمان إخلاصا له ؟ - للأسف أجل يا مولاي ! - وماذا لو خرقتم هذا القانون العجيب ، ما الذي سيحدث ؟ - لا أعرف يا مولاي الأمر متروك لله ! - إذن أخرقه ! وهيا عاهدني ! هذا أمر لن أقبل أن ترفضه ! ثم إنك خرقته حين أخرجتك من القمقم ، بل وأتحت لجميع الجن السجناء أن يعتقوا من القمائم ! ظل الملك شمنهور مطرقا للحظات دون أن يتكلم ،إلى أن هتف الملك ثانية قائلا " هيّا" - أعاهدك يا مولاي. - تابع ما قلته لك ! - أعاهدك يا مولاي أن أسامح.. أسامح .. وشرع الملك شمنهور يبكي .. فهو لا يتصور أنه سيسامح يوما أي قاتل للملك مهما كان قدره ! - تابع ولا تبك هيا ! - أن أسامح قاتلك بدمك يا مولاي ! قال الملك ذلك وكأنه تخيل الملك لقمان قتيلا وأنه يسامح قاتله بدمه ، فتلفظ بالكلام وهو ينخرط في بكاء فظيع : - وأعاهدك يا مولاي.. أن أكون رهن إرادة الملكة نور السماء.. وأن أعمل تحت إمرتها . نهض الملك لقمان وراح يقبل الملك شمنهور ويمسح دموعه بمنديل من الحرير الأخضر ويضم رأسه إلى حضنه . تلفظ الملك شمنهور وهو يلقي رأسه على صدر الملك : - سأقتل نفسي إن حدث لك شيء يا مولاي ! - لا يا مجنون ! لا أريدك أن تقتل نفسك أيضا ! ثم كيف تتخلى عن كل هؤلاء الجميلات وتنتحر ؟ - بعدك لن يكون هناك معنى للحياة يا مولاي ! - يا مجنون الحياة لم تبدأ بي ولن تنتهي بي . هيا عاهدني أيضا على أن لا تنتحر ! - أعاهدك يا مولاي ! طالما هذه إرادتك ! - وهيا الآن أريد عرضا خرافيا من عروضك على المسرح لنبهج الإمبراطور والإمبراطورة ! انصرف الملك شمنهور ليظهر على المسرح بعد لحظات في عرض جمبازي مدهش مع مائة فتاة ، فيما كان الإمبراطوريفكر بدهشة في عالم الملك لقمان الذي يدع منطق الأسطورة يسير بخط مواز مع منطق الفلسفة ،ليدمج الخطين أحيانا فيختلط منطق الواقع الفلسفي بمنطق الأسطورة الخرافي ، ليجد نفسه ضائعا في هذا العالم ، بين منطق الألوهة السارية في الكون وبين منطق المبدأ الكلي الذي يعتنقه والساري في الكون أيضا ، ولم يبق عليه إلا أن يحسم الأمر عما إذا كان المبدأ الكلي إلها ، أم أنه مجرد طاقة لم يدرك كنهها العقل البشري بعد . ويبدو أن الإمبراطور لم يدرك أنه بهذا التفكير وصل إلى المشكلة ذاتها التي تقلق الملك لقمان ، والتي يرجح أو حتى يفضل أن يكون في الأمر ألوهية ما ، لأن الملك وكما يبدو لا يريد أن يتخيل وجودا دون ألوهة ! وأية ألوهة ؟ **** (70) * الرقص المسحور في تجليات الملك شمنهور !! حين ظهر الملك شمنهور بحجم عملاق جالسا على كرسي ضخم على خشبة المسرح في وضع زاوية قائمة. ضج الآلاف في أعماق المحيط بالتصفيق الحاروهم يتأملون الجسد العملاق للملك . وخلال لحظات ظهر إلى جانبي المسرح مئات الفتيات شبه العاريات يقفن بانتظام . مد الملك يديه في استقامة إلى مستوى كتفيه . شرعت الفتيات بالقفز في الهواء ومن ثم الشقلبة قبل أن يقفن على يديه وكتفيه ورأسه وفخذيه، واحدة إلى جانب الأخرى في وضع استقامة، وشرعن جميعا في الشقلبة على يديه وفخذيه وكتفيه ورأسه . ثم شرعن في الإرتفاع أكثر ليتشقلبن مرتين في الهواء قبل أن يهبطن على يديه وفخذيه ، ثم أكثر ليتشقلبن ثلاث مرات، فأربع مرات، فخمس مرات . وسط تصفيق حار من الجميع . توقفت الفتيات. مد الملك يديه في استقامة أمام جسده وباعد ما بين فخذيه . شرعت الفتيات في القفز والشقلبة في الهواء ليتبادلن الأماكن مع بعضهن . فقد قفزت الفتيات الخمسون اللواتي على اليد اليمنى ليقفز في مواجهتهن الفتيات الخمسون اللواتي يقفن على اليد اليسرى وعند تقابلهن في منتصف المسافة تنزلق المجموعة اليسرى أسفل اليمنى ، ليتابعن الشقلبة كل في اتجاهه وليقفن مكان بعضهن . فتيات الكتفين وهن خمس فتيات على كل كتف فعلن الأمر نفسه وتبادلن أماكنهن شقلبة ،أما ثلاث فتيات كن يقفن على رأس الملك فقد قفزن في الهواء لتحط اثنتان منهن على قدمي الملك وتعود واحدة لتقف على منتصف رأسه . استمر المشهد في تبادل الاماكن ثلاث مرات لتعود الفتيات إلى الوقوف . ليرتفع الملك عن الكرسي وهو في الوضع نفسه، ويطير في الفضاء ويتوقف لينفض جسده، وإذا بالفتيات يتبعثرن متشقلبات في الفضاء . وليمد الملك جسده في استقامة ليهبطن متشقلبات عليه ومن ثم يقفن على جسده على رؤوس أصابع رجل واحدة وليتشقلبن ليقفن على رؤوس أصابع يد واحدة وليتشقلبن ويعدن واقفات . وما جرى بعد ذلك فهو أمر مدهش فقد نفض الملك جسده ليلقي بجميع الفتيات في الفضاء وهن يتشقلبن صعودا على ارتفاعات غير متساوية ليشرع بعضهن في النزول شقلبه ليهبطن على راحتي يديه فيعود إلى قذفهن في الفضاء وهكذا بدا الفضاء يعج بأكثر من مائتي فتاة يتقاذفهن الملك وكأنهن طابات ليتشقلبن في لجة الماء في مشهد أخاذ . توقف الملك عن شقلبة الفتيات ثم جعلهن يسبحن في الماء في جماعات منتظمة من عشر فتيات ويشبكن أصابع أيديهن ليرسمن بأجساد مستقيمة دوائرفي الماء وليقفن في أشكال هرمية وقد اعتلى بعضهن أكتاف الأخريات . إلى أن تمدد الملك وجعلهن يتعلقن بيديه ورجليه وشعره الطويل وشرع يسبح وهن متعلقات بجسده متشبثات به بأيديهن . وما لبث أن نفض جسده ليفرقهن في أنحاء مختلفة ،وتمدد على بطنه لتحط بعض الفتيات على جسده ويشرعن في الشقلبة عليه . وحين نفض جسده مرة أخرى نثرهن في اتجاهات مختلفة وشرع ينفخ من فمه نارا ملتهبة عليهن لتشتعل النار في جسد كل واحدة منهن على حدة . ضج الجمهور بالصراخ وخاطره الملك لقمان " ماذا تفعل يا مجنون أخفت الناس " ؟ وقبل أن يسمع الملك الإجابة شاهد الفتيات يسبحن مبتهجات بأجسادهن الملتهبة وشرعن في تشكيل أفواج وحلقات نارية ، فأدرك الجميع أنها نار باردة وليست حامية كتلك التي تشوى عليها اللحوم . مد الملك جسده فشرعت فتيات في الوقوف على جسده ليحط أخريات على أكتافهن فأخريات أيضا على أكتاف التاليات وهكذا إلى ان شكلت الفتيات هرما مشتعلا تعلوه فتاة واحدة . شرع الهرم في الإنهيار المنتظم واحدة فواحدة لتتفرق الفتيات في الماء وليشرع الملك في شقلبة سريعة جدا ليهبط على أرض الخشبة ولتهبط الفتيات شقلبة بعده ويقفن إلى جانبيه على أرض الخشبة ولينحني الجميع تحية للجمهور الهائل الذي نهض وشرع في التصفيق . هتفت الإمبراطورة : - هذا مدهش ! وهتف الإمبراطور مخاطبا الملك لقمان : - تضعنا جلالتكم دائما في ما هو خارق وأسطوري في الوقت الذي تكون فيه حوارتنا أقرب إلى المنطق الواقعي ! - ما يبدو لي جلالتكم إن الوجود بحد ذاته هو الأسطورة الأكبر وأن كل ما نفعله لا يشكل شيئا أمام أسطورة الوجود ، وأن كل ما نفعله هو موائمة الواقع مع الأسطورة ،وتفسيره على ضوئها ! - أشكر جلالتكم . سنتابع حواراتنا . ويا ليت لو تسمحون لنا بإنهاء الحفل . - اسمح لي جلالتكم الحفل على شرف الإمبراطورة وهي الوحيدة القادرة على إنهائه . - الحق معكم جلالتكم . وبدت الإمبراطورة مترددة في إنهاء الحفل غير أن الملكة نور السماء المتلهفة لترى طفلا لها بعد يوم واحد مسألة تستدعي اختصار الزمن فغمزت الإمبراطورة أن توافق ! لكن الإمبراطورة سألت الملك قبل أن توافق: - كم مضى على وجودنا في هذه الأعماق جلالتكم وهل كنا في الليل أم في النهار ؟ - مضى على وجودنا ما يعادل سبعة أيام ،ولم نكن لا في الليل ولا في النهار ، كان كل واح منهما يأخذ نصف الآخر ، لذا يمكن القول أننا كنا في الليل والنهار ! - تعجبت الإمبراطورة لهذا التأويل اللقماني . وأعلنت موافقتها على إنهاء الحفل . شرعت السفن الزجاجية في الغوص إلى أعماق المحيط ليصعد الناس إليها . كانت فتيات الكرة الأرضية من بين الصاعدات إلى السفن . وحين صعدت السفن وهبط الناس على الأرض سار الملك لقمان نحو آلاف الفتيات الأرضيات وسألهن عما إذا يحببن البقاء هنا . اجبن جميعهن بالإيجاب . سأل الملك الإمبراطور فوافق أن يقمن في بلده وأن يصبحن مواطنات كأي مواطن في بلده . أسكنهن في بلدة أقيمت حديثا . وأمر الملك تجهيزها بكل شيء وملء براداتها بأنواع الخضار والفواكه واللحوم ومستودعاتها بكل أنواع الحبوب . وزراعة أرضها وممراتها بالأشجار المثمرة والزهور والنباتات وإقامة حدائق في منتصفها . تفرق الجميع على أمل اللقاء . سارعت الملكة نور السماء إلى تحضير نفسها للمواقعة المنتظرة . المواقعة الأسطورية التي سينجم عنها الطفل المعجزة "سحب السماوات " الذي سيحمل به في يوم واحد وينمو في رحمها تسعة أشهر وعشرة أيام في اليوم نفسه ، ويولد في آخر اليوم ! عانقت الملك لقمان وهي تسبقه إلى غرفة النوم في المركبة لتستحم وتتعطروترتدي للسرير ما يثير شهوة الملك ! وفعل الملك الأمر نفسه ، فهو يحرص على الإغتسال والتضمخ بالعطور وارتداء الملابس الخاصة بالسرير قبل المواقعة . **** (71) * معجزة المعجزات في ولادة ونمو" سحب السماوات "! ظل سكان الإمبراطورية الشنوتية مترددين في اتخاذ موقف حاسم تجاه اعتناق العقيدة التي جاء بها الملك لقمان ، رغم كل المعجزات التي حدثت في الإحتفالات وعلى أرض الدولة، كما أن الإمبراطور الممثل الأعلى للمبدأ الكلي على الأرض لم يتخذ موقفا أيضا يدفع أمة الإمبراطورية في اتجاه اعتناق العقيدة رغم أن معظم السكان كانوا متعاطفين معها ومعجبين بها .. غير أن الأمر تحوّل إلى شبه إجماع لصالح اعتناق العقيدة ، على أثر حدوث معجزة المعجزات بولادة " سحب السماوات " ابن الملك لقمان العظيم ! الذي حملت به الملكة في يوم واحد لينموالجنين تسعة أشهر وعشرة أيام في اليوم نفسه ولتلده الملكة آخر اليوم، لتعم الأفراح سائر أنحاء الإمبراطورية لولادة ابن الملك الضيف ! وكان الملك لقمان قد استحم وتزين وتعطرعلى أيدي ثلاث فاتنات من حوريات الجن والإنس قبل أن يدخل إلى سرير الملكة نورالسماء ليجدها قد تزينت وتعطرت لتبدو في غاية الجمال ، فقبلها ما لا يقل عن تسعمائة وتسع وتسعين قبلة على كافة أنحاء جسدها قبل أن يشرع في مواقعتها ، لتشعر بمتعة ونشوة لم تشعر بهما إنسية أو جنية من قبل . وطلب إليها الملك أن تظل مستلقية إلى أن تشعر بالجنين يتحرك في أحشائها ،وأن لا تغادر السرير، والأفضل أن تظل مستلقية لأن حركتها قد تؤثر على النمو السريع جدا للجنين نتيجة للعمليات التفاعلية السريعة والقوانين والمعادلات المعقدة وغير المعتادة التي تجري في خلاياه والتي لا تقل عن مائة تريليون عملية ومعادلة ، ليكتمل نمو الجنين على الوجه الأكمل . واستلقى الملك إلى جانبها لبعض الوقت ليتأكد من أن عملية الخلق تجري على ما يرام .. ولم يمر أكثر من بضع دقائق حين شعرت الملكة بالجنين يتحرك في رحمها ، فأمسكت يد الملك وهي تهمس " حبيبي ، لقد بدأ يتحرك في رحمي " قبلها الملك " وقال لها " لا تخافي يا حبيبتي ،إن كل شيء يجري كما أوحى الله لي " وراح الملك يشكر الله ،وما لبث أن هبط عن السرير وجلس خاشعا على ركبتيه وهو يشكر الله ويحمده . أبقى الملك طبيبتان وثلاث ممرضات من بنات الجن إلى جوار الملكة ، يقدمن لها الطعام ويعتنين بها . وحين مر إثنتا عشرة ساعة على الحمل بدا بطن الملكة وقد كبر، فلم تغادر السرير. وكان الملك يأتي ويطمئن عليها ويقبلها بين فترة وأخرى .. وجلس باقي ساعات اليوم إلى جوارها وبوجود الممرضات والطبيبتين . في الساعة الرابعة والعشرين من اليوم نفسه بدأت موجات الطلق تجتاح جسد الملكة وتزداد شيئا فشيئا وهي تقبض بيدها على يد الملك إلى أن وضعت طفلا كأنه البدر . أخذته الممرضات وغسلنه وألبسنه وأتين به إلى الملكة والملك ليقبلاه، وهو ينطق ماما حين قبلته الملكة ،وبابا حين قبله الملك . كانت فرحة الملكة به أكبر من كل فرح مهما كان ، وكلما تأملت جمال الطفل ازدادت فرحا .. وحين أزف لها الملك لقمان المعجزات الآتيات لم يعد الكون يتسع لفرحها . فقد قال لها الملك : " اعلمي يا حبيبتي أن ابننا "سحب السماوات" سيكبر ثلاثة أعوام في اليوم الأول لولادته ، ومثلها في اليوم الثاني ، ومثلها في اليوم الثالث ، وهكذا إلى أن يكمل ثمانية عشر عاما في ستة أيام . ليكون بذلك آية للبشرية تهديها إلى الصواب وطريق الخلاص من واقعها المؤلم . واعلمي يا حبيبتي أن ابننا سيجيد لغتنا وكل المعارف المبدئية في اليوم الأول ، وسيجيد لغتين ومعارف أخرى في اليوم الثاني . وسيجيد معظم العلوم في اليوم الثالث . وما أن يبلغ اليوم السادس وسن الرشد ، حتى يكون قد ألم بالمعرفة الإنسانية كلها . وبناء على ذلك فإن الطفل يحتاج إلى رعاية فائقة طوال الأيام الستة ، لأن العمليات الحسابية ومعادلات قوانين الخلق الجارية في خلايا جسده ، قد تفوق العمليات التي تجري في أجساد ملايين البشر خلال عمر كامل !" لم تعد الملكة قادرة على إحتمال كل هذا الفرح دفعة واحدة فضمت الطفل إلى حضنها وألقت رأسها على عنق الملك لقمان، وهي تحس بجسد الطفل ينمو في حضنها ، وحين اكتمل اليوم الأول كان الطفل يملأ الدنيا فرحا وهو يتحدث إلى أمه بلغة سليمة ، وحين اكتمل اليوم الثاني كان يخاطب الجنيات بلغة الجن ،وأبناء الإمبراطورية بلغتهم ،ويحل بعض المسائل المعقدة في الرياضيات ، وحين اكتمل اليوم الثالث كان قد حفظ معلومات ما لا يقل عن مائة ألف كتاب . وحين اكتمل اليوم الرابع ألغى بعض قوانين الكيمياء وجاء بما هو جديد ، وحين اكتمل اليوم الخامس بدأ يعرف أين اصطدمت قوانين الفيزياء، وفي اكتمال اليوم السادس حل معضلة الفيزياء وجاء بنظرية لم يعرفها العقل البشري بعد ، أسماها نظرية " العقل الذّرّي " غير أن أحدا لم يصدق أن للذرة عقل ، وبدت النظرية عسيرة الفهم على العقل البشري . عمت الأخباركافة أنحاء الإمبراطورية الشنوتية عن مولود الملك والملكة الذي تم الحمل به وولادته وبلوغه سن الرشد خلال أسبوع واحد فقط ، فثمة من صدق وثمة من لم يصدق ، فهذه معجزة لم تقدم عليها أية آلهة من قبل . وحين قدم الإمبراطور والإمبراطورة لتهنئة الملك والملكة وجدا نفسيهما في مواجهة شاب فائق الجمال لم تجد الملكة إلا الإنحناء أمام جماله الخارق . ولم تعد خلال جلسة اللقاء قادرة على التفوه بأي كلام وهي تتأمل جماله بانبهار شديد ، ولم تعد تصدق أن يكون قد حمل به وولد وكبر خلال أسبوع ، وراحت تعتقد أنه منحة من المبدأ الكلي أو الله أرسلاها للملك والملكة تامة الخلق والحكمة والمعرفة . وحين عادا راحت تسأل الإمبراطور عما فكرت فيه فنفى أن يكون الأمر كذلك مؤكدا أن الملك مقرب ومحبوب من خالقه بدليل المعجزات التي قام بها ، فلماذا يبخل الله عليه بمعجزة كهذه . بل وراح يزف النبأ لأبناء الإمبراطورية ويبارك للملك والملكة مولودهم المعجزة . زحف الملايين من أبناء الإمبراطورية حاملين الورود لتهنئة الملك والملكة، وحين أطل سحب السماوات على الملايين من شرفة المركبة خرت جميع الفتيات والنساء وسجدن على ركبهن لانبهارهن بجماله ،ولم يجد الرجال والشباب بدا من فعل ذلك . وظهر الملك والملكة ووقفا خلفه وراحا يلوحان للملايين متقبلين التهاني . عقب هذه المعجزة شرع الملايين في دخول عقيدة الملك لقمان أفواجا ودون أخذ رأي الإمبراطور الذي لم يكن لديه أي مانع في الأمر وإن لم يعلن ذلك ، كما أن الإمبراطورة نفسها أعلنت عن نيتها اتباع هذا المعتقد . **** (72) * هول التكهنات وسحر المعجزات في شخصية سحب السماوات ! أثار ظهور سحب السماوات المفاجئ وغير المتوقع، والقدرات الهائلة التي يتمتع بها ردود فعل متباينة ومختلفة بين ما هو خارق للطبيعة وما يجهد لأن يقارب العلم ، أما الخارقة فقد عزا بعضها الأمر إلى المبدأ الكلي أوألوهة ما تكفلت بحمل الولد وتشكله في رحم أمه خلال يوم واحد ومن ثم نشأته خلال ستة أيام ليبلغ سن الرشد، ولا يستبعد أن تكون هذه الألوهة هي إله الملك لقمان نفسه الذي يستجيب دائما لرغباته وتصوراته . غير أن آخرين رأوا أن إله لقمان قد تجسد في شخصه وهو من قام بمواقعة الملكة ، وفي هذه الحال يكون سحب السماوات ابن إله بقدر ما هو ابن الملك لقمان ، وإلا " كيف نفهم ونفسرعدم حمل الملكة من الملك من قبل؟ وكيف نفهم القدرات الخارقة والجمال الفائق الذي يتمتع به "؟! وهذا الرأي دفع آخرين إلى القول أن المبدأ الكلي نفسه هو من واقع الملكة وليس الملك ، لكن آخرين اعترضوا على هذا الرأي لاعتقادهم الجازم بأنه ليس للمبدأ الكلي شكل إنساني ، ويمكن في هذه الحال أن يكون قد أرسل ملاكا لمواقعة الملكة.. غير أن أصحاب رأي الألوهة المواقعة ظلوا متشبثين برأيهم متعللين بالقدرات الخارقة للشاب، في حين رأى آخرون أنها قدرات جنية كون الأم جنية، وإنسية كون الأب إنسيا ، وإلهية كون الحمل تم بقدرة إلهية . ورغم اختلاف الرؤى والتكهنات والتوقعات ظل الجميع متفقين على أن سحب السماوات معجزة إلهية لم تحدث في تاريخ الخلق البشري من قبل . علماء الأحياء والكيمياء والفيزياء راحوا يعللون الأمر حسب معرفتهم ، فالكيميائيون والبيولوجيون رأوا أن الصبغيات التي تكونت في خلايا الحيوانات المنوية للملك لقمان قد نجمت بالتأكيد عن مواد خارقة لم يتوفر معظمها لدى الآخرين .. أما الفيزيائيون فلم يتفقوا على رأي فقد رأى أصحاب نظرية البايوألكترونكس أن جسد سحب السماوات لا بد وأن يكون جامعا بين المادة الحية والمادة التكنولوجية الألكترونية لينتج عنهما هذا الإعجاز في الخلق ! وأما أصحاب نظرية النانو تكنولوجي فقد رأوا أن ثمة تعشيقا جرى للحمض النووي لدى سحب السماوات بزرع شرائح ألكترونية في جسده اكتسب الحمض النووي طاقتها . وقد استبعد كثيرون هذين الأمرين ورجحوا أن يكون الملك لقمان نفسه هومن كان يملك هذه القدرات عبر تقنيات أجريت على تكوين جسده من قبل ، فأصبح قادرا على إنتاج مورثات خارقة لكل ما هو مألوف ،وأنه ليس في الإمكان التثبت من ذلك إلا بقيام الملك لقمان نفسه بمواقعة نساء أخريات . ثمة آخرون رأوا أن سحب السماوات ليس إنسانا بل صورة ليزرية هلوغرامية وظفت طاقة الجاذبية بمعادلات الفيزياء الكمومية " لنرى إنسانا ثلاثي الأبعاد يتحرك أمامنا دون أن يكون إنسانا حقيقيا " ولم يأخذ بهذا الرأي أحد . ولم يترك الفيزيائيون والبيولوجيون نظرية إلا وتكهنوا بها دون جدوى . وأهم ما في الأمر أن معظم الناس قد اتفقوا على أن سحب السماوات هو الإنسان الكامل الذي يطمح الخالق في خلقه وأن أمه وأباه سعيدان به ،بل وأن البشرية كلها ستسعد به . ثمة مشكلة وقع فيها سكان الإمبراطورية الشنوتية بل سكان دول الكوكب كله ، وهي أن صيت جمال سحب السماوات وقدراته الخارقة ومعرفته الشمولية قد تجاوز حتى حدود الكوكب الذي هو عليه ليبلغ كواكب أخرى ! فغدت رؤيته طموحا لا يمكن الإستغناء عنه لدى كل فتاة وخاصة من الإمبراطورية أولا ومن دول الكوكب ثانيا . فكان على سحب السماوات أن يظهر على شرفة المركبة ولو مرة كل ثلاثة أيام على الأكثر ليلوح للفتيات المتجمهرات في ساحة المركبة ، اللواتي ما أن يشاهدنه حتى يجلسن على ركبهن ويشرعن في التلويح له وإرسال القبل له ،فيما هو يفعل الأمر نفسه ولا يبخل على الفتيات بإرسال القبل لهن عبر أثير الهواء . ولم يعرف سحب السماوات وأبوه الملك لقمان أن جماله سيجر إلى حروب في الأيام القادمة مع أكثر من دولة . أول المغامرات المغرمات بسحب السماوات كانت أستير ، فحين كان سحب في اليوم الخامس لولادته وفي عمره الذي يقترب من الخامسة عشر، لا حظت أستير أن الفتى يتأجج شهوة . غمزته فغمزها .. تسللت إلى غرفة نومه بعيد انتصاف الليل بأبهى زينة وجمال . لا يعرف من كان يلتهم الآخر هي أم هو . كانت تلهب جسده بقبلات محمومة وهو يلتهم كل ما يستطيع التهامة من جسدها وقد خيّم رداؤه الداخلي عما بدا لأستير أنه خارق القوام ! حين بلغا ذروة الوله زلقت رداءه ، لتجد نفسها أمام أعجوبة في الخلق ... ولم تعرف كيف وجدت نفسها تغرق في نشوة لم تتخيلها يوما . وما تذكره أنه اعتلاها، وأنها كانت تغرق معه في نشوات متلاحقه . عادت إلى غرفتها وهي في شبه غيبوبة . ولم تعرف أنها ستشعر بالنشوة كلما تذكرت صورة ما شاهدته . وعبثا راحت تحاول أن لا تتذكر، فكيف لها أن لا تتذكر كل هذا الجمال. أقفلت غرفتها على نفسها لتبقى مع تذكرها ونشواتها .. لاحظت أن النشوات تخف مع الإقلال من التذكر والتصور. في اليوم الثالث استعادت توازنها ، حين شعرت أنها أشبعت إلى قدر كاف من الإنتشاء . افتقدتها نسمة التي كانت تربطها بها صداقة حميمة وليال مثلية في السرير . سألتها عن قصة إعتكافها . أجابتها " هل تعديني بأن تحفظي السر؟" قالت " سرك في بئر عميق "! قالت " المواقعة مع سحب السماوات عن العمر كله " لم تصدق نسمة ما سمعته . ما أن لاحت لها أول فرصة لمشاهدة سحب السماوات وكان قد تجاوز سن الرشد حتى غمزته . فغمزها . تركت زوجها نائما وتسللت إليه . لم تصدق أستير ما جرى حين رأت نسمة تغلق الباب لثلاثة أيام .. ربة الجمال ذات الأنوثة الطاغية والجمال الخارق أحست ما يجري . والأهم أن سحب السماوات لم ينتظر أن تغمزه ، فهو كان يترصد خروجها ودخولها غير أن تخوفه من غيرة الملك شمنهور كان يحد من إقدامه على الأمر . قرر أن يكسر حاجز الخوف ، غمزها ، فغمزته . تسللت إليه حين كان الملك شمنهور يغط في سابع نوم ! لم تصدق لا أستير ولا نسمة أن ربة الجمال أغلقت الباب على نفسها أربعة أيام وليس ثلاثة ! الملكة عرفت ببصيرتها ما يجري . تخوفت أن يرهق سحب السماوات نفسه في مواقعة النساء والفتيات . جلست إليه . عانقته . قالت له دون مقدمات : - حبيبي لا ترهق نفسك في مضاجعة النساء ! أدرك أن أمه تعرف . - لا تخافي يا أمي سأخفف من الأمر قدر الإمكان . - لماذا قدر الإمكان فقط يا حبيبي ؟ - هل تريدينني أن أحيا دون عشق ؟ - لا يا حبيبي . لكن خفف حتى لا ترهق نفسك ! - ألا تعرفين يا أمي أنني ابن جنية وأن دماء الجن والإنس تسري في جسدي . وأنني أتمتع بقدرات خارقة على ممارسة الحب ! أدركت الملكة أن المشكلة صعبة ! - طيب يا حبيبي . هل تحب أن تتزوج ؟ استغرب سحب السماوات الأمر . - أتزوج يا أمي وأترك جميلات الإنس والجن لمن ؟ ابتسمت الملكة . ضمته وقبلته . - طيب حبيبي . لكن ابتعد عن ربة الجمال . لا توقعنا في مشكلة مع ملك الملوك . وربما لو عرف أبوك لانزعج . عدني أن لا تعيد الأمر معها . - أعدك يا أمي مع أن جمالها يقتلني ! - حبيبي . أعدك بمن هن أجمل منها بكثير ، ولا تنس أنها من بنات خيال أبيك ! - كيف ذلك يا أمي ؟ - حين أراد ملك الملوك شمنهور أن يستحضر لنفسه فتاة لا يوجد أجمل منها طلب إلى قواه الخارقة أن تحضر له فتاة من أقصى ما يمكن أن يتصوره خيال مولاه !! - يا إلهي يا أمي وهل سأستغل خيال أبي لأحصل على فتاة بجمالها ؟ - لا عليك يا حبيبي . سأتدبر الأمر . - حسنا يا أمي . ولم يمر سوى بضع ساعات حين ظهرت على المركبة ملكة جمال مع وصيفتين . كانت الوصيفتان فائقتي الجمال ،أما الملكة فلم يكن ينظر إليها أحد إلا ويزوغ نظره لشدة جمالها ! ***** (73) * الخالق بين التنزيه والتشبيه وقوانين الخلق ! بعيدا عن الملكة نور السماء الغارقة في محبتها وفرحتها بسحب السماوات والحورية ملكة الجمال التي أحضرتها له مع وصيفتيها ، اقترح الملك لقمان على الإمبراطور أن يذهبا في نزهة جبلية ، لتشوق الملك إلى الجبال حيث عاش طفولته في ضواحي القدس سارحا مع قطيع أغنام .اصطحبه الإمبراطور إلى أعلى قمة جبليه مطلة على هضاب وجبال تكسوها الأشجار المختلفة ، فيما ذهبت الإمبراطورة إلى الملكة نور السماء لتملأ عينيها من حسن سحب السماوات وحورياته . وهما يجلسان إلى جذع شجرة بطم عملاقة كانت تشرئب بأغصانها وترسلها في كافة الإتجاهات ،سأل الإمبراطور الملك في محاولة لتوضيح واستيعاب ما سبق وأن تطرق إليه : - فهمت من جلالتك أن القائم بالخلق موجود في الخلق نفسه وأن وجوده مشروط ببقاء الخلق ، فإذا ما انتفى الخلق انتفى وجوده ، إذ في هذه الحال لن يكون هناك إلا العدم ويستحيل أن يكون ثمة وجود في العدم . - كلام سليم جلالتك . - وفي الإمكان القول أن الهيولى البدئية التي بدأ بها الخلق منذ أربعة عشر مليارعام ما تزال تخلق نفسها بنفسها لنفسها وتطور نفسها بنفسها دون أن تصل إلى كمال ما تطمح إليه . - صحيح . - ألا تظن جلالتك أن لديها تصورا لهذا الكمال ؟ - ممكن أن يكون تصورا غير مجلو أو غير متضح ، فالكمال المطلق ليس من السهل تخيله . فلا أظن أن الشكل الحالي للإنسان سيتوقف على ما هو عليه إضافة إلى النظم الإجتماعية والكيانات التي أوجدها التي ما تزال بعيدة كل البعد عن أي كمال . - أليس في الإمكان تنزيه القائم بالخلق عن الخلق نفسه ؟ - لقد نزهته بعض المعتقدات حين اعتبرته إلها ، بل واعتبرت أن في مقدوره أن يبقى وحده دون خلق لو أراد ذلك ، كأن يبقى جالسا على عرشه السماوي ! - وجلالتك ؟ - أنا لم أنزهة إلا مجازا بمفردة لغوية استعرتها من لغة بشرية هي الخالق أو الله دون أن أجزم أنه يعتبر نفسه إلها . يمكن أنه يعتبر نفسه خالقا . إذا كان الوجود مكونا من مادة وطاقة فليس في الإمكان عزل المادة عن الطاقة أو العكس ، والخالق ليس خارج المادة والطاقة ،المادة بكل تجلياتها والطاقة بكل ما هو مدرك منها وما هو غير مدرك حتى اليوم من قبل العقل البشري . - ماذا يمكن أن تكون الطاقة غير المدركة حتى اليوم من قبل البشر ؟ - في الغالب هناك أكثر من طاقة لكن الأهم هو طاقة الخلق ، فهي لم ولن تكتشف بسهولة ، لأن ما تم نسج خيوطه المعقدة خلال أربعة عشر مليارا من الأعوام قد يحتاج إلى مليارات الأعوام لاكتشافه . هناك طاقة اكتشفها العلماء تسري في الكون كله وتحيط بالأجسام كلها لكنهم لم يكتشفوا ماهيتها . اعتبرتها أنا طاقة الخلق. - هل المعتقدات التي رأت أن للخالق - إذا جاز التعبير- عرشا قد شبهته بكائن ما أو قدمت تصورا له ؟ - بعضها شبهه بالإنسان ! - وجلالتك بماذا تشبهه ؟ - بالوجود كله وما فيه ، فهو كل شيء وكل شيء هو ! ولا يجوز لشيء بعينه أو كائن بعينه أن يقول أنه القائم بالخلق أو أنه الخالق . فالجميع خالق والجميع مخلوق . من هنا يأتي تكامل عملية الخلق بين الخالق والمخلوق أو بين الطاقة والمادة . فكل كائن بحد ذاته يقوم بعملية خلق ذاتية مقررة له موظفا طاقة الخلق السارية فيه ، كالعنكبوت الذي يقوم ببناء عشه ونسج خيوط شبكته بغاية الدقة . - وماذا عن وجود العنكبوت بحد ذاته كيف نشأ ، وكيف نشأت كائنات ضارة وكائنات نافعة ، وكيف يمكن أن يكون الخالق في كائنات ضارة وكائنات نافعة ؟ أدرك الملك أن الإمبراطور بدأ يدخل في الأسئلة المعقدة التي أعجزت العقل البشري ! قال بعض لحظة تفكير : - سأبدأ بإجابة جلالتك من الآخر،وبطرح السؤال التالي ؟ - ألا يتكون العنكبوت من مادة وطاقة ؟ - بلى ! - وألم أقل أنا أن الخالق مادة وطاقة ؟ طاقة تتمظهر وتتجلى في مادة ، ومادة تتحول إلى طاقة ، أو ينتج عنها طاقة ؟ - صحيح ! - إذن لماذا لا يكون الخالق موجودا في العنكبوت كما هو في كل شيء؟ - وماذا عن النشأة ؟ - تعرف جلالتك كم مليارات الأعوام التي دامت قبل نشوء الحياة ؟ - أجل . - وتعلم جلالتك أن كل عنصر كيميائي في الطبيعة يتكون من ذرات متشابهة تختلف عن بعضها في عدد جسيمات البروتونات والالكترونات ،وأن ذرات هذه العناصرهي أبسط مكونات الكائن الحي. تشترك جميع الكائنات من البكتيريا إلى الإنسان في ستة عناصر أساسية هي : الكربون ، الهيدروجين ، النيتروجين ، الأكسجين ، الفسفور ، الكبريت . طاقة الخلق أو الخالق إن شئت وضع قوانين ومعادلات لهذه العناصر وغيرها في المادة، أي في التراب أو الأرض بشكل عام . تواجد هذه العناصر يكون بنسب متفاوته في كل مكان . لنأخذ مثلا مجاري المياه في المدن حيث تنشأ كائنات ضارة . فالمعادلة مثلا تنص على أن نسبة كذا من عنصركذا وتفاعله مع عنصركذا، ألخ.. ينشأ عنها خلق ما، ليس بالضرورة أن يكون هذا الخلق معروفا مسبقا أو أن يكون ضارا أو نافعا . القاعدة متعلقة بنسبة العناصر في المادة وتنوعاتها . فنحن نجد أن ثمة فيروسات تظهر وتسبب أمراضا للبشر وتطور نفسها بنفسها وتقاوم حتى الأدوية ،فيضطر الناس إلى البحث عن دواء جديد فعال .. إذن يمكن تلخيص المسألة في أن كل عنصر في الطبيعة قد وضع له عبر مليارات الأعوام قوانين ومعادلات محددة حسب نسبة ما يحويه من مواد وتفاعله مع عناصر أخرى حسب نسب المواد فيها وتنوعها . ولا شك أن هذه القوانين تتطور وتطور نفسها بنفسها بفعل طاقة الخلق السارية في الكون . ويمكن القول أن التحكم المطلق في نسب المواد في العناصرحتى اليوم غير متوفر، كما أن التحكم في العناصر نفسها غير ممكن نتيجة لما تفرزه الكائنات من مخلفات وبشكل خاص البشر ، حيث تختلط مخلفات قذرة ومواد كيماوية ضارة بالتربة فتلوث البيئة وتنشئ كائنات ضارة . - هل في الإمكان القول أن التوصل لخلق الكائن الذي جاء منه الإنسان قد تأخر كثيرا مقارنة بخلق الكائنات الحية الأخرى ؟ - أكيد فالإنسان احتاج إلى توفر عناصر كثيرة . الكائن البدائي الأقرب إلى البشر قد لا يتجاوز عمره ستة ملايين عام . - ماذا لو دخلنا في قوانين ومعادلات التوريث ! - بعد أن يخلق الكائن تدون مورثاته في مادته حتى لا تتم العودة إلى الصفر ، فلولا تدوين المورثات لكان تطور الكائنات أكثر تعقيدا . فكل القوانين والمعادلات الأولى التي خلق منها الكائن الأول تنتقل إلى خلفه ،وخلفه بدوره يكسبها تطورا ،وهكذا .. - وهكذا تدخلنا جلالتكم في تطور الكائنات كيف تتطور ؟ - تحدثنا لجلالتكم عن الغاية البدائية التي كانت منذ البدء في الهيولى البدئية . والغاية نتاج رغبة ، أو هي بحد ذاتها رغبة ، فكل كائن يحمل في ذاته رغبه لأن يكون أجمل وأرقى وإلا لما ارتقى الإنسان إلى ما هو عليه ولما ارتقى كائن . الكائنات تؤثر في بعضها وتتأثر وحين يرى كائن أن كائنا آخر أجمل منه مثلا يحاول أن يرقى بجماله فيحدث في من يخلفه ، ليس بالضرورة أن يكون واعيا تماما للأمر ، رغم أن المورثات لا تفوت أي رغبات يمكن أن تراود كائنا وهو يتأمل جمال كائن أجمل منه . وقد تسألني جلالتكم . هل تتأثر النباتات بالنباتات والورود بالورود والأشجار بالأشجار وحتى التفاح بفاكهة ما مثلا ؟ أقول : أجل يا عزيزي هذا ما أعتقده ، فكل الكائنات الحية تؤثر بعضها ببعض ، ولولا تلك الرغبات وذلك التأثر لما رأيت هذا التنوع في الخلق ، تأمل الورد ، كل نوع منه يكاد يتفوق على نوع آخر أو أنواع أخرى بجماله. يوجد لدى بعض النساء الحوامل في بعض المجتمعات اعتقاد أن المرأة إذا توحمت ( اشتهت ) شيئا ما قد يترك أثرا يظهر في مولودها. إنها عملية التطور التي لا تتوقف ولن تتوقف إلى ما لا نهاية ، إلى أن تبلغ عملية الخلق كمالا ما قد يحتاج إلى إعادة نظر في قوانين الطبيعة أو الخلق إن شئت . - جلالتك لا تكاد تميز بين الطبيعة والخالق والخلق ! - هذا صحيح ، فالطبيعة هي الخلق والخالق ! - أشكر جلالتكم . يكفي لهذا اليوم . **** (74) * لا حضارة دون عقل حر! في اليوم التالي وهما يجلسان في المكان نفسه بجوار شجرة البطم ، طرح الإمبراطور سؤالا أكثر تعقيدا على الملك ، وهو يرسل نظراته إلى السفوح والهضاب المترامية : - ثمة أمر يحيرني جلالتك ! - ما هو ؟ - كيف لا يستطيع هذا الخالق مخاطبة الناس مباشرة ليقول لهم ما هو ولماذا خلقهم وما هي الغاية من وجودهم ، لعله بذلك يريح العقل البشري من البحث عن سر الوجود ! بدا السؤال محيرا حقا للملك . قال : - لأنه طاقة والطاقة لا تتكلم ! - لكن الكلام لا يمكن أن يتم دونها حسب رأيك ! - هذا صحيح ! - فكيف لمن لا يتم الكلام دونه أن لا يكون قادرا على الكلام بل ولا يعرف لغات حسب رأي جلالتكم ؟ - أنت تعيدنا إلى سؤال الكهرباء التي لا تعرف الضوء رغم أنه لا يمكن للضوء أن يتم دونها. سأتجاوز هذه المسألة لأقول : لأنه ليس كائنا إنسيا ولا يملك لسانا ! لكن يمكن القول أنه يتكلم بألسن مخلوقاته ، ويرى بعيون مخلوقاته ويفكر بعقول مخلوقاته ! فالألسن في هذه الحال هي ألسنه كما هي العيون عيونه وكما هي العقول عقله ، فهو كل شيئ وكل شيئ هو، كطاقة مجسدة في مادة وكمادة يسري فيها وينتج عنها طاقة . - ولماذا لم يجعل مخلوقاته تعرف الحقيقة المطلقة وتنطق بها طالما أنها هو وهو هي ؟! أدرك الملك أن الإمبراطور بسعيه إلى المعرفة يحشره دائما أمام أبواب مغلقة . فكر للحظات مستعيدا بعض مفاهيمه وتأملاته وما لبث أن فجر قنبلة : - لأن الخالق نفسه لم يعرف بعد ما هي الحقيقة المطلقة ؟ بدا الإمبراطور وقد صدمته الإجابة وأوقعته في دهشة وحيرة . ضغط بأصابع يده اليمنى على جبينه . تساءل : - أليست قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وبناء الحضارة الإنسانية التي ينشدها الخالق حسب رأي جلالتك حقيقة مطلقة ؟ - لا ! إنها حقيقة نسبية كمبادئ ! - كيف ؟ - لأن الخالق لا يعرف كيف سيكون عليه مطلق هذه القيم . وقد سبق وأن تحدثت بالأمس عن تصور غيرمجلو أو غير متضح في مخيلة الخالق لهذه القيم . وسأعود لأذكرجلالتك بمليارات الأعوام التي استغرقتها عملية الخلق دون أن تبلغ كمالا مطلقا . وكم من الكائنات انقرضت لعدم تمكنها من التكيف مع البيئة التي وجدت فيها . فالبقاء يتم فقط للكائنات التي يمكنها التكيف والتأقلم مع البيئة التي تعيش فيها . فثمة كائنات قد تنقرض كما انقرضت الديناصورات مثلا . ولا يستبعد أن تنقرض مجتمعات بشرية في المستقبل لضعفها وعدم تمكنها من السير في ركب الحضارة الإنسانية . فالبقاء لن يكون إلا للأرقى والأقوى والأكثر عدلا وجمالا ! أدرك الإمبراطور أن الملك متمكن من منهجه في التفكير وأنه ليس من السهل إختراقه ، وأن كل ما يفكر فيه منسجم إلى حد مقبول وقد يكون الأقرب إلى المنطق والصواب . ومع ذلك ثمة ما يحتاج إلى إيضاح أكثر : - تضعني إجابات جلالتك أمام تساؤلات كثيرة ، فإذا كانت الألسن هي ألسن الخالق فإن اللغة مهما كانت هي لغة الخالق وأن الكلام مهما كان هو كلام الخالق والأمر ينطبق على العقول وما تفكر فيه والعيون وما تراه ، فكيف في هذه الحال ننسب الكلام السيء كالشتائم مثلا إلى كلام الخالق ؟ حك الملك صلعته بأصابع يده اليسرى فيما كان يعبث ببضع حصوات بيده اليمنى ، أجاب متسائلا : - كما ننسب الخلق السيء إلى الخالق أيضا، دون أن يكون الخالق بكليته أي بوجوده الكلي هو هذا الكائن السيء . فالكلام السيئ ليس الكلام كله ، والخالق بكليته ليس مسؤولا عنه . ولو أخذنا الكهرباء كطاقة مثلا ، فبها قد نشغل مصنعا وبها نفسها قد نحرقه ، فهل الكهرباء هنا هي المسؤولة عن الحرق ؟ القوانين والمعادلات التي وضعها الخالق هي حتى الآن لا تستطيع أن تميز الخير عن الشر، لذلك نجد أن بعض الأمراض الخطيرة تورث في الجينات لتنتقل إلى الأبناء ، وفي الوقت نفسه نجد أن مكتسبات كثيرة لدى الإنسان لا يمكن توريثها كالمهارات من لغات وثقافات ومهن .. كل هذه المسائل تشير إلى عدم اكتمال عملية الخلق ،وقد يحتاج الأمر إلى دهور . ولا يعرف متى يوجد الإنسان والخلق الأقرب إلى الكمال. - هذه مسألة محيرة فعلا فكيف يمكن توريث الأمراض ولا يمكن توريث المهارات ؟ - الأمراض تنتج عن عناصرمادية محسوسة كالخلايا السرطانية مثلا لذلك يمكن تدوينها وتوريثها . أما المهارات فتنتج عن عقل طاقوي غير مادي . فالعلم لم يجد مكانا في الدماغ يمكن اعتباره مكانا خاصا بالعقل ، لذلك لا يمكن توريث المهارات ، ويبدو لي أن مسألة توريث المهارات والمكتسبات الإنسانية ستكون من أعقد المسائل في تطوير الخلق . وإذا ما ظل الأمر على ما هو عليه لدى الإنسان قد تضطر طاقة الخلق أو الخالق إلى إعادة النظرفي قوانين ومعادلات التطور الخلقي ، فلا يعقل أن يمضي الإنسان عمره في التعلم ، وفي المقابل لا بد من إعادة النظرفي عمل الجينات الوراثية وتوريث حتى الأمراض . لا بد من إيجاد حل لكل هذه المسائل . - أعتقد أن الحل لن يأتي إلا بالقضاء على الأمراض . - ممكن ! لكن ما يجري من سلوكيات خاطئة في الحياة البشرية قد تأتي بأمراض أخطر من السابقة . أرسل الإمبراطور بصره بعيدا ساهما بخياله في عجائب المورثات بين الإنسان والحيوان : - تبدو الأمور في عملية الخلق والتطور محيرة .. فالمهارات لدى الحيوان تورث ، فلا نظن أن العناكب فتحت مدرسة لتعليم نسلها نسج أعشاشها، ولا النحل لهندسة مملكة خلاياه بهذا الإتقان ، ولا النمل لتنظيم جيوشه وحفر مساكنه وإقامة مستودعاته ، ولا الطيور لبناء أعشاشها ، لماذا ورث الخالق هذه المهارات للحيوان ولم يورثها للإنسان رغم أنها نتاج طاقوي أيضا ؟! - تساؤلك في غاية الأهمية جلالتك . ما يبدو لي أن الخالق لم يكن يطمح في تحميل بعض الكائنات ما لا قدرة لها عليه ، وحتى الكائنات نفسها لا يبدوأنها تطمح في ما لا تستطيع عمله ، فتم اختيار عمل محدد يخص كل فئة منها يمكن أن تجيده بشكل متقن . وهكذا تم توريث العمل ، هذا إذا كان مورثا فعلا وغير مكتسب بطريقة خاصة لدى الحيوانات نجهلها نحن كبشر. فلم يكن مطلوبا من فصائل العناكب أو النحل أو النمل أو الطيور، أن تبني حضارة مثلا وأن تخترع لغات. كان كل ما هو مقرر لها أن تقوم بدور محدود في عملية الخلق . هذه المسألة لو طبقناها على الإنسان لما كان هناك حضارة . تصور جلالتك لو أن الإنسان لم يكن قادرا بعد عملية التكاثر سوى على بناء بيت له حسب مواصفات معينة وهندسة محددة . في هذه الحال لن نرى حضارات وإبداعا في هندسة العمارة ، بل ولتوقفت الحضارة على بناء البيت وحده ، وفي هذه الحال لن يكون هناك حضارة بمفهوم الحضارة التي تشمل كل مقومات المجتمعات البشرية . والمسألة نفسها تنطبق على كل ما يتعلق بالإنسان وبشكل خاص العقل ، الذي أبقت عملية الخلق عليه حرا طليقا ليكون لديه القدرة على الخلق والإبداع وليساهم بالتالي في الغاية من الخلق وهي صنع وإقامة الحضارة الإنسانية الأرقى ، أي أن يكون خالقا ، كونه جزءا من الذات الخالقة نفسها ، التي كانت وما زالت توجد نفسها بنفسها لنفسها وتطور نفسها بنفسها لنفسها !! أطرق الإمبراطور للحظات مفكرا بإعجاب في قدرة الملك لقمان على إيجاد حلول ومخارج لكل المحطات شبه المغلقة التي يضعه فيها ، ولم يجد إلا أن يشكره كما في نهاية كل حوار : - أشكر جلالتكم لسعة صدركم وعمق فكركم . - العفو جلالتك . وآمل أن أكون محقا في اجتهادي الذي لم ولن أعتبره يوما حقائق مطلقة . - منذ أن تعرفت إلى جلالتكم لم أر أنكم وضعتموني خارج المنطق . أكاد أن أحسدكم على هذه القدرة . ابتسم الملك وهو يقول : - هذا أمر عظيم أن يكون لدي ما أحسد عليه ! **** (75) * الملك والظبية واللبؤة وخرق قوانين الطبيعة ! فيما كان الإمبراطور والملك يجوبان بأنظارهما سفوح الجبال والأخاديد وأعماق الأودية المتعرجة الحافلة بآلاف الأشجار ظهرت فجأة من بين الأشجار ظبية تطاردها لبؤة . وحين وجدت الظبية نفسها أمامهما لم تغير اتجاهها لهول الرعب الذي كان ينتابها فوثبت في الفضاء لتمرمن فوقهما ،غير أنها لم تتمكن من الهبوط على الأرض بثبات فكبت على رأسها وانقلبت لشدة السرعة التي اندفعت بها ،وحين ظهرت اللبؤة منطلقة بسرعة فائقة أيضا حدّت من سرعتها لتتوقف بصعوبة على مسافة قريبة من الرجلين الجالسين ، ولتتأملهما للحظات ثم تطلق زئيرا فاتحة فمها على وسعه لإخافتهما ، فيما كانت الظبية تحاول النهوض من كبوتها دون أن تنجح في الوقوف لانكسار إحدى قائمتيها الأماميتين . ارتعدت فرائص الإمبراطور فيما سخر الملك قواه لإيقاف اللبؤة في مكانها وتقدم نحو الظبية . أخذ قائمتها المكسورة بيدية وراح يمسد عليها لتبرأ من الكسر ولتقف الظبية على قوائمها .مسد الملك على رأسها وعنقها وهو يردد " لا تخافي " أحست الظبية بالأمان فاستدارت لتستكين إلى جوارالملك والإمبراطور . عاد الإمبراطور إلى هدوئه وهو يرى اللبؤة تثبت في مكانها وتتوقف عن الزئير . خاطب الملك اللبؤة وكأنه يخاطب إنسانا " أيه أيتها اللبؤة ، أدرك أنك تمارسين حقك في الحياة ، لكن هذه الظبية لجأت إلينا بعد أن أشفيتها ،ولا شك أن خلفها رشأ صغيرا يحتاج إليها إلى أن يكبر ، فهل يرضيك أن تفترسيها ، وتتركي صغيرها وذكرها يحزنان عليها ؟" وفي هذه الأثناء ظهر ذكر الظبية يتبعه رشأ صغير ، كانا يتبعان أثر المطاردة ليريا ماذا حل بالظبية وحين رأى الذكر أن أنثاه تقف بأمان إلى جوار الرجلين ، اقترب يتبعه ابنه لينضما إلى الظبية . أخذ الملك الرشأ الصغير وضمه إليه . مسد على عنقه وقبله فيما كانت أمه تتشممه . وفي الوقت نفسه ظهر الأسد ذكر اللبوة يتبعه شبل صغير وقد قدما لينالا حصتهما من الفريسة المفترضة ،و حين رأيا اللبوة تقف في مواجهة الرجلين دون أن تتحرك وقفا إلى جوارها . نظر الملك إلى اللبوة متسائلا ثانية " ماذا قلت أيتها اللبوة ؟ " لم يفاجأ الملك حين نطقت اللبوة قائلة : - وأنا كما ترى جلالتك لدي شبل صغير وزوج كسول يريدان أن يأكلا ،ومع ذلك لن أفترس ظبية لجأت إلى الملك لقمان واستجارت به ! بدا الإمبراطور في غاية الدهشة وهو يرى إلى اللبؤة تتكلم وتعرف الملك وتقدرلجوء الظبية إليه . أشار الملك إلى اللبؤة أن تقترب . اقتربت . ملس الملك على رأسها وراح يشكرها : - أشكر جلالتك أيتها اللبؤة لتكريمك لي واستجابتك إلى رغبتي، لن أتركك دون فرائس . انظري خلفك . وحين نظرت اللبؤة رأت ثلاثة خنازير كبيرة تقدم إليهم . توقفت الخنازير الثلاثة على مسافة منهم ، فيما الملك يتابع : - ستتبعك هذه الخنازيرطوعا إلى عرينكم لتفترسوها .. لكن لا تفترسوا خنزيرا أمام آخر . ولا تفترسوا إلا ما تحتاجون إليه . حين تنتهون من خنزير تفترسون آخر . وإني اعتبارا من اليوم جعلت الخنازير طعاما لمعشر الأسود ، وسخرتها لكم مدى الحياة ، فلا تهرب منكم ، وتتقبل طواعية افتراسكم لها دون مطاردة ،على أن لا تفترسوا غيرها من الحيوانات، ولا يفترسها أي حيوان آخر دونكم ولا يقترب منها . بدت اللبؤة في غاية السعادة وهي تستمع إلى الملك بتقديمه هذا المنحة الأبدية إلى معشر الأسود : - إني لعاجزة عن شكر جلالتكم لهذا التكريم الذي غمرتمونا به . وأشار الملك بيده إلى اللبوة لتنصرف . - هيا أيتها اللبوة .. انصرفوا وستتبعكم هذه الخنازير إلى عرينكم . انصرفت اللبوة يتبعها الشبل والأسد والخنازير الثلاثة التي بدت راضية بالمصير الذي قدره لها الملك لقمان . ومنذ ذلك اليوم بدأت الحيوانات ترى قطعان الخنازير ترعى بطمأنينة وجماعة من الأسود تربض مستلقية إلى جوارها أو في وسطها . **** كان الإمبراطور ما يزال جالسا وهو في غاية الدهشة لما جرى، فيما كانت أسرة الظباء ترعى باطمئنان على مقربة منهما . - ألا تقول لي جلالتك ما هذا الذي جرى ؟ - جرى ما أريده جلالتك ! - أرجوك وضح لي كيف تكلمت اللبوة وكيف استجابة لك وكيف حضرت الخنازير وأذعنت لإرادتك ؟ ابتسم الملك وهو ينظر إلى الإمبراطور : - يبدو أن جلالتك لم يقتنع بتجسد الألوهة في الوجود كله ؟ إن من تكلم ومن وافق على رغبتي هو الألوهة في اللبوة وليس اللبوة بحد ذاتها ! - وماذا عن الخنازير ؟ - الأمر نفسه . - يبدو لي أن الأمر عسير على الفهم . - لا ليس عسيرا . حين تتذكر دائما أن طاقة الألوهة تسري في كل كائن كما تسري في الكون كله وتحيط به ، وتتجسد في كل كائن كما تتجسد في الكون كله . فمن وجوده بهذا الشمول لن تصعب عليه مسائل كثيرة وخاصة حين تلتقي رغبة الكائن مع إرادة الألوهة لتحدث المعجزة . شعر الإمبراطور أنه سيسجل نقطة سلبية على الملك . تساءل : - لكن جلالتكم قلتم في جلسة سابقة أن الألوهة لا تتكلم ! - نعم لا تتكلم . لكني قلت أنها تتكلم بألسن مخلوقاتها فكل الألسن ألسنها كما هي كل العيون وكل العقول عيونها وعقلها . - لكن الكلام هنا بدا وكأنه كلام اللبوة وليس كلام الألوهة ! - هو بدا كذلك لالتقاء رغبات ، رغبتي ورغبة اللبوة ورغبة الألوهة فيها ، وطالما أن الرغبات صادرة عن طاقة الألوهة الكلية فليس غريبا أن تتوافق . - دائما تضعني جلالتك أمام مسائل معقدة يصعب فهمها . فأنت اليوم تدخلت في ما نعتبره قوانين الطبيعة وجعلت من الخنازير طعاما للأسود دون غيرها ، وجعلتها تقدم على ذلك طواعية فكيف لي أن استوعب ذلك ؟ - الأمر نفسه . لقد التقت الرغبات حول مسألة واحدة فتم الأمر. - وكيف التقت الرغبات في هذه الكائنات ؟ - الرغبات نتاج طاقة ألوهية فينا التقت بطاقة الألوهة الكلية السارية في الكون فتم تحقيق الأمر ! - تفسير نظري جلالتك لا يمكنني أن أعتبره حقيقة مطلقة ! - ولا أنا كذلك . لكن لا بد لي من تفسير ظاهرة بناء على أسئلتك ! - لا أفهم كيف توافق الخنازيرعلى أن تكون طعاما للأسود ؟ - الخنازير تفترس من قبل الحيوانات الأقوى منها ومن قبل البشر أيضا ، فما الذي سيتغير عليها حين تصبح طعاما للأسود وحدها . بالعكس ستتكاثر بنسبة أكثر من قبل . - وكيف توافق الحيوانات على عدم افتراسها ؟ - لأن الأمر أكثر ما تتمناه الحيوانات الأخرى التي سلمت من افتراس الأسود لها ! - وهل سينطبق الأمر على البشر أيضا ؟ - لا . - لماذا ؟ - لأن البشر يقومون بتربيتها فلم أحرمهم مما يربونه . أطرق الإمبراطور كالعادة قبل أن يشكر الملك وينهي الحوار. - أشكر جلالتك . - العفو . ***** (76) * اسطورة الأساطير في جمال سحب السماوات ! إذا كان الحمل والنمو والبلوغ وتركيب الجسم والجمال والمعرفة الشمولية، من الأساطير الخارقة التي عرف بها سحب السماوات، فإن جماله أصبح أسطورة الأساطير كلها بعد أن عمت بلدان القارة كلها بل وتجاوزتها إلى كواكب أخرى ، فقد قيل أنه حين يخرج في الليل ليقف على شرفة القصرالذي بنته له الملكة نورالسماء خلال لحظة بقدرات جنية، تنطفئ الأضواء خشية منه ليعم نور ينبعث من وجهه المكان كله مضفيا عليه لونا ساحرا لا هو بالأحمر ولا هو بالبرتقالي، فهو ما بينهما ! كما لم تعد الحكايات التي رويت عن حمله واكتمال نموه في رحم أمه في ليلة واحدة وبلوغه سن الرشد خلال ستة أيام كافية للتعبير عن المعجزة ، فقد قيل في بلاد تشبه الهند على الكرة الأرضية أن المعجزة براهمانية بالمطلق وقد تمت دون حمل وولادة أصلا وأن سحب السماوات ظهر واقفا أمام الملكة والملك خلال لحظة ، وأن براهمان ومساعديه من الآلهة سيغيرون طريقتهم في إنشاء الخلق في الأيام والسنين القريبة القادمة بأن يقولوا للأشياء كوني فتكون ، فاحتج المسلمون على الأمر انطلاقا من أن هذه القدرة لا يستطيعها إلا إلههم الذي خلق الخلق في ستة أيام واستوى على العرش في اليوم السابع ، ولا شك أنه نفخ من روحه في فرج الملكة فجاء هذا المولود المعجزة على الفور وهو نبي كغيره من الأنبياء السالفين. وفي بلدان شبيهة بالبلدان المسيحية قيل أن سحب السماوات جاء من الروح القدس نفسه دون نفخ ومواقعة وأنه تجاوز ما فعله في الماضي السحيق مع المسيح بأن جعل أمه تحمل فيه تسعة أشهر ليكتمل نموه وبلوغه في ثمانية عشرعاما ولا يصبح إلها إلا في الثلاثين من عمره ، فالمسألة هنا تختلف كلية فسحب السماوات ، جاء إلها خلال لحظة وسيظل إلها ، فهو يحمل جوهر الألوهة الواحد المطلق كأب وإبن وروح قدس ، وحين تساءل بعض الناس عن دور الملكة والملك في إنجاب الشاب ، أنكر آخرون أن يكون لهم أي دور مهما كان . وفي بلاد يشبه سكانها البوذيون قيل حسب تعاليم بودا الدارمانية السالكة طرق الكارمانية المؤدية إلى المطلق النيرفاني الموصل إلى الحلول والإتحاد بالمطلق الأزلي القائم بالخلق ، أن المطلق الأزلي هذا هو المسؤول أولا وأخيرا عن ظهور سحب السماوات ، الذي لا يعبر ظهوره عن الحقيقة المطلقة للمطلق الأزلي ، فهو إنسان عادي غير مترفع عن الشهوات والملذات ومتع الدنيا وبالتالي سيصعب عليه دخول المرحلة النيرفانية للخلاص من الشقاء والخطايا والآلام والحلول في المطلق ، وسيعاني من الشقاء مدى حياته. وفي بلاد تشبه الصين اختصر الأمر على أن سحب السماوات هو نتاج مادي طاقوي تاوي لتفاعل حركتي الين واليانغ ودورانهما حول مركزهما الوجودي حسب التعاليم اللاوتسية والشوانغتسية وبعض التعاليم الكونفوشيوسية ! وأنه إنسان قد يحمل بعض الصفات الخارقة الباراسيكولوجية كأن يسلط أنظاره على الجبل فينهار ! وفي بلاد تشبه اليابان قيل أن المبدأ الكلي الكامي في العقيدة الشنتوية هو دون شك المسؤول أولا وأخيرا عن ولادة ونمو سحب السماوات ،وأن ثمة تخوفا من أن يتحول اليابانيون عن تقديس الإمبراطورابن الآلهة إلى تقديس سحب السماوات لما يتمتع به من جمال خارق وقدرات خارقة ، وأن ثمة تخوفا آخر من أن تنتحر فتيات كثيرات كما انتحر غيرهن على مذبح حبه . وفي بلاد يشبه معتقدها المعتقد اليهووي اليهودي قيل أن سحب السماوات هو يهوة نفسه وقد تجسد وتجلى في شخصيته وأن كل من لا يختتن ويتبعه ويخلص له ويقدم له القرابين من الجداء والخراف والعجول الحليبية الصغيرة المشوية على المحرقة اليهووية سيميته ميتة فظيعة بأن يجعل أسرابا من الجراد تهاجمه وتنهش لحمه. العلمانيون في البلدان المختلفة شككوا في وجود سحب السماوات واعتبروا أن لا وجود له على الإطلاق ، وأنه ليس إلا هذيانات مخيلة روائي مجنون متأثر بالأساطير ، وأيدهم الملحدون في ذلك غير أنهم أضافوا قائلين " إذا كان ثمة وجود حقيقي لسحب السماوات ، فهو طفرة نوعية في عمل الطبيعة النشوئي الإرتقائي ! " اللادينيون واللاأدريون وكثيرون غيرهم قالوا أن الحقيقة المطلقة لجوهر سحب السماوات لم ولن يدركها العقل البشري على الإطلاق ما لم تتجاوز العلوم الفيزيائية الحاجز المغلق الذي اصطدمت به حول كيفية نشأة الخلق ،وما لم تتجاوز العلوم الكيمائية حاجز النسب في نوع الخلطة المادية العجيبة التي خلق منها الإنسان لتصل إلى نوع ونسب الخلطة التي نتج عنها سحب السماوات ، فلا يعرف مثلا إذا كانت بعض المعادن الموجودة في البطيخ قد ساهمت بدور ما في تشكيل الخلطة الحيوية التي نشأ منها ، وهل ساهمت بشكلها البطيخي المتحول من المعادن أم أنها تحللت لتعود إلى أصولها المعدنية وتشارك في خلطة المواد التي خلق منها سحب السماوات ! ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد على إختلاف وجهات نظر الأمم في ولادة وظهور سحب السماوات ،فقد اختلفت الطوائف شبه المسيحية حول طبيعة الشاب فهل هو الله نفسه أم أنه ابنه وهل يمثله ويتحد معه أم لا ، وهل هو واحد أم اثنان ، أم اثنان في واحد ،أم ثلاثة في واحد ، ثم ما هو الروح القدس هذا ، هل هو ملاك أم أنه إله في الألوهة الواحدة التي لا تتجزأ حسب رأي الموحدين غير المهرطقين الذين يتبعون الدين القويم ؟ ثم ما علاقة الملك لقمان والملكة نور السماء بولادته فهل هما قديسان أم ملكان ، ثم كيف يحمل سحب السموات خصائص الجن والإنس بأن يكون نصف تركيب جسده جنيا كون أمه جنية ،ويكون نصفه الآخر إنسيا كون أبوه إنسيا ، فهل هذا معقول ؟! هذه الخلافات أدت إلى أن يقتتل قويمون مع مهرطقين في العديد من البلدان شبه المسيحية ويقتل القويمون المهرطقين ، مما ينذر بانشقاقات وبحروب طائفية وقتل على الهوية ، لم يجر مثلها إلا على كوكب الأرض في العصور السالفة الغابرة المغبرة . هذا فيما يتعلق بأثر ولادة سحب السماوات في المعتقدات البشرية أما فيما يتعلق بالجمال الرباني والقدرات الخارقة فقد حدث ما لم يتصوره عقل على الإطلاق في تأثير الجمال على عقول النساء تحديدا فمنهن من انتحرن على مذبح حبه بوسائل مختلفة حتى دون أن يرينه، ومنهن من تولهن به وأنذرن أنفسهن لحبه وحده دون غيره، فإما أن يحبهن هو دون غيره وإلا فليذهب الحب والمحبون والعشاق والمعشوقات إلى الجحيم ،وإما أن ينكحهن هو دون غيره وإلا فليذهب النكاح والناكحون والمنكوحات إلى جهنم الجهنمات ، ولذلك دخلت الكثير من الفتيات سلك الرهبنة والتحقن بالمعابد والأديرة والكنائس أو اعتكفن في الصوامع والتكايا والكهوف الجبلية والغابات أو همن على رؤوسهن في الفيافي والقفار . أما أولئك اللواتي كن يطمحن في تقديم أنفسهن قرابين على مذبح حب سحب السماوات فقد كن يحضرن معهن سكاكين وما أن يطل سحب السماوات عليهن من شرفة القصر مرسلا نوره السماوي عليهن حتى يشرعن في طعن أجسادهن طعنات خفيفة وهن يستشعرن نشوة عارمة لم تستشعرها امرأة قط . غير أن سحب السماوات كان يتأثر بمشهد الطعن ، فيمد يده اليمنى ويشرع في المرور بها على صفوف الفتيات ، فما يمر على صف إلا ويتوقف عن الطعن وتلتئم جراح فتياته ، لينصرفن بعد ذلك راضيات سعيدات فرحات منتشيات بنشوة فريدة خارقة تكفيهن العمر كله وتغنيهن عن أي نشوة مهما كانت . تخوف الملكة نور السماء على نفسها وعلى سحب السماوات جعلها تشك في أن ما تنبأ به الملك لقمان في رحلته السابقة قد يتحقق على ضوء ما تحقق من معجزات ، فمثلت أمامه لتعلن له قائلة " حبيبي ها هو بعض ما تنبأت به من ولادة سحب السماوات قد تحقق وأنا متخوفة من تحقق نبوءاتك بأن تقتل وأن تنشأ حروب طاحنة بيني وبين الملك شمنهور لن يقدرعلى إطفاء لهيب نيرانها أحد وأن وعد الملك شمنهور لك بالإخلاص لي لن يتم خاصة إذا ما عرف الملك أن سحب السماوات قد واقع محظيته ربة الجمال " طمأنها الملك إلى أن ذلك لن يحدث وأن مواقعة سحب السماوات لربة الجمال لن تؤدي إلى إغضاب الملك شمنهور حتى لو عرف لوجود محظيات كثيرات لديه ، ثم إن سحب السموات يبدو سعيدا بعشق ملكة الجمال التي أحضرتها له ويكتفي بمواقعتها . لم تفارق الشكوك مخيلة الملكة رغم طمأنة الملك لها وظلت تراقب كل ما يجري بحذرشديد وأحاطت الملك بقوى جنية خفية تحرسه أينما ذهب وحل رغم وجود قوى كثيرة تحرس حياته، وما حملته الأيام القادمة جعلت شكوكها وتخوفاتها تزداد ، فالوقائع الخارقة لكل ما هومألوف التي يقوم بها سحب السماوات دفعت بعض بنات ملوك الجن والإنس إلى طلب يد سحب السماوات ليحظين بجماله ،وهذا ما جر الملك لقمان إلى حروب طاحنة خاصة مع ملوك الجن لم يكن يطمح فيها على الإطلاق . |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [9] |
|
الأُدُباءْ
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
أديب في الجنة (77) * " حوار الحضارات " وأميرة تقع في حب سحب السماوات ! لأول مرة في تاريخ صراع الديانات يتفق المؤتمرون من أصحاب الديانات السماوية في مؤتمر أطلق عليه " حوار الحضارات "-على اعتبار أن منشأ الحضارات ديني حسب رأيهم - على أن سحب السماوات قد حمل به في يوم وولد وبلغ سن الرشد في ستة أيام ، انسجاما مع خلق الخلق من قبل الله في ستة أيام واستوائه على عرش الكون في اليوم السابع . ففي هذا المؤتمر الذي عقد على كوكب خارج المجموعة الشمسية التي يتبع لها كوكب الأرض اتفق ما يعتقد أن دياناتهم تشبه الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية على هذا الأمر لا غير، واعتبر ذلك فتحا عظيما في حوار الحضارات ، وخاصة حين تنبأ بعضهم بأن عملية خلق الإنسان القادم ستتم حملاً وبلوغ سن الرشد خلال سبعة أيام فقط ، وبذلك ستتخلص النساء من عناء الحمل لتسعة أشهر ،ويتخلص الأبوان من عناء التربية لثمانية عشر عاما ، غير أن هذه المسألة لم تدرج ضمن البيان الختامي لكثرة المختلفين عليها حسب آراء مختلفة، منها من رأى أن هذه المعجزة لم ولن تتم للبشرية القادمة كافة على اعتبار أن سحب السموات مولود من أب قد يكون في نظر الله قديسا أو ملاكا أو نبيا أو عالما أو تقيا عظيما على الأقل، وأن أي مولود قادم لن يتم له ما تم لسحب السماوات ، على ضوء ما قيل أن أباه المدعو الملك لقمان ملك تقي عالم مؤمن موحد مبشر ، وأن امرأته الملكة نور السماء ، امرأة جنية مؤمنة موحدة ، وأن أي مولود قادم لن يتم بهذا الإعجاز في الخلق ما لم تتوفر له هذه الشروط ، وإلا فإن هذا الإعجاز قد ينطبق على الحيوانات أيضا ، فتخيلوا أن ينال قرد مثلا هذه المرتبة القدسية العظيمة من نعم الخالق فتحمل القردة وتلد ويكتمل نمو ابنها في سبعة أيام لا غير . ثم ماذا عن المعرفة الشمولية المكتسبة هل يمنحها الله لإنسان لم يصلّ لله ولو مرة واحدة ولم يدخل كنيسة أو معبدا أو جامعا في حياته . إن هذا الإعجاز لن يتم إلا لمن يستحقونه في نظر الله . ورغم أن كثيرين وافقوا على هذا الطرح إلا أن آخرين لم يوافقوا ،ولذلك لم يدرج هذا الرأي في البيان الختامي للمؤتمرالحواري ، الذي اقتصرعلى الأيام السبعة لحمل وولادة ونمو سحب السماوات . أما الخلافات الجوهرية الأخرى بين المذاهب الثلاثة فظلت قائمة . حتى أن كلمة " مذاهب " التي كانت قد كتبت في مسودة البيان من قبل عالم اسلامي حليق الذقن والشاربين لم يتفق عليها ، انطلاقا من أنها تشير إلى معتقد أو دين واحد في ثلاثة مذاهب ، مع أن الحقيقة ليست كذلك فهي أديان ثلاثة وليست مذاهب لدين واحد ، ولذلك تم شطب المفردة واستبدلت ب ( الأديان الثلاثة ) أما الخلافات المعقدة الأخرى على طبيعة سحب السماوات ما إذا كان إلها أو ابن إله وأنه جامع لأقنوم في ذاته ، أو أنه كائن انساني يحمل صفات النبوة ، وهو ابن لنور السموات والملك لقمان ، وغير ذلك كثير وخاصة ما يتعلق منه بجوهر وطبيعة الألوهة نفسها ، فهل هي مادة أم طاقة ، وهل ينبغي تطبيق شرائعها وعبادتها والصلاة لها خمس مرات في اليوم أو أكثر أو أقل ؟ ورغم أن جهنم والحساب والعقاب من المسائل القابلة للبحث إلا أنها لم تبحث في المؤتمر انطلاقا من أنها مسلمات بديهية ، وحين طرح أحد العلماء إضافة وجود جنة عند الله فيها حورعين إلى بنود الحوار تم استبعاده من المؤتمر واتهامه بالزندقه ، وكادت هذه التهمة أن تلحق بالعالم حليق الذقن والشاربين حين اقترح على المتحاورين إضافة بند يتعلق بالإعتراف بالعقائد الأخرى المختلفة في الكوكب وحق الآخرين في أن يتبعوا دينا ما أو يكونوا ملحدين مثلا ، غير أن المؤتمرين اكتفوا بإبعاده عن لجنة كتابة مسودة البيان التي اكتفت بالإتفاق على أن سحب السماوات حمل وولد ونما وكبر في سبعة أيام !! الخلافات الأخرى حول سحب السماوات ظلت قائمة حتى بين الطوائف في الديانات نفسها ، وبين الطوائف والعلمانيين والملحدين واللادينيين واللاأدريين ، بينما سحب السماوات ينعم في قصره الضخم - الذي انضمت الأسرة إليه - بجمال ملكة جمال الكون التي قيل أن نصفها جني ونصفها الآخر إنسي أيضا - كما هي الحال مع سحب السماوات نفسه - وأنها أجمل سيدة في الكون كله ، وأنها قادرة على أن تنير بنورها أي كوكب تطل عليه من علياء ! أجل كان سحب السماوات يتمتع بكل هذا الجمال لتتمتع الملكة بدورها بجماله دون أن يعتبر نفسه إلها أو ابن إله رغم كل قدراته الخارقة .. فقد كان يرى نفسه إنسانا تجلت في خلقه قدرة الخالق على الخلق ، وأن هذا التجلي لم يحدث لو لم يكن ابنا لإنسان يحب الخالق والخلق بقلب كبير ، ويبحث عن الخالق بنوايا صادقة وعقل سليم ، لمعرفة جوهره وغايته من الوجود . **** أميرة ذات جمال أخاذ إبنة لملك يحكم دولة على كوكب غير بعيد أبت الزواج طوال حياتها إلا من شاب فائق الجمال لا يوجد مثله في الكون ، سمعت بجمال سحب السماوات فأقسمت بمعبودها ألا تتزوج غيره ،وأطلعت أباها الملك على رغبتها ، فأقسم بدوره أن يحضره لها حتى لو كان خلف سبعة بحار في سابع سماء . فجهز مركبة فضائية أقلته إلى كوكب الإمبراطورية الشنوتية ليستقبله الإمبراطور الشنوتي بغاية الترحاب ،وحين عرف مقصده أخبره أن سحب السماوات هو ابن لملك كبيروضيف عزيزعلى إمبراطوريته وليس في مقدوره أن يبت في الأمر كونه ليس من شأنه . وبناء عليه تم الإتصال بالملك لقمان فحضر . شكر الملك لقمان الملك طالب المصاهرة وأعلن له أن سحب السماوات هو الوحيد القادرعلى تلبية طلبه أو عدمه . أخبر سحب السماوات فحضر . شكر الملك كما شكره أبوه وأعلن أنه لن يتزوج من فتاة مهما كان جمالها ومهما كانت مكانتها وأنه ضد المؤسسة الزوجية من حيث المبدأ ، وأنه نذر نفسه لكل جميلة شريطة أن يعجبه جمالها وأن تقبل مطارحته الغرام ، وبناء عليه يمكن للأميرة أن تحضر وسيتيح لها مقابلته فإن أعجبه جمالها سيمارس معها الحب ، وإن أعجبته ممارسة الحب معها قد يضمها إلى محبوباته إن وافقت ، ويبقيها في قصره وبين محظياته ومحبوباته . صعق الملك حين سمع رأي سحب السماوات ، حتى أن الملك لقمان والإمبراطور فوجئا بدورهما بما سمعاه . حاول الملك أن يخرج من حالة الإنصعاق ومن انبهاره بجمال سحب السموات ونظر إلى الملك لقمان ليبدي رأيه في ما سمعوه من الأمير سحب السماوات . قال الملك لقمان أنه يحترم رأي ابنه ولن يتدخل في شؤونه . أغضب الأمر الملك أب الأميرة فهدد بعواقب الأمور إن لم يوافق الأميرعلى الزواج من ابنته دون غيرها ، وأن لا يواقع امرأة دونها مدى حياته . أخبره الأمير سحب السماوات أن يحترم إرادته وأن لا يهدد أفضل له . وهنا تبجح الملك بقوة مملكته وأعلن أنه قادرعلى إرغام سحب السموات بالقبول بشروطه ، فسأله سحب السموات عن قوته ، فلم تمر سوى لحظة حتى حلقت المركبة التي جاء بها في الفضاء أمام أنظارهم . قال له سحب السماوات إن أردت العودة إلى مملكتك فاصعد إلى مركبتك وعد سالما أفضل لك ، فلم يقبل الملك وطلب إلى سحب أن يريه مدى قوته . نصحه سحب غير أنه لم ينتصح . سلط سحب السماوات نظره للحظة على المركبة وإذا بها تحترق في الفضاء . أسقط في يد الملك ولم يعرف ماذا يفعل أمام هذه القوة الخارقة ، فيما غادر سحب السماوات المكان عائدا إلى قصره . قام الملك لقمان بإحضار مركبة جنية أعادت الملك إلى مملكته بعد أن اعتذر له عن عدم تلبية طلبه . حين أخبر الملك ابنته الأميرة بما جرى وقعت طريحة الفراش ولم يعد لها أي شهية لتناول الطعام والشراب . ولم يعد في مخيلتها غير حب سحب السماوات . الملكة نور السماء عرفت بقدرتها التذاهنية كل ما جرى في جلسة الأمير مع الملوك فذهبت إليه في قصره وسألته : - ما هذا يا حبيبي ؟ - ماذا يا أمي ؟ - هل ستواقع كل جميلة تعجبك ؟ - إذا وافقت هي يا أمي وليس بالضرورة أن أرغب في مواقعة كل فتاة تعجبني فقد لا يتجاوز الأمر بضع فتيات ؟ - وهل تظن أن ثمة بين النساء والفتيات من لا ترغب في التمتع بجمالك !؟ - إذن فأنا حلال عليهن وهن حلال علي ! لن أحرمهن مما منحه الخالق لي ولن أحرم نفسي مما منحه الخالق لهن . - ألم تكتفي بملكة جمال الكون التي أحضرتها لك ؟ - بحدود، وحتى الآن فقط ! - وهل عرفت رأيك في المسألة ؟ - أجل ! ووافقت على الأمر لأنها تدرك مدى طاقتي ! - هل واقعت وصيفتيها ؟ - أجل يا أمي ! وملست الملكة على شعر سحب السماوات وقبلته ،ولم تجد إلا أن تقول له " ليحفظك الخالق يا حبيبي "! ***** (78) * حب عابر للكواكب!! طال مرض الأميرة ( فتنة النهار ) دون أن تأكل وتشرب إلا القليل من الطعام والشراب ، فنحل جسمها ،وذبلت شفتاها ، وضمرت وجنتاها ، ودمعت عيناها ، وغابت ابتسامتها ، وعمت الكآبة وجهها ، وغاب معظم جمالها ، فبكاها أبوها الملك ، وأمها الملكة ، والخدم والحراس ، والوزراء والأعيان ، والفتيات والفتيان، والرجال والنساء ، ليعم الحزن المملكة كلها لما كانت تحتله من مكانة مرموقة في نفوس الناس، فأقيمت من أجلها الصلوات ، وضجت المعابد بالتضرعات دون أي أمل يرتجى ، فاستشار الملك مستشاريه ،ونوابه وأعيانه ، فأشار معظمهم بشن حرب على الإمبراطورية الشنوتية . وحين أشار الملك إلى مدى قوة الإمبراطورية بوجود الملك لقمان وأسرته وحاشيته فيها ،وأنه لا يمكن لأية قوة أن تهزمها ، أشاروا عليه بإطلاق بضعة صواريخ عابرة للكواكب على سبيل الإختبار لمعرفة مدى قدرة الإمبراطورية على مواجهتها ، فأذعن للأمر وأمر بإطلاق عشرة صواريخ غير نووية فأطلقت . دمرها الملك شمنهور حتى قبل أن تدخل فضاء الكوكب بأن واجهها بمذنب واحد راح يتصدى لها وكأنها عصافير محلقة في الفضاء وليست صواريخ ! ذهل القادة العسكريون وغير العسكريين بهذه القوى الخارقة التي يمتلكها هؤلاء القوم . وأحبط الملك ولم يعرف ماذا في مقدوره أن يفعل لإنقاذ حياة الأميرة . وذات يوم وفيما كانت خادمة تقدم له وللملكة شراب الصباح ، رأت الحزن والكآبة يلفان وجهيهما ، فطلبت إلى الملك أن يسمح لها باقتراح ، فوافق . أشارت الخادمة عليه باستشارة حكيم فقير يقبع في كهف في الجبال . أرسل الملك طائرة مروحية تقل وفدا لإحضار الحكيم ، غير أن الحكيم أبى أن يذهب لمقابلة الملك لأنه كان يعترض على حكمه ،وحين حاول أعضاء الوفد إحضاره رغما عنه . فوجئوا بقوى خفية تدفعهم عنه ، فتوقفوا وتوقفت القوى الخفية ، ليهتف الحكيم " حتى لو نجحتم في إرغامي على الذهاب معكم ، فلن تنجحوا لا أنتم ولا الملك في إرغامي على الكلام ، وإن كان الملك يسعى إلى النصح في أمر ما، عليه أن يسعى إلي لأنصحه بما يفعل ، فأنا لست في حاجة لأن أسعى إليه " وهكذا عاد الوفد خائبا ، فاضطر الملك إلى الذهاب بنفسه إلى الحكيم ، ليجده قابعا في كهفه وسط كم هائل من الكتب مرتديا ثيابا مرقعة ويعيش على الكفاف . تعجب الملك أن يكون في مملكته أناس يعيشون في هذا المستوى من الحياة ، ورغم ذلك شعر بضآلته أمامه . سلم فرد الحكيم السلام مرفقا بإشارة من يده دون أن ينهض ، غير أنه رفع جسده قليلا عن الأرض وهو يميل إلى الأمام . جلس الملك في مواجهته وأخبره بقصة الأميرة وما فعله لإيجاد حل لمرضها . تفوه الحكيم بكلمات مقتضبة دون أن يبدو أنه فكر فيها . قال : " من يطلب المحبة أيها الملك ينبغي عليه أن يسعى إليها بالمحبة وليس بالتهديد وإطلاق الصواريخ العابرة للكواكب. لترسل ابنتك إلى المحبوب رسالة تطلب فيها شفاعته ، وإذعانها لشروط حبه . فالمحب لا بد له أن يكتوي بنار المحبوب ولا ما نع من أن تكتب أنت أولا لمن يعنيهم الأمر وللمعني نفسه"! وهكذا عاد الملك إلى قصره خاضعا ذليلا ، لم يجد مفرا من الإذعان لنصيحة الحكيم . أخبر ابنته بحقيقة ما جرى . وافقت الأميرة على رأي الحكيم وطلبت إلى أبيها أن يكتب إلى سحب السماوات طالبا شفاعته بها ، ففعل ، وفعلت هي بدورها طالبة إلى سحب السماوات أن يجعل منها وقودا لنار حبه قبل أن تقضي عليها !! وما أن عرف سحب السموات بما جرى للأميرة فتنة النهار بعد أن تلقى رسالة أبيها ورسالتها ، حتى رقّ قلبه لها وحزن للحال التي آلت إليها ، فقرر أن يذهب إليها في الحال ، فاستعان بقوى أمه وأبيه إضافة إلى قواه، لينتقل خلال طرفة عين إلى مخدعها . وجدها نائمة في سريرها . استفاقت الأميرة على يد ناعمة تملس بحنوعلى وجنتها ففتحت عينيها، وإذا بها أمام وجه أخاذ يرسل جماله نورا مبهجا يغمر وجهها ويتغلغل في مسامات جسدها . ظلت محدقة في الوجه للحظات ظانة أنها في حلم، وما لبثت أن نمت شفتاها عن ابتسامة طفيفة وهي تهتف بصوت خافت " سُحب " ابتسم سحب بدوره وهو يهتف " فتنة " حاولت أن ترفع جسدها عن السرير فاحتواها بيديه وضم جسدها إليه . قبلها على جبينها وألقى رأسها على عنقه . وشرع يملس على شعرها . همست متسائلة عما إذا كانت في حلم أم في واقع . همس لها أنها في واقع . اختلجت عيناها بالدموع وهي ترفع رأسها لتتأمل الواقع السحري في جمال وجه سحب وتشرع في تقبيله ليشرع هو بدوره في تقبيلها . وما قبلته قبلة إلا ودبت الحياة بكل حيويتها في مائة مليون خلية من خلايا جسدها ،وما قبلها قبلة إلا ونشطت الحياة أيضا في مائة مليون خلية في جسدها . لم يعرفا كم قبل أحدهما الآخر وهما يغرقان في بحر من القبل ، ولم يعرفا أن الحياة عادت بكل نشاطها إلى ستين تريليون خلية في جسد الأميرة ، لكنهما عرفا أن العافية عادت إلى جسد الأميرة، وأن جمالها تألق كما لم يتألق من قبل . أمضت الأميرة ليلتها بين أحضان الأمير ولم ينهضا من السرير إلا في ظهيرة اليوم التالي . استحما معا لتحمم الأميرة الأمير ويحممها هو بدوره. وحين دخلا إلى صالة الطعام في القصر عمت الدهشة الملك والملكة والحضور والخدم والخادمات ، إذ بدت الأميرة في أبهى جمالها وصحتها وكأنها لم تكن مريضة على الإطلاق ، إلى جانب هذا الشاب الذي فاق جماله جمالها . هتف الملك الذي سبق له وأن رأى سحب السماوات " إنه الأمير سحب السماوات " فشهقت الملكة من أعماقها وهرعت تعانق الأميرة والأمير، وهرع الملك بدوره ليعانقهما ويرحب بالأمير . وكان الأمير سحب السموات خلال ليلته مع الأميرة قد شعر بحب لم يشعر به من قبل مع الفاتنات اللواتي طارحهن الغرام ، فقرر أن يتخلى عن موقفه من الزواج وأن يتزوج من الأميرة فتنة . فانحنى أمام الملك والملكة ، وهو يهتف " اسمحا لي جلالتكما أن أتقدم بطلب يد الأميرة فتنة النهار لتكون زوجة لي مدى الحياة " لم يصدق الملك ما سمعه من الأمير فضمه إليه وشرع في معانقته كما ضمته الملكة وعانقته . عم الفرح كافة الحضور وشرعوا في التهاني . وأذيعت الأنباء في المملكة بشفاء الأميرة وطلب يدها من قبل الأمير سحب السماوات ابن الملك لقمان . فعمت الأفراح أرجاء المملكة . وأقدم الملك على تكريم الحكيم بعد أن طلب إليه أن يقبل تكريمه ، فاشترط الحكيم أن تلبى طلباته ، فطلب إليه تكريم كافة الحكماء والفلاسفة والأدباء والعلماء والفنانين والكتاب ،وأن يمنحهم بيوتا ويخصص راتبا شهريا لكل منهم يكفيهم لعيش كريم ،وأن يقدم لهم ضمانا صحيا مدى حياتهم ، فوافق الملك على كل طلبات الحكيم . بلغت الأنباء مسامع الملك لقمان والملكة نور السماء فحضرا للإحتفال بخطوبة الأمير وزواجه . ***** (79) * عجائب الزمان في عرس الأميرة والأمير . من غرائب العجائب وربما المعجزات التي لا تصدق أن تنتقل أسطورة ولادة سحب السماوات غير الأسطورية في واقعها ، إلى بلدان وكواكب مختلفة ، وبمرويات مختلفة ، ففي الوقت الذي شرع فيه بالإحتفال بزواجه من الأميرة " فتنة النهار " في مملكة النهار نفسها ، دون أن يفكر سحب السماوات إطلاقا في أنه إله أو ابن إله أو أنه ولي أو نبي أو قديس أو ملاك ، أو أنه جني بالمطلق أو إنسي بالمطلق ، كانت تحتدم في العديد من الدول والبلدان والكواكب والطوائف المختلفة صراعات دامية مختلفة على شخصيته ، فقد اقتتلت طائفتان يعتقد أنهما مسلمتان على كونه ولياً لله أم أنه مجرد نبي ورسول ، ليسقط جراء الإقتتال أكثر من نصف مليون قتيل من الطرفين . هذا في الحرب المعلنة الدائرة ، أما في الصراعات العشائرية والحزبية والأسرية فحدث ولا حرج ، فقد قتل زوج زوجته لأنها لم تؤمن بان سحب السماوات ولي لله على الكون كله وأنه قادر على تغيير نظام الكون ، وانشقت عشيرة عن قبيلة لأن القبيلة لم تعترف بأن "سحب" رسول محبة للعالمين ، وانشقت جماعة عن حزب تنويري لقناعة أفرادها أن سحب ليس إلا المهدي المنتظر وأنه سيعيد البشرية إلى الصواب . أما الأغرب من كل هذا أن يقدم متطرفون من أصحاب المفاهيم المختلفة على قتل مئات المثقفين العلمانيين من الذين لم يعترفوا بوجود سحب السماوات على الإطلاق ! أما في الطوائف المعتقد أنها مسيحية فكاد الدم أن يجري للركب في بعض البلدان بين من يعتقد أن سحب السموات هو إله وابن إله وروح قدس وبين من لا يعتقد بذلك على الإطلاق حسب تفاسير ومفاهيم مختلفة ، فأقدم الأولون على جزر الآخرين وتقطيع أوصال مئات الآلاف منهم ! كانت كل هذه الفظائع تجري في الكواكب الأخرى في الوقت الذي كان فيه يحتفل بزواج سحب السموات من الأميرة فتنة النهار عبر احتفال مهرجاني مبهر شارك فيه الملايين من الجن والإنس وأبناء المملكة النهارية والإمبراطورية الشنوتية . فقد انتظم موكب العروسين في ساحة قصر الملك ليتقدمها في الخروج إلى الشارع موكب الفرسان ممتطيي الخيول ثم موكب الموسيقين فموكب الراقصين فموكب الراقصات فموكب الاطفال حاملي الورود فموكب العروسين وقد وقفا على محفة تجرها أربع خيول ، وقد أحيط بهما أربع حوريات فاتنات ، تبعهما موكب ملك وملكة كوكب النهار رافقهما الملك لقمان والملكة نور السماء والإمبراطور والإمبراطورية الشنوتيان ،ومن الجن الملك شمنهور وبعض ملوك الجن منهم الملك حامينار والملك ابليس الشيطان وربة الجمال وملكة الجمال ، كانوا يقفون بانتظام على محفة بالغة الطول أعد فيها مقاعد خاصة للوقوف . تبعهم موكب كبار الشخصيات وزوجاتهم . فموكب لكبار قادة الجيوش . فموكب لخدم وخادمات القصر الملكي .. كان الموكب يسير ببطء وسط الآلاف من الناس الذين يشرعون بالتصفيق كلما