شبكة الإلحاد العربيُ  

العودة   شبكة الإلحاد العربيُ > ملتقيات في الإلحاد > ساحة الترجمة ✍

إضافة رد
 
أدوات الموضوع اسلوب عرض الموضوع
قديم 12-04-2015, 10:12 PM لؤي عشري غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [1]
لؤي عشري
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية لؤي عشري
 

لؤي عشري is on a distinguished road
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى لؤي عشري
افتراضي القيم والأخلاق في كون بلا إله

القيم والفضائل في كون بلا إله


تأليف Erik J. Wielenberg
ترجمة لؤي عشري

بافتراض عدم وجود الله، هل سيكون المعنى الضمني أن حياة البشر بلا معنى، وأن مفاهيم الخطأ والصواب، الفضيلة والرذيلة، الخير والشر لن يكون لها مكان، وأنه ليس هناك التزامات أخلاقية؟ ومن ثم يستطيع الناس فعل أي ما شاؤوا؟! يعتقد Erik J. Wielenberg أن هذا الرأي خطأ تمامًا وفي هذا الكتاب يشرح السبب. إنه يجادل بأن حتى لو الله لا يوجد، فالحياة البشرية يمكن أن يكون لها معنى، وأن لدينا حقًّا التزامات أخلاقية، وأن الفضيلة ممكنة. على نحو طبيعي، يرى المؤلف أن الفضيلة في كون بلا إله مختلفة جوهريًّا عن مفهوم الفضيلة في كون مسيحي، وقد وضح تعليلات طبيعية للتواضع والإحسان والأمل. إن المنظور الأخلاقي في كون بلا إله يختلف عما في كون مسيحي، لكنه يوجد بالفعل. إن كتاب القيم والفضائل في كون بلا إله هو رحلة إلى النقاط المركزية في هذه المنطقة غير المستكشَفة.

Erik J. Wielenberg هو الأستاذ المساعد للفلسفة في جامعة DePauw University. لقد كتب مقالات في جرائد ودوريات مثل: الدراسات الدينية، الإيمان والفلسفة، الفصلية الفلسفية للمحيط الهادئ، ودراسات أوكسفورد في الفسلفية القديمة.
Religious Studies, Faith and Philosophy, Pacific Philosophical Quarterly, Synthese, and Oxford Studies in Ancient Philosophy


كثيرًا ما يصعد إنسان على خشبة المسرح فخورًا، بالتأكيد نفس هذا الفخر يجب أن يعلمنا أن نفكر على نحو سليم بشأن مكانة الإنسان في العالم.

برتراند راسل، ما أعتقده. 1925


الفهرس

عرفان بالفضل

مقدمة

الفصل الأول: الله ومعنى الحياة

معنى الحياة

أربعة جدالات بأن الحياة تفتقد المعنى الذاتي بدون إله

حل Richard Taylor للسؤال: صنع معناك الخاص

حل Peter Singer’s للسؤال: المعنى من خلال التخلص من الألم

الفصل الثاني: الله والأخلاق

الله باعتباره الخالق كلي القدرة للأخلاق

نقد الموقف القوي

نقد الموقف الضعيف

تعليل بديل

الله باعتباره الآمر الإلهي

الفصل الثالث: الضمانة الإلهية للعدالة الكاملة
لماذا تكون أخلاقيًّا؟

الإجابة الأولى: لأن الأخلاق والمصلحة الذاتية وجهان لعملة واحدة

الإجابة الثانية: لأنك تحتاج إلى ذلك

الضمانة الإلهية للعدالة الكاملة وجدلية كانط الأخلاقية

العدالة الإلهية والتضحية بالنفس ومنافاة العقل الأخلاقية

الشر المطلق والإيمان الأخلاقي

ما الذي نتوصل إليه من هذا حتى الآن

الفصل الرابع:

افتراض جديد

سقوط الإنسان: الفخر والعصيان

التواضع، حسب المسيحية والمذهب الطبيعي

من التواضع إلى الإحسان

الأمل والبطولة

التعليم الأخلاقي والعلم

الفصل الخامس: عقائد للعيش بها

أن تعتقد أو لا تعتقد

عقيدة يمكننا العيش بها



عرفان بالفضل

لا إنجاز_مهما كان متواضعًا_هو بالكامل نتيجة لجهد فرد مفرد. وهذا الكتاب المتواضع ليس استثناء. ففي كتابتي لهذا الكتاب قد استفدت من كثير من تقلبات الحظ ومن وجود ومساعدة العديد من الأشخاص والمؤسسات. أحاول هنا تقديم الشكر لهم وأطلب المغفرة من أي أحد قد أغفله.

الكثير من الناس قرؤوا أجزاء من النسخ الأولى العديدة لمخطوط الكتاب، والكثير منهم قدم تعليقات ونصائح مفيدة. أود أن أشكر
Noah Lemos, Keith Nightenhelser,William Placher, Aaron Wielenberg, Margaret Dewey Wielenberg
ومحرري وقراء مطبعة جامعة كامبرِدج لمساعدتهم. أود كذلك أن أشكر Scott Senn لمساعدته في ترجمة العديد من الأعمال المكتوبة باليونانية القديمة.

أنا ممتن لزملائي في قسم الفلسفة والطلبة الذي أخذوا مقرراتي في جامعةDePauw University. فالأولون وفروا مناخًا ملائمًا وداعمًا والفرصة لتطوير مقررات جديدة، مما بدوره سمح لي بتطوير الكثير من الأفكار الموجودة في هذا الكتاب. والأخيرون قدموا لي تغذية استرجاعية بصدد هذه الأفكار، وفي بعض الحالات الحافز لتحري مناحٍ معينة للفكر أكثر. أنا ممتن على نحو خاص لطلاب السنة الأولى الذين درسوا حلقتي الدراسية عن الأعمال الفلسفية لـ C. S. Lewis في أواخر العام 2002 والطلاب في مقرراتي للدراسات العليا عن الشخصية الأخلاقية وفلسفة الدين.

John Pardee معلم الإنجليزية في المرحلة الثانوية لي قال ذات مرة للتلميذ الغير ناضج والغريب الأطوار الذي كنته: يمكنك أن تتمكن بالقدرات الكامنة [فيك] فقط من الوصول إلى حد بعيد". رغم أن عدة سنوات مرت قبل أن تبدأ كلماته هذه في تأثيرها، فإن John Pardee كان الأول من أشخاص عديدين أثروا على نحو حاسم على تاريخي المهني الأكاديمي. John Dreher, Ned Markosian, and Tim Spurgin أدخلوني إلى الفلسفة في جامعة Lawrence University. ورأى Tom Ryckman أن الطالب الغير ناضج والذي كان لا يزال غريب الأطوار الذي كنته ربما لديه المقدرة على دراسة الفلسفة حتى التخرج. لقد قمت بمشروعي التخرجي في جامعة Massachusetts–Amherst، حيث كنت محظوظًا للوضوع تحت تأثير عدة معلمين ممتازين، وأكثرهم تميزًا مشرف مناقشة رسالة دكتوراتي Fred Feldman. والذي بإرشاده ونقده الثاقب تمكنت آخر الأمر من إنتاج عمل في الفلسفة لن يتسبب لي في الخجل اليوم. أثناء إنهاء رسالة دكتوراتي، قضيت سنة كطالب متخرج زميل في مركز فلسفة الدين في جامعة Notre Dame، حيث استفدت على نحو ضخم من تفاعلي مع الأعضاء الآخرين للمركز، خاصةً Alvin Plantinga and Tom Flint.

يملي التقليد أن أهم عرفانات الجميل تأتي آخرًا، وسأتبع التقليد في هذه الحالة. هذا الكتاب لم يكن سيوجد بالتأكيد لولا إسهامات شخصين على الأخص. الأول هي أمي _ Peggy Wielenberg_ التي أشكرها على دعمها الذي لا يتزعزع، وإيمانها بقيمة التعليم وما هو بالتأكيد كبحها لذاتها الفائق للبشرية في السماح لي باختيار طريقي الخاص. والثانية هي زوجتي_ Margaret_ التي أشكرها على حبها المتواصل والإطار العاطفي اللذين جعلا كتابة هذا الكتاب ممكنة، وإيمانها أني كنت أكتب كتابًا حقًّا بينما كانت تخرج للعمل كل يوم خلال صيف 2003.

أنا واثق أن أكثرية الناس الذين سردتهم هنا لن يتفقوا مع الكثير مما قلته في الكتاب. البعض منهم_علاوة على ذلك_سيجد أجزاء منه متعارضة مع عقائد متمسك بها عميقًا. أتمنى أن يستقبلوا الكتاب بروح التساؤل التي قُصِدَت منه. بالتأكيد فإن المسؤولية عن الأخطاء التي بلا شك يحتويها الكتاب هي مسؤوليتي فقط.

Plainfield, Indiana
مارس 2004



مقدمة

فيلم "علامات" Signs المنتج عام 2002 جدير بالملاحظة في كونه قصة عن محاولة غزو للأرض من كائنات فضائية وعن اختبار الإيمان الديني في آنٍ واحد. الشخصية الرئيسية Graham Hess [يؤدي دوره مِل جِبسُن]، والذي هو بمثابة أيوب العصر الحديث الذي فقد إيمانه كنتيجة لموت زوجته المأساوي. في مشهد من الفلم يشاهد هو وأخوه تقارير الأخبار عن نشاط السفن الفضائية، ويقول الكلام التالي:

ينقسم الناس إلى مجموعتين عندما يمرون بشيء له علاقة بالحظ. المجموعة الأولى تراه كأكثر من مجرد حظ، أكثر من مجرد صدفة، يرونه كعلامة، دليل أن هناك شخص ما بالأعلى هناك يراعيهم. المجموعة الثانية تراه كمجرد محض حظ. مجرد تقلب سعيد للحظ. أنا متأكد أن الناس في المجموعة الثانية ينظرون إلى تلك الأضواء الأربعة عشر على نحو مرتاب جدًّا. بالنسبة لهم فالموقف هو احتمالات متساوية 50% إلى 50%، قد يكون سيئًا أو جيدًا. لكن في أعماقهم يشعرون أنه مهما يحدث فإنهم يواجهون مصيرهم، وهذا يملؤهم بالرعب. إي، هناك هؤلاء الناس. لكن هناك عدد وافر ضخم من الناس في المجموعة الأولى عندما يرون هذه الأربعة عشر ضوءً فإنهم ينظرون إليها كمعجزة، وفي أعماقهم يشعرون أنه أيًّا ما كان سيحدث فسيكون هناك شخص ما هناك لمساعدتهم، وهذا يملؤهم بالأمل. انظر، ما عليك أن تسأل نفسك عنه: أي نوع من الناس أنت؟ هل أنت من النوع الذي يرى علامات، يرى معجزات؟ أم تعتقد أن الناس يكونون ذوي حظ فقط؟

تقوم ملاحظات شخصية جراهام بعمل ممتاز في توصيف جانبي جدل عتيق. وفي المشهد الفلسفي الغربي المعاصر فإن طرفي هذا الجدل هما نمطيًّا المؤمنون من جهة والملحدون أو الطبيعيون [naturalists نسبة إلى الطبيعة] من جهة أخرى.

المشروع الرئيسي لهذا الكتاب هو تفحص للمعاني الضمنية الأخلاقية للمذهب الطبيعي. لذا فمن الجوهري أن أقدم بعض الشرح لما أعنيه بهذا المصطلح. العنصر الأساسي المركزي للمذهب الطبيعي هو القول بعدم وجود أشياء فوق طبيعية، وأن مثل تلك الأشياء لم توجد كذلك في الماضي، ولا سوف تكون في المستقبل. يمكنني استهلاك الكثير من الحبر محاولًا توضيح تحليلات دقيقة فلسفيًّا لمفهومي الطبيعي وفوق الطبيعي. لحسن الحظ، لا أعتقد أن هذا ضروري لمقاصدي. أظن أن فهمنا الحدسي لضروب الأشياء التي قد توصف على نحو معقول كفوق طبيعية واضح على نحو كافٍ ويتضمن إله كل من الثلاثة أديان التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام) وكذلك الأرواح غير المادية من النوع الذي افترضه ديكارت وآخرون. المذهب الطبيعي يستلزم أن أيًّا من هذه الأشياء يوجد. كما أفهمه فإن المذهب الطبيعي يتضمن أيضًا أن الموت يمثل النهاية الدائمة للخبرة الإدراكية للذي مات: ليس هناك حياة أخرى بعد الموت أو تناسخ أو بعث في كون من وجهة نظر طبيعية.

رغم ذلك، فإن المذهب الطبيعي في مفهومي لا يتضمن فرضيات أصعب ترفق أحيانًا مع المصطلح. فكمثال هو لا يتضمن الادعاء أن كل الحقائق هي حقائق علمية، أو أن كل الحقائق يمكن صياغتها بلغة العلم. على وجه التخصيص، يترك المذهب الطبيعي مجال الاحتمال مفتوحًا بأن الحقائق الأخلاقية غير قابلة للاختزال في حقائق فيزيائية أو علمية. بعض نسخ المذهب المادي تستلزم أن الحقائق الأخلاقية_لو كان هناك أي منها_قابلة للاختزال بهذه الطريقة. رغم أن مثل هذه النسخ من المادية لن تكون متعارضة مع المذهب الطبيعي، ففي رأيي أنها باطلة. إن نسختي من المذهب الطبيعي لا تتضمن كذلك أن ليس هناك معرفة حدسية. إن السمة الأساسية للمذهب الطبيعي الذي أعتقد به هي أنها فرضية وجودية في المقام الأول. في كون من وجهة نظر طبيعية ليس هناك إله ولا حياة بعد الموت ولا ورح خالدة.

على الجانب الإيجابي يتضمن المذهب الطبيعي [معتمدًا على العلوم البيولوجية_م] قصة عن كيفية مجيء البشر إلى الوجود. العناصر الأساسية للقصة وصفها Alvin Plantinga الفيلسوف المسيحي المعاصر في كتاب له عام 2000 كالتالي:

"نحن البشر وصلنا إلى المشهد بعد....مليارات من السنوات من التطور الحيوي العضوي. في البدء، كان هناك فقط مادة غير عضوية، وبشكل ما، وعن طريق عمليات لا نفهمها حاليًّا، نشأت الحياة_رغم تعقيدها الهائل والمرهب حتى على أبسط مستوى_من المادة غير الحية، ونشأت عن طريق العمليات الاعتيادية المدروسة في الفيزياء والكيمياء فقط. وحينما نشأت الحياة، دخل التطفر الجيني والانتخاب الطبيعي_هذان المحركان التوأمان العظيمان للتطور_ في العمل. هذه الطفرات الجينية عشوائية من كل النواحي: فهي لم تقرر من قِبَل أي أحد بالتأكيد، ولكنها كذلك لا تدار بأي نوع من الغائية الطبيعية....أحيانًا ينتج البعض منها أفضلية تطورية، فيسود حاملوها في المجموعات السكانية، ويمررون صفاتهم إلى الأجيال التالية اللاحقة. بهذه الطريقة جاء كل تنوع أشكال الحياة النباتية والحيوانية إلى الوجود، بما في ذلك أنفسنا...
رغم تشكك بلانتتينجا Plantinga بصدد صحة هذه القصة الذي يتبدى في سرده لها، فإن وصفه دقيق. إذن فوفقًا للمذهب الطبيعي جاء البشر إلى الوجود من خلال اتحاد الاحتياجات والفرص. ما هو غائب على نحو ملحوظ في نشأتنا الطبيعية هو عملية تصميم ذكي. وفقًا لنسختي من المذهب الطبيعي لا يلعب التصميم الذكي دورًا في تكوين الكون الطبيعي. لن ألصق أي نظرية كونية معينة بالمذهب الطبيعي. لأجل أغراضنا هنا فإنه يكفي أن نلاحظ أن المذهب الطبيعي ينكر أن الكون أو أي شيء فيه قد خلقه الله أو آلهة أو أي كائن فوق طبيعي آخر.

في هذا الكتاب لن أجادل لصالح حقيقة المذهب الطبيعي. سيكون مشروعي بدلًا من ذلك سيكون افتراضيًّا: فلنفترض أن المذهب الطبيعي صحيح. ما هي المعاني الضمنية الأخلاقية لمثل هذه الوجهة من النظر؟ هل تتضمن_كمثال_أن حياة البشر ليس لها معنى، أو أن ليس هناك صواب وخطأ؟ هل تتضمن أننا ينبغي أن نكون أنانيين تمامًا وأنه غير عقلاني أو بلا مغزى أن نحاول مساعدة رفاقنا البشر؟ هل هناك شيء مثل فضيلة في كون من وجهة نظر طبيعية، ولو كان كذلك فما هي؟ هذه هي نوعية الأسئلة التي سأناقشها، وفي سياق ذلك سأناقش جدالات ووجهات نظر كتاب مسيحيين معينين. سألفت الانتباه أحيانًا إلى التضارب أو التشابه بين وجهتي النظر الطبيعية والمسيحية. سأركز على المسيحية في المقام الأول لأنها المنظور الديني الذي آلفه أكثر. هذا الكتاب_جزئيًّا_هو رد على الجدالات التي قام بها فلاسفة مسيحيون معينون قصدوا إلى تفنيد المذهب الطبيعي بالادعاء أن بها كل أنواع المعاني الضمنية الأخلاقية البغيضة. لقد اتُهِمَ المذهب الطبيعي على نحو متعدد بتضمنه العدمية أوالنسبية أومذهب اللذة أو الأنانية. سأدحض هذه الجدالات.

قبل الالتفات إلى الغرض الأساسي للكتاب_رغم ذلك_أود أن أقدم رواية مختصرة من جانبين عن سبب كوني غير مسيحي. الجانب الأول هو تفسير نفسيّ مختصر جدًّا عن سبب قبولي الحقيقة كما هي من وجهة نظر المسيحية، والجانب الثاني هو دفاع مختصر عن ادعائي أنه عقلاني بالنسبة لي الاستمرار في عدم قبولي لها.

رغم أني نشأت في تقليد لوثريّ ورُسِّمْتُ في الكنيسة اللوثرية، فإني لم أتخذ المعتقدات والتعاليم بجدية حقًّا. لقد كنت دومًا متشككًا قليلًا على الأقل في النسخة المسيحية لنشأة الكون والبشر، وفي ادعاآتها الفوق طبيعية بصدد يسوع. بدت لي أجزاء كبيرة من القصة ملفقة فقط. حينما صرت أكبر قليلًا درست أساطير ثقافات عديدة في المدرسة، وبدا واضحًا لي بتزايد أن المسيحية هي ببساطة أسطورة مقبولة على نحو واسع في ثقافة مجتمعي. إن الاعتقاد بأنها صحيحة حقًّا لم يبدُ لي معقولًا.

أحتاج أيضًا إلى الدفاع عن الادعاء أنه عقلاني بالنسبة لي أن أستمر في الامتناع عن الاعتقاد بصحة المسيحية. إن تحدثت على نحو مجمَل فهناك نوعان من البراهين ذوا العلاقة التي قد تجعل غير عقلاني لي الاستمرار في رفضي للمسيحية. الأول: هناك محاولات فلسفية عديدة لإثبات وجود الله. إن نقاشًا ملائمًا لهذه الجدالات هو مهمة ضخمة وخارج هدف الحالي تمامًا. كل ما يمكنني فعله هنا هو تسجيل اقتناعي أن مثل هذه الجدالات كلها مخفقة. لا واحد منها يصنع حجة مقنعة على وجود خالق كلي القدرة والمعرفة كامل أخلاقيًّا. في الحقيقة فإن الكثير من هذه الجدالات حتى لو اعتبرت ناجحة تمامًا فإنها ستظل تخفق في إثبات وجود كائن كهذا. هذا لأن الكثير من هذه الجدالات الفلسفية تفشل في تقديم أي سبب على الإطلاق للاعتقاد بأن خالقّا كلي القدرة والمعرفة للكون سيكون كذلك كاملًا أخلاقيًّا. الاستثناآن الوحيدان اللذان أنا واعٍ لهما هما الجدال الوجودي وبعض أنماط الجدال الأخلاقي، إلا أن الاستثناآت أنا أعتقد أنها ناقصة معيبة لأسباب أخرى.

أحد أنواع الجدالات الفلسفية المحترمة هي ما يسمى بجدلية التصميم. تبدأ الجدليات من التصميم عمومًا بملاحظة قائمة على التجربة [إمبريقية] تتضمن زعمًا عملية تصميم ذكي عاملًا في الكون. رغم أن بعض نسخ جدلية التصميم قد قُوِّضَت بنظرية التطور_وليس كلها_فإن هذا النوع من الجدليات يبقى برأيي أكثر الجدليات الإيمانية إثارة للاهتمام على وجود الله. على سبيل المثال فإن جدلية "التوليف الدقيق" تستحق انتباهًا جديًّا. لكن جدليات التصميم_كالأخرى الكثيرة للغاية_لا تعطينا سببًا على الإطلاق للاعتقاد بأن المصمم الذكيَ سيكون كاملًا أخلاقيًّا. في الحقيقة فإن الجدليات لا تخبرنا بأي شيء على الإطلاق عن السمات الأخلاقية للمصمم. فيما يتعلق بهذه النقطة ينبغي أن نلاحظ الفروق بين الافتراضات الثلاثة التالية:

1- التصميم الذكي [أو الواعي_م] لعب بعض الدور في تكوين الكون الطبيعي.
2_خُلِق الكون من قِبَل كائن كلي القدرة والعلم كامل أخلاقيًّا.
3-الإله المسيحي يوجد، والادعاآت المسيحية العديدة بصدد التاريخ وبصدد يسوع صحيحة.

إن الهوة بين الافتراضين 1 و2، وبين 2 و3 كبيرة. يمكن لأحدٍ بالتأكيد أن يقبل الفرضية 1 دون قبول الفرضية2. في عمله الكلاسيكي ( حوارات بصدد الدين الطبيعيّ) يجعل الفيلسوفُ الإسكتلنديُّ الإلحادي العظيم في القرن الثامن عشر شخصيةَ فيلو[ن] تصل إلى الاستنتاج التالي على أساس ملاحظته على امتزاج الخير والشر في الكون:

"قد تكون هناك أربع فرضيات تُستنبَط بخصوص العلل الأولى للكون: أنها متكرسة للصلاح الكامل، أو أنها خبيثة على نحو كامل، أو أنها متعارضة وليدها الصلاح والخبث كلاهما، أو أنها ليست لديها صلاح ولا خبث على السواء. الظواهر الممتزجة لا يمكنها أبدًا إثبات المبدأين غير المختلطين الأولين، والانتظام والثبات للقوانين العامة [للكون] يبدو معارضًا للثالث. لذا فإن الرابع يبدو الأرجح إلى حد كبير.

هيوم أصاب الهدف تمامًا هاهنا. إنه صعب فهم كيف يمكن أن توحي ملاحظة توزع الخير والشر في الكون بحضور خالق كامل أخلاقيًّا. إن خالقًا أو سببًا محايدًا أخلاقيًّا يبدو الفرضية الأرجح بناءً على الدليل الإمبريقي المتاح بصدد كيفية توزع الخير والشر. ربما قد يَرجُح هذا الدليلَ أسبابٌ مفحمة للاعتقاد بخالق كامل أخلاقيًّا، لكني لا أعرف مثل هذه الأسباب. يمكن للمرء أيضًا أن يقبل الافتراض 2 دون قبول 3. في الحقيقة فإن الافتراض 2 مشترك بين اليهودية والمسيحية والإسلام. وبعد، فالجدليات الفلسفية التي قد ألمحت إليها_حتى لو افترضنا نجاحها_ ستبرهن على أبعد تقدير على الافتراض2، ولا يزال الطريق بعيدًا منه إلى الافتراض3. فحتى لو أمكن للفلسفة إثبات الافتراض2 فسيستلزم الأمر شيئًا أكثر ليوصلنا إلى المسيحية. هنا يدخل النوع الثاني من الجدليات [الإيمانية] في المشهد.

إن النوع الثاني من الجدليات هو جدلية تاريخية لإثبات صحة الادعاآت المسيحية بخصوص يسوع. هذا النوع من الجدليات قائم على أجزاء كثيرة من أدلة الملاحظات [الشهادات المزعومة_م] بما في ذلك_مثلًا_شهادة كتبة الأناجيل وآخرين، وكذلك الأدلة الأثريّة. تتضمن هذه الجدلية استنتاج أفضل تفسير. واقتراح أن أفضل تفسير للأجزاء العديدة من الأدلة ذوات الصلة هو أن يسوع قد قام حقًّا بالعديد من المعجزات، وأنه حقًا قد قام من بين الأموات، والأكثر أهمية أنه حقًّا ابن الله. هذا النوع من الجدليات قد دافع عنه حاليًّا Lee Strobel في كتابه ذي الشعبية (الحجة لأجل المسيح) 1998.

ناقش هيوم هذا النوع من الجدليات في مقاله (عن المعجزات). لقد صاغ الحكمة القائلة: "لا شهادة كافية لإثبات معجزة ما لم تكن الشهادة من نوع يكون زيفها أكثر معجزية من الحقيقة التي تسعى لإثباتها. قاعدة هيوم تتعلق حصريًّا بالشهادات، لكن نقطته الأساسية يمكن مدها إلى كل أنواع الأدلة التاريخية. أعتقد أن هيوم يرشدنا إلى الأخذ في الاعتبار الاحتمالات النسبية لسيناريوهين. إنه يقترح أننا ينبغي أن نسأل أنفسنا_في حالة أي معجزة مزعومة_ما إذا كان مرجحًا أن معجزة حدثت حقًّا أم أن الأدلة على المعجزة لها تفسير طبيعي على نحو صرف. إن اقتراح هيوم هو أن_على الأقل عندما يتألف الدليل المناقش من شهادة من نوع ما_فإن الاحتمالية الثانية الأخيرة هي دائمًا الأرجح أكثر من الأولى. إنه يختتم بأن "لا شهادة بشرية يمكن أن يكون لها قوى كهذه لإثبات معجزة، وجعلها أساسًا سليمًا لأي....منظومة دين.

ملاحظات هيوم تقترح الموقف التالي: لتقييم كفاية الجدليات التاريخية على صحة الادعاآت المسيحية العديدة بخصوص يسوع، فيجب أن نقارن احتمالات سيناريوهين. الأول هو أن الادعاآت المسيحية صحيحة. والثاني هو أن هناك تفسيرًا طبيعية صرف ما لقطع الأدلة التاريخية العديدة ذوات العلاقة. ما سأسميه "الموقف الهيوميّ" هو أنه في كل حالة فإن السيناريو الثاني هو الأرجح، ومن ثم لا جدلية تاريخية على صحة المسيحية يمكن أن تنجح.

إن كتاب متخصص الدفاع المسيحي من القرن العشرين C. S. Lewis المعنون بـ(المعجزات) 2001 هو رد على مقال هيوم. إن الفصل الافتتاحي لذلك الكتاب يحتوي على الفقرة التالية:

"يعتقد الكثير من الناس أن المرء يمكنه تقرير ما إذا كانت معجزة حدثت في الماضي بفحص الأدلة ‘وفقًا للقواعد المعتادة للبحث التاريخي‘. لكن القواعد المعتادة لا يمكنها العمل حتى نقرر ما إذا تكون المعجزات محتملة، ولو تكون كذلك، ومدى احتماليتها. لأنها لو تكون مستحيلة فلن تقنعنا بها أي كمية من الأدلة التاريخية. لو أنها محتملة لكنها غير محتملة على نحو هائل، فمن ثم فإن دليلًا مبرهنًا حسابيًّا فقط سيقنعنا، وحيث أن التاريخ [وعلم الآثار] لا يقدم أبدًا هذا المستوى من الأدلة لأي حدث، فإن التاريخ لا يمكن أبدًا أن يقنعنا أن معجزة حدثت. من ناحية أخرى، لو أن المعجزات ليست غير محتملة جوهريًّا فمن ثم فإن الدليل الموجود سيكون كافيًا لإقناعنا أن عددًا من المعجزات قد حدث حقًّا. هكذا فإن نتيجة تحرياتنا التاريخية تعتمد على آرائنا الفلسفية التي نعتقد قبل أن نبدأ حتى في النظر إلى الأدلة. لذا يجب أن يأتي هذا السؤال الفلسفي أولًا."

