![]() |
|
|
|
رقم الموضوع : [1] |
|
زائر
|
لقد اهتم فرويد في كتابه "الطوطم والحرام " بدراسة الطوطمية التي تعد الشكل الأولي للديانة كما عرفها الجنس البشري , معتمدا على ملاحظات جمعها علماء عاشوا بين قبائل بدائية كانت لا تزال محافظة (الى حد ما ) على عاداتها القديمة , خاصة منها الشعوب المتوحشة القاطنة بأستراليا . هذه الشعوب تعتبر الأكثر تخلفا و توحشا في العالم وبالتالي فهي تعكس أقدم بدايات الجنس البشري .
سيقوم فرويد برصد الآثار البارزة التي تبقت من الطوطمية في الديانات التي عرفتها البشرية في أطوار لاحقة من الحضارة . يقول فرويد في كتابه السابق ص 123 : "الحضارة الطوطمية كونت في كل مكان مرة ما المرحلة التمهيدية للتطورات اللاحقة , والمرحلة الانتقالية من الحالة البدائية الى عصر الأبطال و الآلهة " . يحمل الكتاب أيضا دراسة لمفهوم الحرام أو التابو اللذين نجدهما حاضرين بقوة في الأديان المرافقة لطور الحضارة . في هذا الموضوع , سأقدم تلخيصا لأهم ما رود في هذه الدراسة , تلخيص بعيد كل البعد عن الالمام بكل ما جاء في الكتاب الشيق. يعد الكتاب مناسبة فريدة من نوعها لتصحيح الكثير من معتقداتنا القدحية في حق تلك الشعوب البدائية . لقد اعتقدنا لزمن طويل (نحن المتحضرون) أن الطور البدائي مرادف للتهتكية و مشاعة الفحشاء و انعدام الأخلاق والقوانين الاجتماعية, وفي أحسن الأحوال نعترف لهم بقدر من الأخلاق والقيود تقل بكثير عن أخلاقنا في الحجم والصرامة .والحال أنهم يفاجئوننا في كثير من المواقف بحرص أخلاقي شديد يبلغ حد الهوس, فعلى سبيل المثال الطريف يخبرنا فرويد أنه : "لدى الأكامبا في أفريقيا الشرقية ...على البنت في الفترة ما بين مراهقتها و زواجها أن تتجنب أباها في اهتمام فائق,فهي تختبئ عندما تصادفه عند الطريق, ولا تحاول أبدا أن تجلس الى جانبه ...ومنذ أن تتزوج لا يقف في طريق اتصالها بأبيها أي عائق."(الطوطم والتابو ص 34)." في فانا لافا,لا يسير الرجل أبدا خلف حماته على الشاطئ, الى أن يزيل مد المياه آثار أقدامها من الرمل... ولدى البازوغا,وهي منطقة في ينابيع النيل ,لا يجوز لرجل أن يتحدث مع حماته,الا اذا كانت في مكان آخر من البيت ولا يراها."(ص 35 من المصدر السابق). يتعجب فرويد (كما سيتعجب بلا شك كل واحد منا ) من أن قبائل آكلة للحوم البشر كهذه القاطنة بوسط أستراليا تفرض قيودا صارمة على العلاقات الجنسية داخلها تعكس تهيبا شديدا من سفاح القربى . فيسعى الى فهم الأسباب وراء هذا الخوف الذي عليه تم وضع باقي القواعد الاجتماعية .