أقبلت أو مرت محفة العروسين ومحفات المواكب الأخرى من أمامهم .. في الوقت الذي كانت تحلق فيه بانتظام فوق الموكب فرق من حوريات الجن وفرق من الخيول الطائرة وفرق من الظباء وفرق من الحمام وفرق من النسور العملاقة . وفرق من حوريات البحر اللواتي رؤوسهن رؤوس إنسيات وأجسامهن أجسام سمكية ! وبدا الناس في غاية الفرح والإنشراح وهم يشهدون من الجمال ما لم يشهدوه من قبل ، ويرقبون جمال الأمير والأميرة بذهول كلما مر موكبهما من أمامهم . بدأ الموكب قبيل أصيل اليوم ليسير في شارع عريض طوله خمسة عشر كيلومترا وليعود إلى القصر في شارع مواز وقد حل الظلام ، فأنيرت السماء بأسراب منتظمة من الشموع ،وأسراب منتظمة من الورود المشعة بأنوار مختلفة ،وأسراب منتظمة من نجوم فسفورية ، في حين كانت فرق الحوريات ترقص محلقة في الفضاء وقد أشرعت ملابسها البيضاء الفضفاضة لنسمات خفيفة أحالت أذيالها إلى سحب طائرة . بدا الناس وهم في غاية البهجة يشعرون أنهم ليسوا في عالم من السحر فحسب بل في السحر نفسه ، فشرعوا يرقصون في الشوارع والحدائق والمتنزهات وهم يرقبون سحر هذا العالم على ملايين الشاشات الكبيرة التي تبث من الأقمار الصناعية في مملكة النهار والإمبراطورية الشنوتية . انتهى الحفل بالعودة إلى ساحة القصر ليجلس العروسان على منصة مائدية مع كبار المدعوين ، فيما انتشرت في الساحة آلاف الموائد الزاخرة بأجود أنواع الأطعمة والخمور . أدركت الأميرة أن ثمة محتفين كثيرين خارج الساحة يرقصون في الشوارع والحارات فأبدت أسفها للأميرلأن هؤلاء الناس لن يتذوقوا طعام وخمور الحفل . أطرق الأمير لبرهة وما لبث أن أمال رأسه نحو أمه ألتي كانت تجلس إلى جواره فذاهنها بأمر ما ، وما لبثت أن أمالت رأسها إلى الملك لقمان لتذاهنه ، أطرق الملك للحظة وراح يجول بنظراته نحو وجوه الملوك من الجن ،ولم تمر سوى لحظات حتى كانت أسوار ساحة القصر ترتفع بهدوء وتتلاشى وكأنها لم تكن لتبدو موائد الطعام والشراب وقد عمت الأماكن كلها بما فيها الأماكن غير المنظورة في كوكبي المملكة والإمبراطورية ،ولتحتفل ولأول مرة في تاريخ البشرية أمم مختلفة في كوكبين مختلفين على مائدة واحدة بمناسبة عرس واحد في أكبر مائدة عرفتها البشرية . صرخ البشر جميعا متأوهين لشدة الدهشة التي ألمت بهم حين رأوا معجزة قد تكون معجزة المعجزات تتحقق. تأوهت الأميرة بدورها وشرعت في التصفيق بهجة وفرحا لما رأته وألقت رأسها على حضن الأمير،فيما كانت الكاميرات تنقل بهجتها لتعم الكوكبين ، فشرع البشر جميعا في الكونين بالتصفيق . شرع الناس في الرقص وتناول الطعام والشراب فيما كانت الكاميرات تتجول في كوكبي المملكة والإمبراطورية ناقلة ما يجري من فرح وبهجة في معظم أماكن الكوكبين . صافح الأمير والأميرة كبار المدعوين وانصرفا إلى مخدعهما بعد انتصاف الليل ، فيما دام الرقص والغناء مع الآخرين إلى أن "أشرق الصباح ، وأضاء بنوره ولاح ! وتوقف الراوي عن الكلام المباح ، بعد أن طال العناق ، والتفت الساق بالساق وغرق الشباب والفتيات في متعة المذاق ، وطعم الخمر المراق " فانصرف الجميع مبتهجين ،وهم في أحسن حال مرت عليهم مدى الحياة . فيما راح الأمير والأميرة يتمتعان أحدهما بجمال الآخر في ليلة كانت أجمل ليالي العمر . **** (80) *حرب طاحنة وسحب سماوية ! عاد سحب السماوات وعروسه " فتنة النهار "بعد بضعة أيام إلى الأمبراطورية الشنوتية في زفة فضائية مهيبة تقدمتها أفواج من الملائكة المجنحين والجن الطائرين دون أجنحة ممتطيي الخيول البيضاء ، ثم مئات الحوريات الفاتنات فمئات من الحوريات الظبيانيات اللواتي رؤوسهن رؤوس ظباء وأجسادهن أجساد حوريات كن يمتطين وعولا متعددة الألوان ، فيما امتطت الحوريات الفاتنات بسطا طائرة كن يرقصن عليها رقصات لا يتأتى مثلها إلا في ملكوت السماء . وجلس سحب وفتنة على محفة طائرة مكشوفة وقد أحيط بهما أربع حوريات سماويات ، تبع محفتهما اثنتا عشرة حورية رؤوسهن رؤوس خيول وأجسامهن أجسام حوريات كن يحلقن بانتظام بأجنحة فضية ويرسمن في الفضاء حركات جمالية منوعة ، تبعهن فرقة من الدلفينات الحوريات أيضا رؤوسهن رؤوس دلفينات وأجسادهن أجساد حوريات فاتنات، كن يحلقن واقفات أحيانا وعلى بطونهن أو على ظهورهن أحيانا أخرى، وكن عاريات تماما لا تخفي أجسادهن شيئا من جمال النهود والأفخاذ والسيقان ، تبعهن فرقة من الحوريات النوقيات اللواتي لم يكن لهن رؤوس وأجساد إنسيات أو حوريات ، بل كن نوقا خارقات الجمال ينطقن بأجمل الكلام ويشدون بأجمل الأغنيات في زفة العروسين . وقد حلق فوق الموكب وأسفله أسراب من الورود المختلفة من الفل والنرجس والنسرين والجوري وشقائق النعمان وياسمين الشام ، وعلا الجميع ألف فارس من فرسان الجن المغاوير لحراسة الموكب، كل جني منهم يستطيع أن يطلق ألف نيزك كل نيزك منها يمكنه أن يدمر كوكبا بحجم الكرة الأرضية ! كانوا ينتظمون كل مائة فارس بلباس مختلف وألوان خيول مختلفة . كان الموكب يحلق على ارتفاعات منخفضة بحيث تسنى لجميع سكان الكواكب الإنسية والجنية مشاهدته بوضوح وهو يمر في فضائها ، وحين دخل فضاء الكوكب الشنوتي راح ينخفض أكثر ليدخل فضاء الإمبراطورية الشنوتية على ارتفاعات منخفضة جدا ، إلى حد أنه كان يضطر إلى الإرتفاع حين يواجهه جبل عال أو سلسلة هضاب مرتفعة . خرج جميع أبناء الإمبراطورية من بيوتهم أو من مواقع عملهم وراحوا يرقبون الموكب الأخاذ المحلق في فضاء كوكبهم . وحين شرعت محفة الأمير والأميرة في الهبوط على أرض حديقة القصر الأميري راحت الأفواج المرافقة تحلق بانتظام فوق القصر وفي فضاء العاصمة . استقبل الأميران بحفاوة بالغة من قبل الملك لقمان والملكة نور السماء والإمبراطور والإمبراطورة والملك شمنهور وملكة الجمال وربة الجمال وعشرات المستقبلين من الجن والإنس، وبدا أن الحياة ستسير بانتظام وفرح وسعادة دون أي شيئ يمكنه أن يعكرصفوها ، لو لم يكن جمال سحب السماوات ما يزال يشكل طموحا يمكن تحقيقه للأميرات الفاتنات من بنات ملوك الجن والإنس ، رغم زواجه من الأميرة فتنة النهار. ***** لم تمر سوى بضعة أيام حين التقى الأمير بمحظيته ملكة الجمال ووصيفتيها وأعلن لهن أنه لن يتزوج على الأميرة فتنة النهار ، وأنه لن يقيم أية علاقات غرامية خارج الحياة الزوجية ما لم يكن هناك ضرورة لذلك ،وأنه في مقدورهن أن يعتبرن أنفسهن حرات من الإرتباط به وأن يعشن حياتهن كما يشأن سواء ببقائهن في القصر أو في مغادرته. فاخترن أن يبقين في القصر ومن ضمن أسرة الأمير، فرحب بهن هو والأميرة . **** ما لم يكن في الحسبان أن أميرة جنية مغرمة بمواقعة الجميلين من أبناء الجن والإنس وهي ابنة ملك جني يحكم كوكبا جميع سكانه من الجن ، سمعت كغيرها بجمال سحب السماوات فأعلنت لأبيها رغبتها في تملك هذا الأمير وضمه إلى قائمة معشوقيها ، ونظرا لأن أباها كان يحبها كثيرا ولم تطلب منه طلبا إلا ولباه لها ، بحيث بلغ عدد الجميلين من أبناء الجن والإنس الذين أحضرهم لها كرها أو طواعية تسعا وتسعين أميرا وجميلا .. وحين عرف أبوها الملك أن الأمير متزوج وأنه لا يمكن الحصول عليه بوسائل سلمية ، جند جيشا من مليون جني جبار ووجهه لمحاصرة كوكب الإمبراطورية الشنوتية بكل ممالكها ودولها ،وأعلن أنه سيدمر الكوكب ما لم يتم تسليمه الأمير سحب السماوات . لم يكن الأمر سهلا لا على سحب السماوات ولا على الملك شمنهور، والأسوأ أنه لم يكن سهلا على الملك لقمان نفسه ، وقد نذر نفسه لرسالة سلام حتى مع الجن ، وها هو يجد نفسه أمام كارثة حقيقية سيضطر لمواجهتها إلى خوض حرب لا هوادة فيها . أمر بإقامة سد من مليون جني للوقوف في وجه جيش الجن الغازي المحاصر للكوكب ، و أبرق إلى ملك الجن رسولا يدعوه إلى لقاء . فالتقيا في الفضاء بين الجيشين . الملك لقمان بصحبة الملك شمنهور الجبار. والملك الجني بصحبة قائد جيشه. حاول الملك لقمان بكل دماثته وسمو أخلاقه أن يثني الملك الجني عن مطلبه ،وأن يقدم له مائة من أبناء الجن الجميلين ليكونوا من معشوقي ابنته ، غير أن الملك أبى التراجع عن مطلبه . أنذره الملك لقمان أن جيشه قد يتحطم دون أن يحقق مأربه ، فلم يأبه بالإنذار. ما أن عاد الملكان إلى الكوكب حتى بدأت الحرب . أطلق جيش الملك الغازي ملايين الشهب والمذنبات فتصدى لها جيش الملك لقمان بملايين أكثر قوة منها ودمرها ، فأطلق الآخر ملايين النيازك ،فدمرت ، وأرسل أنهارا من النيران الملتهبة فواجهتها أنهار من الماء وأطفأتها ، فحمم من المقذوفات البركانية ووجهت بحمم أخرى ليلتهب الفضاء بالحمم المنصهرة في محيط الكوكب ،ليبدو للرائي وكأن القيامة قد قامت في آفاق الفضاء .. أدرك سحب السماوات أن هذه الحرب الفضائية قد لا تنتهي بين هذه القوى الجنية فقرر استخدام قواه الخارقة للمرة الأولى . لم يصدق الملك الغازي نفسه حين دفعته خاطرة تذاهنية إلى القاء نظرة على كوكبه ، فرآه يتفجر وكأنه قنبلة ليتبدد في أشلاء متناثرة تحترق في الفضاء وقد قضي على كل حياة فيه ، بما فيها حياة ابنته ومعشوقيها . صرخ من أعماقه متفجعا ،غير أنه لم يكمل صرخته حين رأى سيفا هائلا يحصد الأجساد من منتصفها يدنو من جسده وجسد كل من حوله من الجن ليقسمها إلى نصفين . لم تمر سوى لحظات حين حول السيف المهول أجساد مليون جني إلى أنصاف أجساد مبعثرة ومتهاوية في الفضاء . لم يصدق الملك لقمان ما جرى غير أنه توقع أن يكون سحب السماوات هو من قام بهذا الفعل الفظيع . هاتفه تخاطرا : - سحب هل أنت من فعل هذا الأمر الرهيب ؟ لم يفاجأ . حين تردد صوت سحب في مخيلته : - أجل يا أبي ! - لماذا يا بني ؟ فوجئ الملك لقمان بكل معنى الكلمة هذه المرة، حين هاتفه سحب قائلا : - أنا لست رسول سلام يا أبي ،أنا رسول قتل ودمار لقوى الشر أينما كانت في الكون !! تأوه الملك لقمان من أعماقه لإحساسه أن كل ما فعله قد يذهب هباء ،بل وراح يتمنى أن يكون كل ما يحدث هو مجرد خيال لا غير بما في ذلك وجوده هو !! ألقى رأسه على كتف الملكة التي كانت تقف إلى جانبه في الفضاء ، فضمته إليها وهي تدعوه إلى الهدوء وعدم التفكير في المعقول واللامعقول!! **** أديب في الجنة (81) * هذيان وكوابيس لقمانية ! صدمة كبيرة أوقعها سحب السماوات في نفس الملك لقمان بتدميره للكوكب الجني وإبادة سكانه . فإذا كان هذا العمل ليس إلا البداية فما الذي ستشهده الأيام والأعوام القادمة ، هل سيقوم سحب بتدمير كوكب الأرض أحب الكواكب إلى قلبه كونه ينتمي إليه ؟ حين التقاه بعد بضعة أيام من تدمير كوكب الجن ، أخبره أن ما يظن أنه أقامه على الأرض من محبة وسلام مجرد وهم لا غير ، وأن القتل والسحل والإغتصاب والإحتلال واضطهاد وقتل الشعوب وتجويعها ،أمور ما تزال تجري بكل الوسائل الممكنة، وأعلن أنه سيعلق آلاف الزعماء على كوكب الأرض من أرجلهم ويجعلهم يحلقون في سماء المدن والعواصم، وأنه سيقلب بعض المدن والعواصم رأسا على عقب ويجعل عاليها أسفلها ، وأن على أبيه أن يخرج من عالم الخيال والأوهام ويعود إلى الواقع . وحين عارضه الملك محتجا على سوء ما تضمره نفسه من عدوانية فظيعة، هتف في وجهه بانفعال " أنت وهم يا أبي ووجودك وهم ومحض خيال ، وتحيا في واقع متوهم ينبغي عليك الخروج منه. العدالة الإنسانية لا يمكن أن تتحقق بسلام "! وقع الملك بعد هذا اللقاء في حالة من الإضطراب النفسي والإكتئاب وراح يهذي في نومه بمفردات الواقع والخيال والوهم ، حتى أن حالات الشك في وجوده عادت تدهمه بين فترة وأخرى . استيقظت الملكة على هذيانات واضطرابات مختلفة كانت تنتابه ذات ليلة في نومه، وشرعت في تجفيف عرقه المتصبب. استيقظ هلعا . راح يستعيد بعض وعيه وهو يتأمل وجه الملكة . سألها بريبة : - أين أنا ؟ أدركت الملكة أنه لم يستعد كامل وعيه بعد : مسحت بيدها على جبينه ووجنتيه وهي تردد: - - اسم الله عليك يا حبيبي ، أنت بين أحضاني ! - ومن أنت ؟ - أنا حبيبتك الملكة نور السماء! - ومن أنا ؟ - أنت الملك لقمان يا حبيبي ! - وهل أنا موجود ؟ - أكيد يا حبيبي أنت موجود !! - وهل وجودي مجرد وهم أم أنه حقيقة ؟ ضمته الملكة إليها وهي تميل بجسدها حانية عليه : - حقيقة يا حبيبي حقيقة . - وهل أنا نتاج خيال أم أنني واقع ؟ أدركت الملكة عمق السؤال ، مما يشير إلى أن الملك بدأ يستعيد كامل وعيه ! - أنت واقع يا حبيبي ! - واقع متخيل وليس واقعا واقعيا أليس كذلك ؟ - حبيبي أنت موجود إن كنت واقعا واقعيا أو واقعا متخيلا . - اليس الواقع المتخيل وهما ؟ - لا ياحبيبي ، إذا كان الواقع المتخيل وهما ، فإن وجودنا وهمي كوننا نتاج خيال إلهي من ضمن التخيل الإلهي للوجود ! ولذلك لسنا وهما ! - وهم رباني ؟! - حبيبي ! دعك من الأسئلة الصعبة ! - طيب قولي لي بصدق ، هل أنا الملك لقمان أم محمود شاهين !! - حبيبي أين سرح عقلك ؟ أنت الملك لقمان ولن تكون إلا الملك لقمان ! - إذن أنا الشخصية الإنفصامية لمحمود شاهين ! - لا يا حبيبي ! - إذن نتاج خياله ! - لا ! لأنك لست مجرد خيال أو وهم . أنت مكون من لحم ودم ! شرع الملك في الضحك على اللحم والدم وهو يحاول قدر الإمكان الخروج من حالة القلق والأسئلة الصعبة . فطلب من الملكة أن تأتيه بكأس خمر . نهضت الملكة وأتت بكأسين . استند الملك في السرير لتستند الملكة إلى جانبه . هتف بعد أن شرب نخب الملكة وأطرق للحظات : - هل تظنين أن ابننا عدواني ؟ - لا أظن يا حبيبي ! - بماذا تفسرين تدمير كوكب الجن وإبادة سكانه ؟ - رغبة في الإنتقام ممن عادونا ! - أليست الرغبة في الإنتقام عدوانية ؟ - السؤال الأهم هو من كان السبب في إيجاد الرغبة ؟ - أشعر أن ما جرى هو عدوانية أنتجت عدوانية أفظع منها لمواجهتها ،وليس مجرد رغبة في إحقاق حق أو انتقام ممكن ،كهزيمة الجيش مثلا .. - إنس الأمر يا حبيبي لترتاح ! - كيف أنسى يا حبيبتي وابني أوقعني في كوابيس وهو يرى أنني مجرد وهم يحيا في عالم وهمي ؟ - طرح الأسئلة غير المعقولة يقودنا إلى اللا معقول ! - طيب ! سأطرح سؤالا معقولا ! من أين جاءت هذه النزعة في الإنتقام الفظيع إلى نفسية ابننا وهو لم يعش في مجتمع يورثه أو يكسبه نزعات غير إنسانية ؟ صمتت الملكة مطرقة للحظات وما لبثت أن هتفت بما صعق الملك ! - اكتسبها منك يا حبيبي ! عدل الملك جلسته وهو ينظر إلى وجه الملكة ليهتف بانفعال : - مني أنا ؟ - أجل يا حبيبي . انسيت أن ابنك اكتسب كل مورثاتك بما في ذلك رغباتك المكبوتة في الإنتقام ممن أساؤوا إليك أو إلى غيرك ؟! - يا إلهي يا إلهي ! - آسفة يا حبيبي إذا أزعجتك ! - أبدا يا حبيبتي ! إنك تقولين الحقيقة !! ***** لم تمر سوى بضعة أيام حين رأى الملك لقمان كابوسا فظيعا لم يشهده امرؤ على الإطلاق . رأى سحب السماوات يقيم القيامة على كوكب الأرض . يقلب مدينة تل أبيب وبعض مدن العالم رأسا على عقب ! ويدمر مئات القصور بأن يجعل عاليها أسفلها أيضا ،ويعلق آلاف الزعماء والقادة من أرجلهم ويجعلهم يجوبون فضاء المدن والعواصم، ويدمر ملايين السفن الحربية والغواصات وحاملات الطائرات والمطارات والقواعد العسكرية بكل أشكالها ، وينزع كافة أنواع السلاح من الكوكب ويدمرها، موظفا ملايين جنود الجن لتنفيذ أوامره ،فيما ملايين البشر يرقبون بدهشة بالغة كل ما يجري على الكوكب ، وصوت سحب السماوات يتردد من كافة أرجاء الكوكب ومن كافة فضاءاته معلنا بصرامة توحيد دول الكوكب والقضاء على الفقر والجوع وتحقيق فرص عمل للجميع وتحقيق قيم الحق والعدل والمحبة والجمال وبناء الحضارة الإنسانية ، وعدم التفريق بين الأمم والشعوب معلنا أن أمم كوكب الأرض أمة واحدة ،لا فرق بين أوروبي وآسيوي ،وبين أمريكي شمالي وأمريكي جنوبي . انتفض الملك لقمان في سريره وهو يرى إلى مجموعة من الزعماء الشرق أوسطيين محمولين من أرجلهم بمخالب نسور عملاقة تجوب بهم فضاء المدن والعواصم ، وقد تدلت أيديهم أسفل أجسادهم دون أن يأتوا إلا القليل من الحركات العشوائية العابثة في الفضاء في محاولة منهم للإحساس بالرمق الأخير من الحياة وليس النجاة بالتأكيد .هب الملك جالسا في السرير لتستيقظ الملكة على انتفاضة جسده التي كانت مروعة بحيث كاد أن يقذف نفسه خارج السرير . احتضنته الملكة وراحت تهدئ من روعه . أحضرت له كاس ماء ، ولأول مرة بدأ ينتابها إحساس بالندم على الإلحاح الذي مارسته على الملك لقمان لتنجب طفلا ، فكان سحب السماوات ، ألذي وكما يبدو أنه أحال حياة أبيه إلى جحيم . هتف والملكة تمسح وجهة مبسملة : - سيقتلني سحب السماوات يا حبيبتي . يريد أن يحقق بالحرب والدمار ما يظن أنني لم أستطع تحقيقه بالسلم ! ضمته الملكة إلى حضنها وشرعت لأول مرة في البكاء للحال الذي آل إليه الملك . **** (82) * الملك لقمان طريح الفراش ! ظلت الكوابيس والأحلام تلاحق الملك لقمان لبضعة أسابيع إلى أن وقع طريح الفراش . في الأيام الأخيرة صار يهذي في اليقظة ببضع مفردات غير مترابطة وغير مفهومة ، غير أن إرادة داخلية كانت تدفعه لأن يعي ما يحدث معه ويواجهه دون نصيحة أطباء نفسانيين ، وحتى دون استشارتهم ، فقرر أن يعطي نفسه راحة لبضعة أيام يتخلى فيها عن طرح الاسئلة الوجودية والإجابة عليها . الملكة نور السماء التي كانت في غاية الحزن لما ألم به لم تترك وسيلة إلا واتبعتها لإراحة نفسه ، فملأت غرفته والشرفة التي يجلس عليها في القصر، بأجمل الورود التي يعشقها كالبنفسج والجوري والنرجس والنسرين والفل والأقحوان وشقائق النعمان . وأحضرت له كل ما يحبه من أغان وموسيقى ، وخصصت ما لا يقل عن ساعتين كل ليلة للمسامرة خلال العشاء مع محبيه ومرافقيه ،والإستماع إلى موسيقى حية وأغان لمغنين ومغنيات ،ومشاهدة عروض رقص لفاتنات ،وسط أجواء من البهجة والفرح وتبادل الأنخاب وتناول أطيب المأكولات ، مانعة الجميع من طرح أية أسئلة عليه مهما كانت ،وخاصة من قبل سحب السماوات الذي بدا حزينا للغاية لمرض أبيه . ذاع خبر مرض الملك لقمان في كافة أنحاء الإمبراطورية ودول الكوكب ، إضافة إلى كوكب النهار ، فعم الحزن الكوكبين،وأقيمت الصلوات في المعابد والحدائق والساحات والبيوت داعية آلهتها أن تحف برعايتها الملك وتعيد إليه صحته . نجح الملك بإرادته الذاتية وبمساعدة الملكة ومحبيه من الناس، في التوقف عن الهذيان في حالات اليقظة ، والتقليل من الكوابيس والأحلام خلال الليل ، بأن عمدت الملكة إلى إجراء مساج له قبل النوم مستحثة الطاقة الإيجابية في جسده ، وإسماعه موسيقى حالمة هادئة ، وقيامه بالإسترخاء التام وممارسة الشهيق والزفيرفي اللحظات الأخيرة قبل النوم. استعاد الملك كامل عافيته خلال ثلاثة أسابيع ، وبدا مشرقا ومنشرح الأسارير وهو يتبادل القبل بالسلامة مع نسمة وربة الجمال وأستير. وسمح بزيارته لمن يشاء . كان الإمبراطورالشنوتي والإمبراطورة من أول زواره . استقبلهما الملك بالاحضان وهو يهتف " اشتقت لكما ،كيف أحوال الإمبراطورية والناس ؟" " نحن الآن بخير جلالتك بعد أن عرفنا أنك تماثلت للشفاء ،كنا قلقين عليك ، ومتخوفين من أن لا تستجيب الآلهة لصلواتنا بإراحة نفسك"!! أجاب الإمبراطور . ابتسم الملك لتعبير الآلهة وعمد إلى عدم تجاهلها في شكره : " أشكر جلالتكم . محبتكم ومحبة الناس والآلهة ساعدتني على تجاوز الأزمة ، وآمل أن نستعيد حواراتنا في وقت قريب" " حتى لو لم نعدها ، أشعر أنني اقتبست من معرفتكم ما يكفي لحياة أجمل تعم البشر " شعر الملك بثقة في نفسه تدفعه لأن يعيد طرح الأسئلة الوجودية دون ريبة من استعادة الكوابيس والأحلام . هتف متسائلا : " هل تسمح لي جلالتكم بطرح سؤال عليكم على ضوء الحوارات التي جرت بيننا ،أو حتى بتجاهلها " " تفضل جلالتك " " هل فكرتم يوما ما في أن الوجود وهم " تخوفت الملكة نور السماء من أن تعود الحالة للملك ، فهتفت متوجسة وهي تضع يدها على كتفه " حبيبي " هتف الملك " لا عليك يا حبيبتي لا تخافي " فيما أجاب الإمبراطور : " أبدا ! لم يخطر هذا الأمر في بالنا لأننا أناس واقعيون ونرى أن وجودنا واقعي وأن الحياة واقعية ،والخلق واقعي، وينبغي أن نحيا الحياة دون أوهام ودون طرح اسئلة معقدة لا يمكن الإجابة عليها بمنطق إطلاقي قطعي " ظل الملك مطرقا للحظات وكأنه يراود نفسه فيما إذا كان عليه التعمق في الحوار أو التوقف عنه . ويبدو أن النازع الأول قد تفوق على الثاني . " ثمة مفكر إسلامي ، اعتبر أن الوجود وهم، أو تصور أو تخيل افتراضي للخالق ، وأن لا وجود إلا للخالق نفسه ، فهو الوجود الوحيد الواقعي والحقيقي، وكل ما عداه وهم ، وحين يتوقف الخالق عن خياله الإفتراضي سينتفي الوجود كله . فكر الإمبراطور لبرهة مستحثا عقله الواقعي، مدركا مدى تعقيد الطرح : " أنت تدخلنا جلالتكم في مسألة معقدة للغاية ، أهمها هل الخالق موجود خارج الخلق ويتوهمه أم أنه موجود في الخلق نفسه ؟! " " حسب اعتقادي أنه موجود في الخلق نفسه ، فلا يمكنني تصور وجود خالق خارج الخلق لأنه لن يكون هناك إلا العدم " " السؤال هنا هل هو موجود في كل كائن في الخلق ، أم أن له وجودا مستقلا عن الكائنات"؟ " حسب اعتقادي أيضا أنه موجود في كل كائن كطاقة ومادة " " الطاقة والمادة جلالتكم يمكن أن يكون لهما وجود مستقل في كينونة إلهية مستقلة عن كينونة الكائنات الأخرى . ولنفترض أن الشمس هي الخالق ألا يمكن أن تكون مستقلة بذاتها عن الكائنات الأخرى لو أرادت ؟! " أدرك الملك أن الإمبراطور يقود الحوار إلى معتقده فهو من سلالة إلهية تنتمي إلى الشمس . هتف : " وما حاجة الشمس إلى ذاتها وحدها إن انتفى وجود الخلق الذي تتخيله أو تتوهمه " " مسألة الوهم والتخيل ليست مطروحة عندي ، هذا طرح المفكر الإسلامي الذي حدثني جلالتكم عنه ، المسألة عندي مسألة خلق فعلي غير متوهم ولا يمكن الإستغناء عنه ، لأنه جزء من تكامل وجود كلي للخالق الشمس " لم يصل الملك إلى نتيجة حاسمة كان يأمل أن يصل إليها . تساءل : " في هذه الحال هل يمكننا أن نقول أن الشمس موجودة في كل كائن ومستقلة بذاتها ايضا " ؟! " الافضل أن نقول أن كل كائن يستمد طاقته منها ، وأنها تستمد وجودها الكلي من ذاتها ومن خلقها في الوقت نفسه " ذاهنت الملكة الملك طالبة إليه أن لا يرهق نفسه ، وأن لا يثقل على الإمبراطور ، فأذعن لها . **** (83) * غرام ممتع وجنون فلسفي !! ظلت مسألة الوجود الوهم تراود مخيلة الملك لقمان بعد أن انتهت إلى طريق مغلق في الحوار مع الإمبراطور. تخوفت الملكة من أن تعود الحالة المرضية إلى الملك ، فأغرقت أيامه ولياليه بالحوريات الفاتنات من صغيرات بالغات وحتى غير بالغات ،كن يرقصن رقصات مثيرة تنضح بالإغراء وإبراز مفاتن الجسد، على أمل أن يسلينه عما يفكر فيه . أدرك الملك نوايا الملكة حين أغوته إحدى الحوريات الصغيرات خارقات الجمال وهو ثمل بعض الشيء ذات ليلة، وأشهرت في وجهه نهدين بديا كصقرين يهمان للإنقضاض عليه ، فلم يجد نفسه إلا وهو يقع فريسة لهما. وحين شرعت الحورية في تعريته وهي تمطر جسده بقبل ملتهبة وتلعقه بلسان يقطر شهدا ، شعر أنه يغرق في عالم غير متناه من المتعة أعاد الشباب إليه . واقع الحورية أوهي واقعته ليتواقعا كما لم يحدث في مواقعة من قبل ! وحين استيقظ في سريره قبيل ظهيرة اليوم كان ما يزال يستشعرلذة المتعة ،وكانت الملكة تستلقي يقظة إلى جانبه وتمد يدها فوق صدره المشعرالعاري وقد اتكأ نهدها الأيسر العاري على مقربة من موقع قلبه .أمال رأسه قليلا إلى وجهها ليرى ما إذا كان مع الملكة أم مع الحورية . انفرجت شفتا الملكة عن ابتسامة طفيفة وهي ترفع يدها لتملس على خده ، ومن ثم تلثم خده الآخر بقبلة خفيفة . همس دون أن ينسى أنه كان ضحية إغواء مثيرة للغاية أنسته الإخلاص لأية أنثى في العالم : - حبيبتي ابعدي حورياتك عني !! همست وهي تبتسم : - ألم تتمتع يا حبيبي ؟ - بلى ! و لكن متعة كهذه قد تنسيني كل شيئ إلا هي ! - أنت في حاجة لأن تنسى وترتاح يا حبيبي لا أتصور أن أراك تهذي مرة أخرى . - سأعمل على أن لا أهذي ، لكني لا أستطيع تجاهل ضرورة وجودي بأن يكون لوجودي ضرورة ! لا أستطيع أن أحيا على هامش الوجود ، طالما أشعر أن لوجودي غاية لا بد من القيام بها. ! - حبيبي أرجوك ! تخلى عن الأسئلة الكبيرة ولو لبعض الوقت ، حتى تشعر أنك عدت إلى كامل صحتك ! - أشعر أنني في كامل صحتي يا حبيبتي ! لكن أرجوك أن تبعدي حورياتك عني أو لا تدعيهن يغرقنني بالأغواء والإثارة ! ابتسمت الملكة وهي تملس على شعر صدره مستمتعة بمرور يدها فوق حلمة ثندوته التي تعلو موقع قلبه ! لم تكن الحورية الملتهبة خارقة الجمال المتفننة في عالم الجنس والمتعة إلا هي وقد تقمصت شكل حورية صغيرة لتمتعه . لم ترغب في أن تقول له أنها هي ، فقد لا يعود يستشعرالمتعة التي شعر بها . كذالك لن تعود هي إلى استشعار متعة الحب خارج نطاق الحياة الزوجية !! بدت مترددة في الإجابة . شك الملك في الأمر لترددها ، لا سيما وأنه سبق لها وأن فعلت ذلك في رحلته السماوية الأولى ، بأن تقمصت شخصية أستر حين شعرت أنه يشتهي مواقعتها ، فكشف أمرها ولم يواقعها ، بل ونهاها عن تكرار الأمر . لكن يبدو أنها حاكت التمثيلية بين مجموعة من الحوريات غير المتقمصات حتى لا يكتشف الأمر . همس ليقطع الشك: - حبيبتي ! هل كانت الحورية أنت ؟ أجابت دون تردد لتقطع الشك ! - لا لست أنا يا حبيبي ! اقتنع الملك بإجابتها لإحساسه أنها لا يمكن أن تكذب عليه أو تخفي الأمر عنه . - طيب عديني بما طلبته ! - أعدك فقط بالتخفيف من الإغواء والإثارة يا حبيبي ! - حسنا! ومال على جنبه ليحتضنها ويقبلها قبل أن ينهضا من السرير ! ***** استأنف الملك حواره مع ابنه سحب السماوات هذه المرة ، الذي حضر مع زوجته الأميرة الإنسية فتنة النهار التي بدت في غاية الجمال والرقة . بادرها الملك مازحا : - كيف تجدين الحياة يا عمو مع أمير نصفه جني ونصفه الآخر إنسي ؟ أجابت الأميرة بمرح : - ليس ثمة حياة أجمل من هذه يا عمو! وألقى نظرة نحو الأمير : - وأنت يا سحب كيف ترى الحياة مع إنسية ؟ - جميلة يا أبي ! - قل لي يا بني ؟ - ماذا يا أبي ؟ - أما زلت ترى أن وجودك ضرورة لتحقيق قيم الخير والحق والجمال بالقوة ؟! نظر سحب إلى أمه التي زجرته قاصدة أن يتهرب من الإجابة . وكانت قد أوصته أن يتهرب قدر الإمكان من الإجابة على تساؤلات أبيه حتى لا يعيده إلى الحالات التي انتابته . - ليس هناك شيء يستحق الحياة يا أبي فوجودنا وهم والوجود كله وهم ! - لم يدرك الأمير أن إجابته ليست تهربا، بل غوصا في صلب الموضوع ، وأنه نكأ بها كل جراح أبيه الدفينة ! - هل توضح لي ذلك يا سحب ؟ نظر سحب إلى أمه ثانية وقد بدت الحيرة على وجهة . تنبه الملك للأمر : - لا تذعن لامك يا سحب ، فلن أجن ثانية ، فهيا يا بني ، وضح لي ؟ - أنا لست موجودا يا أبي كما أنت ، ولم أدمر كوكبا ولم أبد جيشا ! - لا أفهم ذلك يا بني . كيف تكون غير موجود ولم تدمر كوكبا ولم تبد جيشا . - المسألة معقدة بعض الشيء يا أبي . - لا عليك من التعقيد فأنا قادر على فهمه إن وضحته ! - نحن تصورلتخيل غير مجلو أو غير متجسد أريد لنا أن نرى هذا التصور مجسدا كما أراده هو رغم أنه مجرد تخيل ! - ومن هو القائم بالتخيل غير المجلو ؟ - القائم بما نسميه الخلق ، أو الخالق أو الله أو الطاقة إن شئت ! بدأ الحوار ينحو إلى التعقيد أكثر ، وخاصة بوجود محاور كالملك لقمان . - ولماذا لم يجسد الخالق تخيله بنفسه وتركه للإنسان وربما للكائنات الحية الأخرى أن تراه مجسدا وهو ليس كذلك ؟ - لو فعلها الخالق يا أبي لتوقف عن التخيل ووصل إلى المطلق الممكن الذي ليس بعده مطلق آخر ، وهذا ما لا يريده الخالق! رجت الملكة الإثنين أن يتوقفا عن هذا الحوار غير المعقول ، فرجاها الملك أن تكف عن تدخلاتها لأن الحوار مع الأمير بدا له ممتعا للغاية . - كيف ولماذا سيتوقف ؟ - كمهندس يخطط لبناء عمارة فيشرع في تخيل شكلها ومن ثم تصوره بوضع مخطط لها ومن ثم الشروع في البناء ، فإذا ما بناها انتهى من التخيل والتفكيرفي المخطط ! أو كفنان يفكر في رسم لوحة ، فإذا ما رسمها انتهى من تخيلها. والإثنان في هذه الحال لم يبلغا بفعلهما ذروة الإبداع . - لكن المهندس قد يفكر في بناء عمارات أخرى والأمر نفسه ينطبق على الفنان . - لأنهما يدركان أن فعلهما ليس ذروة الإبداع ، كما يدرك الخالق أن تصوره المتخيل ليس ذروة التصور. لذلك لا يفكر في الشروع في البناء إلا بعد بلوغ التصورذروته ، فعمارته واحدة متعددة الأشكال هي الوجود بأكمله ولا يمكن أن تتكرر، فإذا ما بناها قبل اكتمال التصورانتهى الأمر. وفي هذه الحال تكون بنيت على تصور غير مكتمل الخلق والإبداع ، لذلك صمم مخلوقة لأن يراها مكتملة وهي ليست كذلك ، بل ليست موجودة إلا في التصور المرحلي للخالق الذي دام لأربعة عشر مليارا من الأعوام دون أن يصل إلى تصور مكتمل بالمطلق أو شبه المطلق ، ولا يعرف إن كان سيصل ، لذلك صمم المخلوق الإنسان لأن يرى ما هو غير موجود إلا في خياله كخالق على أنه موجود !!! أدرك الملك لقمان مدى عمق تفكير ابنه القائم كما يبدو على فلسفة نظريات فيزيائية ، بل وأدرك الفرق الهائل بين فكر ابنه وفكره ، فالملك لقمان يرى أن عملية الخلق تمر بمراحل تطورية لم تنته بعد، بينما يرى الأمير أن عملية الخلق الحقيقية لم تبدأ بعد ، وكل ما يجري هو مجرد تخيل وتصور لخلق مرحلي غير موجود في الواقع . شعر أنه في حاجة إلى راحة لتناول الغداء مع الأمير والأميرة وليتابعا الحوار الذي لم يسبقه حوار مماثل منذ أن وجد العقل البشري ! ***** (84) تحليل أميري للتمظهر الوهمي ! تخوف الملك لقمان من أن تضع فلسفة سحب السماوات فلسفته في مهب الريح ، جعلته يمضي معظم وقت تناول طعام الغداء وهو يفكرفي إيجاد وشائج مشتركة بين الفلسفتين بحيث تكمل إحداهما الاخرى كما تكمل فلسفته فلسفات ومعتقدات البشرية دون أن تلغيها بالمطلق . وظلت الأفكار تلاحقه حتى في القيلولة التي طلب أن تتاح له بعد الغداء ، فقد حلم أنه يتحاور مع ابنه وأنه كان يسخر من فلسفته ، فاستيقظ قلقا مضطربا . تنبهت الملكة للأمر ورجته أن يؤجل الجلسة الثانية من الحوار مع ابنه لبضعة أيام ، فلم يذعن لها ، بل وهتف بإصرار " هذا ابننا من لحمنا ودمنا، وقد اكتسب عبر مورثاتنا كل ما اكتسبناه وعرفناه في حياتنا ولا أستطيع أن أتمهل في معرفة العقل الذي يفكر به " وحتى لا يعرض الجلسة إلى مداخلات من الملكة أو الأميرة طلب أن تقتصر الجلسة عليه وعلى سحب . جلسا على انفراد في زاوية متطرفة في أحد صالونات القصر الذي بنته الملكة ليكون أحد أجنحته الضخمة مقرا للأمير سحب ، فيما تكون باقي الأجنحة لها وللملك ولباقي الحاشية الملكية . ابتدر الملك الحديث بأن تساءل : - قل لي يا سحب ! - ماذا يا أبي ؟ - لقد انتهينا حسب رأيك إلى الصورة المتخيلة غير المتجلية في العقل الكوني للخالق ،وأنه أراد للكائنات غير المتجلية فيها وبشكل خاص الإنسان ، أن ترى نفسها متجلية وترى الوجود المتخيل فيها أيضا متجليا ، رغم أن الأمر مجرد تصور متخيل في العقل الكوني ( الكلي ) للخالق . هل هذا صحيح ؟ - أجل يا أبي ! - السؤال ! لماذا أراد الخالق أن يجعل الإنسان المتخيل يتجلى ،والكائنات المتخيلة بدورها ، تتجلى ، قبل أن يكتمل تخيل وتصور عملية الخلق برمتها ، كونها لم تكتمل بعد في المتخيل الإلهي ، لماذا لم ينتظر الخالق إلى أن يكتمل تصوره لمتخيله ، ليقوم بإظهاره إلى الوجود مكتملا وحقيقيا وليس مجرد صورة وهمية يراها البشر والكائنات ؟! أدرك الأمير عمق السؤال الذي طرحه أبوه . أطرق للحظات في محاولة لترتيب أفكاره، وإيجاد المفردات المناسبة للتعبير عنها . - لأن الخالق يا أبي يحتاج في كل مرحلة من مراحل التخيل المديدة إلى أن يرى ما تخيله مجسدا لتكتمل الصورة المتخيلة وتتوضح في عقله الكلي الكوني. هذا من ناحية ،ومن ناحية أخرى ، فإن الخالق لم يظهر هذا المتخيل لرؤيته فحسب ، بل ليتيح له المشاركة في عملية الخلق كون المتخيل المخلوق جزء من ذات الخالق نفسه . فإذا كان المخلوق المتمظهرالإنسان مثلا ، فإنه يقوم بدوره بالتأثير والتأثر في عملية الخلق ، كونه جزءا من الذات الخالقة نفسها، وينبغي عليه أن يقوم بدوره في الغاية التي تمظهر ووجد من أجلها ،وهي المساهمة في عملية الخلق ! شعر الملك أنه يستمع إلى فكره هو وليس إلى فكر ابنه . هتف : - أنت هنا تعيدنا إلى فكري أنا يا بني ! - أجل يا أبي . الفرق بيننا هو أنك ترى التمظهر المتجلي حقيقة واقعية مكتملة نسبيا ، أي أنها لم تبلغ كمالا مطلقا أو شبه مطلق، بينما أراها أنا وهما لحقيقة نسبية لم تكتمل بعد، وأنها ما تزال قيد التشكل قبل أن تكتمل لتتمظهربشكل حقيقي واقعي يمكن اعتباره انتهاء الغاية أو الكمال الممكن . - أين تضع تدميرك لكوكب وإبادة جيش من مليون كائن جني حسب هذا الفهم ؟ ضحك الأميرحتى كاد أن يقهقه رغم عمق السؤال وأبعاده المختلفة، مما جعل الملك يهتف مستنكرا : - هل تضحك على أبيك يا ولد ؟ - حاشاك يا أبي . لكن سؤالك قادني إلى المتخيل البشري . فقبل أن نتحدث عما فعلته يمكن تناول الأمر من وجوه عدة . فمن هم هؤلاء الجن . ومن هو الخالق نفسه ؟ وإذا كان العقل البشري قد توقع وجود خالق لوجود خلق رآه متمظهرا في أشكال متعددة لا تحصى ، بغض النظر عن حقيقة التمظهر أو توهمه ، فهل توقع هذا العقل لجن وشياطين وملائكة لم يرهم متمظهرين يوما هو توقع صحيح أم مجرد توهم لغوي؟ ولو أننا أخذنا الأمر من وجهة نظر فلسفتي التي ترى أن التمظهر الوجودي وهم ، أريد لنا أن نراه حقيقة مجسدة ، فماذا ستكون عليه الحال مع الجن غيرالموجودين أصلا والذين لم يتمظهروا هتى في الوهم ؟ إن مفردات خلق وخالق وإنس وجن ..ألخ ، أوجدها العقل البشري بعد اختراع اللغة من زمن قريب جدا مقارنة بعمر الوجود ، وقبل ذلك ، لم تكن البشرية تعرف إن كان هناك خالق وإنس وجن ! لم يكن البشر يعرفون ما هم حتى عبروا عن وجودهم بمفردات لغوية تجريدية ،وهنا يأتي دور التأثير والتأثر الذي تحدثنا عنه . وبناء على هذا الفهم فنحن نتعامل مع موروث متخيل هوهنا نتاج عقل بشري بدائي ليس لمتخيله وجود ،وإذا ما أخذناه من ناحية التأثير في عملية الخلق فهو تأثير سلبي بالمطلق يشكل عبئا على عملية الخلق وفهمها ككل المفاهيم البدائية التي أخفق مجتهدوها في تقديم فهم منطقي إنساني للخلق والخالق ولعملية الخلق بحد ذاتها . وإذا أردنا أن نتناول تدميري للكوكب وإبادتي للجيش من هذين المنظورين ، التمظهرالوهمي والموروث اللغوي، فإنني لم أدمر ولم أبد إلا الوهم والموروث اللغوي البدائي ! لكن إذا ما افترضنا أن الوجود الوهمي هو تمظهر لوجود الشر حسب ما قام به ملك الكوكب ، فإنني قمت بالغاية التي وجدت من أجلها وهي أنني قمت بتدمير قوى شرانية خلصت البشرية من وجودها ! آمل أن أكون قد أجبت بشكل مقبول على تساؤلك يا أبي . بدا الملك مرتاحا لتحليل ابنه .. هتف بعد إطراقة : - أؤيدك في معظم ما أتيت به يا بني ما عدا التدمير والإبادة . ألم يكن في المقدور ثني الملك عن حربه بوسائل مختلفة ؟ - ألم تحاول أنت يا أبي وفشلت ؟ - بلى ، لكن ألم يكن في مقدورك تجنب الإفراط في استخدام القوة ؟ - بالتأكيد يا أبي كان في الإمكان فعل ذلك ، لكن مفهومي عن الجن وتصوري للوهم هما ما دفعني إلى ذلك . - مسألة تداخل الوهم بالحقيقة مسألة أوقعت العقل البشري في حيرة بحيث لم يعد قادرا على معرفة أيهما وهم وأيهما حقيقة، وكم قاد الوهم البشرية إلى حروب أزهقت أرواح الملايين . - وما زالت توقع يا أبي ! - هذا صحيح ! - ألا ترى أن سعيي للرقي بالحضارة الإنسانية عبر وسائل سلمية يمكن أن يثمر ؟ - سيثمر يا أبي لكن ليس في المدى المنظور . أنا أرى أن الطريق الأسرع للرقي بالحضارة الإنسانية يقتضي استخدام الأمرين (الجزرة والعصا) حسب ما يقول الناس ! ضحك الملك للحظات ،ثم صمت متفكرا ،وما لبث أن هتف: - حسنا يا بني ، ثمة مسائل كثيرة حول فهم الوجود والغاية منه لا بد من طرحها معك ،لأرى أين نتفق وأين نختلف ، فقد أفيد من ثقافتك ومعرفتك وأوظفهما في رسالتي قبل رحيلي عن الدنيا . - لا تنس يا أبي أنني نتاج مورثاتك ، فلولاك لما كنت أنا ! - ومورثات أمك ؟ - أمي نتاج موروث لغوي وهمي بشري يا أبي لم تورثني إلا الخرافات والأساطير ! عاد الملك إلى الضحك ،وصور الواقع والخيال تراود مخيلته ، وتذكر حديثه مع رجل المعرفة على كوكب الزهرة في رحلته السماوية الأولى حين كان أديبا فقط ولم يصبح ملكا بعد . ما يزال يذكر بعض كلماته " المشكلة أيها الأديب أنك ترى الحقيقة خيالا ولا تريد أن ترى الخيال حقيقة ،وآمل أن لا يضيع عقلك بينهما " **** (85) * حديث الروح في بوح الملك إلى الأمير! وهما يستلقيان على جانبيهما في حديقة القصرتحت شجرة زيزفون وارفة الظلال تفوحت منها رائحة عطرة وسط أضواء خافتة كانت تعم ليل الحديقة ، وموسيقى شجية تتسلل أنغامها الخافتة عبر هدأة الليل وهمس الأشجارإلى الأشجار ووشوشة الورود إلى الورود، فتح الملك قلبه إلى ابنه الاميرحين طلب إليه أن يحدثه عن أهم محطات حياته. راح الملك يقص عليه بعض ما استحضرته ذاكرته من وقائع حياة مفعمة بالشقاء والتشرد : " وضعتني أمي يا بني في حقل حصاد كما قيل لي . أقامت لي خصا من القصب ظللته بكيس من الخيش يقيني حر الشمس . وما أن لفعتني وأرضعتني حتى ألقتني على كيس خيش آخر واستأنفت الحصاد مع أبي والحاصدين .. حين عادت بعد هنيهات لتطمئن علي وجدت أفعى تتمدد على جسدي وتلقي رأسها على عنقي . بسملت أمي وتوسلت إلى الله والأنبياء أن تغادر الأفعى جسدي دون أن تلدغني . وفعلا غادرت الأفعى دون أن تلدغني ،غير أن أبي رأى الأفعى فصرخ بالحاصدين " الأفعى الأفعى " وشرع هو والحاصدون في مطاردة الأفعى بالحجارة دون أن يصيبوها . لجأت الأفعى إلى غمر من الزرع ودخلت تحته . هرعت أمي وألقت نفسها فوق غمر الزرع لتحمي الأفعى من حجارة الحاصدين كونها لم تلدغني. صرخ بها أبي بأقذع الشتائم أن تنهض عن الغمر وتتركهم يقتلون الأفعى ، غيرأن أمي لم تستجب رغم أن بعض حجارة أبي أصابت ظهرها . رفعت غمر الزرع عن الأفعى وأخذتها بيديها وضمتها إلى صدرها وجرت بها إلى أطراف الحقل وأطلقتها .. وهنا حدث ما لم يؤكده أحد إلا أمي ، فقد وقفت الأفعى على ذيلها وتنبأت لأمي بأنني سأكون ملكا !!!" " كان أبي يا بني أقسى أب يمكن أن يتخيله المرء . ظروف الحياة الصعبة لشبه فلاح ورعوي جعلته كذلك . هجره معظم أبنائه ما أن بلغوا سن الرشد . عاشت أمي معه أياما مريرة تحت وطأة ظلم فظيع . كانت حين تغضب تقلب الصاج الذي تخبز عليه العجين، وتسخم وجهها بسخامه ،وتدور على وجهها في الجبال مفجرة غضبها على الحياة، وعلى الوجود كله . كان أبي يلحق بها ممتطيا بغله، باحثا عنها في الأودية والأخاديد ،وما أن يجدها حتى يسوقها أمامه ويجلدها برسن البغل على ظهرها إلى أن يعيدها إلى البيت " " ليس هذا إلا أقل القليل مما واجهته أمي في حياتها دون أن يستطيع أحد أن ينقذها منه أو من هذا الجحيم . سلام عليك يا أمي . سلام على روحك وعلى أرواح كل الأمهات اللواتي عانين مثلك وربما أكثربكثير في زمن القتل " وجد الملك نفسه يجهش بالبكاء للحظات . ضمه سحب السماوات إليه وراح يربت على ظهره.. " لم تكن الحال معي أقل مما كانت عليه مع أمي . تذوقت طعم سياط أبي منذ نعومة أظفاري .المرة الأولى حين كنت في حدود الخامسة. دخلت إلى مقثاة للفقوس إلى جوار مسكننا ورحت أقطف ثمار الفقوس قبل أن تنضج . جلدني أبي بقطعة حبل على ظهري. الجلدة الثانية كانت وأنا في حدود السابعة.وضعني أبي ناطورا على حقل للذرة خوفا من أن تدخل إليه حميرأوأغنام وترعاه ، وذهب إلى القدس للتسوق . حين عاد قبيل الأصيل قيد رسن البغل إلى حجروراح يتجول على أطراف الحقل . يبدو أن حمارا أو لصا قد جاء الحقل ليلا واقتطف بعض عرانيس الذرة ، فقد وجد أبي العديد من سيقان القصب دون عرانيس، فشرع في خلعها من الأرض ووضعها تحت إبطه . تكسرت هذه السيقان على ظهري طوال الطريق إلى البيت لقرابة ميل أو أكثر .. سمعت أمي صراخي فهرعت لحمايتي قبل قرابة مائتي متر من البيت " " أدخلني أبي المدرسة التي تبعد عن مواقع سكننا المتنقل " كوننا نقيم في بيت منسوج من شعر الماعز " قرابة سبعة أميال . ننهض قبيل الفجرحين يصيح الديك صيحته الأولى التي نادرا ما يخطئ الديك توقيتها ، وكأن ساعته البيولوجية قد أعدت بإحكام ! نقطع معظم المسافة في الظلام حاملين حقائب كتبنا وطعام غدائنا على ظهورنا . لم يكن طعامنا أكثر من رغيف خبز وقطعة جبن ، أو حبة بطاطا مسلوقة أو مقلية ، أو حبة بندورة !" " في الصف الرابع وقعت عن البغل وانكسرت يدي اليمنى . تغيبت عن المدرسة ثلاثة أشهر إلى أن جبرت يدي ، لكنني رسبت في الصف " " في بداية الصف الثاني الإعدادي أخرجني أبي من المدرسة لأرعى قطيع الغنم الذي يملكه ، قرابة مائة وخمسين رأسا من المعز والنعاج .. أمضيت قرابة ثلاثة أعوام ونيف في رعيها . تعلمت خلالها العزف على الناي والمجوز والأرغول ،وكنت أطوع الأغنام على صوت أرغولي . كنت طفلا متميزا في رعي الأغنام وتوليدها وحلبها ومخاطبتها .. أطلقت على بعض المعز أسماء بعض فتيات البلدة ،وما أن أنادي العنزة حتى تحضر إلي . وكنت الراعي الوحيد (المثقف) الذي نادرا ما يخلو جيبه من كتاب يقرأه،وحين أتيت على كل السير الشعبية وبعض الكتب القديمة التي كان أبي يضعها في صندوق خشبي مخلع ، طلبت إلى أخي الذي صار في المرحلة الثانوية ويتابع دراسته في المدرسة الرشيدية في القدس، أن يزودني ببعض الكتب ،فكان أول كتاب أحضره لي هو " ألف ليلة وليلة " .. ويا له من كتاب كم أفرحني وأبكاني قبل أن يحيلني إلى كائن منفصم الشخصية ، لأرى نفسي ملكا ،أنام على أحلام ملكية ،وأستيقظ لتراودني أحلام ملكية في يقظتي ،ونظرا لأنني لم أكن أعرف إلا ملكا واحدا فكنت أتمثله دائما في مخيلتي ، وغدوت صديقا حميما له وتزوجنا من أختين من فتيات البلدة ، وعرض علي التنازل لي عن عرش المملكة غير أن شهامتي أبت ذلك !! إذ لم يكن في مقدوري أن أخون مثلي الأعلى وصديقي الحميم "! " هربت يا بني من بيت أبي ومن رعي القطيع على أثر ضربة فأس كسرت كتفي وجهها لي أبي لأنني اختلست بضعة قروش من محفظة نقوده .. استأجرت غرفة صغيرة في بلدة قريبة من القدس ،ورحت أعمل في أعمال يومية : بناء البيوت ودهنها وتبليطها أو في حفر الآبار وحفر الإمتصاص .. أصعب عمل واجهته كان حمل صفيحة الإسمنت المسلح ،كنت أشعر أن كتفي سينكسر حين أرفعها لأضعها عليه . تعرضت لحادث كاد أن يودي بحياتي لتتحطم أحلامي الإنفصامية في الملكية ، فقد قفزت من الباص قبل أن يتوقف ، سقطت لأسحل على الإسفلت إلى جانب الباص دون أن تطأني عجلاته .. اصبت بجروح ورضوض ما يزال بعضها ماثلا في جسمي حتى الآن " " طال تشردي يا بني لأعمل في أعمال مختلفة ، ولأتعلم الطهي في فندق جمعية الشبان المسيحية في القدس ،ولأعمل بعدها ليس في الطهي في المطابخ بل في صالات الطعام كنادل ، ولأغادر القدس إلى عمان . لم تطل فترة عملي ، فقد حدثت حرب بين العرب وإسرائيل هزم فيها العرب هزيمة منكرة واحتل الجزء المتبقي من فلسطين إضافة إلى أراض عربية . أسمى العرب هزيمتهم نكسة . اضطررت بعد أشهر من الحرب إلى الإلتحاق بتنظيم مقاتل ضد الإحتلال.التحقت بدورة هندسة متفجرات في بغداد . لم أمارس عملي على الإطلاق كمهندس متفجرات . كنت أمضي وقتي في القواعد أقرأ الفلسفة الماركسية وبعض كتب ماوتسي تونغ إضافة إلى بعض الروايات والأشعار العربية . ذهبت فيما بعد مع دورية مقاتلة إلى الأرض المحتلة . دخلنا عبر البحر الميت ليلا على قارب مطاطي . اصطدمنا بكمين للإحتلال على شاطئ البحر. نجونا منه بأعجوبة بأن تفرقنا ودخلنا عبر الأخاديد والأودية إلى الأرض المحتلة . إنها المرة الثانية إن لم تكن الثالثة التي أنجو فيها من الموت ، إذا ما اعتبرنا أن سقوطي عن البغل وكسر يدي كان المرة الأولى . أمضيت قرابة ثمانية أشهر في الأرض المحتلة كانت أكثر أيام حياتي شقاء وتعبا ومغامرات لا يصدقها المرء .. عدت إلى الضفة الشرقية ليلا عبر البحر الميت جالسا على إطار سيارة . كانت ليلة جحيمية رهيبة. قرابة ثماني ساعات وأنا أجلس متشبثا بالإطار مستسلما للأمواج التي كانت تقذفني نحو الجنوب الشرقي. كنت أدرك أن مقاومة الموج ستؤدي إلى قلب الإطار وهذا يعني نهايتي، فلم أجد إلى الإستسلام لها لأذهب معها أينما ساقتها الرياح ، ترفعني إلى قمتها فأرتفع معها، ثم تنساب هابطة فأهبط معها . تمالكت أعصابي طوال الليل ، ولم أتح لها أن تنهار إلا بعد أن راحت الأمواج تقذفني على الرمال الشرقية ، فأطلقت لها العنان وأنا أستلقي على الرمل فاردا يدي ورجلي لأرتجف من قمة رأسي حتى أخمصي قدمي " " وهكذا يا بني نجوت من سلطات الإحتلال ومن الموت للمرة الرابعة ولو كنت أدرك أنني سأصبح ملكا ذات يوم كما أنا الآن لما حزنت طوال الزمن الفائت ! وجدت نفسي بعد أشهر لاجئا في دمشق مع زوجة شبه أمية، على أثر حرب مؤسفة نشبت بين شعب واحد أريد له أن يكون شعبين، بل أكثر، كما رسم المستعمرون قبل بضعة عقود من ذلك التاريخ . كانت فرصتي لأن أعيد ترميم نفسي .. كنت أشعر بعقدة نقص نتيجة لإخراجي من المدرسة في وقت مبكر، فكان لا بد من حل هذه العقدة . كدت أن لا أترك شيئا إلا وقرأت فيه في مجالات الآداب والفنون . فلسفة . لغة . أدب . تاريخ . علم نفس. أساطير. معتقدات . صحافة . نقد . فكر.رسم. . مسرح. علم جمال. تصوف. سينما. سياسة . اقتصاد . شطرنج ! إضافة إلى انتماءات على فترات مختلفة إلى معاهد ، صحافة ( في القاهرة ) . سكرتاريا وإدارة أعمال . تصوير . سيناريو سينمائي . انكليزي. ألماني. فرنسي. إضافة إلى ممارسة الكتابة الأدبية والنقدية والتاريخية والفكرية بحدود. أصدرت عشرة كتب خلال ما يقرب من عقدين من الزمن " " رحل أبي عن الدنيا يا بني بعد قرابة خمسة أعوام من قدومي إلى دمشق . ذرفت عليه بعض الدموع فهو يظل أبي . ورحلت أمي بعده بعشرة أعوام دون أن أراها ودون أن تراني . بكيتها كثيرا ،وتذكرت معظم أيام شقائها .. هجرت زوجتي التي حاولت كثيرا أن أخلصها من شبه أميتها دون جدوى . أنجبت منها طفلا وطفلة . تزوجت من أوروبية ( ألمانية ) حاصلة على أعلى الشهادات .. غير أن الحياة الزوجية يا بني أعقد من أن تحلها شهادات . إن أصعب شيء في الحياة يا بني هو أن يعيش رجل وامرأة منسجمين مع بعضهما مدى الحياة. يحتاج الأمر إلى معجزة وإرادة لا تقهر ! افترقنا بسلام يا بني لأضرب عن الزواج دون العشق ما دمت حيا . عرفت قبل طلاق الحياة الزوجية وبعدها الكثير من النساء ، بعضهن عشقتهن وبعضهن لا، لكن أهم شيء فعلته هو أنني وجدت الوقت للتفرغ للأدب والفن والفكر ،وإغناء المعرفة التي تظل ناقصة مهما قرأ المرء " " لجأت إلى الرسم يا بني بعد أن تعثر نشر ثلاث روايات لي ، لأجد نفسي أغرق فيه لما يقرب من عشرين عاما . كما أنه أتاح لي أن أعيش بكرامة عكس الكتابة التي لم يكن ريعها يكفي للحد الأدنى من حياة كريمة. أقمت أكثر من ثلاثين معرضا منها ما هو في برلين وباريس. ورغم ذلك كان ثمة صراع في دخيلتي بين الكلمة واللون الذي أسرني، إلى حد أنني خاطبته هامسا له وأنا أراه يرسم ظلال الطيف عبر قطرات المطر : "يا لون ، حين زارني طيفك في شفق الفجر ، مؤتلقا بروح الخالق في سنا البرق وتحت ظلال المطر، لتنقذني من ربق الكلام وأسر الزمن ، وتقودني إلى آفاق الحلم ،أغواني سحر جمالك ، وأنا أتيم في سدم فيئك . وذاهنني الله أن أتبعك ، فتبعتك ، لتحملني وأحملك ، عبر فضاءات الروح ونبض الأحاسيس، إلى غياهب المطلق وأغوار المجهول . يا لون ، يا رفيقي ، يا صديقي ، يا حبيبي ، كم من أيام كنت وحدك فيها ، تنير ظلمة الهزيع من حولي بشموع ترقص، وكم من ليال كنت وحدك فيها ، ترسم تفاصيل الحلم ، بعد أن خان الزمان زمانه وضاق صدره بصريح الكلام ؟! يا لون ، كان الكلام عشق روحي ، فغدوت أنت روحي ، لأغدو كلمة في لون ، ولونا في كلمة ! فماذا في مقدوري أن أقول لك ، حين يمنع الكلام من أن يقول كلامه ، من أن يبوح بمكنونات بدئه ؟!! أنا مدين لك أيها اللون ، مدين لك بودي ، مدين لك بعشقي، مدين لك بكل خلايا عمري ، فشكرا يا لون ، شكرا يا أحمر، شكرا يا أصفر، شكرا يا أزرق . وعذرا يا لون ، إذا ما خنت نفسي وخنتك ، بتقييد حريتك أحيانا ، وكبح جماح طموحك ، في خلق جديد ،خلق لم تبصره عيون بعد ، ولم تسمع به آذان ، ولم تدركه حواس وعقول ، ولم يضمره إحساس ، إذ يبدو يا لون ، أننا حقا مسيرون ، ولن نوغل في غور المطلق ، وتصور العدم ، ما لم نكبح جماح القدر ، ونمسك زمام الخلق "! "اندلعت حرب في سوريا يا بني دفعتني إلى التشرد من جديد، تاركا خلفي متحفا يعج بالمنحوتات واللوحات والمخطوطات والتحف. لم يتقبل ابني وجودي لأقيم معه في عمان ، فإذا كان أبي من أسوأ الآباء فإن ابني هو أسوا ابن يمكن أن يتخيله المرء " " عدم وجود سوق للرسم في عمان ،أتاح لي العودة إلى الكتابة ، لم أكتب في حياتي أكثر مما كتبت في الأعوام الأربعة التي مرت على وجودي في عمان .. أكثر من خمسة عشر مؤلفا معظمها في الفلسفة والفكر والعقائد والأساطير . كان علي أن أتوسع في الطريق الثالث في فلسفة الوجود، وهو مذهب " وحدة الوجود" وكان علي أن أجدد أحلامي الإنفصامية بالملكية التي راودتني في الطفولة ، فأعدت إحياء شخصية الملك لقمان التي سبق وأن تخيلتها في رواية ملحمية تحمل اسم الملك نفسه، وتعج بالأساطير الإنسانية المتخيلة التي ترسم شخصية الملك ! فإن كنت يا بني ترى أن الوجود ما هو إلا المسودة المتخيلة التي يقوم الخالق بتصميمها لخلق الوجود ، فما أنا إلا المسودة المتخيلة التي يكتبها محمود شاهين لمشروع روايته القادمة ، وإذا كان الخالق عندك يا ولدي يتيح للمتخيل الوهمي أن يمارس وجوده ويشارك في عملية الخلق وتصميم المسودة ، فقد أتاح محمود شاهين لي أن أشارك في صنع المسودة لأغدو ملكا بحق، وأتزوج من ملكة جنية وأنجبك يا سحب السماوات " ظل سحب السماوات ساهما بدهشة للحظات وهو لا يصدق أن أباه الملك ليس أكثرمن شخصية إنفصامية متوهمة لمحمود شاهين ، أتاح لها أن تتصرف بحرية وتخلق عالمها ليكتمل وجودها في ذهن منتجها ، ليقوم بإعادة صوغها وإظهارها للملأ . هتف : - يا إلهي يا أبي ، هل نحن مجرد وهم ؟ استغرب الملك الأمر وهتف : - أنت الذي ترى الوجود وهما يا بني، لا تصدق أننا أنا وأنت وهم، لقد سبق وأن قلت لي ذلك ، هل ضعت بين الوهم والحقيقة يا بني؟! أطبق الأمير يديه بشدة على جانبي رأسه وهو يكاد أن لا يصدق أن كل شيء وهم ، وأن أباه لم يقص عليه ملخصا لقصة حياته إلا ليعيده إلى الوهم، بل ووهم الوهم الذي قد تكمن الحقيقة المطلقة فيه ! **** (86) * خطف سحب السموات !! انتفض الملك لقمان مستيقظا من نومه على صراخ الملكة نور السماء ليسمع الصراخ يتردد من كافة أرجاء القصر الملكي . إنس وجن يصرخون حتى الملك شمنهور نفسه يصرخ . لم يدرك الملك ما يجري فسأل الملكة لتجيبه من أعماق فجيعتها : " لقد خطف سحب السماوات أيها الملك " " كيف عرفت أنه خطف ،ومن في مقدوره أن يخطفه ؟" " قالت الأميرة فتنة أنها أحست به ينهض من على السرير إلى جانبها ،وحين فتحت عينيها رأته يرتفع عن السرير مستلقيا على ظهره ليتجه إلى الباب ويخرج منه ، هتفت "سحب حبيبي" لكنه لم يجب ،نهضت وهرعت لعلها تعرف ما يجري، لكنه كان قد اختفى ،ولم تعثر عليه في أية غرفة أخرى في القصر. حينها أدركت أنه أختطف ،فشرعت في الصراخ " بدا الملك غير مصدق لما بدا له أنه جنون . تساءل : " ألم يكن الأمير محروسا من قواه ومن قوى جنية أخرى ؟" " بلى ! لكن القوى الخاطفة سحرت كل القوى الحارسة ووضعتها في حالة سبات فظيع " " والأمير نفسه هل وضع في سبات أيضا "؟ " يبدو أن الأمر كذلك أيها الملك " أشار الملك إليها أن توقف هذا الصراخ في القصر وأن تدعو فتنة إلى الحضور، وخاطر الملك شمنهورمتسائلا : " ما الذي جرى أيها الملك ؟" " لا أعرف يا مولاي . ما أعرفه أنه مرت علي فترة خلال الليل لم أعد أشعر بوجودي، ويبدو أنها الفترة التي خطف فيها الأمير " " هل حاولت أن تعرف شيئا " " حاولت يا مولاي دون جدوى " " ما تتوقع أن يكون نوع هذه القوى أيها الملك ؟" " ربما قوى أقدر من قدرات الجن قد تكون إلهية يا مولاي " " وما حاجة الآلهة لأن تخطف كائنا ليس إنسيا بالمطلق وليس جنيا بالمطلق ؟" " لا تنس يا مولاي أن سحب يحمل صفات الألوهة أيضا وأن كواكب وأمما عبدته على أنه إله "!! تعجب الملك لما سمعه للمرة الأولى من الملك شمنهور ، مع أنه نفسه لم ير في ابنه أي صفات للألوهة المطلقة، فكيف رأى شمنهور وآخرون في الكون فيه ذلك ، بل وراح الآخرون يتصارعون حول ماهيته ؟ حاول أن يخاطر بقواه الأمير لعله يعرف أين هو ، هتف في مخيلته : " سحب حبيبي أين أنت ؟ أنا أبوك الملك لقمان، لا تدع قلوبنا تنفطر عليك يا ولدي، خبرنا أين أنت وماذا جرى لك " صمت الملك لبرهة لعله يتلقى تخاطرا يجيب دون جدوى . وشعر لأول مرة في حياته السماوية أنه عاجز ،وأن ثمة قوى كثيرة تفوق قدراتها قدراته وقدرات ابنه. لا يصدق أن ثمة قوى يمكنها أن تبطل قوى وقدرات سحب الخارقة ، فكيف لم يتمكن سحب من إنقاذ نفسه ،وكيف أصبح عاجزا حتى عن إعلامنا بمكان وجوده؟ حضرت فتنة النهار لتخبر الملك بما أخبرته للملكة . أحس الملك أن الدموع ستطفر من عينيه وأن صرخة هائلة تتهيأ للإنطلاق من أعماقه ،فكبح دخيلته، وصرف الجميع من حوله ودخل إلى غرفة النوم .أقفل الباب خلفه وانطرح على السرير مطلقا العنان لمشاعره مجهشا بالبكاء . خاطره الملك الملاك ابليس من داخل قصره في أعماق المحيط الأطلسي على كوكب الأرض: " هل تبكي أيها العزيز لقمان" ؟ أدرك الملك أن المخاطر ليس إلا الملك ابليس نفسه . أجابه: " فجيعتي أكبر من أن توصف أيها الملك ، فقدت ابن السماء الذي عوضت بوجوده فقدان ابن الأرض " " لا تحزن أيها العزيز سأعمل كل جهدي لأعرف أين اختفى سحب السماوات ومن اختطفه إن كان قد خطف " " أنت معيني في الملمات أيها الملك ،وسأظل ممتنا لك مدى حياتي " شرع الملك في مسح دموعه وأعدل من وضع جلسته على السرير منتظرا مخاطرة الملك ابليس. خاطره ابليس بعد لحظات : " الأمير سحب السماوات مختطف من قبل إله جني جبار يملك قدرا ما من أسرارالوجود ، ولديه قدرات خارقة شبه إلهية بحيث في مقدوره تحقيق معجزات كثيرة. لديه ابنة ربة فائقة الجمال اسمها عشتار، هي ربة الخلق والجمال ،وربة الخصب والعطاء والحب ، لم تتزوج في حياتها المديدة . سمعت بجمال الأمير سحب السماوات ، فزارته في صورة مخفية ، فأذهلها جماله السماوي، وأدركت أن من يحمل هذا القدر من الجمال لا يكون إلا إلها أو ابن إله ، فأخبرت أباها الملك برغبتها في الزواج منه رغم أنه متزوج . أنزل أبوها الإله سباتا على الأمير وحراسه من الجن . وحمله جني إلى قصرالأميرة بلمح البصر . وهي تراوده الآن عن نفسه في الحجرة السابعة من أجنحة قصرها السبعة في المحيط السابع من المحيطات السبعة المعلقة في السماء السابعة من المجرات السبع لأبيها الإله " أطبق الملك لقمان بيديه على وجهه لهول ما سمعه من الملك إبليس،وكبت صرخة هائلة في دخيلته ،وتساءل لعل الملك ابليس يجد له مخرجا لإنقاذ الأمير : " أليس ثمة أمل في إنقاذ الأمير أيها الملك ؟" " المسألة أعقد من عقول الجن والإنس جميعا أيها الملك ، ولا يمكن أن يحلها إلا عقول آلهة لها قدرات خارقة قادرة على أن تقول للأشياء كوني فتكون ، أو لكائن أو إله خارق يستطيع أن يعرف سر الوجود ويفك ألغازه ، فبانكشاف السر يمكن تتم القدرة على فعل أي شيء . وثمة أمرآخرجلالتك وهو أن يتم حل الأمر بين الأمير والربة بوسيلة ما ، وثمة إحساس يراودني بأن مسألة تكمن خلفها قدرات خارقة وتعقيدات لا نهاية لها لن تحل إلا بهذه الطريقة" ظل الملك لقمان في حيرة من أمره لبعض الوقت ، فيما كانت حالة طوارئ تنشأ على الكوكب الشنوتي وكوكب ملك النهار والعديد من كواكب الجن والإنس حين عم الخبر بعض كواكب الكون المأهولة . فقد استنفر الملك شمنهور مليار جني مغوار كل جني قادر على تدمير كوكب بأكمله وكذلك فعل الملك حامينار والد الملكة نور السماء والملك نذير الزلازل صديق الملك لقمان ،والملكة نور السماء نفسها ، أما والد الأميرة فتنة النهار وبعض كواكب الإنس ، فقد وضعت آلاف الصواريخ العابرة للكواكب المحملة برؤوس نووية وهيدروجينية على أهبة الإستعداد ، حتى الملك إبليس الذي يدرك أن كل هذه القوى لن تنجح في حل الأزمة ، استنفر قواه الجبارة ،وراح الجميع ينتظرون إشارة بدء حرب من قبل الملك لقمان تشن على الكواكب والمجرات ! غير أن الملك لقمان فاجأهم حين خرج من اعتكافه في غرفة نومه بقوله " أوقفوا كل شيء ، فهل ستشنون حروبا فظيعة دون أن تعرفوا على من تشنونها ولماذا ؟ " وهكذا راح الإنس والجن يمضون وقتهم وهم في حيرة من أمرهم لما وقع للأمير دون أن يفارق الحزن وجوههم ، ولبست الأميرة فتنة زوجة الأمير السواد حدادا عليه وكذلك فعلت أمه الملكة نور السماء وجميع الحوريات والملكات والنساء والفتيات في القصر . |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [10] |
|
الأُدُباءْ
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
(87) * ثمة أمل في نجاة سحب السموات من براثن العشق ! اعتكف الملك لقمان قرابة يومين في غرفة نومه ، وعاد إلى اعتكافه حين وجد نفسه عاجزا عن فعل شيء ينقذ الأمير سحب السماوات أو يعرف أين هو على الأقل . لكنه لم يعتكف هذه المرة في غرفة نومه بل تحت شجرة الزيزفون التي أمضى بضع ساعات تحتها مع الأمير يقص عليه سيرة حياته . استند بظهره إلى جذع الشجرة ومد ساقيه على طولهما وشبك يديه على بطنه وأغمض عينيه، محاولا قدرالإمكان الإسترخاء والتأمل . جاءته الملكة والحزن يلف وجهها . سألته : - هل تريد أن تصل إلى الحقيقة يا حبيبي ؟ أدرك الملك أبعاد سؤالها : - لست بوذا يا حبيبتي ولا أريد أن أصل إلى الحقيقة ، يكفيني ما عرفته عنها حتى الآن ، لكني أريد أن أعرف أين ابني ، أرجو أن لا يزعجني أحد ولا يقطع علي خلوتي . فهمت الملكة أنه لن يحضر وجبات تناول الطعام . سألته: - هل ستبقى دون طعام وشراب يا حبيبي ؟ - أحضروا لي زجاجة ماء فقط . وإذا ما جعت سأخبركم . عادت الملكة إلى القصر، فيما عاد هو إلى استرخائه . تذكر عبارات الملك إبليس حول إله أو كائن خارق يعرف سر الوجود ليحل المشكلة . "سر الوجود ؟" تساءل في نفسه . " لعل سر الوجود يقوم على كلمة . تذكرأن كلمات وطلاسم لا تتعلق بسرالوجود منحت له في رحلته الأولى من قبل ملوك جن، استعاد معظمها . " وتذكر مطلع إنجيل يوحنا " فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ" لكنه يدرك أن الكلمة لم توجد قبل اختراع اللغة منذ بضعة آلاف من السنين ، وأن اسم الله نفسه لم يعرف قبل ذلك ، ولم يكن في الإمكان التعبير عنه بمفردة مجردة . لكن قد يكون الله هو الكلمة دون أن يكون كلمة مشكلة من أحرف ، بل كيان مستقل! وقد تكون الكلمة مجرد مصطلح مجازي تم فيما بعد للتعبير عن القائم بالخلق . لم يفكر منذ أن صعد إلى السماء في أنه سيجد نفسه ضعيفا إلى هذا الحد. خالجه شعورأن الله تخلى عنه طالما شعر دائما أنه معه ، بل وأشعره بوجوده معه في أحيان كثيرة . ألم يحيي له الموتى في جحيم داجون في رحلته السابقة وفي بداية رحلته هذه ؟ لم يجد أمامه غير الكلمة يعبر بها عن ضعفه وعن الحال التي وجد نفسه فيها " يا إلهي " وثنى ساقيه ملقيا ساعديه على ركبتيه واضعا رأسه عليهما . شعر بحاجته إلى البكاء وذرف بعض الدموع .سقطت الدموع على ساعدية . استسلم لحالة الحزن وهو يهتف في دخيلته " يا إلهي " وما لبث أن أضاف إلى العبارة كلمات أخرى في محاولة يائسة لتوضيح رجائه من إلهه " كن في عوني يا إلهي " وظل يردد كلماته لبضع ساعات دون أن يغير وضع جلسته . وحل الليل دون أن يغيرها ، وأشرق الفجر دون أن يغيرها . الحال في القصر تحولت إلى حزن وكآبة وحداد . لم يعد لأحد رغبة في الطعام أو الشراب . وعم الصمت كافة أرجائه التي لم يعد يسمع فيها إلا نواح الملكة نور السماء والأميرة فتنة النهار على الأمير. وفيما كانت ألوان الفجر تتبدد في الأفق سمع الملك لقمان صوتا يخاطره قائلا : " لا تبك أيها الحبيب . سأقول لك كلمة ، إن حافظت على سرها ولم تخبر أحدا أنك ملكتها ، استطعت أن تصنع معجزات لا يقوم بها إلا من حازوا قدرا كبيرا من الألوهة " أدرك الملك أن المخاطر ليس إلا الله . أجاب: "سأفعل يا إلهي. أشكرك من كل قلبي" وبدأ يدرك أن سر الوجود قد يكمن فعلا في الكلمة ! جاءه التخاطر مرددا الكلمة ثلاث مرات ، وتوقف ولم يعد. لم يعرف الملك ما إذا يتوجب عليه أن يردد الكلمة في نفسه مرة واحدة أم ثلاث مرات . جرب أن يرددها مرة واحدة ليخاطر بعد ترديدها سحب السماوات متسائلا " أين أنت يا بني" ؟ وما أن فعل ذلك . حتى جاءه صوت سحب السماوات مخاطرا " لا تقلقوا يا أبي أنا بخير " وتوقف التخاطر. شعر الملك أن سحب في وضع لا يتيح له أن يقول أكثر من ذلك حتى لا يلفت انتباه من هو في حضرتهم أن أمرا ما قد طرأ له. وبالفعل كانت الربة عشتارتجلس في مواجهة الأمير وتحاول عبثا إقناعه بالزواج منها أو ممارسة الحب معها كربة للحب ،وتنبهت إلى أن الأمير صمت للحظة ، فسألته عما إذا كان هناك شيء ، فأجاب " لا ليس هناك شيء ، مجرد محاولة لتركيز ذهني لأجيب على أسئلتك أيتها الربة "! نهض الملك وسار بخطوات متمهلة ودخل إلى صالون القصر باش الوجه منفرد الأسارير إلى حد ما . طالبا إلى النساء أن ينزعن ثياب الحداد وإلى الجميع أن يعودوا إلى حياتهم الطبيعية لأن سحب السماوات بخير . نهضت الملكة وتشبثت بعنقه متسائلة فيما وثبت الأميرة متلهفة لسماع التفاصيل ،غيرأن الملك لم يؤكد إلا ما قاله . **** في جناح الربة عشتار،عرف سحب السماوات حين استفاق من نومه أن مختطفه جرده من كل قواه الخارقة للطبيعة، وأرخى عليه سباتا ليختطفه ،وأنه لم يعد لديه إلا عقله ليواجه به رغبات الربة الطامحة في الحب . أدرك سحب أن نقطة ضعف الربة تكمن في عشقها لجماله ،وأن في مقدوره أن يناور على هذه النقطة إلى أن تتغيرالأحوال ، خاصة وأنه عرف أن قوى أبيه لم تقدرعلى فعل شيء حتى حينه . وحين جاءته مخاطرة أبيه توقع أن يجد أبوه حلا ما طالما أنه أعاد إليه قدرته على التخاطر . هتفت الربة وقد نفد صبرها كما يبدو : - أيها المجنون هل هناك من يرفض الزواج أو ممارسة الحب مع ربة الحب والجمال نفسها ؟ - أبدا أيتها الربة ، بل سأكون سعيدا إذا ما وجدت يوما أن عاشقتي ليست إلا ربة الحب والجمال بكل جلالها . وأظن أن زوجتي ستكون سعيدة بذلك ، خاصة إذا ما بارك جلالك زواجنا ! - إذن لماذا لا تفعل ؟ - أيتها الربة أنت اختطفتني اختطافا وأبطلت قواي وجعلت زوجتي وأمي وأبي وكل حاشيتي تندبني وتحزن على فقدي ، فكيف سأخلص لحبك ؟ - سأصلح كل شيء إلا قواك ما عدا الخارقين فيك ، جمالك وجمال مبعث الخصب والمتعة فيك !! ابتسم الأمير . بدت ابتسامته لها كإشراقة فجر ، ألقت نفسها عليه وراحت تقبل شفتيه . دفعها الأمير بلطف وهو يهتف : - مهلا أيتها الربة ! هل هكذا تعشق الربات ؟ لا تريدين إلا جمالي و... مبعث الخصب في ؟ هل يعقل هذا ؟ هل أنت ربة بحق ؟ - بل أنا ربة الربات أيها الأمير الإله . واهبة الحب والجمال التي لم تتمتع يوما بالحب !! - إذا كنت ربة الربات وتمارسين العنف مع من هام عشقك به فكيف بالآخرين ؟ - لا أحتمل أن يعارضني أحد أيها الحبيب ،إرادتي ورغباتي يجب أن تنفذا! - أنت ربة دكتاتورة ! - ليكن ! - ولماذا لم تتمتعي بالحب ؟ - كنت أتمتع بحدود بمنحه للإنس والجن ! ومدت يديها لتتحسس إحداها خده فيما راحت الأخرى تتحسس موضع الإثارة في جسده . بدت متهيجة بعض الشيء . أدرك الأمير أنها فرصته ليملي رغبته عليها . أبعد يديها بلطف ،وهتف : - سأمارس معك الحب دون زواج إن أعدت لي قدراتي التي أبطلتها ! وعادت لتمد يديها وتتحسس أسفل بطنه وهي تهتف بغنج: - وما حاجتك إلى قدرات خارقة يا حبيبي ؟ - ألا تريدين أن أمتعك كما يجب ؟ مبعث الحب يريد قدرات خارقة أيضا ! وأبعد يديها . شعر أنها بدأت تستوي! تريد أن تنقض عليه لتأكله أكلا ! - ما حدود قدراتك الخارقة يا حبيبي ؟ - هي قدرات بسيطة ،كأن أجعل ما ترغبين فيه بالحجم الذي تشتهين وأن أمارس الحب بشهوة متدفقة ! - هتفت (واو) وهي ترسم حجما له في مخيلتها وقد أدركت تماما أن إعادت قدرات الأمير لصالحها وصالح الحب . قالت : - سأطلب إلى أبي أن يعيد إليك كل قدراتك ، أريد أن أراك تتفجر كبركان وتفجرني معك ! - هيا افعلي في الحال ! - عدني أنك ستواقعني ! - أعدك ! وشرعت في التخاطر مع أبيها الإله ليعيد لسحب السموات كل قواه المستلبه ! **** (88) * صرخة الربة عشتار في ذروة الوصال !! راح الأمير سحب السماوات يترقب عودة قدراته إليه بعد أن فرغت الربة عشتار من التخاطر ذهنيا مع أبيها الإله . ألقت نفسها على الأمير وشرعت في تقبيل عنقه وهي تتحسس بيديها مكمن الإثارة في جسده " هل عادت إليك قواك يا حبيبي " أحس الأمير برعشة خالجت جسده فأدرك أن قدراته الخارقة قد عادت إليه ،وكي يتأكد ألقى نظرة على شمعدان ضخم من خلف ظهر الربة التي كانت منشغلة في تقبيل عنقه وتحسس جسده، انشق الشمعدان من منتصفه ، أعاده الأمير إلى وضعه دون أن تتنبه الربة " لا يبدو أنها عادت كلها أيتها الربة " رفعت الربة رأسها عن عنقه وأوقفت يدها اليمنى عن العبث والتحسس : - ألا يكفيك ما عاد من قوى ؟ - لا أعرف ! لم تشعر بأي استجابات شهوانية من قبل الأمير، مما دفعها إلى الإعتقاد أن أباها لم يعد فعلا إلى الأمير كامل قواه وقدراته ، فعادت إلى التخاطر معه ليؤكد لها أنه أعاد إليه كل ما كان يمتلكه . تساءلت : - أبي يؤكد أنه أعاد إليك كامل قواك فلماذا لا أجد استجابة منك يا حبيبي ؟! صمت الأمير للحظات يفكر كيف سينقذ نفسه من هذا الأسر دون أن يعرف شيئا عن هذا العالم الذي تدعي الربة وأبوها أنه عالم آلهة ! - يا حبيبتي أبوك اختطفني اختطافا، وأنت تراويدنني عن نفسي بما يشبه الإرغام ، والمحبة تقتضي أن تمارس بمثيلها ، لا أفهم كيف تكونين ربة للحب والجمال وتمارسين ما يتناقض مع الحب والجمال ! إن أردت مواقعة كما تشتهين لا بد أن نخلق بيننا عالما من المحبة والجمال والحب ،وأنا ما زلت على وعدي! تنبهت الربة إلى أنه خاطبها " حبيبتي " لأول مرة ، بل وأدركت أنه محق في كلامه . توقفت عن العبث بجسده وتقبيله . هتفت : - أنت محق يا حبيبي ، إنها طبيعتي الغريبة . كيف يمكن أن نخلق بيننا عالما من المحبة والجمال لندخل في عالم الحب؟! ابتسم الأمير وهو يمد يده لأول مرة ليملس على شعر الربة الذي كان بطول جسدها : - ربة تمنح الخصب والمحبة والجمال ولا تعرف كيف يمكن أن تخلق عالما يتناغم فيه الحب والجمال ! حدثيني عن عالم أبيك، عن سر قوته، عنك ، عن فهمكم للوجود ؟ اعتدلت الربة في جلستها على السرير الرباني إلى جانب الأمير الإله حسب رؤيتها ، جاهدة لأن تخرج من الحال التي كانت فيها: - نحن نعتقد أن ثمة خالقا أكبر للوجود لا يعرف أحد ماهيته . هذا الخالق هو من أن أنشأ الكون بكليته وأنشأ الخلق فيه ،وجعل من بعض مخلوقاته آلاف الآلهة المساعدين له، وأوكل إليهم مهمات ما مختلفة في عملية الخلق . أبي هو أحد هؤلاء الآلهة له بعض القدرات الخارقة وليس مطلق القدرات ، فثمة قدرات لآلهة أخرى تفوق قدراته ، القدرة المطلقة لا يمتلكها إلا الخالق الأكبر للوجود والخلق . ولا يستطيع إي إله أن يقوم بعمل خارق دون موافقة إرادة الخالق الأكبر عليه ، هذه الإرادة لا يمكن استشعارها إلا بتنفيذ العمل الخارق أو عدم تنفيذه . أبي يرى أنه إله لسبع مجرات من الجن والإنس ، وكل مجرة تحوي آلاف الكواكب . يعلو هذه المجرات سبع سماوات ،ونحن الآن في حجرتي السابعة من أجنحة قصري السبعة في المحيط السابع من المحيطات السبعة المعلقة في السماء السابعة من هذه المجرات؟ عند أبي جنات وجهنمات في كل مجرة . جنات للجن وجنات للإنس . وجهنمات للجن وجهنمات للإنس. الطريق إلى الجنات تمر على ملايين الحبال الممدود فوق نهر عريض من الحمم المنصهرة ، فالمؤمن الذي كان مخلصا لأبي ومؤديا لشرائعه يجتاز الحبل بسهولة وكأنه يسير على أرض فسيحة ،أما غير المؤمن فيسقط عن الحبل لتبتلعه الحمم المنصهرة . وهنا قاطع الأمير الربة متسائلا : - لكن الجن يستطيعون اجتياز الحبل بقدراتهم الخارقة ؟ قالت الربة : - لا يا حبيبي أيها الإله الجميل ! - لكني لست إلها أيتها الربة ،أنا مجرد أمير! - بل أنت إله أيها الأمير ! أما ما يتعلق بتساؤلك عن الجن ،فهم يفقدون قدراتهم يوم القيامة ويعودون إلى طبيعة أقرب إلى الطبيعة البشرية ! - وهناك يوم قيامة أيضا ؟ - أجل أيها الحبيب ! - وما هي شرائع أبيك في العبادة ؟ - الشهادة أنه أحد الآلهة الكبار والصلاة له كل يوم مرة واحدة ! وهناك شرائع أخرى تتعلق بتنظيم الحياة الإجتماعية في عالمي الإنس والجن ! - الآن حدثيني عن طبيعتك أنت وكيف تهبين الحب والجمال والخصب للآخرين . - أنا من طبيعة ربانية جنية إنسية . أرادني الخالق الأكبر أن أكون في شكل إنسية وأحمل قدرات جنية وربانية محدودة ! - ومن يتحكم في إرادتك ؟ أبوك أم الخالق الأكبر ؟ - بل أبي . الخالق الأكبر انتهى أمره مني ! - وكيف تهبين ما تهبينه للبشر والجن ؟ - الهبة تأتي تلقائيا من وجودي ،كونها مرتبطة بي . وصمتت الربة عن الكلام للحظة ثم تساءلت : - هل هناك ما لم أخبرك عنه يا حبيبي ؟ - لم تخبريني عن الحب ؟ - أنا لم أمارس الحب في حياتي . أستشعره وأتصوره فقط دون أن أمارسه . أشعر أن طبيعتي الربوبية تستدعي أن لا أمارس الحب إلا مع رب، وحتى الآن لم يتسن لي ذلك . حين سمعت بوجودك شعرت أن أملا لاح لي في أفق أحلامي . زرتك متخفية فهالني جمالك. ربما لم أعرف كيف أتصرف معك ، لذلك تصرفت بفظاظة عبر قدرات أبي . الحق معك في أن تصرفاتي لا تليق بربة . أرجوك أن تسامحني وأن تنسى قدر الإمكان ما حدث ، ولك أن تعتبر نفسك حرا من الآن وأن تغادر مخدعي بسلام دون فعل شيئ يذكر . لكني أرجوك واتوسل إليك بكل ليالي عمري التي حرمت من الحب الحقيقي ، أن لا تحرمني من حبك ، خذني جارية عندك أحضر لك الطعام ، أغسل ثيابك ، أسرح شعرك ، أقلم أظافرك ، أعبدك ! لكن لا تحرمني من حبك ! بدت الربة وقد تحولت إلى النقيض مما كانت عليه ، ودخيلتها تفيض بمشاعر إنسانية ربانية بحق . رق قلب الأمير لها ، فشرع يملس بيده على وجهها ووجنتيها ، فيما شرعت هي في تقبيل باطن يده ،وقد انحدرت دموع حارة من عينيها . ضمها الأمير إلى حضنه وشرع يمسح دموعها بالقبل ، لتغرق هي معه في القبل الحارة الملتهبة ،وليعري أحدهما الآخر على وقع القبل ،وليمطرا جسديهما بعمق القبل ، وليبحرا في عالم من وله العشق والوصال ، لم يدخله ربان من قبل على الإطلاق ، ليلتحما بجسديهما ليغدوا جسدا واحدا ومتعة اللذة تسري متغلغلة في كافة مسامات جسديهما، وحين بلغا ذروة النشوة في الوصال صرخت الربة صرخة هائلة تستشعر فيها أقصى حدود اللذة بأقصى حدود الألم ، لتسمع صرختها في السموات السبع والمجرات السبع، وليدرك كل كائن في هذه المجرات والسماوات ، أنها صرخة الربة عشتار وقد بلغت ذروة الوصال !! ***** (89) * حرب الآلهة على الأبواب ! خلد الأمير سحب السماوات والربة عشتار إلى نوم عميق استيقظا منه في وقت متأخر ، وبعد أن استحما أعدت الربة للأمير مائدة ربانية من طعام الآلهة ، لم يعرف الأمير منها أي نوع من اللحوم أو ألخضار أو الفواكه ، لكنه ما أن يتذوق قطعة من أي صنف حتى يشعر بنكهة لذيذة لم يستشعرها لأي طعام من قبل . والأمر نفسه انطبق على نوع الخمر الرباني الذي بدا أن الرشفة منه تنشط الدماغ وتحفز الخيال وتفجر الذهن ، ليجد المرء نفسه وقد أصبح شاعرا وفيلسوفا إن لم يكن إلها . وبدت الربة وقد تألق جمالها وانشرح صدرها وأشرق وجهها ، وهي تجلس بثياب حريرية بيضاء عارية الذراعين والكتفين والعنق والصدر، لتبدو حلمتا نهديها كنصفي حبتي فستق حلبي مقشرتين ، تتوقان إلى من يقضمهما! وأضفى حضورها على الجو هالة ربانية أحالت كل شيء إلى فرح وبهاء ، فبدت صالة الطعام وكأنها ترقص مع الموسيقى الحالمة التي كانت تتردد من كافة أرجائها ،فيما عم الفرح والإبتسامات النوافذ والمناضد والصحون والكؤوس والشوك والسكاكين والملاعق والورود التي على المائدة ،وبدت هذه الأخيرة وهي تؤتي اهتزازات خفيفة وترسل ذبذبات راقصة يتفوح منها عطر الألوهة الأخاذ ، وبدت الستائر وهي ترف بأقمشتها الملونة وتتمايل وكأنها طيور تحلق على تؤدة في سماء رومانسية. وكانت حوريتان ملائكيتان ترتديان ثيابا بيضاء تقومان بخدمة الربة والأمير، وقد بدتا كحمامتين وهما ترفان بأجنحتهما البيض بين الموائد وفضاء الصالة . كانت الربة تجلس إلى جانب الأمير وتلقمه بيدها بين لحظة وأخرى قطعة صغيرة من لحم لم يتذوق أطيب منه . سألها : - ما هذا اللحم يا حبيبتي ؟ - لحم خاص بطعام الآلهة يا حبيبي كما هو كل شيء على المائدة . يمكن القول أنه أقرب إلى لحم الرشأ ! - وهل هذا الطعام خاص بالآلهة فقط ؟ - أجل يا حبيبي ! - هل هذا يعني أن الأمم محرومة منه ، ولا يوجد لديها حيوانات مثل هذه الحيوانات ،ولا نباتات وأشجار مثمرة مثل التي لدى الآلهة ؟ - أجل يا حبيبي للآلهة حيواناتها وأشجارها ونباتاتها! شرع الأمير في الضحك وهو يهتف متسائلا : - أي آلهة امبريالية هذه ؟ لم تفهم الربة كلمة امبريالية . تساءلت : - ماذا تقصد بإمبريالية يا حبيبي ؟ - إنها مفردة لغوية يطلقها أبناء كوكب يقال له الأرض ، على طبقة بشرية وصلت في ثرائها أعلى مراحل الرأسمالية ! صمت الأمير فجأة مركزا ذهنه . تساءلت الربة : - هل هناك شيء يا حبيبي ؟ - عفوا حبيبتي . أبي يخاطرني . وعاد إلى تركيز ذهنه : - حبيبي طمئني عنك . لا أصدق أنك بخير ولا تخبرني بما يجري . استنفرت كل القوى الممكنة لأشن حربا لإنقاذك إذا دعت الضرورة . - لا تقلق يا أبي . أنا فعلا بخير ، لكن ثمة مسائل لا بد من حلها . إذا احتجت إلى مساعدة سأخبرك . - حبيبي . لقد أضفت إلى قدراتك كل ما هو ممكن ، فلا تتأخر في طلب ما هو محال أو شبه مستحيل . - أشكرك يا أبي . أعطني أمي ! - حبيبي ! جاءه صوت أمه متهدجا : - ماما حبيبتي لا تبكي أنا بخير سأكون معكم قريبا ! أعطني فتنة ! - حبيبي حبي عمري! - فتونة حبيبتي . اشتقت لك . لن أتأخر عليك . لا تقلقي علي حبيبتي . وأوقف الأمير التخاطر التذاهني ! هتفت الربة وقد أدركت ان الأمير يجيد التخاطر كما الآلهة وكبار الجن : - وتقول أنك لست إلها يا حبيبي وتجيد المخاطبة بالتخاطركما الآلهة ! - إنها هبة من الله يا حبيبتي ! - من هو الله يا حبيبي ؟ - ربما الإله الأكبر كما هو في معتقدكم . أما عندنا فنطلق عليه الله أو الخالق أو المطلق الأزلي حسب بعض أسماء أبي له ! - أليس هناك آلهة مساعدون له ! - في مفهومنا أنا وأبي، البشرية كلها مساعدة له لكنها ليست آلهة وإن كانت تحمل قدرا من الألوهة في ذواتها . - لم أفهم ! - أظن أن الأمرصعب عليك ! - لكن حاول أن تفهمني . - الخالق في فهمنا طاقة سارية في الكون والكائنات ومادة مجسدة في الكون والكائنات ، فهو الوجود كله وما فيه، والوجود كله وما فيه هو . فهو الواحد في الكل والكل في الواحد هو ! وبهذا تكون الألوهة بجزئيتها موجودة في كل كائن ليقوم بدوره في عملية الخلق وبناء الحضارة الإنسانية وتحقيق قيم الخير والحق والعدل والجمال . أدركت الربة عمق الهوة بين فكرها وفكر الأمير وإمكانية أن تؤثر هذه الهوة على علاقة العشق بينها وبين الأمير . هتفت : - حسب هذا الفهم أنت لست إلها لكنك غير معزول عن الألوهة بشموليتها . - صحيح . - وأنا كذلك حسب فهمك . - أيضا صحيح ! - وما هو غيرالصحيح أننا أنا وأبي الإله لسنا آلهة بل ونقوم بأعمال لا ترضى عنها الألوهة ! بل وبما هو ضد الغاية من وجودنا ! - إنه الصحيح في غير الصحيح أيتها الربة . فأبوك يوظف قوته للحصول على ما يريد ويحتاج إلى عبيد يعبدونه ويصلون له ،ويقيم جهنما يعذب فيها العصاة من غيرالمؤمنين به ،وجنة لمن يعبدونه ، وكل هذه المسائل تتناقض مع مفهوم الألوهة ،التي هي خير بالمطلق ومحبة بالمطلق وعدل بالمطلق وجمال بالمطلق . انفرجت شفتا الربة قليلا لتفتح فمها وترفع رأسها متأوهة وهي تدرك ما لم تفكر فيه على الإطلاق من قبل . وتنبهت إلى أن الأمير لم يعد يخاطبها ب يا حبيبتي. - يا إلهي الأكبر كم يختلف مفهومكم عن مفهومنا. هل تظن أن الخطأ في فكرنا أم في فكر الإله الأكبر؟ ! - وكيف عرفتم أن الإله الأكبر فكر واعتبر نفسه الإله الأكبر ؟ - هكذا قيل لنا ودون في كتبنا المقدسة . - هذا ما فكر فيه أسلافكم وليس هناك إله أكبر وإله أصغر ! - هل سيؤثر هذا الأمرعلى عشقنا يا حبيبي ؟ توقف الأمير للحظة يفكر، ليتابع بما هو خارج حالة العشق المؤقتة مع الربة : - لا تنسي أيتها الربة أننا في حالة حب مؤقتة ،فلا أنا حبيب أبدي لك ولا أنت حبيبة أبدية لي ، فأنا رجل متزوج كما تعلمين ، واختطفني أبوك عنوة من أحضان زوجتي ،وهذه مسألة تستحق العقاب ،ومع ذلك تجاوزت المسألة وتعاطفت معك بعمق مشاعري وغمرتك بمحبتي وقمت بفعل الحب معك كما لم أفعله من قبل مع أنثى ، رغم أنني قطعت شبه عهد لزوجتي أن لا أمارس الحب إلا معها . الآن أعرض عليك أمرين لا ثالث لهما : أن تبقي في دنياك وأعود أنا إلى دنياي ، أو تذهبي معي لتنضمي إلى حاشيتي معززة مكرمة كربة إن شئت . تعيشين حياتك دون أن تسيئي إلى أحد ، وتمارسين الحب مع من يعجب بك وتعجبين به دون أن يؤثر الأمر على مشاعر آخرين . ولا تعرفين قد يكون لنا ليلة غرام أخرى وربما ليال لسبب ما في يوم ما ، وأنا واثق أن فتنة ستحترمك وترحب بانضمامك إلى حاشيتنا . اغرورقت عينا الربة بالدموع وألقت رأسها على حضن الأمير وهي تردد: - عاجزة عن شكرك أيها الأمير سأختار أن أبقى معك حتى لو عارض أبي وجميع مساعديه من الآلهة والجن ، وسأتبع معتقدك لأنني اقتنعت به ! - لكن ثمة مسألة قد تجعلك تغيرين رأيك ! - رفعت الربة رأسها عن حضن الأمير لتتساءل : - ليس هناك مسائل تثنيني عن رأيي فما هي هذه المسألة ؟ - ما لا تعرفينه أيتها الربة أن أبي رسول محبة للبشرية ومحارب للشر أينما وجد إنما بوسائل فيها الحدود الدنيا من الإنسانية ، فهو يحرص على أن لا يريق دما حتى للأشرار . وما جئت أنا إلى الوجود إلا لأكمل رسالة أبي وبسفك الدماء إن دعت الضرورة . ولا أظن أننا أنا وأبي سنتجاوز سبع مجرات يؤله أبوك نفسه عليها ويبسط رعبه عليها ،خاصة وأنه يمارس جحيمه في الحياة الدنيا وليس في الحياة الآخرة حسب ما أظن ! - أجل أيها الامير جحيم أبي قائمة منذ الآن على الأحياء ، فكل من يشك في أمر إيمانه يساق إلى الجحيم القائمة على كل كوكب ، ويرغم على عبور نهر الحمم المنصهرة سائرا على الحبل الممتد فوق النهر . ويستحيل على أي إنسان اجتياز هذا الحبل ، فالجميع يسقطون في نهر الحمم لتبتلعهم ، وبعضهم لا يستطيعون الإنتظار ليعيشوا كل هذا الرعب وهم يرون الناس تتمايل أجسادهم فوق الحبل ليختل توازنهم ويسقطوا في الجحيم ! فيلقون بأنفسهم في النهر. - أي سفاح هذا أبوك ايتها الربة ؟ وماذا عن الجن هل يجري عليهم العقاب نفسه ؟ - أجل أيها الأمير يجردهم من جنيتهم ويجعلهم يعبرون فوق الحبل . لكن الجن غيرالمؤمنين أو المشككين في ألوهة أبي ليسوا كثيرين كالبشر .لا أعرف حسب ما قلت لي ما الذي ستفعلانه بأبي إن انتصرتم عليه سلما أو حربا؟ - لا بد من إنقاذ البشر من ظلم أبيك سلما أو حربا ، وبما أنه جني أظن أن أبي سيسجنه في قمقم !! - أبي قوي جدا أيها الأمير ولن يكون انتصاركم عليه سهلا بل إني أبدي منذ الآن خوفي عليكم ، وأشك في أنه سيقبل الإذعان لاي شرط من شروطكم بسلام ! - ما مدى قوة أبيك ؟ - لن تصدق إذا ما قلت لك أن أبي - حسب ما يقول هو، فلم أره يفعل ذلك - قادر أن يطبق السموات السبع على بعضها وكأنها ألواح صفيح !! أطرق الأمير للحظات مفكرا في الكيفية التي حصل هذا الجني بها على هذه القدرات الخارقة . لم يجد غير أن يعتبرها أخطاء في الخلق إذا صح وجودها . - هل سبق وأن رأيته يفعل أشياء خارقة . سبق له وأن دمر مجرة بكاملها وكأنها لم تكن . ورأيته يلعب بكواكب وكأنها طابات ! أدرك الأمير خطورة المواجهة مع أبيها . سألها : - هل حددت موقفك الآن أيتها الربة مع من ستكونين على ضوء حديثنا هذا ؟ فاجأته الربة حين هتفت : - أنا معك أيها الأمير ولن أغير رأيي مهما كان الثمن . أبي إله ظالم جدا ولا أظن أن هناك إلها أكثر ظلما منه وليس في استطاعتي أن أكون معه . - أشكرك أيتها الربة . وضمها إليه وقبلها على وجنتها . **** (90) * المحبة المطلقة في إله مطلق المحبة ! وهما يحتسيان القهوة في شرفة قصر الربة ويرقبان عبر الزجاج حوريات البحر والدلافين والحيتان وأسماك القرش المحلقة في أعماق المحيط وسط شعب مرجانية أخاذة كانت ترسل فروعها في اتجاهات مديدة مختلفة ، تساءل الأمير سحب السماوات : - أين نحن الآن أيتها الربة ؟ - نحن في شرفة الجناح السابع من أجنحة قصري السبعة في أعماق المحيط السابع في السماء السابعة من المجرات السبع التي تقوم عليها ألوهية أبي ! ! دهش الأمير لوجود هذا المكان في أغوار الكون الهائل . تساءل : - وهل يقيم أبوك في هذا المحيط ؟ - أجل . يقيم مع أمي الربة عناية !! - ماذا تقترحين علي لأجنب أنفسنا وأجنب أباك الحرب المهلكة بيننا ؟ - لو أدرك أن أبي يقبل المساومة لأشرت عليك بالتفاوض معه على إيقاف العذاب وإطلاق حرية التعبير للجن والإنس ، وحتى حرية المعتقد، دون الإساءة إلى معتقد آخر أو أحد آخر ، والإقرار بحق الجميع في المواطنة المتساوية على آلاف الكواكب ! مقابل عدم معاقبته أو سجنه في قمقم من قبل أبيك ! - أليس هناك أمل في أن يقبل ؟ - أشك في ذلك ! لكن لا مانع من المحاولة ! - هل نحاول معا أنا وأنت ؟ - أنا بالتأكيد ورقة رابحة في يديك من ناحية وخاسرة من ناحية أخرى ! رابحة إذا ما تبين أن لديه نية للتفاوض ، وخاسرة إذا ركب رأسه وأصرعلى الرفض مهما كان الثمن ، فقد لا يضير أبي أن تتدمر المجرات السبع التي يؤله نفسه عليها مقابل أن يبقى إلها ! - لكننا سنعرض عليه الإبقاء على ألوهيته ، فيكسب ألوهيته ويكسب أممه ومجراته . سيكون في غاية الحمق إذا لم يوافق . - لكنه سيفقد سلطته الشمولية المطلقة ، وأشك في أنه سيقبل بسلطات دستورية ديمقراطية عادلة تحكم الكواكب وتقودها نحو إقامة الحضارة الإنسانية وتحقيق قيم الخير والعدل والجمال ألتي تنشدانها أنت وأبوك . صمت الأميرللحظات ثم هتف : - على أية حال سأستشير أبي رغم إدراكي أنه سيوافق على التفاوض مع أبيك على السلام . كما أنني أريد أن أجيء إلى أبيك من موقع قوة لا من موقع ضعف ، ليكون بيدي ورقتان ،قوتي وأنت ! - بل ثلاث أو أربع ورقات ، قوة أبيك أيضا وقوة القوى التي ستناصره . - صحيح . - ماذا ستفعل هل سترسل نيزكا أو جرما يحلق فوق عرش أبي ؟ ضحك الأمير للفكرة . هتف: - لا ! أريد أن ترافقيني إلى أكبر جهنم على أكبر كوكب في مجرات أبيك . وسترين حينها ماذا سأفعل ! - حسنا . متى تريد ذلك؟ - الآن ! - لكني لا أعرف إن كانت قواي قادرة على أن تنقلنا إلى هناك بسرعات فائقة ! - لا عليك سأستخدم قواي ! لكن علي أن أخاطر أبي للحظات لأخبره بما أخطط له ، وليكون بقدراته في عوني. نهضت الربة لتهيء نفسها للإنتقال إلى جحيم أبيها ، فيما شرع الأمير في التخاطر مع أبيه ، وإطلاعه على ما ينوي فعله . وافق الأب على كل ما طرحه الأمير ، وأكد له أنه سيكون بكل قواه معه ، وطلب إليه أن يطلب إلى الله في مطلق ألوهيته أن يقف معه ويأخذ بيده !! عادت الربة وقد ارتدت ملابس آلهة الحرب ، فبدت كجنرال بشري في زي عسكري ! إنما دون رتب من السيوف والنجوم والتيجان ! ضحك الأمير وهي تقف باستعداد وتردد : - أنا جاهزة يا سيدي القائد ! - حسنا أيتها الربة لنكن هناك !!! لم تصدق الربة نفسها حين وجدت نفسها تحلق فوق جحيم أبيها في هذا الكوكب ، وتدرك أن قوى الأمير أكبر بكثير مما توقعتها . هتفت وهي ترى آلاف البشر يسقطون في جحيم أبيها أو يلقون بأنفسهم فيها مرغمين . - اوه ! لم أتوقع أن تكون قواك خارقة إلى هذا الحد أيها الإله ! - آمل أن تتفوق قوانا على قوى أبيك . دعينا الآن نوقف هذه الفظائع وننقذ البشر من هذا الجحيم . كانت جهنم"الإله القاهر" كما أطلق على نفسه مقامة على نهر من الحمم المنصهرة شبه البركانية ، بين سلسلتين من هضاب بعرض حوالي ألفي متر،وبطول يمتد في أراضي الكوكب لآلاف الأميال ليصب في محيط من الحمم الملتهبة، تلقى فيه أيضا ملايين أجساد المعذبين ممن لا يتقيدون بشريعة الإله ومن الملحدين الذين لا يعتقدون بوجوده ومن الكفرة الذين يتبعون عقائد مختلفة لا تؤمن بألوهة غير آلهتها . وبدت ملايين الأرتال من الأطفال والشباب والفتيات والرجال والنساء والعجائز تقف إلى جانب النهر منتظرة دورها ليعبر كل فرد فيها فوق حبال حديدية لا يزيد سمكها على سنتمترات امتدت بالآلاف عل عرض النهر وبارتفاعات مختلفة لا تقل عن ثلاثة أمتار ، حسب ارتفاع الطبيعة على طول الشاطئ، فلا يستطيع العبور ، وهو يتمايل على الحبل ليختل توازنه ويسقط في النهر لتبتلعه الحمم وتصهره . تساءل الأمير وهو يرقب فظائع لا يتصورها العقل : - لماذا يحرق أبوك الأطفال ؟ - الإيمان عند أبي يبدأ من سن الخامسة ، وعلى الأهل أن يعلموا أبناءهم الشريعة بدءا من سن الثالثة ،فإذا بلغوا الخامسة وهم لم يتعلموها اعتبروا زنادقة وملحدين، فيساقون إلى الجحيم ! لذلك يتم تعليم الشريعة في الكواكب بكل السبل الممكنة في البيوت والمدارس والمساجد والإذاعات ومحطات التلفزة ، بشكل مباشر وغير مباشر ، يتمثل في الغناء للإله والرقص والدعاء له وتقليد المصلين وارتداء الزي الذي تفرضه الشريعة وتحذير الأطفال من عذابه ، وما إلى ذلك . - أي إله مجرم هذا ، أشك في أن أبي سيقبل بسجنه في قمقم ،وربما ينزل به أقصى أنواع العذاب . ويؤسفني أنه أبوك أيتها الربة ! - لم أعد أشعر بالحاجة إلى أسف على آلهة من شكيلة أبي أيها الإله !! ومد الأمير يده اليمنى وحركها يمينا وشمالا إلى أقصى مدى ثم مد اليسرى ليحركها كذلك ، وإذا بكل شيء يتوقف في مكانه ، ما عدا الذين كانوا يعبرون الحبال فوق النهر ، فقد هبطت عليهم قوى خفية وأعادتهم إلى طوابير الشواطئ . لم يصدق الناس ما يجري فباتوا في غاية الدهشة وخاصة جلاوزة الإله الذين تسمروا في أماكنهم ولم يعودوا قادرين على فعل شيء . هبط الأمير والربة على طابور من الأطفال . أخذ الأمير طفلة في منتهى الجمال في حدود السادسة من عمرها كانت تقف مرتجفة في أول الطابور وآثار الدموع ما تزال على وجنتيها ، ضمها إلى حضنه وطار محلقا بها ، بينما أخذت الربة طفلا واحتضنته وطارت محلقة به خلف الأمير . كان الطفل يقف خلف الطفلة في الطابور وتبين أنه أخوها . هتف الأمير مخاطبا الطفلة التي شعرت بالأمان بين أحضانه : " ما اسمك يا حبيبتي ؟ " " أسيل " " الله ما أجمل هذا الإسم يا حبيبتي ! أجمل من قصيدة !" " شكرا يا عمو . هل ستنقذنا من عذاب الجحيم يا عمو؟ " " طبعا يا حبيبتي ولن أدع أحدا يمسكم بعد اليوم " " هل ستقدر على الله القاهر؟ " " سأقدر بإذن إلهي يا حبيبتي " " هل إلهك يحب الأطفال يا عمو ؟" " يحب الأطفال وكل الناس يا حبيبتي ولا يعذب وليس عنده جهنم " " أحب إلهك يا عمو" " وهو يحبك كثيرا يا حبيبتي " طوقت أسيل عنق الأمير بيديها وألقت رأسها على كتفه مستشعرة طمأنينة فائقة! " أين بابا وماما يا حبيبتي ؟" " ألقاهم الإله القاهر في النار " " لماذا يا حبيبتي ؟ " " قالوا لنا أننا أسرة كافرة فأحرقوا ماما وبابا وهاهم يريدون أن يحرقونا أنا وأخي " يكاد الأمير أن لا يصدق ما يسمعه ، فهل يعقل أن يكون هناك إله على هذا القدر من الظلم؟ لم يعرف كيف في مقدوره أن يعوض الطفلة وأخاها عن فقدان الأبوين ، فليس في مقدوره أن يحيي الموتى . خاطب الطفلة عارضا عليها بعض الهدايا : " ماذا تريدين أن أحضر لك يا حبيبتي . عندي هدايا للأطفال من كل شيء ،حتى عرائس حوريات " فتحت الطفلة عينيها اللتين أغلقتهما حتى لا ترى هدير وأمواج الحمم المتلاطمة ،وهتفت من خلف كتف الأمير: " ما بدي ! بدي ماما وبابا " شعر الأمير لو أن خنجرا طعنه لكان أهون عليه من هذا الطلب . شعر بالفضاء يتأرجح به وكأنه يود قذفه خارجه . لم يعرف أنه وجد نفسه في الموقف الذي وجد أبوه نفسه فيه في رحلته السماوية الاولى وهو يحلق بالطفلة نسمة فوق جحيم داجون . تمالك نفسه ،وخاطر الله من شغاف قلبه ، وأعماق حزنه " إلهي الحبيب كلي القدرة ومطلق الألوهة ، أتضرع إليك بمطلق محبتك ، ومطلق قدرتك ،ومطلق خيرانيتك ،ومطلق عدالتك ، ومطلق إنسانيتك ، ومطلق ألوهيتك ، أن تعيد الحياة إلى كل من أحرق في جهنم هذه"ولم يكد ينهي كلامه حتى راح النهر يقذف ماء عذبا بدلا من الحمم الملتهبة، وتفجرت آلاف الأنهار على شواطئ نهر الجحيم وراحت تلقي مياهها العذبة فيه وتطفئ الحمم المتدفقة . انبعث دخان هائل من جراء إطفاء الحمم ، فانهمرت أمطار غزيرة من السماء وشرعت في إطفاء الدخان .. خاطر الأمير قواه الجنية المساعدة أن تحمل ملايين البشر وتبعدهم عن الشواطئ ، أو تحلق بهم بعيدا في الفضاء . فيما كان الملك والربة يحلقان بالطفلة وأخيها بعيدا عن الدخان وإطفاء الحمم. تلقت الربة عشتار صرخة تخاطرية من أبيها يسألها عما تفعله ، حين علم من الإله الموكل بالكوكب أن الربة عشتار برفقة إله آخر قاما بإيقاف حرق الملحدين والكفرة وغير المتقيدين بالشريعة القاهرية . لم ترد الربة على أبيها وحذرت الامير سحب السماوات أن يحتاط بكل قواه لأن هجوما نيزكيا أو ما شابه ذلك قد ينطلق نحوهما في أية لحظة . أخبرها الأمير أنه احتاط لكل شيء وراح يرقب إطفاء الحمم متابعا تحليقه في الفضاء مع الطفلة تتبعه الربة والطفل وملايين البشر المحلقين بمساعدة الجن . تم إطفاء الحمم ونهر الجحيم والأنهار المحدثة تقذف ماء عذبا .. تابع الأمير تحليقه فوق مجرى النهر ليبلغ المحيط الذي يصب فيه النهر ، رأى بعض الأجساد البشرية تظهرفي النهر وهي تخابط بأيديها وأرجلها في الماء . صرخ بالجن أن ينقذوا ملايين المحروقين الذين راحت الحياة تعود إليهم . شرع الجن بإلقاء أنفسهم في النهر والمحيط وانتشال البشر والتحليق بهم في الفضاء . شعر الجميع أنهم في يوم القيامة ، وأن القيامة قد قامت بالفعل ، لكنها ليست قيامة إلههم القهار الشرانية ، بل قيامة خيرانية لإله هو بحد ذاته خير مطلق ومحبة مطلقة وعدل مطلق وألوهية مطلقة . شرع الأمير في شكر الله جهرا والدموع تنزلق من عينيه ، فشرع جميع المحلقين في السماء من إنس وجن يشكرون الله ، مرددين "شكرا لله" بل وراحوا يترنمون بالكلمتين لتتحولا إلى أغنية بنغمات مختلفة ! هتف الأمير إلى الطفلة أسيل : " ألن تبحثي معي عن بابا وماما يا حبيبتي ؟" " هل أحياهم إلهك يا عمو؟" " أجل يا حبيبتي هيا استديري وابحثي معي بين الناس المحلقين " لم تبحث أسيل كثيرا والأمير يحلق بها .. رأت أمها وأباها بين المحلقين . فهتفت " ماما . بابا " فيما كان أخوها يهتف بدوره " ماما. بابا " **** (91) * حرب الآلهة الكونية ! في الوقت الذي كان فيه الملك لقمان والملكة نور السماء والإمبراطور الشنوتي والإمبراطورة والملك شمنهور والعديد من ملوك الجن وحاشية الملك لقمان يرقبون المعجزات الخارقة التي تجري على يدي الأمير سحب السماوات، كان الإله القاهر يخاطر ابنته عشتار وهو في غاية الغضب وقد انقلبت محبته لها إلى كره فظيع " ليت أمك لم تلدك ، ليت ذاك اليوم كان جحيما تطبق فيه السماوات على صدور البشروالآلهة ، ليتك كنت طعاما لوحوش الغاب،على أن أراك تنقلبين علي وتشهرين تمردك في وجهي، ومع من أيتها العاقة ؟ مع من اختطفته لك لأملأ لياليك فرحا وبهجة وطيب وصال . هل أعمى عشق ذاك الوغد عينيك فتنكرت لأبيك ؟ هل سحرك بحسن مفاتنه وغيب عقلك عن سلوك الصواب ؟ جعلت منك ربة لتكملي ربوبيتي لا لتعاديها ، سأعلقك مع ذاك الوغد من أقدامكما وأجعل الطيور تنهش لحمكما ،لأمتع ناظري وأشفي غليلي منكما " كان الأميرسحب السماوات قد طلب إلى الجن أن يذهبوا بالبشر الناجين إلى أماكن سكنهم وبقي هو والربة في الفضاء بأن جلسا على محفة في مقصورة طائرة. وقد وظف الأمير قواه ليستمع إلى التخاطر الجاري بين الربة وأبيها . وما أن توقف الإله القاهر حتى أشار الأميرإلى الربة أن تعرض على أبيها السلام حسب ما سبق لهما وأن تحدثا حوله ، وأن تحدثه بمودة قدر الإمكان : " اسمع يا أبي ، إن احترامي للأبوة في شخصك يدفعني إلى مخاطبتك باحترام ، إن الإله سحب السماوات يعرض عليك السلام مقابل الإبقاء على حياتك ، ومنح الحرية للبشر في أن يكونوا أحرارا في معتقداتهم ورؤاهم والنظام الذي يحكمهم بالعدل والمساواة بينهم ، دون أي فرق بين إنسي وجني ، وأي معتقد ومعتقد آخر " جاء الصوت مرعدا عبر تخاطرالأب : " الحرية هي عبادتي وتنفيذ شرائعي أيتها الناكرة لحقوق الأبوة ، وحقوق الألوهة .. ومن سحب السخافات هذا حتى أذعن لشروطه بالسلام ، سأجرده من كل قواه وأجعله ذليلا بائسا حين أعلقه من قدميه " " لن تستطيع أن تفعل شيئا يا أبي ، وقد رأيت ما قام به سحب السماوات من معجزات في الخلق ، حتى إحياء الموتى الذين صهرتهم في حمم جحيمك " لم تكن مسألة إحياء الموتى من القدرات التي يمتلكها الإله القاهر، فرد على ابنته بالقول : " إذا كان سحبك الذي أعمى عينيك وأغلق عقلك يجيد إحياء الموتى فأنا أجيد إبادتهم ثانية وأبيد معهم المليارات من البشر. أنا الإله القاهر" " أنصحك بأن توافق يا أبي حتى لا تخسر سكان كواكب مجراتك ، وتخسر نفسك، ولا تندم في يوم قد لا يكون بعيدا ، وسأعمل على الإبقاء على ألوهيتك " " ألوهيتي هي كل شيء أيتها العاقة ،فإما هي أو لا شيء "! " وما حاجتك إلى ألوهيتك وحدها دون إنس وجن في عالمك ؟ " " ألوهيتي هي كل شيء " " هي الحرب إذن " " وقد بدأت أيتها العاقة الناكرة " نظرت الربة إلى الأمير والرعب يجتاحها . ضمها الأمير وهو يهتف : " لا تخافي ثمة عشرة شهب انطلقت نحونا سأجعلها تغير اتجاهها وتصعد في الفضاء لأدمرها بعيدا عن الكوكب حتى لا تؤذي أحدا . ثم لا بد من الإنتقال إلى خارج الكوكب لننقل الحرب إلى هناك حرصا على سلامة الناس " تنبهت الربة إلى الشهب وهي تقدم منطلقة من بعيد ، ثم وهي ترتفع لتمر من فوقهما على ارتفاع شاهق وتتابع صعودها في الفضاء لينطلق شهاب هائل ويعترضها معا لتتفجر في الفضاء . حاول الإله القاهر استخدام قواه لشل قوى خصمه دون جدوى ، استغرب الأمر فقد سبق له وأن جرده من قواه حين اختطفه ، أدرك أنه احتاط للأمر فوظف قدراته وربما امتلك قدرات أخرى ، وحين رأى ما فعله سحب بالشهب توقع أنه سينقل الحرب إلى خارج الكوكب فأحاط فضاء المقصورة بأسراب من الجن المخفيين . أدرك الأمير الأمر فواجههم بأسراب مماثلة ، انطلقت آلاف الشهب في اتجاه المقصورة ، تصدى لها جن الأمير، غير أنه لم يكن في استطاعتهم أن يغيروا اتجاه الكثير من الشهب فدمروها في منتصف مسافة أنطلاقها ، فيما دمرت الأخرى على ارتفاعات عالية. ارتجت الأرض من جراء أصوات الإنفجارات المدوية في الفضاء ، دمرت بعض بيوت المدن على سكانها ،وسقطت مئات الصواعق على بشر. والتهب الفضاء بسحب من نار مشتعلة ،وسحب من دخان هائل . دب الروع في قلوب الناس . لم يجد الأمير مفرا من استخدم قوى أكثر فاعلية . أحاط فضاء الحرب على الكوكب بظلام دامس قادرعلى ابتلاع كل شيء ليحيله إلى ظلام ملتهب ، وجعله يزحف من كل الجهات ليبتلع كل ما يواجهه من جن ونيران وشهب ودخان ،ولم يتوقف إلا على مقربة من فرق الجن المحيطة بمقصورة الأمير والربة . " هيا لننتقل من هنا إلى خارج فضاء الكوكب ، يكفي ما حدث من دمار ضحية هذه الحرب الملعونة " هتف الأمير مخاطبا الربة . ولم يفرغ من كلامه إلا ومقصورتهما تحلق على بعد آلاف الأميال من الكوكب والكواكب الأخرى في المجرة . غير أن انتقالهم وضعهم في مكان يتوسط المجرات السبع ، إذ راحت الشهب والمذنبات تنطلق عليهم بالملايين من كافة الإتجاهات في الفضاء السحيق . وظف الأمير ملايين الجن للتصدي لها ، فالتهب الفضاء بالنيران الملتهبة ليبدو وكأنه الجحيم عينها .. حاول الأمير استخدام قواه للسيطرة على قوى الإله القاهر وشل قدراته التدميرية دون جدوى ، فخاطر أباه مستنجدا . حاول الملك لقمان بدوره فلم ينجح رغم ترديده لكلمة السرالممنوحة له مما يفترض أنه الله المطلق كلي القدرة . مما دفع الملك إلى الإعتقاد بأن الحكمة الإلهية اقتضت ألا تمنحه مطلق السرالقاضي بالقول للأشياء كوني فتكون ، بل منحه محدوديته التي يمكنها أن تنفذ قدرا ما من الطلب وليس الطلب كله ! فقد لوحظ أن الشهب والمذنبات التي تطلقها قوى الإله القاهر ليست بحجم الشهب والمذنبات التي يطلقها الأمير وأبوه. دامت حرب الشهب والمذنبات لبضع ساعات بحيث امتدت لتشتعل في فضاء المجرات ،واستعان الأمير وأبوه بقوى الجن من أنصارهم وحتى قوى الملك ابليس نفسه ، فانطلقت شهب ومذنبات هائلة راحت تحصد في طريقها كل ما يعترضها من جيوش وشهب ومذنبات مضادة . أدرك الإله القاهر أن حرب الشهب والمذنبات لم تعد مجدية لهزيمة خصمه ،فشرع في إطلاق نيازك بأحجام كوكبية ، يكفي تفجير إحداها إلى تدمير مجموعة من الكواكب المسكونة بالجن والإنس وغير المسكونة، يؤدي تدميرها بدوره إلى توليد ضغط هائل يؤثر على الكواكب الأقرب فتتفجر بدورها ، مما ينجم عنه إحداث سلسلة من التفجيرات الكوكبية غير المتناهية يمكن أن تدمر الكون برمته. أطلق الإله القاهر هذه النيازك الكوكبية في كافة الإتجاهات لتحيل الكون إلى جحيم مستعر وكأنه يقول علي وعلى أعدائي ! وجد الأمير سحب السماوات نفسه في وضع يثير الرعب فاستعان بقوى أبيه الذي استعان بدوره بكل قوى الجن والإنس وتضرع إلى الله نفسه أن يقف معهم في حربهم ضد هذا الإله . انطلقت نيازك لتواجه نيازك ، وكواكب لتصطدم بكواكب . ولأول مرة شارك الإنس في حرب كوكبية بأن أطلقوا الصواريخ الهيدروجينية والنووية العابرة للكواكب في اتجاه النيازك والكواكب المعادية . تحول الكون إلى فضاء يلتهب بالحمم الجحيمية ،وأصوات الإنفجارات المزلزلة ، فدمرت آلاف الكواكب المأهولة بالإنس والجن ،ولم يبق كائن في الكون من إنسان وحيوان وجن إلا وشعر بالرعب الفظيع . ولم تنجح كل هذه القوى في تدمير قوى الإله القاهر والإنتصار عليه . صرخ الأمير سحب السماوات " ما العمل يا أبي ، الكون يدمر؟ " وبدت الربة عشتار وهي في غاية الرعب بينما المقصورة التي تقلها هي والأمير، تختفي وتظهر في فضاء جديد مبتعدة عن الكواكب المنصهرة والنيازك المنطلقة . جلس الملك لقمان خاشعا على ركبتيه ، مخاطبا الله من أعماق قلبه " إلهي كونك يدمر يا إلهي فكن معنا ، ومدّنا بقوة من قواك ننتصر بها على أعدائك وأعدائنا " وظل الملك جاثيا على ركبتيه إلى أن خاطره هاتف طارقا مخيلته " لبيك أيها الحبيب انظر إلى السماء " وحين نظر الملك إلى السماء رأى ظلاما دامسا يحجب الفضاء العلوي كله ، فيما ظل الفضاء السفلي منيرا . غمر الظلام أكثر من ألف مجرة كانت تتفجر فيها الكواكب وتضطرم فيها الحمم والنيران ، ابتلعها الظلام وكأنها لم تكن ، ليعم الهدوء والصمت كافة ارجاء الكون . ظل الملك ومن معه بل والبشر والجن في كل مكان مطرقين للحظات حين بدأ الظلام بالإنحسار عن الكون ،وكلما انحسر عن مجرة عادت كما هي قبل اندلاع الحرب ، وحين انحسر الظلام عن أكثر من ألف مجرة كانت تعود إلى ما كانت عليه وكأن حربا كونية لم تقم . غير أنها لم تعد إلى الإيمان الذي كان عليه سكانها من الإنس والجن ، بل إلى الإيمان بالإله الواحد ، مطلق القدرة ، مطلق الخيرانية ، مطلق المحبة ، مطلق العدل، مطلق الجمال . كائن واحد لم يعد كذلك ، هو الإله القاهر وبعض مساعديه من الآلهة . كانت فرحة الملك لقمان وكل من معه بل والبشرية جمعاء أكبر من أن يعبر عنها بكلام ، وقد أدركت تماما أن الألوهة تدخلت ولأول مرة في تاريخ الخلق ، لإنهاء حرب كونية . فشرع الجميع وفي كل مكان يشكرون الله . أما الملك لقمان الذي لم ينهض من جثوته على ركبتيه في حديقة القصر . فقد انحنى ليقبل الأرض ويردد " شكرا يا إلهي شكرا يا إلهي " وهو يستشعر في طعم القبلة جمال الألوهة ومحبة الله . ألقت الربة عشتار رأسها على صدر الأمير سحب السماوات وهي تشكر الله . احتضنها الأمير بيديه وكل عواطفه . هتف : " هيا يا حبيبتي " أدركت الربة أن الأمير عاد ليخاطبها من أعماق مشاعره ب " ياحبيبتي " ردت : " إلى أين يا حبيبي " " نبحث عن الإله القاهر والربة عناية ، نستطلع أحوالهما ونطمئن عليهما ، أم أنك لا تريدين الإطمئنان على أمك وأبيك ؟ " " يا إلهي كم قلبك كبيريا حبيبي ،عكس الإنطباع الذي كونته لدي حين حدثتني عن القضاء على الشر بالقوة إن تطلب الأمر " " أنا ابن رسول محبة يا حبيبتي ، وأعتقد بوجود إله هو محبة مطلقة ، وخير مطلق ،وجمال مطلق ، ولا يمكنني أن أكون إلا كذلك " وعادت الربة إلى إلقاء رأسها على صدر الأمير، ليقبل شعرها ،ويغمرها بمحبته ،وقد أدرك تماما أن محبتها تغلغلت في أحشائه ، لتغدو بحجم حبه لزوجته الأميرة" فتنة النهار " إن لم تكن أكثر . ***** (92) * ألآلهة بلا ألوهة ! في سفح يخلو من الأشجار المثمرة ، وتكسوه نباتات مختلفة وشجيرات برية ، بدا الإله القاهر يتقدم زوجته الربة عناية ومئات من رجال منهكين كانوا يوما آلهة مساعدين له على بعض الكواكب والمجرات .. كانوا يرتدون أسمالا بالية على أجساد هزلت حتى أصبحت مجرد جلود على عظام ، وينتشرون باحثين بين الأعشاب عما يمكنهم أن يأكلوه، فيما كانت السماء تمطر رذاذا، وتنذر غيومها المزدحمة في الفضاء بعاصفة مطرية قادمة .. اقتطع القاهر خصلة عشب من نبتة برية وشرع في أكلها ، استطيب طعمها فأومأ بيده إلى الربة وهتف طالبا إليها أن تأتي لتشاركه الأكل من النبتة، مؤكدا لها أنها طعام خاص بالآلهة ! جاءت الربة واقتطعت خصلة من فروع النبتة وما أن لاكتها في فمها مستطعمة مرارتها حتى بصقتها وهتفت : " طعام آلهة أيها الأحمق ؟ حتى المعز لا تأكلها " ابتلع القاهر ما كان في فمه وهتف بصوت متلعثم : " انت لم تتذوقي ريحان الآلهة من قبل لتعرفيه " " ليست ريحانا أيها البائس، هيا قم لنبحث عن جرف أو كهف نلتجئ إليه فالسماء تنذر بعاصفة هوجاء " ونظر نحو السماء ليرى غيوما سوداء قاتمة تحجب الفضاء: " عاصفة ؟ الإله القاهر سيأمرها أن تتوقف يا امرأة " " أيها الأحمق لم يبق من الإله القاهر إلا حماقتك وهزالك " أرعدت السماء منذرة بمطر أكثر غزارة .زاد المطر من انهماره .. وقف القاهر ومد يده نحو السماء وصرخ بها : " توقفي أيتها العاقة، من أمرك حتى تنهمري دون إرادتي ؟! وأنت ايها الرعد ليخرس صوتك إلى الأبد ، هل تتحدى الإله القاهر أيها الوغد؟ " ازداد المطر انهمارا ليزداد القاهر غضبا وصراخا مشرعا يده اليمنى في وجه السماء تارة ويده اليسرى تارة أخرى صارخا بكل قواه : " قلت لك توقفي أيتها العاهرة أنا الإله القاهر أخاطبك " انصب المطر صبا . أخذت عناية بطرف ردائه وراحت تقوده عنوة نحو جرف صخري ،فيما كان ( الآلهة ) الآخرون يلتجئون إلى جروف وكهوف .. ظل القاهر يحاول الإفلات من يد الربة التي تجره من طرف ردائه وهو يتوعد السماء بالويل : " سأجردك من كل سحابة تغطي عريك وأشقك إلى نصفين وأضرب بك الأرض، أيتها العاقة كتلك الملعونة التي تمردت علي وهامت حبا بعشيقها لتعلن معه الحرب علي " تمكنت عناية من شحطه إلى الجرف والوقوف في مكان يقيهما المطر ، وقد ابتلت ثيابهما وراح الماء يقطر منها . وفي هذه اللحظات ظهرت في الفضاء مقصورة الأمير سحب السماوات والربة عشتار . وبدأت العاصفة تهدأ شيئا فشيئا . هتف القاهرمخاطبا عناية بينما كانت المقصورة تنزل نحوهما : " أرأيت ؟ ها هي مقصورة عرشي تهبط إلينا والسماء تبدأ في إطاعة أوامري " " هذه ليست مقصورة عرشك أيها الأحمق " وفي هذه اللحظة كانت الربة عشتار تنزل من المقصورة يرافقها الأمير سحب ليحطا أمامهما . توقفا في مواجهتمها . هتفت الربة " أبي " تأملها القاهر للحظات ليهتف: " أنت أيتها العاقة ؟ سأجعل طيور السماء تنهش لحمك قطعة قطعة " وبدت عناية وهي في غاية الدهشة لتهتف بكلمة واحدة " عشتار" ؟ دنت عشتار منها وعانقتها وهي تردد " أمي " ثم اقتربت من أبيها وضمت رأسه إليها وراحت تربت على ظهره وتردد: " حسنا يا أبي دعك الآن من طيور السماء ، وهيا معي لتخرج من هذا الوضع المزري " شرع القاهر في بكاء مرير وكأنه أدرك واقعه وعاد إليه بعض وعيه ، فاستسلم لها باكيا حزينا ذليلا ! أصعدته عشتار هو وأمها إلى المقصورة . تساءل الأمير وهو ينظر إلى عشرات الآلهة الذين كانوا يتقوقعون أمام الجروف والكهوف وقد فقدوا ألوهيتهم : - ماذا سنفعل بهؤلاء البائسين ؟ - أظن أن هذا حكم الله فيهم حين لم يقدروا مقدارالألوهة التي وضعها الله في أجسادهم . قادت إجابة الربة الأمير إلى أن يذهب بخياله إلى فلسفة أبيه التي غدت فلسفته، تساءل : - إذا كانت هذه هي حال الآلهة حين يفقدون ألوهيتهم ، فما الذي ستكون عليه حال الإنسان إذا ما افتقد الألوهة السارية فيه ؟! - سيكون هراء ونفاية يا حبيبي !! - وربما يكون وحشا ، كما هي حال بعض البشر اليوم ! مع احترامي للوحوش ! وأردف: - ألن نفعل لهؤلاء شيئا ؟ - لنمنحهم بعض الطعام إذن ، وآمل أن يرضى الله عن عملنا ! وأشارت الربة بيدها في الفضاء وإذا بموائد من الطعام تنزل عليهم . وأشارت إلى أمها وأبيها وإذا بهما يرفلان بملابس جديدة ومائدة طعام تنبعث أمامهما . هتفت : - والآن يا حبيبي ؟ - إلى حيث أبي وأمي وزوجتي يا حبيبتي ! ****** كانت ليلة حافلة التقى فيها الأحبة واحتفلوا بعودة الأمير سحب السماوات . فصدحت الموسيقى ورقصت الحوريات وترنمت المغنيات بأجمل الإغنيات . أفرد الأمير جناحا خاصا في القصر إلى الإله القاهر والربة عناية ، غير أن الإله حين عاد إليه بعض وعيه لم يستطع تحمل الحال التي وجد نفسه فيها مجردا من ألوهيته ومن كل شيء حتى جنيته ، مجرد إنسان بسيط للغاية يحتاج إلى من يساعده في كل شيء ،فآثر الإنتحار بأن غرس خنجرا في قلبه . أقيم له جنازة متواضعة لم يشارك فيها إلى الربة عشتاروالربة عناية والملك لقمان والملكة نور السماء والأمير سحب السماوات ، وبعض أبناء الجن والإنس. الأمير سحب السماوات وجد نفسه في حيرة بين محبته لزوجته الأميرة فتنة النهار ومحبته للربة عشتار . فجمعهما في خلوة وطلب إليهما أن تنظرا معه في الأمروتجدا حلا له لعلهما تخرجانه من حيرته . ابتدرت الأميرة فتنة النهار الكلام . قالت : " فرحك هو فرحي يا حبيبي وحبك هو حبي، فلا أستطيع إلا أن أحب من أحببت ، وأهيم بمن همت به ، لتكن الربة عشتار زوجتك إلى جانبي ولتكن أول أمير وإله يتزوج من ربة وأميرة " وقالت الربة عشتار : " أشكرك أيتها الأميرة لنبل مشاعرك ، لقد اختطفت منك الأمير على يدي أبي في المرة الأولى وجعلتك تعيشين في حزن لأيام طوال ، فلن أختطفه منك مرة ثانية حتى لا تعودي إلى أيام حزنك . فاهنأي يا عزيزتي بحبك للأمير ، وكوني له زوجة وفية مخلصة، ويكفيني أن أكون صديقة لكما، أفرح لفرحكما ،وأحزن لحزنكما ،وأبعد الأخطارعنكما مهما وجدت إلى ذلك سبيلا " لم يصدق الأمير أن المسالة ستحل بهذه السهولة . فعانق الربة والأميرة وشرع في تقبيلهما معا . وأفرد جناحا من أجمل أجنحة القصر للربة . هذا ما كان من أمر الأمير سحب السماوات والربة عشتار وزوجته الأميرة فتنة النهار . أما ما كان من أمر الملك لقمان فكان مسألة أخرى لا يمكن للعقل أن يتصورها . فقد غدا الصراع في دخيلة الملك على أشده ، بين الملك الذي يريد محمود شاهين أن يكونه في شخص الملك لقمان ، وبين الملك الذي لا يريد الملك لقمان له أن يكون محمود شاهين . ولم يكن هناك من قوة قادرة على حل هذا الإشكال الفظيع ، فاختار الملك طريقا ثالثا تنقذه من الوضع بأن لا يكون أحد الإثنين !! *** (93) * الملك لقمان يذهب في المطلق الأزلي! هل ضاع الملك لقمان بين الحقيقة والوهم ، حين راح الصراع يتأجج بينهما في دخيلته ؟ فهل هو محمود شاهين أم الصورة الإنفصامية المتوهمة له في شخصه ؟! وهو لا يريد الأمرين، لا يريد أن يكون محمود شاهين، ولا يريد أن يكون الصورة المتوهمة في الملك لقمان . يريد أن يكون الملك لقمان الحقيقي المستقل بذاته عن الإثنين، وليذهب الملك لقمان المتوهم وكل ما فعله في الوهم إلى الجحيم ، وليذهب معهما محمود شاهين نفسه. " لن تخرج يا لقمان من عباءتي كيفما فكرت وأينما ذهبت ، أنا خالقك وصانعك "! " لا ! أنت لست خالقي، لم يخلقني أحد غير الله ،ولن يمنحني حريتي وإرادة الفعل لدي غير الله" ! " حتى لو ذهبت إلى الله وحللت في الألوهة نفسها ، لن يكون ذلك إلا بإرادتي" " ومن تظن نفسك ،هل أنت الله "؟ " حاشا الله أن أكونه يا لقمان ،ما أنا إلا أنت ، أنت حقيقتي ووهمي. قدري أن أكونك وقدرك أن تكونني " " إذن دعني أتصرف بحريتي "! " أنت تتصرف بكل حريتك يا لقمان . منذ أن أخرجت الملك شمنهور من قمقم سليمان قبل عشرين عاما إلى أن أنجبت الأمير سحب السماوات وحتى اليوم "! " أريد أن لا أشعر أنني أنت ! لا أريد أن أرى ذاتي فيك ولا أريد أن ترى ذاتك فيّ " " لك الحق يا لقمان في أن لا ترى ذاتك فيّ ، لكن ليس من حقك أن تمنعني من أرى ذاتي فيك !" " ليتني أستطيع أن أمنعك من أن ترى ذاتك فيّ " " هل تكرهني يا لقمان ؟ " " لا أكرهك لكني لا أستطيع مجرد تصور أن أكون أنت ،أنا الملك لقمان ،ملك الملوك لقمان ،ملك ملوك الملوك لقمان " استيقظت الملكة نورالسماء على هذاء الملك لقمان الإنفعالي . كان العرق يتصبب من وجهه . احتضنت رأسه وراحت تمسح عرقه وهي تذكر اسم الله . نهضت وأحضرت له كأس ماء . أسندته وأسقته بيدها . " اشرب يا حبيبي واهدأ ،هل عادت إليك الكوابيس ؟ " " هل سمعت ما كنت أهتف به ؟" " أجل سمعت يا حبيبي " " يبدو أنه هذاء جنون العظمة " " حاشاك من الجنون يا حبيبي " " لكن ما معنى تضخيمي للقب الملك إلى هذا الحد ؟" " مجرد محاولة لتأكيد ذاتك في مواجهة خصم يجهلك " " إنه هو ليس هناك أحد غيره " " من هو يا حبيبي " " المؤلف الذي تخيلني وأوجدني " " حبيبي أنت حقيقة ولست مجرد كائن متخيل " وهنا هتف الملك للملكة بما لا يمكن لعقل أن يتصوره : " ولن أكتفي بأن أكون حقيقة ما في نسبيتها، أوحتى في كليتها ، بل في الحقيقة المطلقة ذاتها، في مطلقها الذي لا حقيقة ولا مطلق بعده ، حقيقة الحقائق ، مصدرالحقائق كلها، فإما أن أكون كذلك أو لا أكون ! لن أظل أسير مؤلف أراد لي أن أكون صورة من متخيله " !! ***** في اليوم التالي أمر الملك لقمان بالرحيل . قام هو والملكة بزيارة خاطفة إلى الإمبراطور والإمبراطورة ليودعاهما، ويمنحاهما القصر الذي بنته الملكة نور السماء .. اعتذر الملك عن عدم استكمال الحوار بينهما .. أشار الإمبراطور إلى أن معظم سكان الإمبراطورية يتداولون أفكاره ويأخذون بها ، وأنه يأمل أن يلتقيا ثانية . أقلعت المركبة متوغلة في أعماق الفضاء . راح الملك يرقب كل كوكب تحلق المركبة في فضائه ، إلى أن حلقت فوق كوكب غير مسكون ، رغم أن طبيعته بدت مزهوة بالأشجار المثمرة والنباتات والورد المختلفة . أمر الملك بالنزول على أعلى هضبة من سلسلة هضاب عالية . أقام ذلك اليوم حفل غداء حضره كل من على المركبة . وحرص على معانقة كل فرد مودعا ، مدعيا أنه سيذهب في خلوة مع نفسه يكون فيها وحده ،وأن لا يقلقوا عليه أبدا . حاول الأمير سحب السماوات أن يعرف شيئا عما يدفعه إلى هذه الخلوة دون جدوى . الملكة نور السماء وحدها أحست بدوافع الملك ، ولم تخبر ابنها عنها إلا بعد أن غادرهم الملك محلقا ليحط إلى جانب صخرة على أعلى قمة في الهضبة . " لقد زهد أبوك بحياة الدنيا يا حبيبي وقد لا يعود إلينا أبدا " فوجئ الأمير بما قالته أمه : " ماذا تقصدين يا أمي ؟" " يريد أن يذهب إلى الله " أجاب الأمير بدهشة : " ماذا ؟ وكيف " " هناك طريقان لا ثالث لهما . إما أن يصطفيه الله إلى جواره وهو حي ، وإما أن يموت ليصطفيه بعد ذلك " " يا إلهي ! هل هذا يعني أنه سيظل إلى جانب الصخرة دون طعام أو شراب إلى أن يموت ؟ " " أو يذهب في الحقيقة المطلقة التي يبحث عنها " " هل تقصدين الله ؟" " أجل يا حبيبي ،فالله هو الحقيقة المطلقة وليس هناك حقيقة مطلقة غيره " أدرك الأمير أن أمه تجيبه بما يعتقده هو نفسه . غير أنه كان يظن أنه لا يمكن لأحد مهما كان أن يذهب في الحقيقة ،أو يطلبها ، كونها خصوصية إلهية لا يمكن لأحد أن يبلغها . تنفس من أعماقه وألقى نفسه على أريكة . سألته الأميرة فتنة : " هل تظن أن أباك لن يعود يا حبيبي ؟" " لا أعرف ، وإن بدا الأمر كذلك " ****** كان الملك لقمان يجلس بخشوع إلى جانب الصخرة التي أحاطتها مجموعة من الورود المزهرة بينها شقائق النعمان . وكانت القمة كلها تزهو بأنواع مختلفة من الورود والشجيرات الخضرالتي أزهرت متفتحة عن براعم بيضاء وبنفسجية ، فيما كانت تنتصب على سفوح القمة وامتدادات الهضبة آلاف الصخور والأشجار بأحجام مختلفة . وبدت الصخور وكأن أيدي نحاتين تدخلت في تكوينها فأحالتها إلى منحوتات في غاية الإبداع . وبدت الأشجار أيضا وكأن مقص بستاني قد مرعليها ليهذب جمالها فقص كل غصن تطاول ليبدو نشازا بين مجموعة من الأغصان المتناغمة . كان ذهن الملك منصبا على التركيز في مخاطبة الله والتضرع إليه راجيا إياه أن يأخذه إليه : " إلهي وأنت وجهتي وجاهي ، ونوري وخلاصي ، أتوق إليك ، أتوق إلى حقيقتك ، أتوق إلى مطلقك اللا نهائي. فخذني إليك يا إلهي ، اجعلني قطرات ماء تروي جذور نبتة عطشى ، حفنة تراب تغذي ساق زيتونة ، مادة خلق لا يكون خلق إلا بها ، طاقة تعانق قدرتك وتنصهر فيها . تحيل النور إلى ظلام ، والعدم إلى وجود! أخرجني يا إلهي من الظلمة إلى نور الحقيقة ، نورك ، حقيقتك ، فقد سئمت يا إلهي من وجودي المتوهم في مخيلة ، ولم أعد أعرف إن كنت حقيقة أم وهما . لم أعد أعرف إن كان ما حققته من محبة وعدالة وهما أم حقيقة ، ولم أعد أعرف إن كان ثمة معرفة تجعل من الحقيقة وهما ، ومن الوهم حقيقة ، خارج نطاق قدرتك المطلقة ! فخذني إليك يا إلهي ،وانقذني من حطام السنين المتوهمة التي وجدت نفسي أغرق في محيطاتها المتلاطمة " ****** مرعلى الملك لقمان ستة أيام دون أن يتناول شيئا من الطعام والشراب، وحتى دون أن يدخن سيجارة وهو المدمن على التدخين. احتمل الجوع واحتمل العطش ولم يعد يشعر بالحاجة إليهما . وحين كان النعاس يراود عينيه، كان يغفو لبعض الوقت ويستيقظ . منع كافة أشكال التخاطر والتذاهن معه أو الإقتراب منه . كانت الملكة نور السماء والأمير سحب السماوات والملك شمنهور يحلقون لبعض الوقت على ما يقرب من مائة متر منه ، مترقبين حاله التي لم يطرأ عليها أي تغيير . عم الحزن اسرة المركبة صغارا وكبارا . وشرعوا يتضرعون إلى الله أن يكون معه . مرفي مخيلة لقمان وهو يجلس متأملا ، محنة أيوب مع يهوة ، محاولا المقارنة بين وضعه ووضع أيوب . لم تكن محنة أيوب باختيار منه، بل بمكيدة شيطانية جعلت يهوة يقدم على إخضاع أيوب لتجربة يختبر فيها مدى إيمانه ، فسلط عليه الشيطان ليبدد ثروته ويفتك بأبنائه وبناته ويضربه بفالج يطرحه في الفراش ويجعل الدود ينهش لحمه ، ليكفر أيوب بيهوة وباليوم الذي ولدته أمه فيه . لا لا هو أمر مختلف ، فقد أقدم على الأمر باختياره وليس بمكائد شيطانية ، ثم إنه يشك في أن يكون إلهه يحمل أي صفة من صفات يهوة ،وأنه سيختبر مدى إيمانه .. وجهد الملك ليبعد هذه الأفكار التي لا مجال فيها للمقارنة من مخيلته .. فها هو يستقبل اليوم السابع من خلوته مطمئنا إلى أن الله سيأخذه إليه ، وإذا كان ثمة سبب يدعو الله لأن لا يستجيب بسرعة لرغباته في الذهاب إليه ، فهو ليس إلا محاولة لثنيه عما يرغب فيه ، ليبقى متمتعا بحياة الرفاهية التي يحياها . **** كانت الشمس ترتفع بضعة أمتار عن مشرقها مرسلة أشعتها الفضية على الروابي والسفوح ، والملكة وحاشية المركبة يرقبون من أماكنهم على الشرفات حال الملك لقمان ، حين التمع برق هائل في السماء وقد اخترقها من الأفق إلى الأفق ، ليدوي بعده قصف رعد هائل بإيقاعات منتظمة وكأنه طبل هائل يضرب عليه موسيقارمحترف ، موحيا بتوقع حدوث أمر خارق للطبيعة . دوى القصف لسبع مرات متتالية كان يخف كل مرة عن سابقتها ،غير أنه امتد في المرة السابعة بضربات خفيفة متلاحقة في فضاء القمة التي يجلس عليها الملك لقمان ، والتي كانت الأنظار مسلطة عليها . انفصلت ذروة القمة عن مكانها لترتفع بالملك لقمان والصخرة التي يستند إليها والورود المحيطة بهما في الفضاء، وتشرع في الإرتفاع والتحليق بشكل دائري راسمة حلقات لولبية في معراج الملك إلى السماء. دمعت عينا الملكة نور السماء وانفجرت بالبكاء وهي تهتف ملوحة بيدها " مع السلامة يا حبيبي " وألقت رأسها على صدر الأمير سحب السماوات الذي كان يداري دموعه .. صرخ الملك شمنهور من أعماقه ليغرق في بكاء لم يعشه جني من قبل ، وليشرع جميع من كانوا على المركبة في البكاء. لم يلتفت الملك لقمان نحوالمركبة أو نحو الأرض فقد غدا من عالم السماء وراح يشخص بأنظاره إليها ،مدركا أن الله قد استجاب له واختاره لأن يكون معه في مطلق وجوده الكلي الأزلي . صعدت الورود التي كانت عل سفوح القمة في تشكيلات منتظمة متتبعة معراج الملك . تلاها الورود التي كانت على الهضبة كلها ، فالأشجار التي كانت على القمة ، فالأشجار التي على الهضبة . فالصخور كلها التي كانت على الهضبة . ارتفعت في أسراب منتظمة ،سرب يتبعه سرب . وصدحت في السماء موسيقى كونية ، ظهر على أثرها آلاف من الملائكة ممتطيي الخيول ، حلقوا في أفواج منتظمة تقدمت المعراج وأحاطت به. كما ظهرت آلاف من حوريات السماء فائقات الحسن شرعن بالتحليق في تشكيلات جمالية في فضاء المعراج .. ظلت الملكة والأمير وأفراد المركبة يرقبون معراج الملك إلى أن أوغل بعيدا في الفضاء السحيق ، ليروا السماء تنشق إلى نصفين راحا يبتعدان عن بعضهما ليدخل معراج الملك وكل المشاركين فيه إلى عالم السماء الأرحب . وليلتحم النصفان بعد ذلك ليعودا إلى وضعهما الطبيعي . ******* هتف الأمير سحب السماوات مخاطبا أمه ، متسائلا: " ماما "؟ التفتت الملكة إليه : "هل ما جرى لأبي وما شاهدناه ، حقيقة، أم أنه مجرد وهم ؟!" ولم تجد الملكة إلا أن تجهش بالبكاء - الذي لم تفرغ من آثاره بعد - على الملك الذي ارتحل إلى السماء ولن تراه ثانية !! **** نهاية الملحمة. 21/6/2016 |
|
|
|
|
![]() |
| مواقع النشر (المفضلة) |
| الكلمات الدليلية (Tags) |
| لمجلة, أحدث, ميزان, المز, الجنة, الكامل, روائية, على, فلسفية |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه
|
||||
| الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
| أديب في الجنة! | شاهين | ساحة الشعر و الأدب المكتوب | 111 | 08-03-2017 12:41 PM |
| " أديب في الجنة " ملحمة روائية فلسفية لمحمود شاهين ! | شاهين | ساحة الشعر و الأدب المكتوب | 1 | 07-31-2017 12:29 AM |
| أديب في الجنة .الجزء الثاني معدلا. | شاهين | ساحة الشعر و الأدب المكتوب | 0 | 09-28-2016 02:30 PM |
| أديب في الجنة .الجزء الأول معدلا. | شاهين | ساحة الشعر و الأدب المكتوب | 0 | 09-27-2016 10:40 PM |
| ملحمة كلكامش - النص الكامل - كلكامش السومري | الأسطورة0 | علم الأساطير و الأديان ♨ | 7 | 08-30-2016 03:52 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
diamond