يدوِّن Lewis أن الجدلية التاريخية تعتمد على "سؤال فلسفي"، والذي هو مدى مرجوحية أن المعجزات تحدث في كوننا؟ إذن فإن هيوم و Lewisيتفقان ما إذا كان يمكن للجدلية التاريخية أن تنجح يعتمد على مدى مرجوحية أن المعجزات تحدث في كوننا. الموقف الهيوميّ هو أن المعجزات غير مرجحة إلى أقصى حد، للغاية في الواقع، بحيث أن بالنسبة لأي معجزة تاريخية مزعومة فإن الأرجح أن الأدلة ذوات الصلة لها تفسير طبيعي صرف أكثر من أن المعجزة حدثت حقًّا. وأعتقد أن هذا الموقف [النظرية] صحيح. من المهم ملاحظة أني لا أجادل بأن المعجزات لم تحدث قط، بالأحرى فإني أجادل بأنه حتى لو حدثت مثل تلك المعجزات، فإنه ليس عقلانيًّا لنا أن نستدل على أنها قد حدثت على أساس الأدلة التاريخية. لا يمكن للأدلة التاريخية أن كون قوية على نحو كافٍ لتوازن عدم الاحتمالية الشديدة لمثل تلك الأحداث. علاوة على ذلك، في الحالة الخاصة بالمسيحية فإن كلًّا من كمية وجودة الأدلة التاريخية المتاحة هي مسألة خلافية. كمثال، ففي كتابها (تاريخ الله) 1993 كتبت كارِن أرمسترُنج Karen Armstrong:

"نعلم القليل جدًّا عن يسوع. إن أول رواية كاملة عن حياته هي إنجيل القديس مرقس، والذي لم يُكتَب حتى حوالي العام 70م، بعد حوالي أربعين سنة من موته. بحلول ذلك الزمن، كانت الحقائق التاريخية قد غُطِيَت بعناصر أسطورية عبرت عن المعنى الذي اكتسبه يسوع لأتباعه. إنه هذا المعنى هو ما أوصله القديس مرقس عوضًا عن تصوير موثوق دقيق."

ومع كون المشكلة الأساسية مع الجدلية التاريخية فلسفية، فإن مسألة جودة الأدلة التاريخية على صحة المسيحية عامل إلهاء [قضية أخرى]. فلا دليل من هذا النوع يمكنه جعل الاستدلال على أن المعجزات المزعومة قد حدثت حقًّا عقلانيًّا.

إن موضع الاعتماد الذي يشير إليه كل من هيوم و Lewis تحديدًا يعترف به الفيلسوف المسيحي المعاصر William Lane Craig في مقابلته مع Lee Strobel كما تظهر في كتابه (الحجة لأجل المسيح). يناقش سترَبِل وكريج مسألة ما إذا كان يسوع قد انبعث حقًّا من بين الأموات، وعندما سأل سترَبل كريج عن النظريات البديلة العديدة التي قد اقتُرِحَت فإن هذا يثير الحوار الحاسم التالي الذي تحدث فيه كريج أولًا:

"‘أعتقد أن هذه هي المسألة.’ قال ذلك وهو يميل إلى الأمام. ‘أعتقد أن الناس الذي يدفعون بهذه النظريات البديلة سيعترفون قائلين: نعم، نظرياتنا غير قابلة للتصديق، لكنها ليست بنفس درجة عدم قابلية تصديق فكرة أن هذه المعجزة المذهلة حدثت. رغم ذلك، عند هذه النقطة فإن المسألة لا تعود شأنًا تاريخيًّا، بدلًا من ذلك فإنها سؤال فلسفي عما إذا تكون المعجزات ممكنة’."

"سألته: وماذا ستقول في ذلك."
"سأجادل بأن فرضية أن الله أقام يسوع من بين الأموات ليست غير محتملة على الإطلاق. في الحقيقة، بناءً على الأدلة، فإنها أفضل تفسير لما حدث....إن فرضية أن الله أقام يسوعَ من بين الأموات لا تناقض العلم أو حقائق معروفة بالخبرة. كل ما تتطلبه هو افتراض أن الله يوجد، وأعتقد أن هناك أسبابًا مستقلة جيدة للاعتقاد بأنه يوجد.

على الجانب الآخر، فأنا لا أعتقد أن هناك أسبابًا مستقلة جيدة للاعتقاد بأن الله (مفهومًا وفقًا للافتراض2) يوجد. إن هيوم وLewis لِوِس وCraig كريج كلهم يتفقون على أن الجدلية التاريخية تعتمد على الجدليات الفلسفية، إن ما يختلفون عليه هو موقف الجدليات الفلسفية. كالكثير جدًّا من النقاشات ينتقل هذا النقاش إلى حقل الفلسفة. ولأني لا أجد الجدليات الفلسفية مقنعة، فإني أضع احتمالية منخفضة جدًّا لحدوث المعجزات المزعومة وبالتالي أجد أن الأدلة التاريخية غير مقنعة. لو كان هناك جدلية مقنعة للافتراض2، فلربما إذن أمكن لأدلة تاريخية قوية على نحوٍ كافٍ أن تنقلنا من الافتراض 2 إلى 3. لكن بدون سبب قويّ لقبول الافتراض2 فلا يوجد كم من الأدلة التاريخية يمكنه نقلنا إلى الافتراض3.

ربما يُطرَح سؤال: ما هو تفسيري الطبيعيّ للقطع العديدة من الأدلة التاريخية على الادعاآت المسيحية عن يسوع؟ كمثال، لو لم يكن يسوع قد قام حقًّا من بين الموتى، فماذا قد حدث؟ إجابتي هي أني لا أعلم، على الأقل ليس على أي نحو دقيق. إن الأحداث موضع النقاش حدثت منذ ألفي عام تقريبًا وربما تكون الحالة أنه مستحيل أن نكون متأكدين بالضبط بشأن ما حدث بناءً على الأدلة المتاحة لنا حاليًّا. كتب هيوم أن "خداع وحماقة البشر ظاهرتان شائعتان للغاية، لدرجة أني ينبغي أن أعتقد بالأحرى أن معظم الأحداث غير العادية نشأت من تزامنهما، بعدئذٍ...أعترف بانتهاك لقوانين الطبيعة." عندما نضيف إلى هذه المعادلة نزوع البشر إلى نشر الإشاعات المفعمة بالحيوية، والوضع السياسي والاجتماعي في الزمن الذي عاش به يسوع، ورسالة الأمل التي قدمها، يمكننا أن نبدأ في رؤية كيف أصبحت النسخة المسيحية من حياة يسوع معتقدًا بها على نحو واسع. لكن أخشى أنه لا يمكنني أن أصبح أكثر دقة من هذا.

ربما قد يُعترَض بأني ما لم أقدم تفسيرًا بديلًا دقيقًا على نحو كافٍ فإنه غير عقلانيّ لي أن أرفض التفسير المسيحيّ. لكن المبدأ المتضمن في هذا الاعتراض_القائل بأن تفسيرًا مقدمًا يمكن أن يُرفَض فقط لو يوجد تفسير بديل دقيق على نحو كافٍ متاح_باطل. إن نمط الاستدلال المعروف بـ"الاستدلال بأفضل تفسير" كان سيُصنَّف على نحو أكثر دقة لو سمي: "الاستدلال على التفسير الأفضل والأجود على نحوٍ كافٍ." فبعض التفاسير سيئة للغاية بحيث أنها يجب أن تُرفَض حتى لو لم يكن هناك تفسير تفصيليّ بديل متاح. وإحدى كيفيات أن يكون تفسيرٌ سيئًا هي بكونه غير محتمل بشدة. التفكير بصدد بعض الحالات سيُظهِر أن الأمر كذلك.

تمتلئ الصحف الصغيرة الصفراء بروايات عن أحداث لا تصدق. لفترة كثرت التقارير عن مشاهدات لألـﭬـِس بريسلي [مغنٍ متوفٍ]. فهل يجب أن نفحص كل الأدلة المتاحة لمثل هذه الأحداث وننشئ تفسيرات تفصيلية بديلة قبل أن يكون عقلانيًّا لنا أن نرفض الادعاء بأن الحدث الذي لا يصدق محل الكلام حدث حقًّا؟ بالتأكيد لا. لا نحتاج مقابلة الشهود، وفحص الأدلة المادية، وإنشاء سيناريوهات بديلة لنرفض على نحو عقلاني فكرة أن ألـﭬـِس رُئِيَ مؤخرًا عند طاولة قمار بلاك جاك في لاس ﭬـيجاس. على نفس النحو فإني أقدم الجدل التالي خصّيصًا للمسيحيين: إن هناك الكثير من الأديان في العالم بالإضافة إلى المسيحية. الكثير منها يحتوي على نصوصه المقدسة الخاصة به وأنبيائهم المزعومين ومعجزاتهم المزعومة. فهل تفحصتم الأدلة التاريخية لمثل هذه المعجزات وأنشأتم تفسيرات تفصيلية بديلة لها؟ لو لم تفعلوا، فإذن لا يمكنكم باتساق وثبات على المبدأ التأكيد على أن رفضي لقبول الأدلة التاريخية على المسيحية غير عقلاني بينما في نفس الوقت ترفضون الادعاآت المعجزية لهذه الأديان الأخرى. وبتعبير Stephen Roberts:

"عندما تفهم سبب استبعادك لكل الآلهة الأخرى الممكنة فستفهم سبب استبعادي للخاص بك"

علاوة على ذلك، فكتب التاريخ القديمة تحتوي على الكثير من الروايات عن أحداث فائقة للطبيعة. كمثال، فإن رواية بلوتارخ عن حياة ثيمِسْتُكليس تحتوي على الوصف التالي لحدثٍ حدث زعمًا أثناء المعركة البحرية بين اليونانيين [الجريكيين] والفرس:

"عند هذه اللحظة في المعركة يقال أن ضوءًا عظيمًا سطع فجأةً من الإلوسيُس [السماء] وبدا أن صراخًا عاليًا ملأ سعة السهل الثرياسي نزولًا إلى البحر، كما لو كان حشدًا هائلًا كان يواكب Iacchus الفائق للفهم في تقدمه. ثم من المكان الذي سُمِعَ الصياح منه بدا أن سحابة ارتفعت ببطء من الأرض وتحركت إلى البحر، ونزلت على السفن ذات الستة مجاديف [سفن اليونان_م]. اعتقد آخرون أنهم رأوا أشباحًا وأشكال رجال مسلحين جائين Aegina من من وأياديهم ممدودة لحماية السفن اليونانية. يعتقدون أن هؤلاء كانوا أبناء Aecus، الذي كانوا قد قدموا له الصلوات لطلب المساعدة قبل المعركة."

الآن، أنا ليس لدي أدنى فكرة عما حدث حقًّا هنا، وأظن أنك ليس لديك كذلك. ومع ذلك من الصعب أن ينتج عن ذلك أنه غير عقلانيّ لنا أن نرفض فرضية أن الأبناء الشبحيين لـ Aecus أجابوا الصلوات طلبًا للمساعدة. على نحو مماثل، فإنه عقلانيّ تمامًا لي أن أرفض الادعاآت المسيحية الفائقة للطبيعة بصدد يسوع دون امتلاك تفسير تفصيلي بديل. تعتمد الجدليات التاريخية لأجل المسيحية على الجدليات الفلسفية على وجود الله. ولأني لا أجد الأخيرة مقنعة فإني أرفض الأسبق منهما. هذا_باختصار_سبب كوني لا أزال أكون غير مسيحي.

إن تنظيم باقي الكتاب كالتالي: في الفصل الأول أفحص على نحو انتقاديّ ثلاث جدليات على ادعاء أن لو لا يوجد الله فمن ثم فإن كل حيوات البشر بلا معنى. وأقترح أن الثلاث جدليات كلها تخفق وأن بعض حيوات البشر على الأقل يمكن أن يكون لها معنى حتى لو لا يوجد الله. الفصل الثاني يتضمّن فحصًا نقديًّا لجدلية رابعة على ادعاء أن بدون الله فكل حيوات البشر بلا معنى، فهذه الجدلية لو تنجح ستبرهن على أن لو لا يوجد الله فليس هناك حقائق أخلاقية على الإطلاق. بعد دحض هذه الجدلية أناقش اقتراحًا أكثر تواضعًا والذي يسمّى أحيانًا "فرضية كارامزوﭪ" على أساس تعليقات شخصية أليوشع كارمازوف في رواية دوستوﭬسكي (الأخوان كارامزوﭪ). وهو الادعاء بأن لو لا يوجد الله فإن كل الأفعال مسموح بها أخلاقيًّا. أجادل مبرهنًا على أن هذا الاقتراح الأكثر تواضعًا باطل كذلك، وأوجز ما أعتبره كحقيقة العلاقة بين الله (لو يوجد) والحقيقة الأخلاقية. هذا التعليل يتضمن أن هناك حقائق أخلاقية حتى لو_كما أعتقد_لا يوجد الله.

في الفصل الثالث أناقش الموقف القائل بأن بدون الله، بينما قد يكون علينا التزامات أخلاقية معينة، فليس لدينا سبب معين للاهتمام بما تكونه التزاماتنا. هذا الموقف [الاقتراح] يتعلق بالسؤال القديم لماذا ينبغي أن نكون أخلاقيين. لقد أوجزت إحدى الإجابات الإيمانية على هذا السؤال على أساس الاعتقاد الديني بأن هناك ضمانة إلهية بالعدالة الكاملة. أناقش كذلك إجابات محتملة قليلة أخرى على السؤال والتي تتسق مع المذهب الطبيعي. وأصادق على واحدة منها: الإجابة الكانطية، وأجادل بأن سؤال لماذا ينبغي أن نكون أخلاقيين يمكن أن يُجاب عنه حتى في كون من وجهة نظر المذهب الطبيعي. يختتم الفصل بحص نقدي لجدليات أخلاقية قليلة أخرى على وجود الله، بما في ذلك جدلية كانط الأخلاقية من كتابه (نقد العقل العمليّ).

يركز الفصل الرابع على سمة الفضيلة في كون من المنظور الطبيعي. وعلى نحو خاص أناقش ما إذا كان هناك مجال للتواضع والإحسان والأمل في مثل هذا الكون. أجاد بأنه يوجد، وأتحدث قليلًا عن الأشكال التي قد تتخذها تلك الفضائل بدون إله في الصورة. إن النسخ الطبيعية من هذه الفضائل الثلاث تختلف بالتأكيد عن النسخ المسيحية، وأفحص بعض نواحي التعارض بين التواضع والإحسان والأمل الطبيعيّ ونظائرها المسيحية. في الأجزاء الأخيرة من هذا الفصل أفحص وضعنا في الكون لو أن المذهب الطبيعي صحيح، وأناقش ما ينبغي أن يكون عليه موقفنا اتجاه هذا الوضع. يختتم هذا الفصل بنقاش حول أهمية المسعى الأفلاطوني العتيق إلى طريقة يعتمد عليها لجعل البشر فاضلين، وأقترح سبيلًا قد يمكن السعي لهذا المسعى من خلاله في كون من منظور طبيعي.

في الفصل الخامس والأخير أناقش الاقتراح (والذي يعود إلى زمن بعيد حتى زمن أفلاطون على الأقل) بأننا ينبغي أن نحاول أن نرسخ في أذهاننا قبول ادعاآت فائقة للطبيعة معينة ليس لأنها صحيحة لكن لأن القبول المنتشر لمثل هذه الادعاآت سيكون له نتائج جيدة. أجادل بأن كتاب العهد القديم اليهودي [التاناخ] يحتوي على عناصر معينة تجعل أي نظام اعتقادي يتضمنها [كالمسيحية والإسلام] مرشحًا رديئًا للإعلان عنه بناء على مثل هذه الأسباب. ينتهي الفصل والكتاب بنقاش عن سؤال ما إذا يكون المذهب الطبيعي عقيدة يمكننا العيش بها. إن إجابتي_ باختصار_هي أن المذهب الطبيعي هو عقيدة يستطيع البعض العيش بها والبعض لا يستطيع. رغم ذلك فإن السؤال عما إذا يكون عقيدة يمكننا العيش بها والسؤال عما إذا يكون صحيحًا هما مسألتان مختلفتان. ربما يكون المذهب الطبيعي حقيقة لا يستطيع كثير من الناس قبولها.

إن الهدف الأسمى للكتاب هو قول شيء مثير للاهتمام بصدد ما قد تكون عليه الأخلاق بدون إله. في الفصول الأولى أهتم في المقام الأول بالبرهنة على وجود حقائق أخلاقية من أنواع عديدة حتى لو يكن الله يوجد. في الفصول اللاحقة أهتم في المقام الأول باستكشاف ما قد تكونه بعض هذه الحقائق الأخلاقية. بأسلوب آخر للتعبير عن ذلك فإن الفصول الأولى تتعلق بوجود الأخلاق بدون الله، بينما اللاحقة تتعلق بطبيعة الأخلاق بدون الله.



الله ومعنى الحياة

معنى الحياة

كثيرًا ما يؤكَّد أنه لو لا يوجد الله فإن الحياة البشرية من ثم بلا معنى. هناك عدة طرق قد يفسر بها أحدهم هذا الادعاء، اعتمادًا على فهم الواحد منهم ما هو بالنسبة لحياة البشر الذي له معنى. وفقًا لأحد التفسيرات فإن حياة البشر لها معنى لأن لها غرضًا حدّده كائن فائق للطبيعة. عندما يكون لحياة مغزى بهذا المعنى [أو المنطق] فيمكننا القول أن لها مغزى فوق طبيعي. اعتقد سقراط[س] بجلاء أن حياته لها معنى فوق طبيعي، وقد تفكّر بشأن ما قد يكونه الغرض من حياته أثناء محاكمته الشهيرة:

"لو قدتموني إلى الإعدام، فلن تجدوا بسهولة واحدًا آخر...يتشبث بالدولة على غرار ذبابة الماشية بالنسبة إلى حصان مرعيّ جيدًا وبليد بسبب ثقل حجمه، بحيث يحتاج إلى أن ينشّط. يبدو لي أن الإله قد أصقني بالدولة على غرار ذلك، لأني أهبط عليكم عند كل مسألة لأوقظ وأحث وأوبّخ كل واحد منكم طوال اليوم."

وفقًا للتقليد المسيحي كان لحياة يسوع معنى فوق طبيعي: كان من ضمن أغراضها التكفير عن آثام البشرية. في الحقيقة وفقًا لبعض نسخ [آراء] المسيحية فإن كل حياة بشرية تتشارك غرضًا مشتركًا: تمجيد الله والتنعم به إلى الأبد. ووفقًا لتفسير آخر فأن يكون لحياة بشر معنى هو بالتسبب بالخير للكون. عندما يكون لحياة معنى بهذا المنطق فإن الكون يكون أفضل حالًا مما لو لم تكن قد عيشت هذه الحياة. يمكننا القول أن حياة من هذا النوع لها معنى خارجي.

مجددًا وفقًا لتقليد مسيحي فإن حياة يسوع_بالإضافة إلى امتلاكها معنى فوق طبيعي_فإن لها معنى خارجي. وفقًا لذلك التقليد فإن كونًا عاش به يسوع الحياة التي قد مارسها أفضل بكثير من كون لم تُعَش فيه مثل تلك الحياة قطّ.

وفقًا لتفسير ثالث، فأن يكون لحياة بشرية معنى هو بأن يكون الشخص الذي يحياها صالحًا ولديه حياة تتضمن نشاطًا ذا شأن. وفقًا لهذا المنطق فعندما يكون لحياة معنى فإن الفرد يكون أفضل حالًا لأنه قد عاشها مما لو كان لم يحيا ولم يوجد على الإطلاق. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحياة التي يُحقَّق فيها شيء ذو شأن هي حياة لها هدف. إن الدافع للحياة حياةً كهذه ما يكشف عنه التعبير "أريد فعل شيء مع حياتي". يمكننا القول أن حياة من هذا النوع لها معنى داخلي. قد يبدو هذا المفهوم مشابهًا للمعنى الخارجي، لكن كليهما متمايزان. من الممكن أن يكون لحياة معنى داخلي لكنها تفتقد المعنى الخارجي. هب أن شخصًا ينخرط في نشاط ذي شأن يسبب له السعادة ويعطي لحياته معنى داخليًّا. هب أيضًا أن ما يعطي لنشاطه الأهمية هو أنه من خلاله يحقِّق هدفًا ما ذا معنى. لكن هب أنه لو يعش قط فإن نفس الهدف كان سيُحَقَّق من قِبَل شخص آخر كان سيستمتع بتحقيقه بنفس قدر ما استمتع هو. في هذه الحالة فإن حياته ستفتقد المعنى الخارجي لأن الكون كان سيكون بنفس مقدار جودته لو كان لم يحيا قط. إلا أن حياته لها معنى داخلي. يبدو على الأقل مبدئيًّا أنه يمكن كذلك لحياة أن يكون لها معنى خارجي لكنها تفتقد المعنى الداخلي. حياة كهذه قد يعيشها شخص يضحّي بسعادته الشخصية لأجل الآخرين.

إذن، فهذه ثلاثة من أكثر توجهات الفهم طبيعية لما يكونه معنى البشر. مع تحديدنا لهذه، نكون مستعدين لنقاش الادعاء الذي كثيرًا ما يدّعى بأن بدون الله فإن حياة البشر بلا معنى.

أربع جدليات على أن الحياة تفتقد المعنى الداخلي بدون الله

أحد أساليب فهم ادعاء أن عدم وجود الله يجعل حياة البشر بلا معنى هو فرضية أن الله لو لا يوجد فإن حياة البشر من ثم ليس لها معنى داخليّ. تنوع واسع من هذه الجدليات قد يُقدَّم لدعم هذه الفرضية. أولها هو جدلية النتيجة النهائية. لفهم سمة ونكهة هذه الجدلية تأمّلْ التعليقات التالية لـ William Lane Craigفي حوار بعنوان (سخافة الحياة بدون الله) ألقاه في أكاديمية علماء الدفاع المسيحيّ عام 2004:

"يخبرنا العلماء أن كل شيء في الكون يتباعد أكثر وأكثر عن الآخر. وإنه ليفعل كذلك، الكون يصير أبرد وأبرد، وطاقته تستنفد. في آخر الأمر ستحترق كل النجوم عن آخرها، وكل المادة ستنهار إلى نجوم ميتة وثقوب سوداء. لن يكون هناك ضوء على الإطلاق. لن يكون هناك حرارة. لن يكون هناك حياة، بل فقط جثامين النجوم والمجرات الميتة، متوسعًا إلى الأبد إلى الظلام اللانهائي والأعماق الباردة للفضاء، كون مهدَّم. يسير الكون كله على نحو غير قابل للعكس إلى قبره. لذا فليس كل شخص فرد فقط هالك، بل كل الجنس البشري هالك. يندفع الكون إلى انطفاء حتمي. الموت مكتوب ضمن بنيته. ليس هناك مهرب. ليس هناك أمل. لو ليس هناك إله، فمن ثم فإن البشر والكون هالكون. كالمساجين المحكوم عليهم بيناصيب الموت نقف وننتظر ببساطة إعدامنا الغير ممكن تجنبه. لو لم يكن هناك إله، وليس هناك خلود فما نتيجة هذا إذن؟ إنه يعني أن الحياة التي لدينا سخيفة على نحو نهائي. إنه يعني أن الحياة التي نعيشها هي بدون مغزى نهائي، قيمة نهائية، غرض نهائيّ."

هب أننا فكرنا في حياة الشخص كسلسلة من الأحداث. بعض هذه الأحداث يسببها الفرد، بينما أُخَر تسببها قوى خارجية. يمكن أن توصف الحياة تقريبًا على أنها المجموع الكلي لكل الأشياء التي تحدث لفرد بينما هو حي. لكن_تمضي الجدلية_قيمة سلسلة أحداثٍ تعتمد كليًّا على قيمة الحالة الأخيرة التي تساهم فيها تلك السلسلة سببيًّا. إن كانت النتيجة النهائية ذات قيمة فمن ثمَّ يمكن للأحداث التي أدت إليها وساهمت فيها أن يكون لها قيمة. أما إن كانت الحالة النهائية خلو من القيمة فمن ثم على نحو مماثل تكون كل الأحداث التي أدت إليها بلا قيمة.

بدون الله ليس هناك حياة بعد الموت من أي نوع. بالتالي، تنتهي كل حياة بشرية بتوقف دائم للخبرة الواعية والنشاط العقليّ للفرد (على الأقل من أي نوع مثير للاهتمام) [لعله يقصد حالات الغيبوبة والموت الإكلينيكيّ؟!_م]. بدون الله، تنتهي كل حياة بشرٍ بالقبر وفناء الذات الواعية. النتيجة النهائية التي تساهم فيها أي حياة بشرية هي كون ثابت بلا حياة بلا أبعاد متجمد حرفيًّا. وحيث أن مثل هذه النتيجة خالية من القيمة تمامًا فينتج عن هذا (وفقًا لهذه الجدلية) أن كل حيوات البشر خالية من القيمة وبالتالي تفتقد المعنى الداخليّ. في كون بلا إله فذلك ينتهي بنشيجٍ : لا حياة بشرية تستحق أن تُعاش.

مسلكٌ ثانٍ للتفكير يقوم على فكرة أن الحياة لها معنى داخليّ فقط لو أن لها معنى فوق طبيعيّ. افترِضْ أن حياتك تفتقد المعنى الفوق طبيعيّ، هذا يجعلك رجلًا (أو امرأة) بلا مهمة. ليس هناك شيء يُفترَض أن تفعله في حياتك، لا علة عليا كُلِّفْتَ بعبادتها، لا مطلب إلهيّ قد أنيط بك. هذا يعني أن لا معايير لتقييم حياتك ما إذا تكن ناجحة أو فاشلة، ما يتضمن بدوره أن لا ظروف ستكون حياتك فيها ناجحة. دون هدف محدد ما فلا يهم كثيرًا ما تفعله، فحياتك هي وجود بلا هدف. حياة بدون سبب معيَّن خارجيًّا لا يمكن أن يكون لها معنى داخليّ. في كون بدون الله، بدون أي كائنات فوق طبيعية من أي نوع، ليس هناك أحد كفؤ على نحو ملائم لتحديد أغراض للحيوات البشرية. بالتالي ففي كون كهذا لا يمكن لحياة بشرية أن يكون لها معنى داخليّ. يمكننا أن نسمّي هذه بجدلية الوجود بلا هدف.

نوع من ثالث من الجدليات وصفته Susan Wolf (ورفضته على نحو مطلق) في ورقتها البحثية (معنى الحيوات)، كتبت سوزان وولف:

"يمكن لحياة أن تكون ذات معنى فقط لو أمكنها أن تعني شيئًا لأحد، وليس فقط لأحد، بل لأحد غير ذاتك وفي الحقيقة لأحد ذي قيمة أكثر جوهرية أو نهائية من ذاتك...لو ليس هناك إله، فمن ثم فإن حياة البشر، كل حياة بشرية يجب أن تكون بلا معنى موضوعيًّا، لأنه لو ليس هناك إله فليس هناك كائن مناسب يكون لنا معنى له."

المقدمة المنطقية لهذا المجرى من التفكير هو أن الحياة لها معنى داخلي فقط لو أن كائنًا ذا معنى على نحو ملائم يهتم بتلك الحياة أو تثير اهتمامه. على نحو أكثر تحديدًا يكون لحياة معنى داخلي فقط لو أن كائنًا كليّ المقدرة والعلم وكاملًا أخلاقيًّا يهتم بها. لو لا يوجد مثل هذا الكائن فمن ثم على نحو جوهري لا حياة يهتم بها كائنٌ كهذا، وبالتالي لا حياة لها معنى داخلي. يمكننا تسمية هذه بجدلية لا أحد ذا معنى يهتم.

جدلية رابعة وأخيرة_والتي سأسمّيها جدلية الله كمصدر للأخلاق_تقوم على فكرة أن الله يجب أن يكون المصدر المطلق لكل [تقييمات] الخير والشر وكل الصواب والخطأ في الكون. لو أن الله لا يوجد فمن ثم لا شيء يمكن أن يكون خيِّرًا أو شريرًا ولا صوابًا أو خطأ. نقاش هذه الجدلية الرابعة سيؤجَّل إلى الفصل الرابع، أما بقية هذا الفصل التالية فتتناول الثلاث جدليات الأُوَل وتقدم بعض الأفكار التي ستكون مفيدة في الفصل التالي.

حل RICHARD TAYLOR: صنع المعنى الخاص بحياتك

هناك ثلاثة طرق مثيرة للاهتمام على الأقل للرد على الثلاث جدليات السابقة. أحدها اقترحه رِتشارد تايلُر في الفصل الأخير لكتابه (الخير والشر) Good and Evil. ففي ذلك الفصل المعنون بعنوان (معنى الحياة) يناقش تايلُر قصة سيزيفُ[س]، الشخصية التراجيدية الأسطورية التي تستدعى في الذهن عادةً في النقاشات عن معنى الحياة. تقول الخرافة اليونانية أن سيزيفُس خان الآلهة بكشف أسرارها إلى الجنس البشري وحُكِم عليه بأبدية من الإحباط. فُرِض عليه أن يدحرج صخرة ضخمة إلى أعلى تل، وكلما صارت الصخرة على القمة تقريبًا تتدحرج إلى الأسفل، ويكون على سيزيفُس أن يبدأ مجدَّدًا، مرارًا وتكرارًا، صعودًا ونزولًا من التل مضى سيزيفُس غيرَ محقِّق لشيء. هذه القصة يُفتَرَض أن تعطينا مثالًا أخّاذًا على حياة خلوٌّ من المعنى الداخليّ.