وفي سفره ذاك نحو اكتشاف السبب وراء ذلك التهيب , يجد نفسه في خضم اكتشاف نشأة الأخلاق : جريمة قتل الأب . تحتل جريمة قتل الأب مركزا محوريا في علم النفس التحليلي , ويشار بهذا المصطلح في التحليل النفسي الى ما وقع في البدايات الأولى للجنس البشري , حيث كان الذكر المسيطر في القبيلة يسيطر على الاناث , ويمنع أبناءه من اقامة أية علاقة جنسية مع بناته و أمهاتهم , وهذا سلوك معروف عند الفقريات بصفة عامة ويعرف بالغيرة . أدى هذا الوضع الى نشأة عقدة أوديب الايجابية المشهورة (كراهية الأب و حب الأم) لأول مرة لدى الجنس البشري . وأمام هذا الوضع , و بإملاء من الضرورة البيولوجية, قرر الأبناء قتل أبيهم وازاحته عن طريقهم لتخلو لهم الساحة بالاناث , وذلك ما كان بعد أن اجتمعوا وتوحدت قوتهم . عندما قتل الأب , وجد الأبناء أنفسهم أمام وضع حرج و أدركوا جيدا أن التنافس الحاد بينهم على الاناث سيدفع بهم نحو الهلاك جميعا , لهذا فقد وضعوا قوانين منظمة للعلاقات الجنسية داخل القبيلة و بدأت القيود الاجتماعية( أو الأخلاق كما سنسميها لاحقا ) تظهر في الأفق كضرورة حيوية . يقول فرويد في هذا الصدد :"اذا كان الحيوان الطوطم هو الأب ... فان الوصيتين الرئيسيتين للطوطمية ,الأمرين التابويين اللذين يؤلفان جوهرهما, وهما عدم قتل الطوطم وعدم الاستخذام الجنسي للنساء اللواتي ينتمين الى هذا الطوطم,تتطابقان بالمضمون مع جرمي أوديب الذي قتل أباه واتخذ من أمه زوجة ,كما تتطابقان مع الرغبتين الأصليتين للطفل اللتين تشكلان,لعدم كبتهما كفاية أو لاستفاقتهما ,نواة , ربما لجميع العصابات النفسية" . وهذا التفسير هو ما دفع فرويد الى القول بأن الرجال كانوا أول من اتسموا بالأخلاق ثم تبعتهم بعد ذلك النساء . ان كان هذا شأن نشأة الأخلاق عند فرويد فان حال تلك المشاعر الراقية و السامية كالوطنية و الاحساس القومي الانتمائي للجماعة ليس بمختلف عن حال الأخلاق , ذلك أنها كلها تعتبر آلية نفسية تسعى الى ابطال مفعول التنافسية داخل الجماعة على شيء ما يسعون الى التفرد بامتلاكه(أو على الأقل كبح جماح هذا التنافس ضمانا لمصالح مشتركة) . و يمدنا فرويد بمثال واضح يعزز قوله و هو حس الانتماء العائلي بين الاخوة في العائلة المعاصرة الذي هو بمثابة رد فعل ذاتي على التنافس المحتدم على رعاية وحب الوالدين . لكن أباهم , وان كانوا يكرهونه أشد الكره , كان أيضا مثالا يقتدون به في القوة والشجاعة , ويكنون له مشاعر الاعجاب والاحترام . هذا ما دفعهم لاحقا الى الاحساس بالندم الشديد على ما اقترفته أيديهم ,فشرعوا يحيون ذكراه في مواسم بين الفينة والأخرى . و اختاروا رمزا لأبيهم يكون في الغالب حيوانا يشبهه في الصفات (القوة ,الشجاعة ,الخفة ,....) , وهذا هو ما يعرف بالطوطم الذي تتخذه العشيرة أبا حاميا لها , يقدم المعونة لأبنائه و يحميهم من الشرور, وفي المقابل يلتزمون هم بتقديسه و عدم أكله .. يقول في فرويد :"يعتبر الحيوان الطوطم حيوان سلف ونسب للجماعة المعنية " (الطوطم والتابو ص :129). لكن تقديسهم له لا يمنع من أن يخصصوا فترة في السنة يباح فيها حصرا أكل لحمه بشكل جماعي وحشي ثم البكاء عليه وبعد ذلك يسود جو من الفرح والاحتفال, وفي هذا السلوك المتناقض انعكاس للتناقض الوجداني الذي يحس به المتوحشون تجاه أبيهم (الحب والكراهية في نفس الوقت), كما أنه انتهاك مشروع لمحظور وتنفيس عن مكبوت , وبهذا الاحتفال تتذكر