اقترح تايْلُر أن حياة سيزيفُس سيكون لها معنى داخلي إن منحه الآلهة [الخرافية الخاصة بالأسطورة] جرعة تملؤه برغبة مهيمنة ولانهائية لدحرجة الصخرة إلى أعلى التلة. فبهذه الطريقة سيكون وجود سيزيفُس مشغولة بنشاط من نوع يرغبه، فإنه سيصير إلى أن يقضي الأبدية فاعلًا ما أراد فعله بالضبط. علاوة على ذلك، فهذا السبيل إلى المعنى الداخلي متاح لأي أحد (مبدئيًّا على الأقل). عن السؤال عن كيفية جعل حياةٍ تستحق العيش يجيب تايلُر: "أن تعيش على النحو الذي تريده على الأغلب تمامًا. ينتهي الفصل الأخير من كتابه بهذه الكلمات الملهِمة:

"ما أن تشهق أول تنفس لك حتى تستجيب للرغبة التي في داخلك للعَيْش. إنك لا تسأل من بعد عما إذا ستكون ذات قيمة، أو ما إذا سينتج عنها أي شيء ذي أهمية أكثر من الديدان والطيور. إن هدف العيش هو ببساطة أن تحيا، بالأسلوب الذي طبيعتك أن تحيا به...إن معنى الحياة من داخلنا، وهو لا يُمنَح من الخارج، وهو يفوق في كلٍّ من جماله واستمراريته أي جنة حلم بها البشر أو تاقوا إليها."

إذن فإن اقتراح تايْلُر هو أن الحياة يمكن أن يكون لها معنى داخلي بمزية التوافق بين رغبات الشخص ونشاط ذلك الشخص. إن القيمة الداخلية لحياة فرد متناسبة مباشرة مع درجة انخراطه في نشاط مرغوب. عن جدلية النتيجة النهائية كان تايلُر سيجيب بأن النظر إلى الوضع النهائي الذي تساهم فيه الحياة سببيًّا ليس الوسيلة الملائمة لتقييم قيمة تلك الحياة بالنسبة لمن عاشها، [وبكلماته]:

"لو أمكن لباني حضارة عظيمة ومزدهرة أن يعودوا بطريقة ما [إلى الحياة] الآن ليروا علماء الآثار يستخرجون البقايا التافهة لما كانوا قد أنجزوه بمثل هذه الجهود، فيرون شظايا القدور والأواني، والقليل من التماثيل المحطّمة، ومثل هذه النماذج على عصر آخر وعظمته، فربما كانوا سيسألون أنفسهم ما كان مغزى كل هذا إذا كان هذا ما آل إليه آخر الأمر. إلا أنه لم يبدُ كذلك لهم حينذاك، لأن البناء كان هو فقط_وليس ما كان يُبنى_ما أعطى لحياتهم معنى."

على جدلية الوجود بلا هدف كان تايلُر سيجيب أننا أنفسنا مؤهّلون لتحديد أغراض حيواتنا. لا نحتاج كائن فوق طبيعي ليقرِّر علينا مثل هذا الغرض. يمكن لحياة أن يكون لها معنى داخلي حتى لو أنها تفتقد معنى فوق طبيعيّ. وبالنسبة لجدلية لا أحد ذا مغزى يهتم كان تايلُر سيجيب بأننا ذوو مغزى [أهمية] على نحو كافٍ لنجعل حيواتنا ذواتِ معنى. ما هو مهم ليس ما إذا كان الله يهتم بشأن حياتك بل ما إذا تهتم أنت بشأنها (على النحو الملائم).

إن رأي تايلُر عما يعطي حياة البشر معنىً داخليًّا به تضمين مثير للاهتمام للفلسفة. على وجه التحديد فإنه يتضمّن أن هناك خطرًا حقيقيًّا يُشتمَل في التفكر في السؤال عما إذا تكون حياة المرء لها أي معنى. هذا الخطر توضِّحه حالة [الأديب الروسيّ] ليو تولستوي. في كتابه (اعترافاتي) يصف تولستوي كيف أنه_عند قمة نجاحه الأدبيّ، وخلال وقت عندما كان "محاطًا من كل جانب بما يُعتبَر سعادة كاملة"_وجد نفسه يُزعَج على نحو متزايد بالأسئلة عما إذا إذا يكون هناك أي هدف لحياته. عندما تفكّر تولستوي أكثر فأكثر في هذه الأسئلة بدأ ينظر لها بجدية متزايدة، [وبكلماته]:

"بدت الأسئلة حمقاء وبسيطة وطفولية للغاية. لكن في اللحظة التي مسستها فيها وحاولت حلها أصبحت مقتنعًا_في المقام الأول_أنها ليست طفولية ولا حمقاء، بل أسئلة هامة وعميقة جدًّا في الحياة، و_في المقام الثاني_أني مهما حاولت فلن أكون قادرًا على الإجابة عنها. قبل أن أهتم بممتلكاتي أو تعليم ابني أو كتابة كتابٍ فإني أحتاج أن أعرف لماذا ينبغي أن أفعل ذلك. ما لم أعرف لماذا فلا يمكنني عمل أي شيء. ولا يمكنني العيش."

آخر الأمر_كما وصف تولستوي الأمر_صار مقتنعًا بأن لا شيء يستحق عمله وفقد الاهتمام بكل شيء. استعمل تولستوي حكاية رمزية لوصف مأزقه في الفقرة القوية التالية:

"منذ من قديم قيلت حكاية شرقية عن المسافر الذي باغته في السهل وحش حانق. محاولًا إنقاذ نفسه من الحيوان قفز المسافر في بئر [جاف] بلا ماء، لكنه رأى عند قاعه تنينًا يفتح فكيه لكي يبتلعه. ولم يجرؤ الرجل سيء الحظ على التسلق إلى الخارج خشية أن يفنى بالوحش الحانق، ولم يجرؤ على القفز إلى قعر البئر خشية أن يلتهمه التنين، لذا تشبّث بغصين شجيرة برية في صدع [بجدار] البئر وتمسّك به. صارت يداه أضعف وشعر أنه قريبًا سيكون عليه الاستسلام للخطر الذي ينتظره على كلا الجانبين، لكنه ظل متمسّكًا ورأى فأرين، أحدهما أبيض والآخر أسود، يصنعان حلقة بمقدار متساوٍ حول جذع الشجيرة التي يتشبّث بها، ويقضمانه من كل الجوانب. الآن في أي لحظة ستنكسر الشجيرة وتتمزق، وسيقع بين فكي التنين. رأى المسافر وعلم أنه سيفنى على نحو حتميّ، لكن بينما كان لا يزال متمسّكًا رأى قطرات من العسل متعلِّقة على أوراق الشجيرة، فوصل إليها بلسانه ولعق الأوراق. كهذا تمامًا أتشبث بفرع الحياة، عالمًا أن تنين الموت ينتظرني على نحوٍ حتميّ، مستعدًا لتمزيقي قطعًا، ولا يمكنني فهم لماذا سقطت في مثل هذه المعاناة. وأحاول لعق ذلك العسل الذي كان يمنحني السعادة، لكن الآن لم يعد يعطيني البهجة...لم يعد العسل حلوًا لي. أرى فقط التنين الذي لا مهرب منه والفئران، وأنا غير قادر على تحويل نظري عنهم. هذه ليست حكاية على لسان الحيوان، بل حقيقة مفهومة صحيحة غير قابلة للجدل...قطرتا العسل اللتان قد حوّلتا عينيَّ لوقت طويل عن الحقيقة الوحشية، حبي لأسرتي والتأليف، الذي سمّيته أدبًا، لم يعودا حلوين لي."

في حالة تولستوي، فإن الأسئلة الفلسفية والتفكّر سبّبا فقدان الرغبة في الانخراط في الأنشطة التي كانت تعزّزه سابقًا. إن تكن وجهة نظر تايلُر عما يعطي الحياة معنىً داخليًّا صحيحة فمن ثَمَّ فإن التفكر الفلسفي بإزالته رغبة تولستوي في العيش جعله غير على أن يحيا حياة ذات معنى داخليًّا. إن يكن تايلُر محقًا فمن ثم فإن العبرة من قصة تولستوي هي: لا تفكّر باجتهاد أكثر من اللزوم فيما إذا لحياتك معنى، وإلا فقد تجد أن التفكر العميق ذاته في السؤال قد أعطى السؤال إجابة سلبية. يقول تايلُر كذلك: " إنك لا تسأل من بعد عما إذا ستكون ذات قيمة، أو ما إذا سينتج عنها أي شيء ذي أهمية أكثر من الديدان والطيور." ربما ينبغي أن نعتبر هذه الجملة ليست وصفًا لحياة البشر بل بالأحرى قاعدة [وصفة] لكيف نحيا. إن سقراط[س] مشهور لأجل_ضمن أشياء أخرى_تأكيده على أن "حياة غير مفحوصة لا تستحق العيش". ربما يضيف تايلُر قوله المأثور الخاص به" حياة مفحوصة أكثر من اللازم لا تستحق العيش. بعض الحاطّين من قيمة الفلسفة قد يدّعون أن تكريس نفسك لها كليًّا هو وسيلة جيدة لجعل حياتك عديمة المعنى، هل يمكن أن يكون صحيحًا حقًّا أن التفكّر الفلسفيّ يمكن أن يجعل كل أنشطتك الأخرى عديمة القيمة؟

لا أعتقد، إذ يتضح أن وجهة نظر تايلُر بصدد ما يعطي الحياة معنى داخليًّا مخطئة. هذا قد يبرهن عليه بمقارنة حالتين. الحالة الأولى تأتي من مقال متميِّز عن آراء أرسطو[تَلِس] عن الحياة الجيّدة بقلم Stephen Darwall عام1999. يصف Darwallصورة قصّها من مجلة ذا نيويورك تايمز:

"يبدو فيها عازف بيانو، هو David Golub، يصاحبه مغنيان VictoriaLivengood and Erie Mills، في تعبير عن التقدير لـ Marilyn Horne، كل الثلاثة فنانين في حالة رائعة، مظهرين أنفسهم في قمة قوى مهاراتهم. رغم ذلك فإن سبب أني احتفظت بالصورة هو وجه السيد Golub. إنه يبتسم كاشفًا عن أسنانه يقينًا، كما لو كان يقول لنفسه: "وهم يدفعون لي لأفعل هذا؟".

قارن حالة David Golub مع تنويعة على حالة سيزيفُ[س] الافتراضيّ: حالة آكل البراز المبتسم.

يمكننا أن نفترض [على غرار خرافة سيزيفُس] أن آكل البراز المبتسم قد حُكِم عليه بأبدية من أكل البراز. كما تخيّل تايلُر في قصته أن الآلهة كانوا رحماء مع سيزيفُ[س]، فكذلك نفترض أنهم أظهروا الرحمة مع آكل البراز بأن غرسوا فيه رغبة حقيقية لأكل البراز. إنه يلتهمه ليلَ نهارَ، إنه ببساطة لا يستطيع الاكتفاء! إن كلًّا من عازف البيانو وآكل البراز المبتسم ينخرطان في نشاط لديهم اتجاهه رغبة أصيلة، كلاهما يفعل ما يريد فعله أكثر شيء. تخيل هاتين الحياتين؛ إحداهما ملأى بنوع النشاط الذي ينخرط فيه David Golub كما في صورة Darwall، والأخرى ملأى بتسلية آكل البراز المبتسم المفضَّلة. إن كنا سنقبل اقتراح تايلُر فيجب أن نستنتج أن كلا الحياتين لهما معنى داخلي. لكن هذا الاستنتاج من الصعب بلعه [تقبله]. إن عُرِض عليك اختيار بين هاتين الحياتين فهل ستكون حياديًّا؟ هل الحياتان تبدوان ذواتي قيمة على نحو متساوٍ لك؟ إن تكن مثلي فإن الإجابة هي لا، في هذه الحالة فيجب أن ترفض اقتراح تايلُر. إنه ببساطة غلوٌّ وتجاوز للحد قول أن تحديد ما إذا يكون لحياة معنى داخليّ هو مسألة متعلقة تمامًا باتجاه الشخص الذي يعيش تلك الحياة.

إن وجهة نظر تايلُر تستمد بعض المعقولية الأولية من الطريقة التي قدمها بها. إننا يُطلَب منا أن نقارن بين سيزيفُ[س] يكره دحرجة الصخرة مع سيزيفُ[س] يحب ذلك. معطيين خيارًا كهذا بين السيزيفُسين الاثنين فإن أي شخص عقلانيّ سيفضّل أن يكون سيزيفُ[س] الذي أظهر الآلهة الإغريقية معه رحمة وأصبح يحب دحرجة الصخرة. على نحو مماثل، معطيين الاختيار بين حياة كآكل براز يكره أكله وحياة كآكل براز مبتسم، فأي شخص عقلانيّ سيختار الأخير. فمفترضين أن عليكَ دفع الصخور أو أكل البراز إلى الأبد، فإنه أفضل لو أنك تستمتع بهذا النوع من الأفعال. يقدم تايلُر تعليلًا مرتَّبًا لهذه البديهيات: المعنى الداخلي لحياة يعتمد كليًّا على ما إذا كان العامل يعمل ما يريد عمله.

لكن عندما نقوم بعمل مقارنات أخرى_كالتي بين عازف البيانو وآكل البراز المبتسم_يصير واضحًا أن اقتراح تايلُر فيه عيوب. إن آكل براز مبتسمًا يتخلى عن حياة عازف بيانو لأجل أكل البراز هو مغفّل، وإن جعله الآلهة [اليونانيون الخرافيون] يقوم بمثل هذا الاختيار بغرس رغبة بداخله لأكل البراز فمن ثَمَّ فإن فعلهم هو مزحة قاسية بالأحرى وليس فعل رحمة. لا يهم كم هي كبيرة رغبته، ولا كم هي كبيرة ابتسامته بينما يغترفه، ينبغي أن يكون موضعًا للشفقة بالأحرى وليس الحسد. لو نريد وسيلة كفأة لتناول المعنى الداخلي فيجب أن نبحث في مكان آخر.


إجابة PETER SINGER: المعنى من خلال التخلص من الألم

في آخر فصلين من كتابه (كيف علينا أن نحيا؟ الأخلاق في عصر المصلحة الذاتية) How Are We to Live? Ethics in an Age of Self-Interest 1995 ينشئ Peter Singer مفهومًا بديلًا ويدافع عنه عن كيف يمكن لحياة بشر أن يكون لها معنى داخليّ. لشرح وجهة نظر Singer سيكون مفيدًا أن نستعمل التمييز المألوف بين التقييم الخارجيّ من ناحية والقيمة الجوهرية من ناحية أخرى. على نحو التقريب فإن الخير (أو الشر) الجوهري لشيء هو الخير (أو الشر) الذي فيه بسبب طبيعته وفي ذاته. يصف G. E. Moore في كتابه (المبادئ الأخلاقية) Principia Ethica 1903 نمطًا معيَّنًا من التجربة الفكرية يمكن للمرء استعمالها لتحديد القيمة الداخلية_لو كان هناك أيٌّ منها_لشيءٍ محدَّد. هذا ما يسمَّى "اختبار العزل"، والوسيلة هي أن "دراسة ما القيمة التي ينبغي أن نلصقها بشيء، لو وُجِد في عزلة مطلقة، مجرَّدًا من كل الأشياء المصاحبة له عادةً. على النقيض فإن القيمة الخارجية هي القيمة التي للشيء بسبب كيفية اتصاله بأشياء أخرى. أحد أكثر أنماط التقييم الخارجي ألفة هي التقييم الوسيليّ: القيمة التي لشيء بسبب تسببه في شيء آخر ذي قيمة جوهريًّا.

يعتقد Singer بالرأي بأننا "نقدر أن نحيا حياة ذات معنى بالعمل باتجاه أهداف ذات أهمية على نحوٍ موضوعيّ." يعتبر Singer الألم شرًّا على نحوٍ جوهريّ، ويؤكِّد أن تقليل الكم الكليّ للألم القابل للاجتناب في الكون ذو أهمية على نحوٍ موضوعيّ. لذا فطبقًا لرأيه فإن إحدى سمات لنوع واحد على الأقل من الحيوات ذوات المعنى الداخلي هو أنها تقلل الكمَّ الإجماليّ للألم القابل للاجتناب في الكون. لكن هذا ليس شرطًا كافيًا لتكون ذات معنىً داخليٍّ. في موضع آخر يذكِّر Singer قراءه بـ "الحكمة القديمة بأن السبيل لإيجاد السعادة أو إبقاء الرضا هي بالسعي إلى شيء آخر، ومحاولة القيام به جيدًا." يشير Singer لاحقًا إلى "الحاجة إلى التزامٍ بقضية أكبر من الذات".

تتضمّن هذه الفقرات أن في رأي Singer لكي يحيا المرء حياة ذات معنىً داخليٍّ يجب عليه أن يقصد تقليل المعاناة، يجب أن يكون لدى المرء هذا كهدف مقصود. إن شخصًا يسعى إلى سعادته الخاصة به فقط ويقلِّل عَرَضيًّا الكمَ الكليَّ للمعاناة في الكون لا يعيش حياة ذات معنى داخليّ. يبدو من خلال ملاحظات معينة يبديها Singer_رغم أنه لا يقول ذلك صراحةً_أنه يعتقد أيضًا أن المرء يجب أن يكون لديه درجة ما على الأقل في النجاح في تحقيق هدفه الفردي في تقليل الألم. إذن فإن في القلب من وجهة نظر Singer هذا المبدأ:
نشاطٌ (ن) للشخص (س)، له معنى داخليّ لـ(س) فقط في حالة تحقق هذه الشروط: 1- بفعل (ن) فإن (س) يحاول تحقيق هدف (ه). 2-(ه) ذو أهمية على نحو موضوعيّ. و3-(ن) في الحقيقة يؤدّي إلى (ه).

وفقًا لـSinger فإن إحدى السبل_في الحقيقة أفضل السبل_لجعل حياتك تستحق العيش هو تكريسها لتقليل الألم القابل للتجنب في الكون. يسمّي Singer هذا بـ"حياة أخلاقية"، ويصرّح بأن "العيش حياةً أخلاقية يمكّننا من التمثل بأعظم قضية من كل القضايا، و....هي أفضل سبيل متاح لنا لجعل حيواتنا ذوات معنى. يبدو أن وجهة نظر Singer أن تقليل المعاناة الممكن تجنبها هي أكثر الأهداف أهميةً على نحوٍ موضوعيٍّ يوجد، وبالتالي فإن تكريس المرء حياتَه له هو أفضل سبيل لتحقيق معنىً داخليٍّ لحياته. وبما أن هذا يمكن عمله سواء ما إذا الله يوجد أو لا، فإن غياب الرب لا يجعل حيوات البشر غير ذوات معنى داخليّ.

ليُثبِت نظريته، اتخذ Singer وسيلة مشابهة لواحدة استُخدِمَتْ منذ أكثر من ألفي عام من جانب أرسطو[تلس] في تحفته الفلسفية (الأخلاق النيقوميدية). مبكرًا في كتابه (الأخلاق النيقوميدية) قدّم أرسطو[تلس] ثلاثة أنواع من الحيوات قد يعيشها البشر: حياة مكرّسة للسعي إلى السعادة الجسدية، وحياة مكرّسة للنشاط السياسيّ، وحياة مكرّسة للتأمل. تفحّص أرسطو[تلس] كلًّا من هذه وحاول تحديد أي الثلاث حيوات هو الأفضل. في معظم كتابه يظهر أنه اختيار حياة النشاط السياسيّ باعتبارها الأفضل، لكن (في نقلة مفاجئة حيرت المعلّقين على مدى ألفية ونصف) اختار آخر الأمر حياة التأمل باعتبارها الأفضل. على نحو مشابه، فحص Singer تنويعة من الأنشطة وحاول تحديد أيها_لو أن أيًّا منها_تقدّم إمكانية الإمداد بمعنى داخليّ. الأنشطة التي تفحّصها تتضمّن إدمان المخدّرات واستعمال الخمور، والتسوّق، والتنافس (كلٌّ من الماليّ والرياضيّ)، والعلاج النفسيّ، و_بالتأكيد_السعي إلى حياة أخلاقية. في تفحّصه لكلٍّ من هذه بدا أن Singer مهتم على نحوٍ رئيسيّ بما إذا يكون النشاط يقدم شعورًا دائمًا بالإنجاز. توصّل Singer إلى الاستنتاج بأن الحياة الأخلاقية فقط تتفق مع هذا الشرط، وبالتالي هي وحدها (من بين الأنشطة المفحوصة) يمكنها تحقيق معنى داخليًّا لحياة المرء.

إنه مهمٌ ألا نسيء فهم ما يقصد إليه Singer هاهنا. يمكن أن يبدو أننا نعود إلى وجهة نظر Taylor تايلُر بأن ما يعطي حياةً معنىً داخليًّا هو ببساطة اتجاه المرء بصدد تلك الحياة. قد يُساء فهم سنجر Singer بتأكيده على أن ما يجعل حياة المرء ذات معنى داخليّ هو أن تنتج إحساسًا بالإنجاز. لكن نظريته أكثر دقة من هذا. بتذكر حالة العازف David Golub الذي وصف Stephen Darwall صورتَه في فقرة مقتبسة سابقة، فإن الفقرة التالية مباشرة لهذه الفقرة كانت كالتالي: "إن ابتهاج السيد Gloub علامة على قيمة نشاطه، وليس ما يجعله جيّدًا." على نحو مماثل فإنه ينبغي فهم Singer على أنه يرى الإحساس الدائم بالإنجاز كمؤشِّر يمكن الاعتماد عليه على المعنى الداخليّ. إلى حد بعيد كطريقة ديكارت في اتخاذ الوضوح والتمايزية في أفكاره الفلسفية على أنها مؤشِّر يُعتمَد عليه على الحقيقة. لكن ماذا لو أعطت جرعة من الآلهة اليونانية سيزيفُ[س] شعورًا دائمًا بالإنجاز كلما دفع الصخرة؟ وماذا عن آكلِ برازٍ شاعر بالإنجاز؟ إن سنجر Singer لا يصل إلى الاستنتاج السخيف بأن مثل هذه الكائنات تعيش حيوات ذوات قيمة. إن جدليته لا تعتمد على الادعاء بأن الشعور بالإنجاز هو مؤشِّر يمكن الاعتماد عليه على المعنى الداخليّ في كل عالم محتمَل، بالأحرى فإنه يحتاج فقط إلى الادعاء الأقل بأنه مؤشّر يُعتمَد عليه في العالم الحقيقيّ. وفي العالم الحقيقيّ فإن دفع الصخرة غير ذي الجدوى وأكل البراز لا يسبّب_عمومًا_مشاعر إنجاز، دائمة أو غير ذلك.

منذ زمن سحيق ادعت الفلسفة الغربية العتيقة أن حياة مكرسة لاكتساب المتعة الجسدية ليست بوضوح حياة ذات قيمة لإنسان أن يحياها. في الحوار الأفلاطوني المعنون بعنوان (فِلِبِس) يتخيل سقراط[س] كائنًا يعيش عند قاع المحيط ولديه فقط من العقل ما يكفي ليدرك به المتعة الفاترة، لكنه غير قادر تمامًا على التفكير أو التذكر أو حتى تكوين الاعتقادات. يجعل أفلاطون سقراط[س] يقول أن من يعيش حياة كهذه "سيعيش هكذا ليس حياة إنسانٍ بل حياة كائن رخويّ أو أحد الكائنات في القواقع التي تعيش في البحر." أما أرسطو[تلس] يصف الحياة المكرَّسة للمتعة الجسدية على أنها "حياة ملائمة للماشية". في موضع آخر يقول أن "حتى عبدٌ يمكنه التمتّع بالمتعة الجسدية....لكن لا أحد سيصادق على أن عبدًا له نصيبٌ في السعادة." اعتقد أرسطو[تلس] أن العبيد أقل من بشر كاملين . إذن فإن إجماع الرأي بين الفيلسوفين الجريكيين (اليونانيين) القديمين العظيمين هو على أن حياة مكرَّسة للمتعة قد تكون مقبولة للرخويات أو الأبقار أو الأقل من البشر، لكنها لا تصلح البتّة لإنسان أن يحياها. يستمر التقليد في القرن العشرين مع المثال الشهير لـRobert Nozick 1977 عن "آلة الشعور"، وهي آلة واقع افتراضي تُحدِث أي شعور مراد في عقل أي شخص يتصل بها. قال Nozick: "نكتشف أن هناك شيئًا آخر يهمنا بالإضافة إلى الشعور بتخيل آلة شعور ثم ندرك أننا لم نكن لنستعملها."

حتى هؤلاء الفلاسفة الذين يرتبطون ذهنيًّا تقليديًّا مع مذهب اللذة كانوا حريصين على توضيح أن ليس السعي مطلق العنان للمتعة الجسدية فقط هو ما ينصحون به. إِبِكْيورِس [أبيقور] كمثال كب في رسالته إلى مِنُوسْيَسْ Menoeceus:

"عندما نقول أن المتعة هي الغاية فنحن لا نعني متعة الخلاعة أو التي تقوم على التمتع الجسديّ، كما قد يفكّر أحدٌ لا يفهم تعاليمنا أو لا يتفق معها أو يعطيها تفسيرًا شريرًا. لكن نقصد بالمتعة الحالة التي يكون فيها الجسد خاليًا من الألم والعقل من التوتر."

على نحو مشابه، في كتابه (مذهب المنفعة)، يدافع جون ستيورات مِلّْ عن مذهب المنفعة ضد تهمة أنه "تعليمٌ جديرٌ بالخنزير"، معلِّقًا بأن هناك نوعيات مختلفة من المتع، وأن المتعة الجسدية من النوع الأدنى وبالتالي أقل أنواع المتعة قيمة. كتب يقول:
"ليس هناك نظرية إبِكورية [أبيقورية] معروفة للحياة لا تعطي لمتع الفكر والأحاسيس والتخيّل والمشاعر الأخلاقية قيمة أعلى بكثير كمتع مما [تعطي] لمتع الشعور المحض."

عند هذه النقطة قد يُعترَض_على الأقل لأجل أغراض جدلية سنجر Singer_بأن شهادة كل هؤلاء الفلاسفة لا ينبغي أن تُعطى وزنًا كثيرًا. فرغم ك شيء إنهم فلاسفة، بالضبط نوع الناس الذين لا يكرّسون حيواتهم للسعي إلى المتعة الجسدية. ألن تكون شهادة الذين قد سعَوْا إلى المتعة أكثر صلة بالسؤال عما إذا كان حياةٌ كهذه يمكن أن تُحقِّق شعورًا دائمًا بالإنجاز؟

أحد عناصر قوة جدلية سنجر Singer هو أنه يأخذ بعين الاعتبار شهادة الذين قد كرّسوا أنفسهم للأنشطة العديدة التي ناقشها. لن أكرّر كل أمثلة سنجر هنا، لكن أحد الشهادات الجديرة بالملاحظة تأتي من Tom Landry، المدرّب الناجح للغاية لنادي كرة القدم المحترِف Dallas Cowboys:

"....حتى بعد أن تكون قد فزتَ للتو بالكأس الكبير، بل خاصةً بعدما تكن فزتَ به للتو؛ هناك دومًا السنة القادمة. إن لم يكن الفوز هو كل شيء، فهو الشيء الوحيد، إذن فإن ‘الشيء الوحيد’ هو لا شيء، خواء، كابوس حياة بدون معنى نهائيّ."

إحدى الشهادات المثيرة للاهتمام التي لم ينقاشها سنجر تأتي من متكرِّس سيء السمعة للمتعة الجسدية: الماركيز دي ساد . هاهنا رجلٌ لديه بعض التبصُّر حقًّا فيما إذا كان السعي للمتعة الجسدية يمكنه تحقيق شعور دائم بالإنجاز! في روايته (جَسْتين) Justine، البطلة التي تقع في أيدي أربعة رهبان شهوانيين والذين يأسرونها ويستغلونها [بالإساءة]. يجعل دي ساد أحد الرهبان يقول الملاحظة التالية لجَسْتِيِن:

"قضاء الليل مع امرأة واحدة يجعلني دائمًا أريد أخرى في الصباح. لا شيء مثل رغباتنا نَهِمٌ تمامًا، كلما ازدادت تقدماتنا [قرابيننا] لها اشتعلت أكثر. بالتأكيد، فإن النتيجة دومًا هي نفسها تمامًا، إلا أننا نتخيَّل أن هناك أفضل في مكان ما فحسب. لحظة أن يُخمَد توقنا لامرأة هي أيضًا اللحظة التي تشعل فيها نفس الدوافع رغبتنا لأخرى."

التشابه بين هذه الملاحظات وملاحظات Tom Landry مذهل. في كلتا الحالتين لدينا تصوير لرجال مقادين برغبات لا تلين والتي تعود إلى الظهور في اللحظة التي تُشبَع فيها. على نحو ذي أهمية أكثر، فإن الشعور بالإنجاز [الإشباع] يبدو غائبًا تمامًا: تعاود الرغبات الظهور، كثيرًا ما تصبح أقوى مما قبلُ، تحديدًا لأن إشباع الرغبة السابقة فشلَ في تحقيق الشعور بالإنجاز.

بالعودة إلى [موضوع] الحياة الأخلاقية، يناقش سنجر حالتي Henry Spira وهو ناشط دائم، و Christine townef التي قامت مع زوجها ببيع منزلها الغالي وسافرا إلى الهند في خمس سنوات من العمل التطوّعي. وفقًا لسنجر فإن كليهما وجدا شعورًا بالإنجاز في تكرّسها للحياة الأخلاقية. كتب سنجر عن Spira:
"عندما_أثناء زياراتي العرَضية لنيويورك_أجلس معه وقطته في جانبه العلوي الغربي من الشقة الذي يستأجره، أجده دائمًا يفكر في إستيراتيجياتٍ لدفع الأمور قُدُمًا والاستمتاع بالتحدي القادم. أغادر مع معنويات جيدة [من عنده]."

مثل كتاب تايلُر Taylor، يختتم سنجر Singer برسالة ملهِمة. في الحقيقة إنه واضحٌ أن سنجر ينادي بنوعٍ من الثورة الأخلاقية:

"لو يتخذ 10 في المئة من السكّان منظورًا أخلاقيًّا للحياة عن قصد ويتصرفون وفقًا لذلك، فإن التغير الناتج سيكون أكثر أهمية من أي تغيّر في الحكومة....أي أحد يمكنه أن يصبح جزءً من الكتلة الحرجة [الكم المطلوب] الذي يعطينا فرصة لتحسين العالم قبل أن يفوت الأوان للغاية... ستجد وفرةً من الأشياء ذوات القيمة لتفعلها. لن تملَّ أو تفتقد الإنجاز في حياتك. الأكثر أهمية من كل شيء: ستعلم أنك لم تحيَ وتمُتْ من أجل لا شيء، لأنك ستصبح جزءًا من التقليد العظيم لمن تجاوبوا مع كم الألم والمعاناة في الكون بمحاولة جعل العالم مكانًا أفضل."

ردًّا على جدلية الوجود بلا هدف، كان سنجر Singer_كتايلُر Tayor_سيجيب بأننا لا نحتاج إلى أغراض ممنوحة على نحوٍ فوق طبيعيٍّ لحيواتنا ليكون لها معنى داخليّ. لكن أساس سنجر لهذا الادعاء مختلف عن الخاص بتايلُر. إن ادعاء سنجر هو أن وجود شر جوهريّ قابل للتجنّب في الكون يأخذ مكان الآمر [المُوُصي] فوق الطبيعيّ باعتباره الشيء الذي يجعل حيواتنا ذوات معنى داخليًّا، يقول: "هناك سخرية مأساوية في حقيقة أننا يمكننا إيجاد إنجازنا تحديدًا بسبب أن هناك الكثير للغاية من الألم والمعاناة القابلين للتجنب في الكون، لكن هذا هو النحو الذي عليه الكون." على نحو مماثل فإنه لا يهم ما إذا كان يهتم كائن كليّ القدرة والعلم وكامل أخلاقيًّا بشأن حيواتنا أم لا. إن منع المعاناة ذو أهمية بغض النظر عما إذا يوجد بالجوار أي كائن كهذا ليهتم بها. لذا لا ينبغي أن ننشغل بجدلية لا أحد ذا معنى يهتم. ردًّا على جدلية النتيجة النهائية كان سنجر سيجيب بأن جدلية كهذه تضع اعتسافيًّا كمًّا غير ضروريّ من الأهمية_في الحقيقة كل الأهمية_للحالة النهائية التي تقود إليها حياة. لكن لماذا يُبرِز سنجر النتيجة النهائية بالذات باعتبارها الشيء الوحيد الذي يهمّ؟
[كتب يقول]: "افترِض أننا انخرطنا في مشروع لمساعدة مجتمع صغير في دولة نامية ليصبح حرًّا من الديون ومكتفيًا غذائيًّا. وكان المشروع ناجحًا على نحو مدهش، وصار القرويّون أصحَّ وأسعد وأفضل تعلميًا ومؤمَّنين اقتصاديًّا، ولديهم أطفال أقل منجَبين. الآن قد يقول واحد: ‘وأي خيرٍ قد فعلت؟! في خلال ألف سنة سيكون كل هؤلاء الناس ميتين، وكذلك أولادهم وأحفادهم، ولا شيء قد فعلتَه سيصنع أي فارق’....مع ذلك فلا ينبغي أن نعتقد بأن جهودنا ضائعة ما لم تبقَ إلى الأبد أو حتى لزمن طويل جدًّا. لو اعتبرنا الزمن كبعد رابع، فمن ثم يمكننا التفكير في الكون _خلال كل الأزمنة التي احتوى فيها على حياة واعية_كوجود رباعيٍّ الأبعاد. بالتالي يمكننا جعل ذلك العالم رباعيّ الأبعاد مكانًا أفضل بجعل المعانة بلا هدف أقل به في مكان معيَّن، في زمن معيَّن، مما كان سيكون عليه لولا ذلك....سيكون لنا تأثير إيجابيّ على الكون."

بغض النظر عما إذا كنا نقبل كل ما سيقوله سنجر، فإننا الآن في وجهة نظر نرى من خلالها أن جدلية النتيجة النهائية تفشل. هذه الجدلية تفشل لأنها تقوم على ما سماه Paul Edwards (2000م): "التفضيل الغريب والاعتسافيّ تمامًا لمستقبل على الحاضر." إن هناك وسائل متنوعة لتقدير القيمة النسبية للأزمنة العديدة. تضع وجهة نظر أخرى الحاضر والمستقبل القريب باعتبارهما الأكثر أهمية. وجهة النظر هذه هي مصدر التوصية المطروقة المبتذلة بالتكرار [الكليشيهية] اليوم بـ"انتهاز اليوم". نعم، إن الموت ينتظرنا جميعًا، وفي النهاية سنتحول إلى ما ليس أكثر من طعام للديدان، لكن رد الفعل الملائم على هذه الحقيقة ليس الاستسلام بل بالأحرى التحرّك! عبَّر [الامبراطور الفيلسوف] مارْكُسْ أورْلِيَسْ Marcus Aurelius [الروميّ] عن هذه الفكرة في القرن الثاني قبل الميلاد على هذا النحو: "لا تتصرّف كما لو أن لديك عشرة آلاف عام لتضيّعها، فالموت يقف عند مِرْفقِكَ ." ووجهة نظر كلية [منظورية] ثالثة ترى اللحظات الأخيرة من الزمن (أو لو كان الزمن بلا نهاية، فالنتيجة النهائية) باعتبارها الأكثر أهمية، وهذا المنظور هو مصدر جدلية النتيجة النهائية. لكن من بين الثلاثة مناظير فإن الأخير هو بالتأكيد الأقل عقلانيةً. تشخيص لسبب كون هذا الأسلوب في التفكير يمكن أن يبدو عقلانيًّا سيرِدُ لاحقًا، لكن بالنسبة للآن فإنه يكفي أن نرى أنه ليس كذلك. بالعودة إلى ملاحظات سنجر، فإن الردَّ الملائم على سؤال "أي خيرٍ قد فعلتَ؟!" هو: لقد جعلتُ هؤلاء القرويين أسعد مما كانوا سيكونون عليه لولا ذلك، وما ستكون عليه الأمور بعد ألف سنة من الآن ليست ذات علاقة على الإطلاق بهذه الحقيقة. أليس أفضلَ كونُ المحرقة النازية انتهت في زمن انتهائها عما لو كانت انتهت في _مثلًا_في عام 1970م بصرف النظر عما سيكون عليه العالم بعد مليون سنة من الآن؟! يمكنني تذكر أوقات في فصول الرياضة في المدرسة الثانوية عندما كانت تصبح مباراة كرة سلة أو كرة طائرة انفعالية بالذات وتتوهّج انفعالات المراهقين، كان مدرس الرياضة خاصتنا أحيانًا يحاول تهدئتنا بأسئلة بلاغية على غرار: "بعد عشر سنوات من الآن، هل سيهتم أيٌّ منكم بمن فاز بهذه المباراة؟" دائمًا ما خطر ببالي أن إجابة عقلانية على تساؤل كهذا كانت ستكون: "هل يهم حقًّا الآن ما إذا كان أيٌّ منا سيهتم بعد عشر سنوات؟" على نفس النحو تقريبًا اقترح Thomas Nagel (1979) أنه: "لا يهم الآن أن بعد مليون سنة لا شيءَ مما نفعله الآن سيهُمّ."

هناك الكثير من الأسئلة التي قد تُطرَح بخصوص اقتراح سنجر Singer. هل الشعور بالإنجاز هو حقًّا مؤشِّر يمكن الاعتماد عليه على المعنى الداخليّ؟ هل الحياة الأخلاقية كما وصفها سنجر هي حقًّا أفضل سبيل لتحقيق المعنى الداخليّ في حياة المرء؟ ففيما يتعلق بالسؤال الثاني، تفكَّرْ بأن الإبادة غير المؤلمة لكل أشكال الحياة سيقلّل بشدّة كم المعاناة الممكن تجنّبها في الكون، ومع ذلك فبالتأكيد لن يصادق سنجر على هذا كهدف ذي استحقاق على نحو موضوعيّ! ربما الحياة الأخلاقية تحتاج إلى أن توصَف على نحو أكثر عناية. ورغم ذلك، فإن نظرية سنجر تفوق على الخاصة بتايلُر في جانب واحد على الأقل: إنها تقدّم نموذجًا مستقيمًا ومعقولًا يمكّننا من رفض جدليات المعنى الداخليّ الثلاث الأولى المشار إليها في أول الفصل. في القلب من وجهة نظر سنجر فكرة أن تكريس المرء ذاته لجعل الكون مكانًا أفضل كمُجمَل_بزيادة كم الخير الجوهريّ في الكون أو تقليل الشر الجوهريّ_يمكنه تحقيق المعنى الداخلي لحياة المرء. وبما أن المرء يمكنه فعل هذا حتى لو كانت حياته تفتقد المعنى فوق الطبيعيّ ولا كائن كليَّ القدرة يهتم بشأن حياته وحتى لو كانت النتيجة النهائية التي تساهم فيها حياة المرء عديمة القيمة، إنه ينتج عن هذا أن جدلية النتيجة النهائية وجدلية لا أحد ذا أهمية يهتم وجدلية الوجود عديم الهدف كلها تُخفِق.

حل أرسطو[تلس]: النشاط الجيد جوهريًّا

وجهة نظر ثالثة تقترح طريقة أخرى للرد على هذه الجدليات. هذا الرأي هو الأقدم والأبسط وربما الأقوى من بين الردود المدروسة في هذا الفصل. إنه يوجد في كتاب أرسطو[تلس] (الأخلاق النيقوميدية)، ولا يحتاج المرء للقراءة فيه كثيرًا ليجده. يبدأ الكتاب بهذه السطور:

"كل فنِّ أو علم تطبيقيّ وكل تحقيق منهجيّ، وعلى نحو مماثل كل فعل واختيار، يبدو أنه يهدف إلى خير ما...لكنه واضحٌ أن هناك اختلافًا في النهايات التي تهدف إليها: ففي بعض الحالات يكون النشاط هو النهاية، وفي أخرى تكون النهاية هي منتَج ما غير النشاط."

في نهاية هذه لفقرة يقسّم أرسطو[تلس] الأنشطة إلى فئتين: الجيدة بسبب ما تنتجه، والجيدة في حد ذاتها ولأجل ذاتها. في هذه الملاحظة المختصرة يقترح أرسطو[تلس] احتمالية لم يأخذها بعين الاعتبار سواء تايلُر أو سنجر. إنها بصيرة بسيطة لكنها عميقة: بعض الأنشطة جيدة في جوهرها.

الأنشطة من هذا النوع تستحق الانهماك فيها حتى لو أنها لا تقود إلى أي شيء ذي قيمة. إنها ذات قيمة حتى لو ليس لها نتائج على الإطلاق. هذا يقترح سبيلًا ثالثًا لتحقيق المعنى الداخلي في حياة المرء: الانخراط في أنشطة جيّدة في جوهرها، أنشطة تستحق عملها لأجل ذاتها. إنه جزء من طبيعة هذه الأنشطة ذاتها أنها تحقّق المعنى الداخليّ لحياة المرء.

في نهايته المفاجئة لكتابه (الأخلاق النيقوميدية)، اختار أرسطو[تلس] التفكُّر (theoria) باعتباره النشاط ذي الكمية الأكبر من القيمة الجوهرية. يمكن أن يوصَف هذا النشاط تقريبًا بأنه التفكّر في الطبيعة الأساسية للكون. هذا النشاط ليس اكتساب المعارف، بل بالأحرى التفكر فيما يعرفه المرء فعليًّا. إحدى أكثر الجدليات إثارة للاهتمام التي قدمها أرسطو[تلس] لدعم ادعاءه أن هذا هو أفضل نوع من الأنشطة تمضي كهذا:

"نفترض بأن الآلهة في أعلى مكانة مباركين وسعداء. لكن أي نوع من الأفعال نعزوه إليهم؟ أفعال الحقّ؟ ألن يبدوا سخفاء وهم يقومون بالعقودات بين أحدهم الآخر، رادّين الودائع، وما إلى ذلك؟! ربما أفعال الشجاعة، مقاومة الخوف ومواجهة المخاطر، لأنه نبيلٌ أن تفعل ذلك؟ أم أفعال الكرم؟ لكن لمن سيعطون؟ سيبدو غريبًا التفكيرُ أن لديهم حقًّا عُمْلة أو شيء من هذا القبيل. أفعال ضبط النفس؟ ما الذي سيكونه هذا؟ بالتأكيد سيكون ذا ذوق سيء أن نمتدحهم لعدم امتلاك شهوات قوية. لو مضينا على كل القائمة سنجد أن انشغالًا بالأفعال يعتبر تافهًا وغير ذي أهمية للآلهة. ومع ذلك نفترض كلنا أن الآلهة يوجدون وبالتالي فهم نشِطون، لأننا بالتأكيد لا نفترض أنهم نائمون دومًا...الآن، لو نزعنا الفعل من كائن حي، لنقل لا شيء يُنتَج، فما الذي يتبقى عدا التأمُّل؟ لذا فإن نشاط الألوهية الذي يفوق الكلَّ في البركة يجب أن يكون نشاطَ تأمّلٍ [تفكُّر]، ولذا فإن النشاط البشريّ الأكثر مماثلةً إلى حد بعيد له هو الأكثر إفضاءً إلى السعادة."

يفترض أرسطو[تلس] أن أيًّا ما كان النشاط الذي ينهمك فيه الآلهة فهو في جوهره أفضل أنواع الأنشطة. يجب أن الآلهة ينهمكون فقط في التأمُّل، لذا فإنه يجب أن يكون أفضل أنواع الأنشطة في جوهره. هكذا فإن أرسطو[تلس] اختار للمديح الأسمى نشاط الفيلسوف الناجح: التفكُّر فيما قد تعلَّمَه. بوصوله إلى هذا الاستناج فإنه قد فاق على أستاذه العظيم أفلاطون. ففي كتابه (الجمهورية الفاضلة) جادل أفلاطون بأن الفلاسفة ينبغي أن يكونوا ملوكًا. أما أرسطو[تلس] فيمضي إلى حدٍ أبعد بمقترحه أن الفلاسفة كالآلهة. وحدهم من بين أعداد الجماهير الكبيرة العفنة من البشرية، فإن الفلاسفة قادرون_على الأقل لوقت قصير_على الارتفاع فوق مكانتهم في الكون وفعل نوعية الشيء المحفوظ على نحو طبيعيّ للآلهة. إنه لواضحٌ أن في الكون الأرسطوطاليسيّ يحتل الفلاسفة موضعًا خاصًّا بالفعل!

هناك تعارض مثير للاهتمام يستحق الملاحظة بين وجهة النظر المعبر عنها هاهنا من جانب الفيلسوف الوثنيّ العظيم والتقليد المسيحي . يمتدح أرسطو[تلس] محاولة السموّ فوق موضع المرء في الكون والصيرورة كالآلهة. لكن وفقًا لأحد مسالك الفكر في التقليد المسيحي فإن هذا النوع من الأشياء مُدان بقسوة. حقيقة فوفقًا للمسيحية التقليدية إنه بالتحديد نوع الفعل الذي أدى إلى سقوط الإنسان على سبيل المثال، في قصيدة جون مِلتُنْ John Milton الكلاسيكية (الفردوس المفقود) يتخيّل أن الملاك رافائيل يحذر آدم من سبر أسرار الكون:

"لكن سواء كانت هذه الأشياء أو لم تكن، سواء أكانت الشمس تهيمن في السماء، تشرق على الأرض أم أن الأرض تشرق على الشمس،
...لا تغري أفكارك مع المسائل المخفية، دعها لله فوقُ، إياه فاعبد واخشَ
فكِّرْ فقط فيما يتعلّق لك وبوجودك، لا تفكِّرْ في العوالم الأخرى وما الكائنات التي فيها
قانعًا بأن هكذا هو الحد الذي كُشِفّ، ليس فقط فيما يخص الأرض، بل وأعلى السماوات."

تقول قصة سفر التكوين أن الحيَّة أقنعت حواء بالأكل من ثمرة شجرة المعرفة بإخبارها أنها لو أكلت هي وآدم الثمار "ستصيران كالله، عارفين الخير والشر". و_بالتأكيد_إنه أكل حواء من الثمرة ما أدّى إلى كارثة لكل البشرية. الرسالة واضحة: اهتم بشؤونك الخاصّة، كن ممتنًّا لما كشفه الله لك، ومهما فعلت لا تحاول تحت أي ظروف التسامي فوق موضعك في الكون.

يتبع



  رد مع اقتباس
قديم 12-07-2015, 01:39 AM لؤي عشري غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [2]
لؤي عشري
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية لؤي عشري
 

لؤي عشري is on a distinguished road
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى لؤي عشري
افتراضي ونكمل

ماذا_إذن_علينا أن نفعل باقتراح أرسطو[تلس] أن التأمل أفضل أنواع الأنشطة في جوهره؟ في نقاشه لحالة [أسطورة] سيزيفُ[س] درس تايلُر Taylor سيناريو يكون فيه أن كدح [مشاقّ] الرجل البائس تنتج حقًّا شيئًا. تخيّل تايلُر أن جهود سيزيفُ[س] موجَّهة لإنتاج معبد جميل وراسخ. كتب تايلُر:

"ولنفترض أنه نجح في هذا، أنه بعد عصور من الكدح الرهيب، كل ذلك موجَّه إلى هذا الهدف النهائيّ، وقد أكمل بالفعل معبده، وحيث ذلك فيمكنه حينئذٍ أن يقول أن عمله قد انتهى، ويمكنه الاستراحة والتمتع بالنتيجة إلى الأبد. الآن ماذا؟ ما الصورة التي تطرق بالنا؟ إنها بالتحديد صورة ملل أبديّ! لسيزيفُ[س] لا يفعل شيئًا أبدًا من بعد، عدا التأمل فيما قد صنعه بالفعل ولا يمكنه من بعد إضافة أي شيء له، وتأمله إلى الأبد!"

يقترح تايلُر أن تأمل المعبد المكتمل لن يكون أكثر استحقاقًا بأي درجة من جهد سيزيفُ[س] غير ذي الجدوى لارتقاء التل في النسخة الأصلية من القصّة، وأنا ميّال لموافقته. وبالإضافة إلى ذلك، يبدو لي التأمّل الذي امتدحه أرسطو[تلس] يتشاطر الكثير مع تأمل سيزيفُ[س] لمعبده المُنجَز. لا أرى الكثير من الأهمية الجوهرية في أيٍّ من النشاطين. لو أن الآلهة [اليونانية الافتراضية هنا_م] الذين حكموا على سيزيفُ[س] كانوا من النوع الذي تصوّره أرسطو[تلس] فمن ثَمَّ فإن المصير الذي حكموا به عليه ليس أسوأ من مصيرهم.

رغم ذلك، فحتى لو رفضنا تفاصيل اقتراح أرسطو[تلس]، يظل بوسعنا قبول بصيرة أرسطو[تلس]. لو هناك أنشطة متاحة لنا خلال أعمارنا والتي هي ذوات قيمة جوهرية، فمن ثمّ يمكن لحيواتنا أن يكون لها معنى داخليّ حتى لو أن الله لا يوجد. حتى لو ليس هناك موصي فوق طبيعيّ ليحدِّد أغراض حيواتنا أو ألوهية ذات معنى على نحو ملائم تهتم بحيواتنا، فإن وجود أنشطة جيّدة في جوهرها سيمكننا من تحقيق المعنى الداخلي في حيواتنا. أنا أقترح أن هناك مثل تلك الأنشطة.

ما هي بعض الأنشطة الجيّدة جوهريًّا؟ وكيف يمكنني إثبات أن قائمتي المفضَّلة هي الصحيحة؟ بالنسبة إلى السؤال الأول: فليس لدي شيء متسم بالبصيرة أو جديد بقولي: قائمتي للأنشطة الجيّدة في جوهرها ستتضمّن الوقوع في الحبّ والنشاط المحفِّز للفكر، والإبداع في عدة مجالات، الشعور بالمتع على أنواعها العديدة، والتعليم. قد يُعترَض على قائمتي بالقول: ألستَ ببساطة تضع في قائمةٍ الأشياء التي يصادِف أنك تستمتع بالقيام بها؟ الإجابة هي لا. هناك الكثير من الأشياء التي أستمتع بالقيام بها لكنها لا تعتبر ذات أهمية في جوهرها، وأعتقد أن قليلًا من التفكُّر سيكشف أن نفس الأمر صحيح بالنسبة لك. في حالتي، فإن حبي لألعاب الـﭬيديو جيم ملائم للغرض كمثال. للعديد من السنوات حتى الآن كان لدي ولع بألعاب الـﭬيديو، ويمكنني قضاء ساعة وراء ساعة لاعبًا إياها. لكني لا أعتبر هذا النشاط مهمًّا في جوهره، وأعتقد أن حياة مكرَّسة بالكامل له ستكون حياة ضائعة. في الحقيقة، بالتحديد لأني أستمتع بها كثيرًا جدًّا إلا أني أعتبرها غير ذات أهمية في جوهرها، فإني أمتنع قصدًا عن شراء وحدة [جهاز] ألعاب ﭬيديو وعن تنصيب ألعاب على كمبيوتري. لأني أعلم أنه لو كانت ألعاب الـﭭيديو متاحة لي بسهولة فسأضيّع ساعات لا تُحصى على هذه التسلية التافهة. إذن فإن قائمة الأنشطة التي أعتبرها لها استحقاق جوهريّ ليست نفس قائمة الأنشطة التي أستمتع بها.

أما عن كيف أعلّل قائمتي للأنشطة المهمة في جوهرها؟ فأخشى أني ليس لدي برهان فلسفيّ لأجل_مثلًا_اقتراح أن الوقوع في الحبّ جيّد في جوهره. رغم ذلك فكما قد أُشيرَ كثيرًا فإن هناك الكثير من الأشياء التي نعرف أنها على ما هي عليه والتي لا يمكننا تقديم برهان فلسفي وافٍ على صحتها. إن الوسيلة التي أوصي بها لتقرير أي الأنشطة جيّدة في جوهرها هي نسخة من تجربة العزل الخاصة بـ G. E. Mooreالموصوفة سابقًا. لتبحث ما إذا يكون نشاط جيّدًا في جوهره فادرس ما إذا كنت ستجده ذا استحقاق حتى لو يكن له أي نتائج على الإطلاق. إذا يبدو لك أنه سيكون ذا استحقاق فإذن فإن بين يديك مرشحًا جيّدًا كنشاط جيّد في جوهره. إن الادعاآت بشأن ما يكون جيّدًا في جوهره هي مسلّمات [بديهيات] النظرية الأخلاقية، إنها منطلَقات البدء، المبادئ الأساسية. وحيث أنها كذلك، فإنه غير مرجَّح أن تكون من نوع الأشياء التي يمكن البرهنة عليها. ورغم ذلك، فإنه متسقٌ تمامًا أن تقول أن بعض الأنشطة ذوات قيمة في جوهرها، وأننا نعرف ما تكُوُنه بعضٌ منها.

إن تمييز أرسطو[تلس] بين الأنشطة الجيدة لأجل ما تنتجه والأنشطة الجيدة في جوهرها يساعدنا على فهم سبب كون جدلية النتيجة النهائية يمكن أن تبدو مقنعة، رغم أنها_كما أجادل_جدلية رديئة. يمكن أن تُجعَل جدلية النتيجة النهائية تبدو مقنعة بالتركيز في الأنشطة الغير جيدة في جوهرها. إن يصِرْ المرءُ مقتنعًا بأن كل الأنشطة المتاحة لنا في حيواتنا الأرضية هي من هذا النوع، فحينئذٍ إذن يمكن أن تبدو النتيجة النهائية لكل هذه الأنشطة الأقصى أهميةً. السبب هو أننا_مقتنعين بأن الأنشطة التي تصنع حيواتنا غير ذوات استحقاق [أهمية] في جوهرها_فقد نعتقد أن السبيل الوحيد الذي يمكن به أن تصبح ذوات أهمية على الإطلاق هو لو أنها تقود إلى نتيجة نهائية ذات أهمية. في بدايات هذا الفصل اقتبستُ من حديث [الفيلسوف المسيحيّ المعاصر] William Lane Craig المعنون (سخافة الحياة بدون الله)، وفي نفس ذلك الحديث ناقش كريج مسرحية Beckett (في انتظار جودو) Waiting for Godot. استخدم كريج المسرحية ليشرح ما يعتقد أن الحياة البشرية ستكون عليه بدون الله:

"خلال كامل هذه المسرحية يتبادل رجلان الحوارات التافهة المخدِّرة للعقل المبتذلة بينما ينتظران وصول رجل ثالث والذي لا يفعل [يصل] أبدًا. أوَحيواتنا كمثل ذلك؟ نمضي الوقت منتظرين؟! لأجل ماذا؟ لا نعرف!"

لاحظْ أن النشاط في هذا المثال هو تافه ومخدِّر للعقل ومبتذَل. إن النشاط الذي اختاره مؤلف المسرحية Beckett غير ذي استحقاق في جوهره على نحو واضح. أي استحقاق قد يكون له سيُستمَد فقط من وصول جودو. ولأن شخصية جودو لا تأتي أبدًا فإن النشاط غير ذي استحقاق كليًّا. بتشبيهه كل الحياة البشرية بالمسرحية، يشير كريج ضمنيًّا إلى أن كل الأنشطة المتاحة لنا خلال حيواتنا الأرضية غير ذوات استحقاق في جوهرها. في الحقيقة هذا هو الافتراض غير المصرَّح به المؤسِّس لكل جدليات المعنى الداخليّ التي نناقشها. الثلاث جدليات جميعًا تفترض أن لا نشاطَ متاحَ لنا على الأرض له أي قيمة جوهرية. مثل هذه الأنشطة يمكن أن يكون لها قيمة فقط لو مُنِحَتْ لها من الخارج، بكونها جزء من خطة إلهية أو موضع اهتمام من جانب ألوهية ذات معنى، أو بمؤدّاها إلى شيء آخر له قيمة. لكنه هذا الافتراض بالتحديد ما ينبغي أن يُرفَض. لو أن الشخصيات المنتظرة لجودو كانوا في أثناء ذلك يقعون في حب أحدهم الآخر، هل كانت حقيقة أن جودو لن يظهر أبدًا ستجعل نشاطهم غير ذي استحقاق؟ هل كانت كل الأُمسية ستكون قاحلة [مهدَرة] بالكامل؟ هذا مستحيل.

بإعادة تذكّر مثال الأديب تولستوي عن المسافر الذي يقع في بئر. فإن مأزق المسافر يعتمد على كنه الأنشطة المتاحة له بينما هو عالق. بتذكَرِ جزءٍ آخر من القصة: يرى المسافر بعض قطرات العسل متعلقة على أوراق الشجيرة ويصل إليها ويلعقها. في تشبيه موقفه الخاص به بهذا المسافر العالق، أضاف تولستوي الفقرة الشرطيّة القائلة "لم يعُدْ العسل حلوًا لي من بعدُ". أي أن الأنشطة المتاحة له ليس لها أي استحقاق جوهريّ.

اسأل نفسك هذا السؤال: إن وجدتَ نفسك في مأزق المسافر، فهل سيكون لديك تفضيل فيما يتعلق بوجود أو غياب العسل؟ لو كانت جدلية النتيجة النهائية صحيحة فينبغي ألا تفرق معك. لكني أعتقد أنك مثلي وأنك تفضِّل وجود العسل حقًّا. في الواقع كحقيقة عَرَضيّة فإن بعض البشر قد لا يكونون قادرين على الانخراط في الأنشطة الجيدة في جوهرها. قد يكونون مثل المسافرين العالقين في البئر بدون عسل في مرآهم. لكن هذا حتمًا ليس سمة أساسية للشرط [الظرف] الإنسانيّ. وبما أنك تقرأ هذا الكتاب فمن المرجَّح أنك لا تواجه وضعًا كهذا. يوجد عسل حولك في كل مكان، عليك فقط أن تصل إليه وتلعقه. لا تحتاج إلهًا ليعطيك المعنى الداخلي لحياتك.