الجماعة (جماعة الأبناء) بنشوة الانتصار الذي حققوه على أبيهم و بأن في اتحادهم قوة . ولا يفوت فرويد , بعد أن بين أن جريمة قتل الأب تعتبر حجر الأساس في الطوطمية , أن يتتبع هذه الجريمة في الديانة اليهودية والمسيحية . ويظهر التشابه التام والواضح بين الطوطمية والمسيحية اذا ما انتبهنا الى ظاهرة تناول جسد المسيح الذي هو الله أو الأب الذي قتل من طرف أبنائه (اليهود) . كما يقدم فرويد طرحا مثيرا للجدل في كتاب آخر "موسى والتوحيد " يرى فيه بأن موسى الذي أخرج اليهود من مصر و ضمن قوتهم في الصحراء و ناب عنهم في تسلم ألواح الشريعة, فكان بذلك في منزلة الأب لشعب اسرائيل , قد قتل على يد جماعة من اليهود عندما كانوا في البرية , وهؤلاء فيما بعد سيندمون على فعلتهم تلك ويسعون الى طمس كل أثر لجريمتهم و احياء ذكراه باستمرار في جيل الأبناء , دون أن يمنع هذا من "أكل لحمه" من حين لآخر عبر قتل من هم بمنزلته و أتوا في صورته , أي الأنبياء الذين أتوا بعده , فتسموا بسبب ذلك قتلة الأنبياء . كما أن الاحساس بالذنب (الحاضر بقوة عند المسيحيين والمسلمين) أثناء نوبات الاستغفار والتوبة من كل خطئية أرتكبت في حق الاله ما هو الا مخلف من مخلفات الطوطمية في الدين. والله نفسه ما هو الا بديل متقدم و متطور عن حيوان الطوطم . يقول فرويد في هذا أخيرا :"نحن نعلم أن ثمة صلات متشبعة ما بين الاله والحيوان المقدس (الطوطم,حيوان التضحية)...لذلك من الطبيعي الافتراض أن الاله نفسه هو الحيوان الطوطم,انه تطور في مرحلة متأخرة...فلعل الطوطم هو الشكل الأول لبديل الأب,والاله هو الشكل المتأخر التي استعاد فيه الأب من جديد هيئته البشرية " (الطوطم والتابو ص175). |
|
|
|
رقم الموضوع : [2] | |
|
عضو ذهبي
![]() |
اقتباس:
العصابات النفسية تشمل بشكل رئيسي : 1- الاكتئاب Depression 2- القلق Anxiety 3- الوسواس القهري OCD 4- متلازمة ما بعد الصدمة PTSD و غيرها .. أما الأمراض الذهانية فلها مبحث آخر .. |
|
|
![]() |
| مواقع النشر (المفضلة) |
| الكلمات الدليلية (Tags) |
| الأبنشأة, الأخلاق, جريمة, قتل |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه
|
||||
| الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
| الأخلاق و ما أدراك ما الأخلاق - رد على هيثم طلعت | Philgamer | حول الحِوارات الفلسفية ✎ | 125 | 06-29-2019 12:14 AM |
| هل الدين هو مصدر الأخلاق أو البشرية هي مصدر الأخلاق؟ | Hikki | العقيدة الاسلامية ☪ | 84 | 10-07-2017 11:11 PM |
| ميثولوجيا الهة العرب قبل الاسلام - الساسى بن محمد الضيفاوى | sameh | ساحة الكتب | 2 | 02-18-2017 02:00 AM |
| نشأة الكون من العدم + نظريتي حول نشأة العنصر الاول | No Mercy | حول المادّة و الطبيعة ✾ | 31 | 11-20-2016 09:22 AM |
| جريمة في حق التنوير | جينكير | ساحـة الاعضاء الـعامة ☄ | 21 | 09-01-2016 11:28 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
diamond