الشخصية الرئيسية في فِلم (التكيف) Adaptation لــ Spike Jonze(2002)، هي تشارلي كُفْمِن Charlie Kaufman، مؤلف سينمائيّ يحاول كتابة نص فلم يقوم على على رواية (سارق زهرة الأوركيد) لـ Susan Orlean، في جزء من الفلم حيث يكافح Kaufman كُفْمِن لإكمال نصه، ويحضر مؤتمرًا عن الكتابة السينمائية. خلال المؤتمر يرفع كُفْمِن يده ويسأل السؤال التالي:

"ماذا لو أن كاتبًا يحاول عمل قصة حيث لا يحدث الشيء الكثير، حيث الناس لا يتغيّرون، ليس لديهم أي لحظات تجلّي للفهم. إنهم يكافحون ويُحبَطون ولا شيء يُحَلّ. تفكُّر أكثر في العالم الواقعيّ....."

لم يستطع كُفْمِن إكمال سؤال لأنه قوطع من جانب رئيس المؤتمر. إن ردّ المتحدّث يمكن أن يعتبَر كردٍّ على كريج وتولستوي باستلهام سنجر وأرسطو[تلس]. إنه يصلح كذلك كخاتمة ملائمة لهذا الفصل:
"لا شيء يحدث في العالم الواقعي؟ أأنت فاقدٌ لعقلك المـ***؟! ناسٌ يُقتَلون كل يوم! هناك إبادة عِرقية وحرب وفساد! كلَّ يومٍ ابنِ مـ*** في مكان ما يضحّي شخصٌ بحياته لإنقاذ شخص آخر! كل يوم ابن مـ*** يتخذ شخصٌ ما قرارًا واعيًا بتدمير شخص آخر! أناس يجدون حبًّا وآخرون يفقدونه! بالله عليك! طفلٌ يشاهد أمَّه تُضرَب حتى الموت على عتبات كنيسة! أحدهم يعاني الجوع! شخص آخر يخون أفضل أصدقائه لأجل امرأة! إن كنت لا تستطيع أن تجد تلك الأشياء في الحياة فأنت_إذن_يا صديقي لا تعرف الكثير عن الحياة!"




الفصل الثاني: الله والأخلاق

ما هو محبوب من قِبَل الآلهة هو التقيّ، وما ليس محبوبًا من قِبلِهم هو غير التقيّ.

يوثيرو في حواره مع أرسطو[تلس] كما كتبه أفلاطون

الله باعتباره الخالق كليّ القدرة للأخلاق

يعتقد المؤمنون عادةً بأن الأخلاق_على نحوٍ ما_تعتمد على وجود أو نشاط الله. هناك سبل لا تُحصى لفهمهم الطبيعية الدقيقة لهذا الاعتماد؛ هذا الفصل مخصّص لاستكشاف بعضها. إحدى النسخ القوية على وجه الخصوص لهذه الفكرة يعتقد بأن الله هو الخالق الكلي القدرة للأخلاق. فلندرس هذه الفكرة ببعض التفصيل.

كل الكينونات الموجودة يمكن أن تُقسَّم إلى فئتين. الأولى تحتوي كل وفقط الأشياء الممكن بالنسبة إليها ألا توجد. هذه الأشياء لها وجود محتمَل. تأمل_كمثال_الكتاب ذاته الذي تقرؤه الآن. في آخر الأمر سيتوقّف عن الوجود. بالإضافة إلى ذلك، فإن كاتبه كان يمكن أن يُقتَل قبل إكماله، وفي هذه الحالة لما كان وُجِدَ على الإطلاق. أما الفئة الثانية فتحتوي كل وفقط الأشياء التي يستحيل بالنسبة إليها ألا توجد. الأشياء التي في هذه الفئة ببساطة يجب أن توجد وبالتالي يقال عنها أن لها وجودًا حتميًّا. أمثلة غير مختلف عليها لأشياء في هذه الفئة أصعب في الحصول عليها، قد تلائم الأعداد الغرض، أو الأشكال الأفلاطونية المثالية [الافتراضية] (لو كان هناك شيء كهذه). وفقًا لأحد الطرق التقليدية للاعتقاد بخصوص الله، فالله يدخل في هذه الفئة. الحقائق على نحو مماثل يمكن أن تُقسَّم إلى الصحيحة احتماليًّا (صحيحة لكنها يمكن أن تخفق في أن تكون صحيحة) والصحيحة حتميًّا (يجب أن تكون صحيحة). الحقائق الاحتمالية تتضمن حقائق مثل أن نظامنا الشمسيّ يحتوي على تسع كواكب بالضبط، وأن الأرض تدور حول الشمس، وأن سرعة الضوء 299792458 مترًا في الثانية. أما الحقائق الحتمية [الضرورية] فهي التي يُعتقَد أنها تحتوي نموذجيًّا_من ضمن أشياء أخرى_حقائق المنطق (كمثال، ب يتضمّن ب) وحقائق الرياضيات (مثل 2+2+4).
يؤكّد المؤمنون نمطيًّا أن الله هو الخالق الكليّ القدرة للكون. تُفهَم هذه الفرضية عادةً على أنها تتضمَّن على الأقل أن الله هو المصدر النهائيّ لكل الأشياء الموجودة احتماليًّا وكل الحقائق الاحتمالية. يعتقد بعض المؤمنين أن قوى الله الخالقة لا تشمل فقط النحو الذي عليه الكون والأشياء التي يحتويها، بل وكذلك النحو الذي ينبغي أن يكون عليه الكون والقِيَم التي يحتويها. يشرح Philip Quinn (1998) هذه الأطروحة على نحوٍ لطيف [جيّد]:

"يريد المؤمنون على نحو معتاد الإصرار على تمييز تامّ بين الله والعالم، بين الخالق والمملكة المخلوقة. وفقًا للروايات التقليدية عن الخلق والحفظ، إن كل شيء محتمَل [طارئ الوجود] يعتمد على قوة الله لوجوده أيّانَ يوجد. الله_على النقيض_لا يعتمد على أي شيء خارج عن نفسه لأجل وجوده. لذا فالله له سيادة تامّة على الوجود الطارئ....آراء الوحدة النظرية ذات النوع المألوف لذا تجعل الأمر جذّابًا أن تمدَّ منظور السلطة الإلهية...من مجال الحقائق إلى مجال القيم."

يؤكِّد المؤمنون الذين يعتقدون بنوع الرأي الموصوف من قِبَلِ Quinn أنه تمامًا كما أن نشاطَ اللهِ الخلّاقَ هو ما سبَّب وجود الذرات وكون الضوء له السرعة التي لديه، فإنه نشاطُ اللهِ الخلاقُ أيضًا ما يحدِّد أي الأشياء خيِّرة وأيها شريرة، وأي الأفعال صائبة أخلاقيًّا أو خاطئة أو إلزامية، وأي سمات الشخصية فضائل وأيها رذائل، وأي حيوات البشر تستحق العيش، وهلم جرًّا. وفقًا لنسخة قوية على نحو خاص من هذا الرأي، فالله له السلطان لتنظيم الأخلاق على النحو الذي يراه ملائمًا؛ فهو منشئ قوانين الأخلاق بنفس معنى أنه منشئ قوانين الطبيعة. علاوة على ذلك، فلأنه كليّ القدرة فإن التقييد الوحيد على قوانين الأخلاق التي خلقها الله هي حدود الإمكانية. لو نفهم الادعاآت الأخلاقية باعتبارها ادعاآت بخصوص أي الأشياء يكون خيِّرًا أم شريرًا، صائبًا أخلاقيًّا أم خاطئًا، ملزمًا أم غير ذلك، فاضلًا أم أثيمًا، فمن ثَمَّ يمكننا أن نستوعب جوهر هذا الرأي بالفرضيتين التاليتين:

فرضية التحكم: كل ادّعاء أخلاقيّ متماسك منطقيًّا هو كذلك لأن الله يمكنه جعله صحيحًا .

فرضية الاعتماد: كل ادّعاءٍ أخلاقيٍّ صحيحٍ هو كذلك بسبب فعل المشيئة من جانب الله.
قد يُعتقَد بفرضية الاعتماد كحقيقة طارئة [محتملة] أو كحقيقة حتمية. لو أنها حقيقة حتمية، فإذن فإن وجود الحقائق الأخلاقية في الكون يستلزم أن الله يوجد. لو أن هذه الفرضية صحيحة على نحو حتميّ فإذن بدون الله فلا شيء يمكن أن يكون جيّدًا أو سيئًا، صوابًا أو خطأً، فاضلًا أو أثيمًا. كما عبَّر عن ذلك كريج: "في كون بلا إله، فإن الخير والشر لا يوجدان. هناك فقط حقيقة الوجود المجرّدة عديمة القيمة." هذا النوع من الجدليات_بدءً من المقدِّمة المنطقية بأن فرضية الاعتماد صحيحة على نحو حتميّ حتى الاستنتاج بأن ليس هناك حقائق أخلاقية إذا لا يوجد الله_هي جدلية الله كمصدر للأخلاق.

بعض المؤمنين الذي يقبلون استنتاج جدلية الله كمصدر للأخلاق يخفقون في تقدير نتائجها على نحوٍ كامل. كريج هو مثال. إحدى مواضيعه المركزية هي كم كريه هو الأمر لو الله لم يوجد. انظر_كمثال_تعليل كريج عن إدراكه لأخلاقياته:

"يمكنني التذكر بصورة حيوية أول مرة أخبرني أبي_كطفل_أني يومًا ما سأموت. على نحو ما كطفل لم تخطر الفكرة على بالي قط، وعندما أخبرني كنت مهيمنًا عليَّ تمامًا بخوفٍ وحزن لا يُحتملان، وبكيت وبكيت وبكيت، ورغم أن أبي حاول إعادة طمأنتي على نحو متكرر أن هذا الحدث بعيد زمنيًّا، فبالنسبة لي لم يفرق هذا البتة. كانت الحقيقة أني سأموت ولن أكون من بعدُ. وقد هيمنت عليَّ هذه الفكرة."

لاحقًا يشير كريج إلى "رعب الإنسان المعاصر" مواجهًا الحياة في كون بلا إله (أيًّا ما كان ما يعنيه بالإنسان المعاصر). لكن إن لا يمكن أن يكون هناك خير أو شر لو أن الله لا يوجد، فمن ثمَّ لا يمكن أن يكون هناك شر لو أن الله لا يوجد. وبالتالي لو أن الله لا يوجد فلا يمكن أن يحدث أي شيء سيء قد لأي أحد. إن استنتاج جدلية الله كمصدر للأخلاق يتضمن أنه ليس هناك شيء جيد بشأن كون من منظور أنه بلا إله. لكنها تنطوي على نحو مساوٍ أن ليس هناك شيء سي بصدده كذلك. لو أن هذه الجدلية سليمة فلا يمكن أن يكون هناك شيء كريه أو رهيب بصدد كون بلا إله. إن النسخة المختصرة من رسالة كريج المتناقضة ذاتيًّا هي: "بدون الله لن يكون هناك قيم في الكون، وفكِّر كم سيكون هذا رهيبًا!"

رغم ذلك، فيظل هذا التشوّش في حدا ذاته لا ينشئ اعتراضًا على جدلية الله كمصدر للأخلاق. لنقد تلك الجدلية سأدرس نظريتين. النظرية الأقوى تتكون من كلٍّ من فرضية التحكم وفرضية الاعتماد. الفرضية الأضعف تنكر فرضية التحكّم لكنها تقبل فرضية الاعتماد. في آخر الأمر سأستنتج أن كلا الفرضيتين باطلتان. لو أن هذا صحيح فحينئذٍ إذن تسقط جدلية الله كمصدر للأخلاق.


يتبع
لأجل العقلانية والتنوير



  رد مع اقتباس
قديم 12-12-2015, 02:39 AM لؤي عشري غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [3]
لؤي عشري
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية لؤي عشري
 

لؤي عشري is on a distinguished road
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى لؤي عشري
افتراضي ونتابع

وحيث أن جدلية الله كمصدر للأخلاق تعتمد على فرضية الاعتماد فقط فقد يتساءل البعض فلماذا أشغل نفسي ببحث فرضية التحكّم على الإطلاق. أحد الأسباب هو شكّي أن بعض المؤمنين قد يجدون فرضية الاعتماد جذّابة لأنهم يقبلون فرضية التحكم. رغم أن الأخيرة لا تستلزم الأولى، إلا أن قبول الأخيرة يوحي على نحو طبيعيّ بقبول الأولى. وسبب آخر هو أن حقيقة كون فرضية التحكم باطلة هو معلومة مهمة ستساعدنا على فهم العلاقة بين الله والحقائق الأخلاقية على نحو ملائم. بعد نقد كلًّا من الفرضيتين القوية والضعيفة سأضع الخطوط العامة لتفسير بديل لعلاقة "الله" بالحقائق الأخلاقية. إن الرفض المبكّر كلٍّ من الفرضيتين القوية والضعيفة سيساعد على تحفيز هذا التفسير.

نقد النظرية القوية

إحدى العقبات في فرضية التحكم يمك شرحها بالمثال التالي: تخيَّلْ مباراة تكون الجائزة فيها هي القدرة الكلية. هناك متنافسان في هذه المباراة. المتنافس الأول يأمل بالفوز بالجائزة واستعمال قدرته الكلية لخير البشرية. إنه ينتوي صنع السلام والعدل والسعادة لكل العالم. أما المتنافس الثاني فيأمل في الفوز بالجائزة واستعمل قدرته الكلية لأغراضه الأنانية الشائنة. إنه يخطِّط لقتل معظم البشرية وإجبار الباقين على العيش في برك من البراز حيث سيعملون حتى الموت كعبيده وسيتعرّضون للتعذيب على يده لأجل تسليته. وحسبما يتفق ويحدث يفوز المتنافس الثاني بالمباراة ويصبح كليَّ القدرة. يبدو واضحًا أن الأسوأ قد حدث، لقد أصبح كائنٌ أثيمٌ كليًّا كليَّ القدرة والعالم صار على وشك الغرق في الشرّ. لكن لحسن الحظ لا يحدث هذا. هذا لأن أول استعمال يستغل به الفائز قدرته الكلية المكتسَبة الجديدة هو تغيير حقائق أخلاقية معيَّنة. فيجعل الوضع أن قتل الأبرياء خيِّر على نحو رائع، والمعاناة غير المستحَقة عدل، وحياةً بشرية مكرَّسة لعبادته لها أكبر كم ممكن من المعنى الداخليّ. ويجعل كذلك الوضع أنه نفسه كائن كامل أخلاقيًّا. إنه لا يفعل ذلك بتغيير طبيعة شخصيته (رغباته، حوافزه، أهدافه وما إلى ذلك هي نفسها تمامًا كما كانت من قبل)، بل بالأحرى بتغيير طبيعة الكمال الأخلاقيّ. ثم ينفِّذ خطته الخيِّرة والعادلة الآن على نحو رائع. فيقتل معظم البشر ويرمي الباقين إلى البِرَك وما إلى ذلك. لكن_لأنه غيَّر الحقائق الأخلاقية أولًا_فإن القصّة لها نهاية سعيدة. كل شيء نحو الأفضل. إن نسخة الفلم لهذا السيناريو ستجعلك تبتسم كمغفل بينما تغادر المسرح.

هناك مشكلة واحدة في كل هذا: إن القصة محل حديثنا مجنونة. ما هو جنونيّ بصددها هو تحديدًا فكرة أن كائنًا يمكن أن يكون لديه القوة على نحو كافٍ ليجعل الوضع أن_كمثال_قتل الأبرياء خيِّر على نحو رائع. ليس هناك ببساطة أي كمية من القوة [السلطان] كانت ستمكِّن كائنًا من جعل ذلك صحيحًا. القوة_حتى القدرة الكلية_قد تُستعمَل في خدمة الخير أو الشر، لكن استعمالها يقيَّم ضمن إطار أخلاقيّ ليس خاضعًا هو نفسه للقوة محل حديثنا. تبدو هذه القصة أنها تعيد الأمور إلى الخلف بجعل الأخلاق خاضعة للقوة. قد نعبِّر عن المسألة بهذه الطريقة: إن إطارًا أخلاقيًّا (افتراضيًّا) يمكن إعادة ترتيبه على نحو كامل من جانب كائن قويّ على نحوٍ كافٍ ليس إطارًا أخلاقيًّا على الإطلاق. إن المغزى الأخلاقيّ لهذه القصة هو أن القدرة الكلية لا تتضمّن القدرة على جميع الادّعاآت الأخلاقية. لكن لو أن فرضية التحكم افتراضيًّا صحيحة على الإطلاق، فإنها تكون صحيحة لأجل حقيقة أن القدرة الكلية لا تتضمن هذا النوع من السلطان. وبالتالي، فإن فرضية التحكم باطلة.

قد يريد بعض المؤمنين إطلاق مفاجأتهم هنا وقبول أن_على كونها غريبة كما قد تبدو_القصة المخبَر بها أعلاه متماسكة على الأقل. لكني أعتقد أن هناك سببًا آخر لمؤمن ليرفض فرضية التحكم. هذا السبب له علاقة بمشكلة الشر. هذا التحدي القديم للمسيحية[16] يزعم أن إلهًا كليَّ القدرة والعلم وكامل أخلاقيًّا لم يكن سيسمح بوجود الشر في العالم. وبما أن هناك شر في العالم فهذا ينتج عنه أن الله لا يوجد. في (حوارات بخصوص الدين الطبيعيّ)، يعبر هيوم عن المشكلة على لسان شخصيته فيلو[ن]:
"هل هو راغب في منع الشر لكنه غير قادر؟ إذن هل هو كليّ القدرة؟. هل هو قادر لكنه غير راغب؟ إذن هل هو حاقد؟. هل هو قادر وراغب،كلاهما؟ من أين الشر إذن؟."

لقد سعى الفلاسفة المسيحيون خلال العصور للتعامل مع هذا التحدي. لكن الكثير من الردود الواعدة أكثر من غيرها على التحدي يتضح أنها غير متسقة مع فرضية التحكم. لتوضيح هذه المسألة يجب أن نفحص بعض أساليب الرد على مشكلة الشر.

إحدى الردود ذات الشعبية على مشكلة الشر هي دفاع الإرادة الحرة. أشهر النسخ المعاصرة لدفاع حرية الإرادة هي على الأرجح الخاصة بألـﭬـِنْ بلانتينجا Alvin Plantinga (أنشأ بلانتينجا نسخته جزئيًّا كرد على الادعاآت التي قام بها [الفيلسوف الملحد] جون ماكِيِ John Mackie (1992)، لذا فسيكون مفيدًا أن نبدأ بملاحظات ماكي). يفهم ماكي[17] دفاعات الإرادة الحرة كمحاولة للبرهنة على أن الله سمح ببعض الشر في العالم لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي أمكنه بها خلق عالم توجد به كائنات ذوات إرادة حرة. هذا الأمر كذلك لأن الإرادة الحرة تستلزم الشر و"إن أفضل ككلٍّ أن يسلك البشر بحرية، وأحيانًا بخطإٍ، من أن يكونوا بشرًا آليين أبرياء، يسلكون على نحو صائب بأسلوب محدَّد بالكامل."

من ثمَّ، فكما يفهمها ماكي، فإن دفاعات الإرادة الحرة تحتوي على الادعاآت بأن: 1-وجود الكائنات الحرة في الكون يستلزم وجود الشر في الكون، و2-الإرادة الحرة هي خير كبير ووجودها في الكون يرجُح كميةً معينةً من الشر.

إن نقد ماكي الأساسي لدفاعات الإرادة الحرة هو ببساطة:

"الله لم يكن...مواجهًا للاختيار بين عمل آليين أبرياء أو كائنات في سلوكها بحرية سترتكب الأخطاء أحيانًا، فقد كان متاحًا أمامه الإمكانية الأفضل على نحو واضح لعمل كائنات تتصرف بحرية لكن على نحو صائب دومًا."

يرفض ماكي الجزء رقم 1 من دفاعات الإرادة الحرة كما يفهمها ويقدِّم الجدلية المضادّة التالية:

نقد ماكي لدفاع الإرادة الحرة:

1-إنه ممكن أن يكون هناك كائنات حرة في الاختيار بين الصواب والخطإ وتفعل بحرية الشيء الصائب دومًا.
2-كان يمكن لإله كليِّ القدرة أن يُحدِث أي وضعٍ محتمَل.
3-بالتالي، فإن إلهًا كليَّ القدرة كان يمكنه جعل الأمر أن هناك كائنات حرة أن تختار بين الصواب والخطإ وتفعل دومًا الشيء الصائب بحرية.

يرد بلانتينجا على نقد ماكي لتقديم نسخة من دفاع الإرادة الحرة تتضمَّن أن المقدمة المنطقية الثانية لنقد ماكي باطلة. يسعى بلانتينجا للبرهنة على أن الله_رغم كونه كليَّ القدرة_ غير قادر على خلق أفضل كل العوالم المحتمَلة. وتتضمّن نسخة بلانتينجا لدفاع الإرادة الحرة أن_تحت أي ظروف_هناك أوضاع محتملة لا يستطيع إحداثها حتى إلهٌ كليُّ القدرة.

إحدى الافتراضات الأساسية المؤسِّسة لدفاع بلانتينجا هي أن هناك_لكل كائن يمكن أن يخلقه، ولكل موقف قد يجد ذلك الكائن نفسَه فيه_حقيقة للأمر بالنسبة لما سيفعله ذلك المخلوق بحرية لو أنه في الموقف محل الكلام وقادر على الاختيار بحرية بين الصواب والخطإ. علاوة على ذلك يعتقد بلانتينجا أن هذه الحقائق_ما يُسمَّى الواقعيات المتعارضة الحقيقية للحرية المخلوقة_ ليست تحت تحكّم الله. أيها هو الصواب ليست من صلاحية الله، فهو ببساطة يجد نفسه عالقًا [غير قادر على التخلص] من مجموعة معيَّنة من الواقعيات المتعارضة الحقيقية للحرية ويجب عليه أن يفعل أفضل ما يقدر عليه ضمن هذه التقييدات. إذن فإن جوهر دفاع الإرادة الحرة لبلانتينجا هو إمكانية أن قيم الحقيقة لهذه الواقعيات المتعارضة تبزغ على نحوٍ بحيث أن الله يكون ببساطة غير قادر على إعطاء أي أحد اختيارًا حرًّا بين الصواب والخطإ بدون فعل أحدٍ ما شيئًا خطأً. تحت هذه الظروف لن يكون الله قادرًا على خلق كون يكون هناك فيه كائنات قادرة على الاختيار بحرية بين الصواب والخطإ وليس هناك فيه شرّ[18]. لفهم كيف قد يحدث هذا فلعلك تتأمّل النموذج البسيط التالي:

افترضْ أن هناك فقط كائنين، بِلّْ و تِدْ اللذان استطاع الله خلقهما وموقفين محتملّيْن: م1 وم2 قد يوضع في أحدهما هذين الكائنين. وافترِض أن في م1 هناك مجريان محتملان للسلوك [الفعل] ف1 وف2، وفي م2 هناك مجريان للسلوك ف3 وف4. ف1وف3 خاطئان أخلاقيًّا، بينما ف2 وف4 صائبان أخلاقيًّا. افترضْ أن الواقعيات المتعارضة التالية اتضح أنها حقيقية:

1-لو كان بل فقط في م1 فسيمارس بحرية ف1.
2-لو كان تد فقط في م1 فسيمارس بحرية ف1.
3-لو كان بل فقط في م2 فسيمارس بحرية ف3.
4-لو كان تد فقط في م2 فسيمارس بحرية ف3.
5-لو كان بل و تد في م1 معًا فسيمارس بل بحرية ف1.
6- لو كان بل و تد في م2 معًا فسيمارس تد بحرية ف3.

مفترِضين هذه الواقعيات المتعارضة الحقيقية فليس هناك سبيل يستطيع به الله إعطاء أي أحد حرية الاختيار بين الصواب والخطإ بدون فعل أحد ما شيئًا خاطئًا[19]. إن فكرة بلانتينجا هي أن نفس الشيء يمكن أن يحدث في نموذج يناظر العالم الحقيقيّ. عالم يحتوي افتراضًا على عدد لا نهائي من الكائنات والمواقف والأفعال المحتمَلة. وإذا حدث هذا فإن الله سيكون عالقًا على نحوٍ مماثل، لن يستطيع خلق عالم بكائنات حرة وبدون شر. (قد نتخيّل إلهًا متضايقًا ومحبّطًا دارسًا الواقعيات المتعارضة العديدة، هازًّا رأسَه ومتمتمًا لنفسه بينما يتبع الاحتمالات اللا نهائية[20]).

لكن هذه الصورة كلها تنهار حطامًا إذا تكون فرضية التحكم صحيحة. هذا لأن دفاع الإرادة الحرة يعتمد على افتراض ضمنيّ أن هناك حقائق أخلاقية معيَّنة ليست تحت تحكّم الله. لرؤية هذا، تأمَّلْ بيان بلانتينجا التمهيديّ لدفاع الإرادة الحرة الخاص به:

"إن عالمًا يحتوي على كائنات حرة والتي هي حرة على نحو جوهريّ (وتمارس بحرية أفعال خير أكثر من أفعال الشر) هو أكبر قيمةً من عالم غير محتوٍ على أي كائنات حرة على الإطلاق، طالما كل شيء آخر فيما بينهما متساوٍ. إذن الآن يستطيع الله خلق كائنات حرة، لكنه لا يستطيع جعلهم أو تقرير أن يفعلوا ما هو صائب فقط. لأنه لو فعل، فمن ثمَّ لن يكونوا أحرارًا في جوهرهم على الإطلاق، فهم لا يفعلون ما هو صائب بحرية....كما اتضح_على نحو محزن كفايةً_بعض الكائنات الحرة التي خلقها الله تتجه إلى الخطإ في ممارسة حريتها، هذا هو مصدر الشر الأخلاقيّ. رغم ذلك فإن حقيقة أن الكائنات الحرة تتجه أحيانًا إلى الخطإ لا تُتَخَذ ضد كلية قدرة الله ولا طيبته؛ لأنه كان يستطيع أن يمنع من البدء حدوث الشر الأخلاقيّ فقط بإزالة إمكانية الخير الأخلاقيّ."

بملاحظة كيفية بداية الفقرة، فإن بلانتينجا يدّعي أن الحرية المهمّة (حرية الاختيار بين الصواب والخطإ) خير كبير. إنها خيِّرة للغاية لدرجة أنها تستحق السماح بكمٍّ معيَّن من الشر في العالم لإنتاج الحرية الأخلاقية المهمّة. لكن افترِضْ_كما تتضمّن فرضية التحكم_أن ضمن قدرة الله أن يجعل الوضع أن الحرية الأخلاقية ذات الأهمية [أو المعنى] ليست خيرًا كبيرًا. بل في الواقع أنها ليست خيرًا على الإطلاق. بالإضافة إلى ذلك، لو أن فرضية التحكّم صحيحة، فضمن قدرة الله أن يجعل الوضع أن الممارسة غير الحرة المقدَّرة سببيًّا للأفعال الصائبة أخلاقيًّا خيرٌ كبير. بالتالي لو أن نظرية التحكّم صحيحة فمن ثمَّ يخفق دفاع الإرادة الحرة الخاص ببلانتينجا تمامًا في البرهنة على أن الله يمكن أن يُبرَّر في السماح بالشرّ في العالم بسبب أن فعل ذلك كان الطريقة الوحيدة التي استطاع بها جلب خيرٍ كبير. لو أن_كما تتضمّن فرضية التحكّم_أنه وَقْفٌ على الله أن يحدد أي الأشياء هي خير كبير، فمن ثمَّ لا يكون الله عالقًا [غير قادر على التخلص] من الادّعاء بأن الحرية أفضل من التقدير المسبَّب. لكن دفاع بلانتينجا يعمل فقط لو أن الله عالق مع [هذا] الادّعاء. لذا فإن دفاع الإرادة الحرة لبلانتينجا ينجح فقط لو أن فرضية التحكّم باطلة[21].

ردٌّ معاصر ثانٍ بارز على مشكلة الشر هو الخاص بجون هِكْ John Hick (1966)، رد "وادي صنع الروح"[22]. يقوم رد هِكْ على فكرة أن الغرض الرئيسيّ من هذا العالم هو جعل نوع معيَّن من التحوّل الأخلاقيّ ممكنًا للبشر. صمَّم اللهُ العالمَ بمثل هذه الطريقة لكي يمكِّننا من أن نصبح كائنات من نوع معيَّن. يصف هِكْ الفكرةَ بهذه الطريقة:

"إن الإنسان_مخلوقًا ككائن جسديّ على صورة الله_هو فقط المادّة الخام لمرحلة أكثر تقدمًا وأصعب في العمل الخلّاق لله. هذه هي هداية البشر كأشخاص أحرار ومستقلين نسبيًّا خلال تعاملاتهم مع الحياة في العالم الذي وضعهم فيه، باتجاه سمة الوجود الشخصي ذي التشابه المحدود بالله. إن سمات هذا التشابه كُشِف عنها في شخصية المسيح."

[حسبَ هكْ] فما يريده الله_والغرض الذي لأجله صمَّمَ العالم_هو أن يحوِّل البشر أنفسَهم إلى كائنات شبيهة بالمسيح عن طريق اختياراتهم الحرة. هذا التحوّل يتطلّب أن يواجه البشر ويتغلبوا على العديد من أشكال الشر؛ هذا سبب احتواء عالمنا على الشر. و_حالما نفهم الغرض الحقيقيّ لهذا العالم سنكون في وضع يمكّننا من تقدير قيمته بدقة. [وبكلامه:]

"هذا العالم يجب أن يكون مكانًا لصنع الروح [الجوهر]. وتُقدَّر قيمتُه ليس بكمّ اللذّة والأم الحادث فيه في أي لحظة في المقام الأول، بل بملائمته لغرضه الأساسي، غرض صنع الروح"

وكالحال مع دفاع الإرادة الحرة لبلانتينجا، فإن فرضية التحكم تقوِّض رأي هِك Hick. ذلك لأن رأي هِكْ_مثل رأي بلانتينجا_يعتمد على الافتراض بأن هناك حقائق أخلاقية ليس لدى الله تحكم فوقها. كتب هِكْ:

"إن الحكم على القيمة المستحضَر ضمنيًّا هنا هو الواصل بكدح إلى الخيرية بمواجهة الإغراآت والسيطرة عليها آخر الأمر، وهكذا فإن القيام بالاختيارات المسؤولة على نحو صائب في المواقف المسؤولة هو خير بمعنى أثرى وأكبر قيمةً مما كان سيكون عليه أحدٌ مخلوقٌ من البدء في حالة من البراءة أو الفضيلة الأخلاقية على السواء."

رد هِكْ يفترض أن كائنًا أصبح فاضلًا من خلال الاختيار الحر أفضل من آخر كان من البدء خُلِق منذ البدء فاضلًا. لكن فرضية التحكّم تتضمّن أن الله كان يمكنه أن يجعل الوضع أن كائنًا خُلقَ فاضلًا منذ البدء أفضل من آخر يصبح فاضلًا من خلال الاختيار الحرّ. وإن كان الله أمكنه فعل هذا فمن ثَمَّ يخفق ردّ هِكْ. بالتالي فإن ردَّه_كرد بلانتينجا_ينجح فقط لو أن فرضية التحكم باطلة.
إن الردَّين على مشكلة الشر[23] من قِبَل بلانتينجا و هِكْ كليهما يتفق مع الملخَّص التالي:

هنا شيء (س)، وحيث أن 1-س هو خير كبير و2-إنها الحالة أو قد تكون أن الله لا يمكنه جلب س إلى العالم بدون السماح ببعض الشر في العالم. بالتالي فإن الله هو أو قد يكون مبرَّرًا في السماح ببعض الشر في العالم.

لكن لو أن فرضية التحكّم صحيحة، فمن ثَمَّ فلا ردَّ يتّبِع هذا الملخَّص يمكنه العمل، حيث أن: 1-بالنسبة لأي شيء هو خير كبير (س)، فإن الله له القدرة على جعل الوضع أن س ليس خيرًا كبيرًا؛ و2-هناك الكثير من الأشياء التي لا تلائم الشرط الثاني أعلاه [القائل بحاجة الله للسماح ببعض الشر لجلب خير كبير للعالم] لأن الله كان يمكنه عمل خيرات كبيرة. إن الكائنات المقدَّرة سببيًّا التي تفعل دومًا بدون حرية الشيء الصحيح والكائنات المخلوقة ذوات فضيلة من البدء هي أمثلة. لو أن فرضية التحكّم صحيحة، فلا يمكن أن يكون الله مضطرًا أبدًا على جلب الشر إلى العالم لكي يوفِّر خيرًا كبيرًا، بما أنه كان هناك مجال متاح له دائمًا الاختيار البديل بإنتاج شيء [آخر] يمكن أن يُخلَق بدون جلب الشرّ إلى العالم وجعل ذلك الشيء الآخر خيرًا كبيرًا.

نقد النظرية الأضعف

هناك_إذن_أسباب قوية للمؤمن والطبيعيّ على السواء لرفض فرضية التحكم. رغم ذلك، فحتى لو أن هذا صحيح، فهو لا يدحض جدلية الله كمصدر للأخلاق لأن تلك الجدلية تُقام على فرضية الاعتماد. بالإضافة إلى ذلك، اقترح بعض المؤمنين طريقة لرفض فرضية التحكم بينما يستمرون في الاعتقاد بفرضية التحكم. ربما نفتتح تقديم هذا الاقتراح بطريقة للاعتراض على النظرية القوية اقترحها Ralph Cudworth (1976):

"لاهتيون معاصرون متنوعّو المشارب لا يجادلون بجدية فقط بل وبحماسة بأن...ليس هناك شيء خيِّر أو شرير على نحو مطلق وجوهري وطبيعي، عادل أو ظالم، فيما قبل أي أمر أو تحريم لله، لكن إرادة الله التحكمية ورضاه....بأوامره ونواهيه هو القاعدة والمقياس الأول والوحيد منه. ولذلك ينتج عن هذا على نحو حتميّ ألا شيء يمكن تصوّره على أنه شرير على نحو فادح للغاية، أو ظالم أو غير شريف على نحو فاسد للغاية، بل لو أمر به هذا الإله كليّ القدرة فإنه ينبغي بناء على هذه الفرضية أن يصبح فوريًّا مقدّسًا وعادلًا وصالحًا."

يبدو أن مقصد Cudworth أنه لو كانت فرضية التحكّم صحيحة لكان أي شيء إذن يمكن أن يكون "مقدسًا، وعادلًا، وصالحًا"، وهو ما يبدو سخيفًا. إن التضمين المعضل لفرضية التحكم_كما يراه_هو احتمالية حقائق أخلاقية معينة. تتضمن فرضية التحكم على نحو مزعوم_كمثال_أنه قد كان قد يكون مسموحًا به أخلاقيًّا لشخص أن يوسع آخر ضربًا بلا سبب.

إن إستراتيجية ذات شعبية للردّ على هذا النوع من الاعتراضات هي التأكيد بأنه بسبب أن جزءًا طبيعة الله الجوهرية أن يكون لديه سمة من نوعه معيَّن (مثلًا، أنه محبّ)، فهناك أشياء جعلُها خَيِّرة أو صائبة متعارض مع طبيعة الله الجوهرية. كمثال، يقترح (1983) EdwardWierenga أنه لأن الله كلي المحبة "فهو ما كان ليأمر بفعل_لو قيم به_سيكون ضربًا مبرحًا لإنسان آخر"[24]. في هذه الطريقة يُنكَر أن الله يمكنه أن يجعل أي ادّعاء أخلاقي متّسق منطقيًّا على الإطلاق صحيحًا، كمثال أنه سيكون إجباريًّا على شخص ما أن يُنزِل الضرب المبرح بإنسان آخر، لأن الله لا يقدر أن يجعل هذا صحيحًا لأن فعل ذلك غير متوافق مع طبيعته الجوهرية. رغم ذلك، فكل الادّعاآت الأخلاقية الصحيحة هي صحيحة بسبب فعل ما للمشيئة من جانب الله. إنها لا تزال هي المشيئة الإلهية ما يحدّد أي الادّعاآت الأخلاقية صحيح، لكن مدى المشيئة الإلهية محدود بالطبع الإلهيّ. وفقًا لهذا الاقتراح فإن فرضية التحكّم باطلة لأنها متعارضة مع الادّعاء بأن الله له طبع من نوع معين جوهريًّا، لكن فرضية الاعتماد رغم ذلك صحيحة.

أعتقد أن هذا الاقتراح المنقَّح غير مقبول لسببين. أولًا أنه ضمنيٌّ في الاقتراح فكرةُ أن الله لديه القدرة على جعل أي ادّعاء أخلاقيّ متّسق منطقيًّا صحيحًا، لكنه فقط طبعه [شخصيته] الذي يمنعه من كونه قادرًا على ممارسة هذه القدرة. هذا يتضمّن أنه لو لم يكن_فرضًا_الله محبًّا لأمكنه جعل الوضع أنه إلزاميٌّ لشخص ما أن يُنزِل الضرب المبرح بإنسان آخر. لكن أعتقد أن القصة عن المتنافسين الطيّب والشرير التي عرضناها سابقًا برهنت أن حتى هذا الادعاء الأكثر تواضعًا باطل. إن القصد من تلك القصة مجرد أن هناك بعض الحقائق الأخلاقية التي لا يوجد كائن قادر على جعلها صحيحة، بل وكذلك أن هناك بعض الادّعاآت الأخلاقية التي لا يوجد كائن قويّ على نحو كافٍ لجعلها صحيحةً.

ثانيًا، ملاحظة أن فرضية الاعتماد تتضمّن أن لا شيءَ متمايزَ عن الله في جوهره خيّر أو شرير. الادّعاء بأن فرضية الاعتماد صحيحة على نحو حتميّ يتضمّن أنه مستحيلٌ على أي شيء متمايز عن الله أن يكون خَيِّرًا أو شريرًا في جوهره. هذا لأن القيمة الجوهرية هي القيمة التي يملكها الشيء بسبب طبيعته الجوهرية. إن كان فعل للمشيئة من جانب الله يمنح القيمة لشيء متمايز عن الله، فلا يمكن للقيمة أن تكون جوهرية. ستكون القيمة التي يملكها الشيء بسبب شي متمايز عن ذاته.

أعتقد أن هذا المعنى الضمنيّ معضل لأجل السبب البسيط من كون بعض الأشياء المتمايزة عن الله حقيقةً خيِّرة في جوهرها وبعض الأشياء حقيقةً شريرة في جوهرها. مثلًا، الألم يبدو أنه شرٌّ جوهريّ. إنه شرير وفي حد ذاته؛ سوؤه هو جزء من طبيعته الجوهرية وليس ممنوحًا له من مصدر خارجيّ. إلا أن المؤمن الذي يقبل بفرضية الاعتماد يجب أن يرفض هذا ويؤكد بدلًا من هذا أن الألم سيء فقط لأن الله جعله كذلك.

قد يُجاب بأني في قيامي بهذا الادّعاء ألتمس السؤال ضد من يعتقد بفرضية الاعتماد. هل دلي أي جدلية على ادّعائي أن شيئًا ما خيِّر أو سيء في جوهره؟ ردًّا على هذه التهمة سألجأ إلى بعض الملاحظات التي قام بها Roderick Chisholm في كتابه (مشكلة المعيار) The Problem of the Criterion 1973. إن موضوع Chisholm في ذلك الكتاب هو فلسفة المعرفة (الإبستومولوجي)، وهو يقترح أننا إذا كنا يجب أن نختار ما إذا كنا نقبل مبدأ فلسفيًّا ما بصدد المعرفة أو نقبل حقيقة واضحة ما مثل أني أعرف أن لدي يدين، فيجب أن نقبل الحقيقة الواضحة. على نحو مماثل، يبدو لي إن كان يجب علينا أن نختار بين فرضية الاعتماد والادّعاء بأن الألم شرير [سيء] في جوهره وأن العشق خيِّر [جيّد] في جوهره، فإنها فرضية الاعتماد ما يجب أن يُطرَد. إن نظرية للمعرفة تؤدّي إلى الاستنتاج بأن الأفراد لا يقدرون على معرفة أن لديهم أيادي ينبغي أن تُرفَض؛ على نحو مماثل فإن ميتافيزيقيا [فلسفة فوق طبيعية أو إلهيات] تؤدّي إلى الاستنتاج بأن العشق ليس جيّدًا في جوهره، أو أن الألم ليس سيئًا في جوهره يجب أن ترفض. على نفس النحو كتب Kai Nielsen:

"[سواء هناك] إله أو لا إله، فإن تعذيب الأبرياء وضيع. على نحو أعمّ، حتى لو كنا لا نستطيع الوصول إلى شيء بصدد مفهوم الله، فيمكنا بسهولة الاتفاق على تقدير...أن، لو أن أيَّ شيءٍ شريرٌ، فإن إنزال أو تحمّل معاناة غير ضرورية وبلا غرض هو شر، خاصّةً عندما يمكن عمل شيء معها....ألا يمكننا أن نكون واثقين من هذا أكثر مما يمكننا بصدد أي تنظير أو مقصد فلسفيّ عامّ قد نقوم به في نظرية الأخلاق؟



  رد مع اقتباس
قديم 12-17-2015, 12:18 AM لؤي عشري غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [4]
لؤي عشري
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية لؤي عشري
 

لؤي عشري is on a distinguished road
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى لؤي عشري
افتراضي

تصحيح: ورد فيما أرسلته الكلمة التالية:

كون ثابت بلا حياة خامد ساكن بلا أبعاد متجمد حرفيًّا.

صوابها: كون ثابت بلا حياة خامد ساكن في طريقه للانكماش على ذاته متجمد حرفيًّا.

وتحتها بملف الوورد شرحت: هذه هي الترجمة التي أمكنني العثور عليها لكلمة extropic من مصطلح extropy وهي كلمة إنجليزية منحولة مخترعة حديثًا وتعني مفهومًا وقانونًا معاكسًا في معناه وتأثيره للـentropy في علم الفيزياء، أي الاتجاه العكسيّ من الفوضى (حركة الكون وتعدد مواده ومحتوياته) إلى النظام (أي الثبات ووحدة طبيعته). هذا شرح مبسَّط بقدر فهمي للفيزياء وقد لا يكون دقيقًا_م.

أيضًا ورد بفقرة أخرى: ألتمس السؤال، وصوابها: أفترض صحة ما يتطلب إثباته من البدء

---------------------------------------------------------------------------------------

بالتالي فإني أستنتج أن فرضية الاعتماد ينبغي أن تٌرفَض مع فرضية التحكّم. لو أن هذا صحيح، فمن ثَمَّ فإن جدلية الله كمصدر للأخلاق تخفق، لأنها تقام على الادّعاء بأن فرضية الاعتماد صحيحة حتميًّا.


تفسيرٌ بديل

إن رفض هاتين الفرضيتين يثير بعض الأسئلة. لو أن فرضية الاعتماد باطلة، فإذن فإن هناك بعض الادّعاآت الأخلاقية الصحيحة ليست صحتها بسبب فعل مشيئة من جانب الله. إذن فما الذي يجعل هذه الادعاآت الأخلاقية صحيحة؟ ولو أن فرضية التحكّم باطلة، فإذن هناك بعض الادعاآت الأخلاقية المتّسقة منطقيًا التي لا يستطيع حتى الله_إن وُجِدَ_جعلها صحيحة. لماذا الله غير قادر على جعل مثل هذه الادّعاآت صحيح؟ هل هذا العجز يتّسق مع قدرة الله الكليّة؟

أحد الآراء التي تقدّم إجابات على هذه الأسئلة هو الرأي القائل بأن بعض الحقائق الأخلاقية هي صحيحة حتميًّا.

تأمَّل_كمثال_الادّعاء بأن المعاناة هي شر في جوهرها. أنا أقترح أن هذا الادعاء الأخلاقيّ صحيح، وعلاوة على ذلك أنه صحيح حتميًّا هذا الادّعاء ليس فقط صحيحًا في العالم الحقيقيّ بل وفي كل عالم ممكن. تمامًا كما أنه ليس هناك كون محتمَل به 2+2=5، فليس هناك كون محتمَل فيه المعاناة ليست شرًّا في جوهرها. المعاناة سيئة بسبب طبيعتها الجوهرية، وهذا صحيح في كل كونٍ محتمَل.

هذه وجهة نظرٍ يمكن أن يقبلها الملحد والمؤمن على السواء. وفيما يتعلّق بالسؤال عما يجعل هذه الادّعاآت الأخلاقية صحيحة؟ فإن إجابتي أنه نوع الشيء الذي يجعل حقائق حتمية أخرى صحيحة. أي الطبيعة الجوهرية للكيانات التي تكون الادعاآت بخصوصها. إنها السمة الجوهرية للعددين 2 و5، وعلاقات الهوية والإضافة ما يجعل الحال أنه حتميًّا 2+2 لا تساوي 5. إنها الطبيعة الجوهرية للألم ما تجعل الحال أنه شر في جوهره. تشرح وجهة النظر هذه أيضًا لماذا الله غير قادر على جعل هذه الادّعاآت باطلة وكيف أن هذا متوافق مع [عقيدة] قدرته الكلية. إنه غير قادر على جعلها باطلة لأنها ببساطة لا يمكن أن تُجعَل باطلة، كحقائق حتمية ليس لها سوى قيمة حقيقة واحدة محتمَلة: أنها صحيحة. يُعتقَد على نحوٍ واسع أن كلية القدرة لا تتضمّن القدرة على عمل ما هو مستحيل. إن جعل الأشياء الباطلة صحيحةً مستحيلٌ. وبالتالي فإن حقيقة أن الله لا يقدر أن يجعل تعذيب رضيع لأجل التسلية مسموحًا به أخلاقيًّا لا يتضمّن أنه ليس كليَّ القدرة.

أنا لا أعني الاقتراح بأن كل الحقائق الأخلاقية هي حقائق حتمية. في الواقع، من الواضح أن الكثير من الحقائق الأخلاقية هي حقائق محتمَلة [طارئة]. كمثال، افترضْ أني وعدتك بأن أقابلك للغداء في مناسبة معينة. أيضًا افترضْ أني عند هذه المناسبة ليس لدي سبب وجيه على نحوٍ كافٍ لكي لا أحفظ وعدي. ينتج عن هذا أني ملزَم بمقابلتك للغداء. هذه حقيقة أخلاقية، إلا أنها حقيقة طارئة. كان يمكن ألا أعد بمقابلتك من الأول، في الواقع كان يمكن ألا أكون قد وُلِدْتُ على الإطلاق. في كلا الحالتين كان الادعاء الأخلاقي موضع حديثنا سيكون باطلًا. لكن يبدو لي أن الحقائق الأخلاقية الطارئة كهذه تعتمد دائمًا جزئيًّا على حقيقة ما (أو حقائق) أخلاقية حتمية. في هذه الحالة، فإن الحقيقة ذات الصلة هي شيء مثل: (إنه خطأ أخلاقيًّا أن تخفق في حفظ وعد ما لم يكن لديك سبب وجيه على نحو كافٍ لتفعل ذلك).

أعتقد أن هذه الحقائق الحتمية هي جزء من أساس الكون. لو أن الله يوجد فهي لا تُجعَل صحيحة من قِبَلِه ولا هي اعتمدت على مشيئته لأجل صحتها. بالإضافة إلى ذلك، فالبعض منها على الأقل هي كذلك في حد ذاتها بحيث يفتقد القدرة على جعلها باطلة. هذه الحقائق الأخلاقية الضرورية تؤلف الخلفية الأخلاقية لكل كونٍ محتمَل ضمن هذا الإطار تُقَيَّم كل الكائنات وأفعالها، سواء بشرية أم إلهية [مزعومة].


ويظل متسقًا مع وجهة النظر هذه أن الله لو يوجد فله دور ما في تشكيل النظام الأخلاقيّ الذي يخضع له البشر. قد يُرى ذلك بتأمُّل وضع مألوف يتضمن البشر. افترضْ أن صديقًا لك أدّى لك معروفًا كبيرًا. إنه سعيد بعمل هذا المعروف لك، لكنه علَّق (على نحو صحيح) أنك تدين له بواحدة. بعد بضعة أسابيع لاحقًا_قد نفترض_اتصل بك صديقك وأعلمك أنه يحتاج حقًّا استعارة سيارتك لهذا اليوم. وليس لديك حاجة ملحّة للسيارة ويذكّرك صديقك بلطف بالمعروف الذي عمله لك. إنه معقولٌ أن نفترض_تحت هذه الظروف_أن لديك التزامًا أخلاقيًّا بإقراض صديقك سيارتك لليوم. في هذه الحالة فإن طلب صديقك اقتراض السيارة فرض عليك التزامًا لم ليكن ليكون عليك في حال أخرى. بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من الالتزامات التي كان يستطيع صديقك فرضها عليك غير إلزامك بإقراضه سيارتك، لأن هناك الكثير من الطلبات المعقولة الأخرى التي كان يمكن أن يقوم بها بدلًا من ذلك. لكن بالتأكيد فإن صديقك ليس حَكَمًا كليَّ القدرة على الأخلاق. إنه بالضبط إطار الحقيقة الأخلاقية الحتمية ما يمكّن صديقك من فرض الإلزام في طلبه منك. إن النظام الأخلاقيّ نفسه يجيز هذا النوع من الأمور تحت ظروف معينة. هذا الأمر يقترح علاقة محتملة أخرى بين الله والأخلاق. نوع العلاقة هذا هو موضوع القِسم التالي.


الله كموصٍ إلهيّ

كثيرًا ما نجد أنفسنا مواجهين لالتزامات معينة بسبب كيفية علاقتنا بالآخرين. عندما يكون شخصٌ صديقًا أو زوجًا لي فإن لدي التزامات لذلك الشخص الآخر لم تكن لتكون عليَّ في حالٍ آخر. كمثال، لو تزوّجتُ بـ س، فمن ثَمَّ أنا ملزَم أخلاقيًّا بأن أكون مخلصًا لـ س على نحو لم أكن لأكون ملزَمًا به لو أكن متزوّجًا بـ س. إن بعض هذه العلاقات تبدو أنها أساسية للحالة الإنسانيّة. كمثال، كل إنسان له والدان جينيان [وراثيان]. هذه السمة للظرف الإنسانيّ تفرض التزامات على البشر والتي لم تكن لتكون لديهم لولا ذلك. فعلى نحو قابل للجدل، لدينا التزامات اتجاه والدينا ليست علينا اتجاه أي إنسان آخر. تخيَّلْ أن فكرة للتولّد التلقائيّ للبشر صحيحةٌ؛ أي أن: بدلًا من أن يولَدوا، ليس للبشر آباء وبدلًا من ذلك فإنهم ينمون من الأرض تلقائيًّا من وقتٍ إلى آخر. في عالمٍ كذلك لا إنسانَ سيكون ذا علاقة جينية بأي إنسان آخر، والتزامات البشر في عالم كهذا ستكون مختلفة تمامًا عن التزامات البشر في عالمنا. هذا يقترح أن مسألة ما إذا يكون للبشر خالق إلهيّ أم لا قد يؤثِّر على الالتزامات الأخلاقية التي لدى البشر. لو أن الله له وجود فعلًا فمن ثمَّ ربما سيكون لدينا التزامات أخلاقية لا نحتاج لها في الحقيقة (لو افترضنا أن المذهب الطبيعيّ هو الصحيح). إنه مهمٌ أن نميِّز بين ادّعائين هنا. الأول هو الادعاء المتواضع بأن وجود الله يجلب معه بعض التزامات أخلاقية لم تكن لتكون لدينا لو أن الله لم يوجد. أما الادّعاء الآخر فهو ما يُسمَّى بـ"فرضية كارامازوﭪ". وهي فرضية أنه لو لا يوجد الله فمن ثمَّ فإن كل أفعال البشر مسموح بها أخلاقيًّا وليس على البشر التزامات أخلاقية على الإطلاق. وأن بدون الله فإن كل شيء يَصلُح.

لماذا قد يقبل أحدٌ فرضية كارمازوﭪ [شخصية في رواية دوستوفسكي]؟ إحدى الإجابات على هذا السؤال لها جذورها في حوار أفلاطون (فيدو) Phaedo.. في ذلك الحوار يقول سقراط[س] أن: "الآلهة هم حرّاسنا والبشر أحد ممتلكاتهم". بعض فقرات الكتاب المقدّس تدل على وجود هذا التوجه الفكريّ في التقليد اليهوديّ المسيحيّ كذلك . في الكتاب اليهوديّ [العهد القديم] يشير الله أحيانًا إلى البشر كملكيته الخاصّة المكرّسة له [مثلًا الخروج19: 5 والتثنية7: 6]. فاهمًا هذه الفكرة، اقترح Baruch Brody (1974) الاقتراح المتردِّد التالي:

"إن نكن مُلكيةَ الله، فمن ثم ربما نحن علينا التزام فقط بفعل مهما يقوله، وربما يمكننا....مراعاة الادّعاء الممكن بأن...أفعالًا صائبة (أو خاطئة) لنا أن نفعلها فقط في حالة وفقط لأن الله_الذي قد خلقنا ويمتلكنا والذي نحن لذا علينا التزام باتّباعه_يريدنا أن نفعلها (أو نمتنع عنها) .

إن "الادّعاء المحتمَل" الخاصّ بـBrody هو_على وجه التحديد_متعارض مع فرضية كارامازوﭪ لأن الجانب الآخر من اشتراطه الثنائيّ يكون باطلًا لو أن الله لا يوجد . وفقًا لمبدأBrody ، لو أن الله لا يوجد إذن فلا شيءَ خطأٌ أخلاقيًّا، لكنْ لا شيءَ صواب أخلاقيًّا أيضًا. رغم ذلك، يظل مبدأ Brody برودي يتضمّن أن بدون الله فالبشر ليس عليهم التزامات أخلاقية، وهذا هو الادعاء الذي نحن مهتمّون به للغاية.

يعتبر Brody برودي أن الاعتراض بأن امتلاك إنسان هو "فعل ظالم"، هو اعتراض لا يمكن أن يُنسَب على نحو ذي معنى إلى كائن كليّ العدالة". وكما يرى برودي فإن السؤال الحاسم هنا هو "هل هو ظالم بالنسبة إلى الله_الذي يفوقنا على نحوٍ هائل وهو خالقنا_أن يمتلك البشر؟". لكنْ فلنفترضْ أنه عادلٌ بالنسبة إلى الله أن يمتلك البشر، وأن الله لو يوجد فكل البشر هم مُلكِيته. يبدو لي أنه لا ينتج عن هذا أن بدون الله فالبشر ليس عليهم التزامات أخلاقية. هذا لأن الادعاء بأن 1- الكائن أ يمتلك الكائن ب لا يتضمن: 2-الالتزامات الأخلاقية الوحيدة التي على ب هي التي فرضها أ. إن مثل هذا الاستدلال به ثغرة أمام العديد من الأمثلة المعارضة، سأقدِّم واحدًا فقط. افترضْ أن ب وج متزوّجان ببعضهما وكلاهما مُلك أ. تحت هذه الظروف، فإن ب وج سيكون لديهما تنوعًا من الالتزامات. بعض هذه الالتزامات ربما يُستمَدّ من ملكية أ لهما، لكن أخرى ستُستمَدّ من علاقة الزواج المنالة بين ب وج نفسيهما. لو لم يكن ب وج يمتلكهما أ، فربما كان عليهما التزامات أقل مما لديهما فعليًّا، لكن كانا سيظل عليهما بعض الالتزامات. على وجه التحديد، سيظلان عليهما الالتزامات العديدة الناشئة من حقيقة كونهما متزوّجين ببعضهما الآخر. لذا فإن الادّعاء بأن البشر هم مُلك الله لا يُثْبِت فرضية كارامازوﭪ.

إن هناك أسبابًا للتأكيد بأن الله له السلطة لفرض التزامات أخلاقية علينا أخرى غير الادّعاء بأننا مُلك الله. يتأمّل برودي فكرة أن "لدينا التزام باتّباع رغبات الله لأنه خالقنا". إن اقتراحه هو أن حتى لو لم نكن ملكًا لله، إن حقيقة أنه خالقنا قد تضعه في مكانة لفرض التزامات أخلاقية عديدة علينا. باستعادة مثال صديقك الذي كان في وضع يسمح له بفرض التزامات أخلاقية معيَّنة عليك لأنك "تدين له بواحدة". فلو أن الله يوجد حقَّا، فربما سنكون_أيضًا_مدينين له بواحدة لخلقه إيانا، وبِناءً على ذلك سيكون في مكانة تسمح له بفرض التزامات علينا.

يبحث Adams آدمز فكرة أن الامتنان الذي ندين به لله قد يجيز له فرض التزامات علينا. ضمن الأسباب التي لأجلها ربما يكون على البشر طاعة الله، يُضَمِّن آدمز "أسباب الامتنان"، مثل حقائق أن "الله خالقنا...الله يحبنا...الله يعطينا كل الخيرات التي نستمتع بها...العهود التي يقطعها الله معنا هي لصالحنا...أو الأشياء الأخرى التي قد قام بها الله لحفظنا أو تسبيب الخير الأكبر لنا" . على نحو مماثل، كتب رِتشَرْد ماو Richard Mouw في كتابه (الإله الذي يوصي) The God Who Commands 1996:

"الإله الذي أصدر "أنت سوف" [الوصايا العشر] الخاصة بسِفر الخروج 20 هو الإله الذي يستهلّ هذه التعليمات بالتذكير بأننا قد خُلِّصنا من موطن العبودية. وهو الإله الذي_في العهد الجديد_يأمرنا بحفظ وصاياه، يفعل هذا على أساس حقيقة أننا كنا لا زلنا آثمين هو مات لأجلنا [على الصليب حسب معتقد المسيحية_المترجم]. الإله الذي يوصي في الكتب المقدّسة هو الذي يعرض مركبات المصريين المحطّمة واليدين الملتئمتين بندوب من أثر المسامير لابنه الإلهيّ كإثبات للحقّ في أمرنا بما علينا أن نفعل. "

أساس محتمَل ثانٍ لمكانة الله كآمرنا الشرعيّ ليس له علاقة بالامتنان الذي ندين به لله بل بالأحرى بطبيعة الله الجوهرية:

"الله عليمٌ وحكيم إلى أسمى حد...الله هو الخير نفسه، جميل وثريّ إلى أسمى حد في الكمال غير ذي الصلة بالأخلاق والكمال الأخلاقي...إحدى الميزات المهمة [له] هي العدل. إن هذا مهمٌّ على نحو جليٍّ فيما يتعلّق بالسلطان المقنِع لشخصية الله، كمصدر للالتزام الأخلاقي، أن المشيئة الإلهية عادلة.

يشير آدمز أيضًا إلى خيرية الوصايا الإلهية ذاتها، معلنًا أن: "إنه حاسمٌ...أن السلوكيات التي يأمر بها الله ليست سيئة، بل خيِّرة، سواء في جوهرها أو بتقديم نموذج للحياة جيدٍ جدًّا."

لا يزال هناك سبب آخر اقترحه Swinburne:

"الله هو خالق العالَم غير الحيّ، و_كونه غير معروف عنه أنه قد تنازل عن مُلكيته إياه_فهو يحكمه كمالكه....إن مالك ملكية له الحق بأمر من قد أقرضهم إياها بما يُسمَح لهم بفعله معها. بالتالي الله له حقٌّ بأن يُملي كيف ستُستعمَل تلك المُلكية_العالم الغير حيّ_ومن قِبَلِ من. لو أن الله قد صنع الأرض فيمكنه الأمر بأي أبنائه يمكنه استعمال أي جزء ."

هناك_إذن_تنوّعٌ واسع من الأسباب المعقولة ظاهريًّا لفكرة أن الله لو يوجد فعلًا فسيكون له سلطة لفرض التزامات أخلاقية معينة على البشر. إنه لهامٌّ ملاحظة أن هذا النوع من الآراء المقترح من قِبَلِ آدمز والآخرين مختلف تمامًا عن الرأي القائل بأن بسبب كلية قدرته فإن الله له القدرة على تنظيم الأخلاق من خلال قوة مشيئته. إن الرأي موضع الدراسة الآن هو أن بسبب سمة أو سمات أخلاقية ما لله (مثل طيبته) أو علاقة ذات مغزى أخلاقيًّا ما بين البشر والله (أنه خالقنا، أو مُخلِّصنا) فإن الله له السلطان بفرض التزامات أخلاقية علينا. وفقًا لهذا النوع من الآراء، فإن الله هو آمرنا ذو السلطة على نحوٍ ملائم. رغم أن كلا النوعين من الآراء قد تصنَّفان كـ"نظريات الأمر الإلهيّ"، إلا أنهما تختلفان أحدهما عن الأخرى في مناحٍ هامّة. لقد جادلت مبرهنًا من قبلُ أن النوع الأول من الآراء باطل. الآن سأجادل ليس بأن النوع الثاني من الآراء باطل، بل بأنه بالأحرى غير متّسِق مع فرضية كارامازوﭪ وبالتالي بالتأكيد لا يمكن أن يُستعمَل لإثبات تلك الفرضية. إن النوع الثاني من نظريات الأمر الإلهيّ يمكن أن تُستعمَل للبرهنة منطقيًّا على أن الله لو يوجد فإن بعض التزاماتنا الأخلاقية فرضها الله. لكنها لا يمكن أن تُستعمَل للبرهنة على الاستنتاج الأقوى بأن الله لو يوجد فمن ثم فإن كل التزاماتنا الأخلاقية فرضها الله.

تثير جدليتي السؤال التالي: كيف بالضبط يمكن أن يفرض الله التزامات على البشر؟ أي: افترِضْ أن الله هو آمرنا الشرعي ذو الاستحقاق. من خلال أي عملية سيمكن لله أن يفرض التزامات علينا؟ هذا السؤال لا يبدو أنه يُثار وفقًا للرأي المناقش سابقًا بأن الله هو الخالق كليّ القدرة للحقيقة الأخلاقية. فوفقًا لذلك الرأي يجعل اللهُ ادّعاآت أخلاقية معيَّنة صحيحةً بنفس الطريقة تقريبًا التي يجعل بها حقائق فيزيائية معينة صحيحةً، بالمشيئة ببساطة أن تكون صحيحةً. لكن آمرًا شرعيًّا ذا استحقاق لا يقدر أن يفرض التزامات أخلاقية بمجرد مشيئته أن توجد. بالتالي لو فكّرنا في الله وفقًا لهذا النموذج فيجب أن نبحث في طبيعة العملية التي يفرض بها الله الالتزامات علينا. في ورقته البحثية (الأمر الإلهيّ، والمشيئة الإلهية، والالتزام الأخلاقيّ) 1998 Divine Command, DivineWill, and Moral Obligation يلخّصMark Murphy على نحوٍ مفيد الثلاثة اختيارات التي يمكن لله بها أن يفرض على شخصٍ س الالتزام الأخلاقي بفعل ب، كالتالي: 1- بأمر س أن يفعل ب. أو 2-بمشيئة أن يكون س ملزمًا أخلاقيًّا بفعل ب. أو 3- بمشيئة أن يفعل س الفعل ب .

فلندرسْ الثلاثة احتمالات بترتيب معكوس. أحد المشاكل الرئيسية للاختيار 3 هو تحديد المعنى المناسب لـ "المشيئة" كما ترِد في الاختيار3، [وكما كتب مارك مورفي]:
"إن الصعوبة التي تكمن في تحديد مثل هذا المعنى هي هذه: لو أن أحدًا حدّد معنىً للمشيئة أقوى من اللازم، سينتج عن ذلك ألّا أحدَ يمكنه انتهاك مطلب أخلاقيّ، أما لو حدّد معنى للمشيئة أضعف من اللازم فهذا لا يبدو ملائمًا لربط ذلك المعنى بالالتزام الأخلاقيّ، وليس سهلًا تحديد معنى للمشيئة يقع بين هذين الطرفين القصويين غير المقبولين."

يحاول مورفي تحديد المعنى الملائم بالاستعارة من تمييز توما[س] الأكوينيَ بين المشيئة السابقة والتالية [الناتجة]:

"ما يسميه الأكوينيّ المشيئة الناتجة هو ما يريده الله في الحقيقة...إلخ. بينما المشيئة السابقة [سلفًا]_من ناحية أخرى_هي تجريد نسبيّ، لأننا لا ‘نشاء ما نشاؤه سلفًا ببساطة’. هكذا فإن الأكوينيّ يعتقد أن الله سلفًا أراد أن يُخلَّصَ كل البشر، لكنه لم يشأ ذلك كنتيجة تاليًا."

هذا التمييز قد يُشرَح على نحوٍ أفضل عن طريق مثال بسيط افترِضْ أنك مثلي تستمتع بأكل شريحة كبيرة من كعكة الجبن من آنٍ إلى آخر ربما ستشاء سلفًا أكل قطعة من كعكة الجبن لو أن واحدةً متاحة لك. رغم ذلك، إن وجدت نفسك في موقف تعلم فيه أن قطعة كعكة الجبن المتاحة مُسمَّمة فستريد نتيجةً لذلك [بعديًّا، فيما بعد، بالتالي] الامتناع عن أكلها.

يشرح مورفي كيف تحدِّد مشيئات الله السابقة الالتزامات الأخلاقية الخاصة بالبشر بهذه السطور:

"الاعتزامات السابقة هي....تجريدات نسبية، وبما أن هناك مستويات عديدة من التجريد الذي يمكننا الارتقاء إليه في عزو تلك الاعتزامات، فسيكون هناك العديد من الاعتزامات السابقة. قد نصفُ التزامات المرء الأخلاقية الشاملة الجامعة المانعة....كمعتمدة على اعتزامات [مقاصد] الله السابقة فيما يتعلق بأفعال المرء والتي تراعي كل الظروف المحيطة بالفعل، بصرف النظر عما يختار المرء فعله في الحقيقة."

لو أنك في الواقع تمضي لتعذيب رضيع بريء بعد ظهر يوم الأحد ، فمن ثمَّ يعلم الله هذا ولذلك لن يريد تاليًا أن تمتنع عن تعذيب الرضيع. لكن مشيئته السالفة الأكثر تحديدًا، والتي تراعي كل تفصيلة للموقف ما عدا حقيقة أنك تمضي لتعذيب الرضيع، هي أن تمتنع عن تعذيب الرضيع. حسبَ تفسير مورفي، فهذا يجعل الوضع أن عليك التزامًا بالامتناع عن تعذيب الرضيع.

يقترح آدمز أن هذا النوع من الآراء يفشل بسبب احتمالية الحالات التي فيها "يريد الله منا أن نفعل شيئًا لكنه لا يأمرنا بفعله. " يشرح آدمز بالتفصيل هذه النقطة كالتالي:

"للعديد من الأسباب، كثيرًا ما لا نريد من الناس أن يكونوا ملزَمين بفعل ما نريد منهم فعله. بقدر ما يمكنني أن أرى، فالله يمكن أن يكون لديه مثل هذه الأسباب أيضًا، لذلك لا ينبغي أن نتوقّع أن الله يريد أن تفرِض مشيئتُه على شخصٍ ما بأن يفعل شيئًا ما إلزامًا بأن يفعله آليًّا.

المسألة هنا أن الاختيار 3 يتضمّن أنه مستحيل على الله أن يريد أن شخصًا يقوم بفعل معين فحسب بدون أن يكون ذلك الشخص ملزمًا أخلاقيًا بفعله. وفقًا للاختيار 3، فالمشيئة نفسها تفرض الإلزام. إن حالة محتمَلة لنوع الأمر الذي في ذهن آدمز ترد في قصيدة مِلْتُن (الفردوس المفقود). فبعد خلق آدم لكنْ قبل خلق حواء، يطلب آدم من الله أن يخلق رفيقًا مماثلًا له. في البدء يمانع الله، مقترحًا في الأول أن شكوى آدم من كونه وحيدًا غير مبرَّرة، مصرِّحًا له:

"ما الذي تدعوه وحدة؟! أليست الأرض بمخلوقاتها الحية المتنوعة والهواء مستكملين وكل هؤلاء تحت أمرك لتأتي وتلعب أمامك؟"

ويصرّ آدم، ويشير الله بعد ذلك إلى أنه [الله]_رغم افتقاده لرفيق مماثل_سعيد على نحو كامل، فلماذا_إذن_ينبغي أن يحرم افتقاد آدم لمثل هذا الرفيق إياه من أن يكون سعيدًا؟ فيجيب آدم بأن الله كامل بينما الإنسان ليس كذلك؛ وهذا سبب احتياج الإنسان لرفيق مماثل. آخر الأمر، يلين الله فيقول:

"كل هذا حتى الآن كان لتجربتك يا آدم، لقد كنتُ راضيًا، وأجدك عارفًا ليس عن الوحوش فحسب، التي قد أسميتَها على نحوٍ صحيح، بل عن نفسك، معبِّرًا جيدًا عن الروح التي بداخلك بحرية، صورتي لا تُمنَح لبهيم، والذي لذلك لا تلائمك رفقته، سبب وجيه أنك ينبغي ألا تحبه. وكن ذا عقل للغاية رغم ذلك: فقبل أن تتكلّم، علمتُ أنه ليس جيِّدًا للإنسان أن يكون وحيدًا، ولا رفيق مثل هذا حتى الآن قد رأيتَه. وقد قصدتُ أن أختبرك فقط لأرى كيف تحدّد الملائم والمناسب."

اتضح في القصيدة أن الله أراد أن يكون لآدم رفيقة مماثلة منذ البدء، وأنه أراد من آدم أن يدرك احتياجه لمثل هذه الرفيقة بنفسه ويسأل اللهَ أن يخلق قرينةً له. لكن يبدو غير معقولًا أن نفترض أن برغبته هذا، فإن الله بذلك فرض على آدم التزامًا أخلاقيًّا بأن يسأله رفيقةً. إنه ممكنٌ بالتأكيد أن الله أراد من آدم أن يسأله رفيقةً بدون أن يكون آدم ملزَمًا بالقيام بالطلب. إحدى مشاكل الاختيار 3 إذن هي أنها تفرض في الحقيقة تقييدات غير مقبولة على ما يقدر الله أن يفعله.

صعوبة أخرى مع الاختيار3 قد نراها بتذكُّر حالة الصديق الذي تدين له بمعروف. يبدو سخيفًا أن نفترض أن صديقك يمكنه أن يفرض عليك الالتزام بإقراضه سيارتك بمجرد رغبته في أن تفعل ذلك! فلو فشل في توصيل رغبته لك بطريقة ما، فلا التزام سيُفرَض عليك. لكن نفس الأمر سيبدو صحيحًا فيما يتعلَّق بالله. فمن حقيقة أن الله له سلطة لأن يفرض التزامات على البشر لا ينتج عن ذلك أنه يقدر أن يفرض التزامات بمجرد أن يشاء أن يقوم الناس بأفعال معينة.



  رد مع اقتباس
قديم 12-20-2015, 03:24 AM لؤي عشري غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [5]
لؤي عشري
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية لؤي عشري
 

لؤي عشري is on a distinguished road
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى لؤي عشري
افتراضي

صعوبة أخرى مع الاختيار3 قد نراها بتذكُّر حالة الصديق الذي تدين له بمعروف. يبدو سخيفًا أن نفترض أن صديقك يمكنه أن يفرض عليك الالتزام بإقراضه سيارتك بمجرد رغبته في أن تفعل ذلك! فلو فشل في توصيل رغبته لك بطريقة ما، فلا التزام سيُفرَض عليك. لكن نفس الأمر سيبدو صحيحًا فيما يتعلَّق بالله. فمن حقيقة أن الله له سلطة لأن يفرض التزامات على البشر لا ينتج عن ذلك أنه يقدر أن يفرض التزامات بمجرد أن يشاء أن يقوم الناس بأفعال معينة. وكما عبر آدمز عن الأمر:

"الألعاب التي يجلب فيها أحد الأطراف على نفسه الذنب لإخفاقه في تخمين رغبات الطرف الآخر غير المُعبَّر عنها ليست ألعابًا جيدة. ولن تكون أجود لو أن الله يُعتقَد به كطرف فيها."

هذه النقطة الأخيرة تعمل ضد الاختيار 2 كذلك. فالاختيار2 يتضمَّن أن الله_آمرنا ذو السلطة الشرعيّ_يمكنه فرض الالتزامات الأخلاقية علينا بمجرد مشيئة أن يكون علينا التزامات أخلاقية معيَّنة لكنْ بدون التواصل معنا. مجدَّدًا، هذا يبدو غيرَ معقولٍ، فربما يريد صديقك منك أن تكون ملزمًا بإقراضه سيارتك، لكن لا إلزام كهذا سيوجد ما لم يقم بالطلب في الحقيقة.

تقترح هذه الاعتبارات أن الاختيار1 هو أكثر الافتراضات معقولية من بين الثلاث. رغم ذلك، سأجادل بأن لو كانت الطريقة الوحيدة التي يمكن لله بها فرض التزامات أخلاقية على البشر هي بأمرهم بالقيام بأفعال معيَّنة، فسيكون هناك حدودٌ للإلزامات التي يمكن لله فرضها، وطبيعة هذه الحدود ستزوِّد بسببٍ لرفض الرأي القائل بأن الله يمكن أن يكون مصدرًا لكل التزاماتنا الأخلاقية.

يفضِّل آدمز الاختيار1، وهو يشير إلى أنه لتخمينه، فهناك شيء يجب أن يشار إليه بصدد ماهية إصدار اللهِ أمرًا لإنسان. يحدِّد آدم ثلاثة شروط يجب أن تُلاءَم:

1-أمرٌ إلهيٌّ سيتضمَّن دائمًا علامةً، كما نسمِّيها، والتي يُسبِّبها الله قصديًّا. 2-في تسببه بالعلامة يجب أن يقصد اللهُ إصدارَ أمرٍ، وما هو مأمور به هو ما يقصد الله الأمرَ به بتلك الوسيلة. يجب أن تكون العلامة بحيث أن الجمهور المقصود يستطيع فهمهما كموصلة للأمر المقصود[34].

ليس من الواضح ما إذا كان آدمز يقصد أن هذه الثلاثة شروط معًا كافية لله ليفرض التزامًا أخلاقيًّا على البشر بطريقة أمرٍ إلهيٍّ. إن كان هذا ما يقصده_رغم ذلك_فإذن أعتقد أن آدمز قد ترك شرطًا مهمًّا. فبإعادة تذكر مثال الصديق الذي تدين له بمعروف، افترِضْ أن صديقك (ولنُسَمِه باسم) يرسل لك ملاحظة من مجهول. مكتوب فيها: "أقرِضْ بسامًا سيارتَكَ". في هذه الحالة فإن صديقك قد أعطاكَ علامة قد أحدثها قصديًّأ، و_بفعله ذلك_فهو يقصد أن يصدر لك أمرًا بإقراضه سيارتَك. بالإضافة إلى ذلك، فأنت قادر على نحو واضح على فهم الملاحظة كموصلة لأمركَ بإقراضِ بسَامٍ سيارتَكَ. هل أنت الآن مُلزَم أخلاقيًّا بإقراضِ بسَّام سيارتك؟ الإجابة بوضوحٍ كافٍ هي لا، وليس صعبًا فهم السبب: أنت ليس لديكَ فكرة عمَّن أصدرَ الأمرَ. على وجهٍ أكثرَ تحديدًا، فأنت لا تعلم أن الأمر قد أصدره بسّام. بالإضافة إلى ذلك، فإن بسّامًا (يمكننا الافتراض على نحوٍ معقول) علِم أنكَ لن تكون قادرًا على معرفة من أصدر الأمر. في هذه الظروف، يبدو واضحًا أن بسّامًا_رغم كونه قادرًا على أن يفرض عليك الالتزام بإقراضِهِ سيارتَكَ_قد أخفق في فعل ذلك في الحالة المتَناوَلة معنا. لقد أخفق في فعل ذلك لأنه أخفق في جعلك تدرك أن الأمر آتٍ من مصدرٍ شرعيّ.

في نقاشه عن وثائق اعتماد الله كآمر أخلاقي، يُشدِّد ماو Mouw على أهمية معرفة أن الأوامر التي يتلقّاها المرء لها مصدر شرعيّ:

"ما إذا كان فرد محدَّد يمتلك السلطة ليستحقَّ طاعتَنا هي مسالةٌ يجب أن تُقرَّرَ بفحص وثائق اعتماد من يفترض أنه سيكون الآمر....[ينبغي أن نكون] بالغي الدقة اتجاهَ الحاجة لفحص وثائق اعتماد الآخرين الذين يدَّعون أنهم آمرون أخلاقيون[35].
إن كان الله سيفرض التزامات أخلاقية على البشر بطريقة الأمر الإلهي، فيجب أن يجعل جمهوره المستهدَف يدرك أن الأوامر تأتي منه. يوضِّح مثال صديقك بسّام أنه ليس كافيًا وحده لله أن يكون لديه وثائق الاعتماد، بل من سيأمرهم يجب أن يدركوا أن الأوامر محل الكلام آتية من إلهٍ مُعتمَد على نحوٍ ملائم. لكنه يبدو واضحًا أن هناك وفرةً من البشر الذين لا يعتقدون أن الله قد أصدر أية أوامر لأي أحد، الطبيعيون[36]، كمثال. إن الطبيعيّ ينكر وجود الكائنات الفائقة للطبيعة من أي نوع. علاوة على ذلك، لا يعتقد الطبيعي أن هناك أحدًا ما خلقَنا، أو صنع المواثيق ذات العلاقة بالموضوع معنا، أو مات لأجل خطايانا، أو أنه كليّ العلم وصالح بكمال[37].

ربما نميِّز بين نوعين من الطبيعيين. الأول هو الطبيعيّ العقلانيّ. يعتقد الطبيعيّ العقلانيّ بموقفٍ معرفيّ مثل أنه عقلانيٌّ الامتناع عن الاعتقاد بالله. أما الآخر فهو الطبيعيّ غير العقلانيّ، والذي يجعل موقفُه المعرفيُّ أنه غيرُ عقلانيٍّ الامتناع عن الاعتقاد بالله[38].

يبدو واضحًا أن الله لم يفرض أي التزامات على الطبيعيين العقلانيين بطريقة الأوامر الإلهية[39]. لا يعتقد طبيعيٌّ عقلانيٌّ أن أية أوامر مصدرها الله. علاوةً على ذلك، إنه منطقيٌّ لطبيعيٍّ عقلانيٍّ أن يمتنع عن الاعتقاد بأن أمرًا معيَّنًا هو أمرٌ إلهيٌّ. ربما يُعتقَد أن أي أمر إلهي كان سيكون واضحًا في أن الله مصدره. لكن لو كان هذا صحيحًا، ولو أن الأوامر الإلهية قد أُصْدِرَتْ لكل أحدٍ، فمن ثَمَّ لكانَ وجود الله سيكون واضحًا لكل أحد، وهذا ما هو بوضوحٍ ليس كذلك. علاوة على ذلك، بعض الأمور التي اعتبرها آدمز كأوامر إلهية لا يبدو بوضوح أن مصدرها الله:

"إن مبادئ الالتزام الأخلاقي التي تسنها الأوامر الإلهية ليست حقائق خالدة، لأن الأوامر تُعطى بعلاماتٍ تحدث في الوقت المناسب. فالناس الذين ليسوا في حيِّزِ المكان والزمان الذي يمكن أن تُعرَف فيه العلامة ليسوا خاضعين للأمر المعطَى من خلالها. بالتأكيد، إن كانت العلامات التي بها تُعطَى الأوامر الإلهية هي حوافز وأحاسيس أخلاقية شائعة في كل البشر البالغين عمليًّا تقريبًا منذ لحظة ما في تاريخ تطور نوعنا (ليست قريبة العهد جدًّا)، فإن كلنا يمكن أن نكون معتبَرين كخاضعين لهذه الأوامر بعدلٍ."

هنا يقترح آدمز أن "الحوافز والأحاسيس الأخلاقية" يمكن أن تكون علامات يُصدِر بها الله الأوامر الإلهية. لكن من المستحيل أن تكون هذه علاماتٌ مصدرها الإلهيّ واضحٌ، بل تبدو بوضوح نوعًا من الملاحظات مجهولة الكاتب.

إن لم يفرض الله الإلزامات الأخلاقية على الطبيعيين العقلانيين بطريقة الأوامر الإلهية، فينتج عن هذا إما 1- أن الطبيعيين العقلانيين ليس لديهم التزامات أخلاقية. 2-أو أن بعض البشر لديهم التزامات أخلاقية ليست مستمدَّةً من أوامر إلهية. إن الاختيار الأول غير معقول وهو شيء لن يرغب مؤمنٌ بالقبول به. فبالتأكيد لن يُقرَّ مؤمنٌ أن الطبيعيَّ_بسبب اعتقاده بالمذهب الطبيعيّ_مسموحٌ له بفعل أيٍّ ما شاء! لذا، يبدو أننا يجب أن نستنتج أن هناك بعض الالتزامات الأخلاقية التي ليست مستمَدَّةً من أوامر إلهية. الله كآمرٍ إلهيٍّ ليس المَصدرَ لكل التزاماتنا الأخلاقية؛ فحتى المؤمن يجب عليه أن يعترف بأن بعض الالتزامات على الأقل لها أسس أخرى.

قد يُعتَرَض بأن كل الطبيعيين هم طبيعيون غير عقلانيين [يقصد لادينيين ربوبيين diests]. حتى لو كان هذا الادّعاء المشكوك فيه صحيحًا، فمع ذلك يظل ينتج عن ذلك أن هناك التزامات أخلاقية ليست مستمدَّةً من أوامر إلهية. تأمَّلْ مثالًا إضافيًّا لصديقكَ بسّام. افترِضْ أن بسّامًا يعلم أنك غير عقلانيٍّ على النحو التالي: أنت ترفض تصديق أن أي شخص يكلمك على التليفون هو من يقول أنه هو. بمعرفته ذلك، لا يقدر بسّام أن يفرضَ التزامًا أخلاقيًّا عليك بطريقة أمرٍ صادرٍ من خلال التليفون، لأنه يعلم أنك ستفشل (على نحوٍ غير عقلاني) في إدراك أن الأمر آتٍ منه. على نحو مماثل، لا يمكن لله أن يفرض التزامات أخلاقية على طبيعيين غير عقلانيين [ربوبين لادينيين] بطريقة الأوامر الإلهية لأنهم سيخفقون (على نحو غير عقلاني، كما قد نفترض [جدلًا]) في إدراك أن مثل هذه الأوامر آتية من الله. هناك نقطتان تستحقان الإشارة إليهما هنا: أولًا، ينبغي تمييز هذا الوضع بعناية عن وضع الشخص الذي لا يدرك أن أمرًا محدَّدًا آتٍ من الله بكنه يرفض الاعتراف بهذا. هذا ليس وضع الطبيعيّ غير العقلانيّ [الربوبيّ اللادينيّ]، الذي يخفق على نحوٍ حقيقيٍّ في إدراك مصدرٍ إلهيٍّ لأي أمر. ثانيًا، الادّعاء هنا ليس أن الطبيعيَّ الغيرَ عقلانيٍّ فوق النقد تمامًا. افترِضْ أنَّ اللهَ أصدرَ أمرًا لطبيعيّ غير عقلانيّ [ربوبيّ لادينيّ] معيَّنٍ بالقيام بالفعل أ. الطبيعيّ غير العقلانيّ_مخفِقًا في تمييز الله كمصدر لهذا الأمر_يُخفِقُ في [الالتزام بـ] القيام بالفعل أ. ربما يكون الطبيعيّ غير العقلانيّ عُرضةً للنقد: الإخفاق في إدراك أن الأمر له مصدر إلهيّ قد يكون غيرَ منطقيٍّ[40]. رغم ذلك، فالله قد فشل في فرض الإلزام الأخلاقيّ على الطبيعي الغير عقلانيّ [الربوبيّ] بفعل الفعل أ، ولذا لا يمكننا قول أن أي شيء خطأ أخلاقيًّا قد فُعِل في إخفاقه في [الالتزام بـ] فعل الفعل أ (ما لم يكن بالتأكيد هناك فعليًّا إلزامٌ بالقيام بالفعل أ لأجل سبب آخر ما). بالعودة إلى مثال [صديقك] بسَّام، فيمكن أن تُنتقَد لإخفاقك على نحوٍ غير عقلانيٍّ في التصديق بأن بسّامًا هو من على الخط الآخر، لكنْ لا يمكن القول أنك قد انتهكتَ التزامًا أخلاقيًّا بإخفاقك في [الالتزام بـ] إقراضِ بسّامٍ سيارتَكَ. أخفق بسّامٌ في فرض ذلك الالتزام الأخلاقي عليك لأنكَ أخفقتَ في إدراك أن أمره بإقراضه سيارتَكَ آتٍ منه.

بالتالي، يمكننا أن نستنتج أن وجود الطبيعيين [اللادينيين] في العالَم_سواء أكانوا عقلانيين [ملحدين] أم غير عقلانيين [ربوبيين]_يُعلِّمنا أن هناك بعض الالتزامات الأخلاقية التي ليست مستمدَّة من أوامر إلهية. قد يفرض الله بعض الالتزامات الأخلاقية على البشر بطريقة أوامره الإلهية، لكنْ ليس كل التزاماتنا الأخلاقية مفروضة على ذلك النحو.

ماذا قد يكون أساسَ التزاماتنا التي ليست مفروضة إلهيًّا؟ لقد اقترحتُ من قبلُ أن بعض التزاماتنا الأخلاقية تُستمَدُّ من العلاقات العديدة التي لدينا مع البشر الآخرين. لكني لا أعتقد أن كل التزاماتنا تنشأ من مثل هؤلاء العلاقات. قد تُعلَّل الالتزامات أيضًا بالقيمة الجوهرية. إن نسخة قوية من هذا الرأي قد اقترحها Moore، الذي أكّد أن "التأكيد بـ‘أنا مُلزَم بعمل هذا الفعل’ متطابق مع التأكيد ‘هذا الفعل سيُحدِث أكبر كمية ممكنة من الخير في الكون’[41]. رغم ذلك، لا يحتاج المرء لتتبع كل الأسباب والنتائج للحالات ذات العلاقة ليدرك صحة ادعاآت كهذه: لو أني أعرف أني يمكنني منع شر جوهريّ ما بدون التسبّب بذلك في شر أعظم للعالَم، أو التضحية ببعض الخير، أو انتهاك التزام ما، أو فعل أي شيء آخر غير مؤاتٍ أخلاقيًّا، فمن ثمَّ عليَّ التزام أخلاقيّ بمنع الشرّ محلّ الكلام. لو أمكنني منع أن يُعذَّبَ طفلٌ رضيع بمجرد رفعي إصبعي (وفعلي ذلك لن يكون له نتائج غير ملائمة أخلاقيًّأ) فمن ثَمَّ عليَّ التزام أخلاقيّ بمنع أن يُعذَّبَ الرضيع. هذا الالتزام لا يُستمدُّ من أي علاقة بين الرضيع ونفسي، أو من أي علاقة بين نفسي أو الرضيع وبين طرف ثالث. بالأحرى، فإنها تُستمَد من حقيقة أن تعذُّبَ رضيعٍ هو شيء سيء على نحوٍ هائل. هذا التزامٌ عليَّ بغض النظر عمّا إذا كنت على أية علاقة مع أي كائن آخر، بما في ذلك خالقٌ إلهيٌّ.

هذه النقاط تمكِّننا من الردَ على بعض الأسئلة الخطابية التي طرحها كريج William Lane Craig (1996):

"لو أن الله لا يوجد، فمن ثَمَّ إنه صعبٌ رؤية أي سبب للاعتقاد بأن البشر مُمَيَّزون أو أن أخلاقنا صحيحة موضوعيًّا. علاوة على ذلك، لماذا الاعتقاد بأننا علينا أي التزامات أخلاقية بفعل أي شيء؟ من أو ماذا فرض علينا أي واجباتٍ أخلاقية؟[42]"

إن الإجابة الملائمة على سؤال كريج الخطابيّ الأول هو أننا ليدنا بعض الالتزامات الأخلاقية المستمدَّة من علاقاتنا مع البشر الآخرين ولدينا التزامات أخلاقية أخرى مستمدّة من القِيَم الجوهرية. أما الإجابة الملائمة على سؤال كريج الثاني فهو أن الكثير من واجباتنا الأخلاقية هي بحيث أن لا كائن يفرضها علينا. إن خطأ كريج هو الاعتقاد بأن مجموعة الالتزامات الأخلاقية تتطابق في امتدادها مع مجموعة الالتزامات الأخلاقية المفروضة علينا من قِبلِ كائنٍ ما. الحقيقة أنه حتى لو الله يوجد، فإن الأخيرة هي مجموعة جزئية ملائمة للأولى.

إذن، يتضح أن فكرة أن الله لو لا يوجد فإن كل شيء مسموحٌ به هي رد فعل مبالغ فيه. تأمَّلْ حالة رجل والذي_مُخلِّصًا نفسَه من علاقة عاطفية غير سعيدة على نحوٍ متزايِد_يفكِّر: "أنا حر! أستطيع فعل ما أريد أيًّا ما كان!" بالتأكيد لو أُخِذَ هذا الادعاء حرفيًّا فهو باطل، لكن على الأرجح هو يعني أنه مسموحٌ له أخلاقيًّا بفعل كل أنواع الأشياء التي لم يكن مسموحًا له بفعلها بينما كان في العلاقة. إن انفصاله عن صديقته الحميمة لم يجعل مسموحًا له تعذيبَ الأطفال الرُضَّع للتسلية. على نحو مماثل، لو اكتشف الإنسان الحديث أن الله لا يوجد، فهو لم يكتشف بذلك كذلك أنه مسموحٌ له بفعل أي شيءٍ يريده. عوضًا عن ذلك، لقد اكتشف فقط أنه مسموحٌ له بفعل بعض الأشياء التي اعتقدَ سابقًا أنها غير مسموحِ له بفعلها. كمثال، لقد اكتشف أن لديه مجال حرية أكبر بكثير_بالحديث من الناحية الأخلاقية_في كيفية قضائه أيام الآحاد [أو الجُمَع بالنسبة للدول العربية_م]. رغم ذلك، فهو لم يكتشف أنه مسموحٌ له بتكريس بعد ظهر أيام الآحاد لتعذيب الرضع العاجزين.

بالتأكيد، هناك ما هو أكثر ليُقال بصدد أسس التزام الأخلاقي الذي لدينا الذي ليس مفروضًا علينا من قِبَلِ إلهٍ. رغم ذلك، فإن هدفي هاهنا ليس تطوير نظرية إلحادية كاملة عن ميتافيزيقيا الأخلاق[43]. إن هدفي عوضًا عن ذلك قد كان البرهنة على أن فكرة أن الله هو المصدر الكامل لكل الحقائق الأخلاقية، أو حتى كل التزاماتنا الأخلاقية، يؤدِّي إلى نتائج مُستشكَلَة وبالتالي ينبغي أن تُرفَض.

ما زلتُ أحتاج إلى مواجهة نقاش عن العلاقة بين الله والأخلاق والتي لا تلمِّح على الأقل إلى الحوار الأفلاطونيّ (يوثيريو) Euthyphro. لا أنتوي مخالفة العرف، لذا فلندرسْ باختصار ذلك الحوار. يبدأ الحوار بسقراط[س] يقابل يوثيريو في ساحة الملك. سقراط[س] كان هناك للدفاع عن نفسه ضد اتهامات مِلِتُسْ Meletus، والتي أطلقت المحاكمة التي ستؤدّي آخر الأمر إلى إعدام سقراط[س]. كان يوثيريو هناك لأنه انتوى مقاضاة أبيه بقتل أحد عُمّال الأسرة. كان العامل قد قتل أحد عبيد الأسرة في غضبٍ مخمورٍ، وقد قيَّدَ والد يوثيريو العامل وألقاه في قناة بينما كان يحال تقرير ما عليه أن يفعله معه. نتيجةً لذلك مات العامل من البرد والجوع. علَّق يوثيريو بأن عائلته تعارض ما يفعله وتُعلِّق بالتالي: "إنهم يصرُّون.....أني لا يجب عليّ شغل نفسي بشأن شخص كهذا لأنه غير تقيٍّ بالنسبة لابنٍ أن يقاضيَ أباه لأجل القتل. هكذا قليلٌ_يا سقراط[س]_ ما يعرفون عن القانون الإلهيّ للتقوى والفسق".

كنتيجة لادعائه أنه يعلم شيئًا أو شيئين بصدد طبيعة التقوى، سرعان ما يجد يوثيريو نفسَه متورِّطًا في نقاش فلسفي معقَّد مع سقراط[س]. في وسط النقاش يطرح سقراط[س] ما قد أصبح أحد أكثر الأسئلة نقاشًا مما وضعه أفلاطون على لسان سقراط[س]: "هل الآلهة يحبون التقوى لأنها تقية، أم أنها تقيَّة لأنهم يحبونها؟" هذا السؤال هو أساس ما يُعرَف بـ "معضلة يوثيريو".

الإجابة التي قد اقترحتها على هذا النوع من السؤال هي أن الله لو يوجد، فإن بعض أفعالنا ربما تكون إلزامية لأن الله قد أمرنا بفعلها. لكن ليس كل الأفعال كمثل ذلك. علاوة على ذلك، فإن بعض الأشياء الجيدة_على الأقل_ليست جيدة لأن الله يحبها. عوضًا عن ذلك، فبعض الأشياء جيدة في جوهرها. إن مصادقة تامّة على الطرف الثاني للمعضلة التي طرحها سقراط[س] ليس موقفًا عقلانيًّا. إن أساس الأخلاق هو مجموعة من الحقائق الأخلاقية الحتمية البديهية. لا كائن _طبيعيَّ أو فائقًا للطبيعة_مسؤول عن صحة هذه الحقائق الأخلاقية أو له تحكُّم فيها[44].

إذن، فإن الرأي الذي قد لخّصتُه لا يتّسق مع فكرة أن كل الحقائق الأخلاقية هي مهمة للنقاشات البشرية و/أو الاتفقيات [الاجتماعية]، وكذلك فكرة أن كل الحقائق الأخلاقية هي مهمة للنشاط الإلهيّ. كلٌ من هذين الرأيين له أنصاره. ما السبب المحتمل لذلك؟ إحدى الاحتمالات هي التركيز الضيِّق على أمثلة من نوع معيَّن. بعض الحقائق الأخلاقية تعتمد فعلًا_على الأقل جزئيًا _ على الاتفاقيات البشرية. انظر مثلًا إلى الالتزام الأخلاقيّ الذي لدى كل واحد منا بالقيادة على الجانب الأيمن من الطريق (في الطريق ذي الاتجاهين) في الولايات المتحدة الأمِرِكية. [في الدول العربية ومعظم الشرقية العكس تمامًا_المترجم]. إن تركيزًا حصريًّا على نوع هذا المثال قد يؤدِّي إلى الاستنتاج الخاطئ للمرء بأن كل الحقائق الأخلاقية تعتمد على الاتفاقيات البشرية. لو أن الله يوجد فمن ثَمَّ قد تعتمد بعض الحقائق الأخلاقية_على الأقل جزئيًّا_على النشاط الإلهيّ. تأمَّلْ كمثال الالتزام الأخلاقي الذي لدى بعض المؤمنين زعمًا بالامتناع عن عبادة الأصنام. إن تركيزًا حصريًّا على نوع هذا المثال قد يؤدِّي بالمرء إلى الاستنتاج الخاطئ بأن كل الحقائق الأخلاقية تعتمد على النشاط الإلهيّ[45]. كِلا هذين الرأيين خطأٌ، رغم ذلك. ففي كل حالة منهما، الاعتماد موضع الكلام يُعلَّل بحقيقة أخلاقية أكثر جذريّة. ففيما يتعلّق بالمثال الأول، كل منا لديه التزام أخلاقيّ مبدئيّ على الأقل بإطاعة قوانين المرور ذات العلاقة. أما فيما يتعلق بالمثال الثاني، فقد درسنا العديد من الأسباب التي قد تكون لدى البشر [المتدينين] لأجل طاعة أوامر الله [الدين]. كمثال، قد يكون أن كل منا لديه التزام أخلاقيّ مبدئيّ بطاعة الله الذي مات لأجل آثامنا[46].

أود أن أختم هذا الفصل بنظرة موجزة لحدس جريء قام به John Leslie (1989) في كتابه (أكوان) Universes:

"السبب في لماذا يوجد أشياء بدلًا من عدم وجود شيء يمكن أن يكون كالتالي: الاحتياج الأخلاقي لوجود الأشياء في بعض الحالات يكون مؤثِّرًا على نحوٍ مبدع...ربما يكون الله شخصًا كليّ القدرة، مصمِّمًا كليَّ العلم، والذين يدين بوجوده ومعرفته وقدرته لحقيقة أنها مطلوبة أخلاقيًّأ[47]."

يقدِّم Leslie التفافًا مثيرًا للاهتمام على معضلة يوثيريو: ليس فقط الحالة أن حب الله للأشياء هو ما يجعل هؤلاء الأشياء خَيِّرة. بل إن الخيرية نفسها هي ما سبَّبَ وجودَ اللهِ. إن اقتراحه_ باختصار_أن إلهًا شخصيًّا يوجد لأن وجود كائن كهذا مطلوب أخلاقيًّا. بينما لا أقبل هذا الرأي، أعتقد أن Leslie لديه ترتيب الأسبقية بين الله المشخصَن والحقيقة الأخلاقية صحيحٌ. إن يكن هناك حقائقُ أخلاقيةٌ على الإطلاق، فمن ثَمَّ فإن بعضًا منها يوجد عند حجر أساس الواقع ذاته، غيرَ مخلوقٍ من قِبَلِ أي أحدٍ، غيرَ واقعٍ تحت تحكُّم أيِّ أحدٍ، واضعًا حكمَه على أفعال وشخصيات البشر والله [التعاليم الدينية] على السواء[48].



  رد مع اقتباس
قديم 12-20-2015, 03:25 AM لؤي عشري غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [6]
لؤي عشري
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية لؤي عشري
 

لؤي عشري is on a distinguished road
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى لؤي عشري
افتراضي

[1] تشتهر ذبابات الماشية بأنها تلسع المواشي، وفي الإنجليزية تستعمل gadfly كتعبير مجازي عن الناقد اللاذع باستمرار_م.
[2] هذه هي الترجمة التي أمكنني العثور عليها لكلمة extropic من مصطلح extropy وهي كلمة إنجليزية منحولة مخترعة حديثًا وتعني مفهومًا وقانونًا معاكسًا في معناه وتأثيره للـentropy في علم الفيزياء، أي الاتجاه العكسيّ من الفوضى (حركة الكون وتعدد مواده ومحتوياته) إلى النظام (أي الثبات ووحدة طبيعته). هذا شرح مبسَّط بقدر فهمي للفيزياء وقد لا يكون دقيقًا_م.
[3] النشيج هو صوت البكاء، ولم يكن يحتاج إلى توضيح هذا لولا انحدار مستوى التعليم واللغة في العالم العربي.
[4] يبدو واضحًا أن هذا تشبيه مجازيّ للنهار والليل_م.
[5] اقتراح مشابه قدمه Kai Nilsen الذي علق بأن "رجلا يقول لو أن الله ميت فلا شيء يهم هو طفل مدلل لم ينظر أبدا إلى رفيقه بعطف" في كتابه (الأخلاق بدون الله) Ethics without God_المؤلف.
[6] احتوت أفكاره على مفاهيم عنصرية عديدة_المترجم.
[7] لقد اشتقت كلمة الساديّة sadism أي تمتع المنحرف بإيذاء شريكه الجنسي من اسمه، وهو دوناتا ألفونس فرانسوا دى ساد. معروف بـماركيز دى ساد،بالفرنسية: Donatien Alphonse François, marquis de Sade2 يونيو 1740 - 2 ديسمبر 1814. كان أرستقراطيا ثوريا فرنسيا وروائيا. كانت رواياته فلسفية وسادية متحررة من كافة قوانين النهج الأخلاقي، تستكشف مواضيع وتخيلات بشرية مثيرة للجدل وأحيانا للاستهجان في أعماق النفس البشرية من قبيل العنف الوحشي،الاغتصاب...إلخ كان من دعاة أن يكون المبدأ الأساسي هو السعي للمتعة الشخصية المطلقة من دون أي قيود سواء أخلاقية أو دينية أو قانونية.وتتسم رواياته بعلامات السقم النفسي من هذا النوع، أما الرجل نفسه فقد سُجِن لفترة لا بأس بها عدة مرات تصل إلى32 عامًا من عمره لأجل اتهامات عاهرات له باستعمال العنف معهن على نحو متكرر، كما قضى فترة هي آخر حياته في مستشفى للأمراض العقلية لأجل كتاباته وسلوكياته، رغم كتابات دى ساد التي غاصت في أقاصي ما يمكن تخيله من أفكار للنفس البشرية إلا أنه وكما تقول الكاتبة كلويه ديليس في كتابها "دي ساد معاد النظر ومُـلطّفـًا لبنات اليوم"، "...كفرد لم ينكح طفلا ولم يدعُ إلى نكاح الأطفال ولم يشجع هذا أبدا.. فهو مثل لويس كارول لم يدع الفتيات للركض وراء أرانب الجانب الآخر من المرآة..". في إحدى رسائله ذكر دى ساد "...نعم، أنا ركبت الفسوق "libertine"، وقد تخّيلت بكتاباتي كل ما يمكن تخيّله في هذا المجال، لكنني بالتأكيد لم أفعل كل ما تخيّلته ولن أفعل أبدا. أنا فاجر، لكنني لست مجرما أو قاتلا.."_عن الويكيبديا بتصرف_م.

[8] مرفقك: كوعك. والفقرة من كتابه الشهير (التأمّلات)_م.
[9] الدين الإسلامي كذلك لديه آيات ضد التفكير والبحث العلمي سامي التطلعات والطموح والحقائق العلمية عن نشأة الكون والمادة ونشأة وتطور الحياة، مثل آية تقول {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض..} إلخ_المترجم.
[10] أي خرافة طرد آدم وحواء الخرافيين (المدحوضين علميًا بقانون علم وراثة العشائر والانهيار بالتهاجن الداخلي في حالة إنتاج نوع من زوجين فقط، وطريقة التطور في الأنواع) من الجنة الخرافية على يد الله الخرافي!_المترجم
[11] تعبيرات دارجة أمركية كبحق المسيح for Christ’s sake! كما بالأصل المترجم هنا أو الشي الملعون من الله The god damn something منتشرة على الألسنة في الدول الناطقة بالإنجليزية بحيث قد يستعملها المؤمن وغير المؤمن كما نرى في خطابات عروض جورج كارلين الكوميدية مثلًا على إلحاده الذي قد يوصف بالراديكالية_م.
[12] هنا يطرح عليه سقراط[س] ردًّا في شكل سؤال يشكل معضلة لللاهوتيين تعرف بمعضلة يوثيريو أو يوثفرو Euthyphro dilemma، حيث يسأله "هل التقيّ (τὸ ὅσιον) تـُحـِبـُّه الآلهة لأنه تقي، أم أنه تقي لأنه محبوب الآلهة؟"_م.
[13] متى ما.
[14] التماسك المنطقي يختلف عن الاحتمالية الميتافزيائية الأوسع، بمعنى أن الله لا يمكنه جعل فعلًا ما أخلاقيًّا وغير أخلاقي في نفس الوقت. لا تدعي نظرية التحكم أن الله يمكنه جعل كل ادعاء أخلاقي صحيحًا_المؤلف.
[15] في حالة فرضية الاعتماد على أساس أنها حقيقة طارئة محتملة، يمكن التأكيد دومًا أنه إذا كان الله منشئ الحقائق الأخلاقية بهذا الكون فهناك إمكانية وجود عوالم بدون إله بها قواعد أخلاقية وفي مثل تلك العوالم سيكون للحقائق الأخلاقية مصدر آخر غير الله_المؤلف.

[16] حقيقة وهو تحدٍ لكل ديانة تزعم وجود إله أو آلهة له/لهم وعي وفعل أو عناية ما كالإسلام واليهودية والهندوسية وغيرها.
[17] من كتابه The problem of evil, selected readings مشكلة الشر، قراآت مختارة.
[18] يمكن العثور على نسخة بلانتينجا من دفاع الإرادة الحرة في العديد من المصادر، سأشير إلى:
“The FreeWill Defense,” Chapter 2of The Analytic Theist: An Alvin Plantinga Reader, ed. J. F. Sennett (Grand Rapids: Wm. B. Eerdmans, 1998), 22–49.
[19] يقيم بلانتينجا دفاع الإرادة الحرة الخاصّ به على احتمالية أن كل جوهر فرديّ يعاني من فساد بسبب الانتقال بين العوالم. المهتمون بالدقائق الفنية سيهتمون بملاحظة أن نموذجي يُظهِر أن بلانتينجا يمكنه النجاح بجهد مع الادّعاء الأضعف. إن كان الجوهر يعاني من فساد بسبب الانتقال من عالم إلى عالم فهذا يتضمّن أن أي عالم يمكن لله أن يجعله واقعًا يكون فيه الجوهر موجودًا منذ لحظة الخلق وحرًّا هو عالم يكن فيه كل فرد يفعل شيئًا ما خطأً. لكن بلانتينجا يمكنه اجتياز هذا بصعوبة بالادعاء الأضعف بأنه يمكن أن كل جوهر فرديّ هو كذلك لأن أي عالم يمكن لله جعله واقعًا وفيه يكون ذلك الجوهر موجودًا منذ لحظة الخلق وحرًّا هو عالم يفعل فيه شخصٌ ما_وليس بالضرورة الشخص محل الكلام_شيئًا خاطئًا_المؤلف.

[20] أواجه هذا الموقف حاليًّا في ترتيب كراسي حفل زواجي_المؤلف.
[21] عندما نرى الأخبار عن الإرهابيين_سواء من مسلمين أو إسرائيليين أو غيرهم_ الذين يقتلون الأبرياء بدعوى أن الله جعل قتلهم فعلًا خيّرًا ندرك مدى أهمية دحض فرضية التحكم القائلة بوجود إله يمكنه جعل الغير أخلاقي أخلاقيًّا، وأهمية أطروحة سقراط[س] المعروفة بمعضلة يوثيريو في عصرنا_المترجم.
[22] John Hick, Evil and the God of Love (New York: Macmillan, 1966), 290
[23] إن المؤلف وبلانتينجا وهك تناولوا هنا مشكلة الأفعال الشريرة باعتبار البحث منصبًّا على الأخلاق في المقام الأول، لكن ماذا عن الشر في الأمراض وسلوك الـﭭيروسات والطفيليات كالدبابير واضعة يرقاتها لتتغذى على لحم يرقات الفراش والعث الحي، أو المفترسات كالضباع والدببة والشيمبانزيات اللذين يأكلون فرائسهم وهي حية؟!_م.
[24] Edward Wierenga, “A Defensible Divine Command Theory,” Nous 17 (September 1983), 394.
[25] وفي الإسلام كذلك نجد الفكرة متكررة بوضوح، ويقول القرآن مثلًا مشبّهًا البشر بالعبيد المملوكين لله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)} سورة الروم: 28
[26] Baruch Brody, “Morality and Religion Reconsidered,” in Readings in the Philosophy of Religion, ed. B. Brody (Englewood Cliffs, NJ: Prentice Hall (1974), 601.
[27] أفترض أن برودي يقصد بالادعاء المحتمَل أنه صحيح حتميًّا لو أنه صحيح على الإطلاق. الافتراض مناسب لأغراضنا سواء كان هذا مقصد برودي أم لا، بما أن الادعاء يتضمّن فرضية كارامازوﭪ فقط لو أنه صحيح حتميًّا فقط. إن يكن الادعاء مجرد حقيقة محتمَلة، فهذا يترك المجال لاحتمالية أنه بينما في العالم الحقيقيّ تكون كل التزاماتنا الأخلاقية مستمدة من حقيقة أننا ننتمي إلى الله [المزعوم]، فإن أقرب عالم محتمَل لا يوجد فيه إله هو عالم يكون علينا فيه التزامات أخلاقية مستمدة من مصدر آخر ما_المؤلف.

[28] Adams, Finite and Infinite, 252.

[29] Richard Mouw, The God Who Commands (Notre Dame: Univ. of Notre Dame Press, 1996), 19–20.
يالها من استدلالات عجيبة من خلال خرافات لا علاقة لنا كبشر معاصرين بها بأي حال_المترجم.
[30] Hick, God of Love, 132–3.
[31] Mark Murphy, “Divine Command, Divine Will, and Moral Obligation,” Faith and Philosophy 15:1 (January 1998), 4; I have revised Murphy’s formulations slightly.
لقد نقّحتُ صياغات مارك مورفي على نحو خفيف.
[32] لنقل يوم الجمعة كإجازة العرب المسلمين عمومًا لتقريب الصورة يعني أثناء الاسترخاء والراحة في إجازة_م.
[33] Adams, Finite and Infinite, 260 , 261.
[34] Adams, Finite and Infinite, 261, 265.
[35] Mouw, God who Commands, 19–20
[36] نسبة إلى الطبيعة naturalists، أو لنقل العقلانيون أو الملحدون أو الواقعيون بعبارة أخرى_م.
[37] أو أنه مثلًا فضَّل شخصًا بعينه على كل البشر وأصعده لمقابلته في معراج، وأعطى للناس تشريعًا وله تشريع آخر ليخالف التشريع الذي أعلن عنه بنفسه كقبوله شهادة شاهد واحد لم ير المشهود عنه أصلًا أو يتزوج من تسع نساء، أو أن الإله المزعوم أمر بالعنصرية والجزية والحروب والاستعباد كما في القرآن الإسلاميّ_م
[38] هنا يقصد اللادينيين الربوبيين واللاأدريين والمتشكّكين المتزعزعين بين المرجعيات المعرفية والأخلاقية الدينية واللادينية، مع عدم ترسّخهم أغلب الأحيان في الفكر العلماني ومراجعه، وبرأيي مع معطيات العلم الحديث من بيولوجي وعلم كون وعلوم الأديان يعتبر هؤلاء لم يقوموا بجهد كبير في الاطلاع والبحث والتفكير المنظَّم بشكلٍ كافٍ، فقط الموقف اللاأدري أو عدم الدراية مع التبني الكامل للقيم اللادينية المعرفية والأخلاقية قد يُعتبَر موقفًا فلسفيًّا له وجهة نظره القيِّمة_م.
[39] هذا الادعاء يجب أن يُقيَّد إلى حدٍ ما، قد يكون الله قادرً على فرض مثل هذه الإلزامات بطريقة ملتفة, هبْ_مثلًا_أن الله يريد التسبّب في جعلك ملزَمًا بفعل الفعل أ. يقدر الله أن يجعل أن إنسانًا كفئًا على نحو مناسب، شخص تعرفه ككائن ذي سلطة لفرض التزامات معينة عليك، يأمرك بالقيام بالفعل أ. لكن الله لا يقدر أن يفرض إلزامات على طبيعيين عقلانيين بالطريقة المباشرة نسبيًّا التي تصوِّرَها آدمز.
[40] ربما يكون الطبيعي الغير عقلاني مجالًا حتى للنقد الأخلاقي. افترض_مثلا_أن الطبيعي [الربوبي] كان سابقًا مؤمنًا لكنه صار طبيعيًّا عمدًا ليتجنَّبَ إلزامات الله المفروضة. فعل كهذا قد يكون مجالًا للنقد الأخلاقيّ تمامًا من وجهة رأي إيمانية.
[41] Moore, Principia Ethica, 147.
[42] من خطبته: عدم إمكانية الاستغناء (ضرورة) الأسس الميتافيزيقية الأخلاقية للأخلاق.
William Lane Craig, “The Indispensability of Theological Metaethical Foundations for Morality,”1996, home.apu.edu/∼CTRF/papers/1996 papers/craig.html (accessed March 26, 2004(.
[43] For one such attempt, see Martin, Atheism, Morality, and Meaning, Chapters3 & 4.
هذا اقتراح المؤلف للقراءة، أما أنا كمترجم فمغرم بكتابات Frans de Waal المتخصّص في علم سلوك القرود مع أخذ الأمر بطابع إنسانيّ واعٍ طبعًا بحذر.
[44] لأجل الاطلاع على بعض الأبحاث الفاتنة بخصوص آراء الأطفال من خلفيات تقاليد دينية متنوعة على بعض
المواضيع التي أثرناها في هذا الفصل، انظر (التعليم في مجال الأخلاق) الفصل الثاني
see Chapter2 of Larry Nucci, Education in the Moral Domain (Cambridge: Cambridge Univ. Press, 2001،
ضمن أسس بحثه يدعي أن حتى الأطفال المتدينين بشدة من خلفيات أصولية أو أرثوذكسية تقليدية، فإن الأخلاق تنبع لديهم من معايير مستقلة عن كلام الله [ كلام النصوص الدينية].

[45] قد أضرب كمترجم أمثلة أخرى سائدة في العالم الإسلامي كفوائد البنوك والبريد، والعلاقات الجنسية الحرة بلا زواج، وقضايا حقوق الشواذّ، وشرب الخمور طالما أنك لا تقود سيارة أو تعربد، وحرية التعبير..إلخ_المترجم
[46] هذا بالنسبة للثقافة المسيحية، أما في الإسلام فقد يقال كذلك أنه الله الخالق الرازق إلى آخر هذه الافتراضات الخرافية لفرض قيم قرون وسطية وأفكار بعضها غير ملائم_المترجم.
[47] John Leslie, Universes (New York: Routledge, 1989), 165–6.
وهو يصنّف نظريته هذه ضمن الأفلاطونية الحديثة، وطبقًا لها فإن الله هو المتطَلَبات الأخلاقية نفسها.
[48] على نحو واضح، جملة "واضعًا حكمَه" هنا تُفهَم بمعنى مجازي، وعلى نحو أكثر تحديدًا، فهذه الحقائق تضمّن حقائق معيَّنة أخرى بصدد أفعال وسمات البشر والله (لو يوجد).



  رد مع اقتباس
قديم 12-25-2015, 06:12 PM لؤي عشري غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [7]
لؤي عشري
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية لؤي عشري
 

لؤي عشري is on a distinguished road
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى لؤي عشري
افتراضي

الفصل الثالث: الله كضامن إلهيّ للعدالة الكاملة

"المرء لا يكون أبدًا عادلًا برغبته، بل فقط عندما يُلْزَم بأن يكون كذلك. لا أحد سيعتقد بأن العدالة جيدة إذا تُرِكَت كأمرٍ شخصيّ، حالما وأينما يعتقد شخصٌ بأنه يقدر أن يقوم بالظلم مع الإلافلات من العقاب فإنه يفعله. في الحقيقة، كل إنسان يعتقد أن الظلم مربحٌ أكثر بكثير لنفسه من العدل."

Glaucon في كتاب أفلاطون (الجمهورية) 36/ 360 C .

لماذا تكون ذا أخلاق؟

بفرض أن_كما قد جادلت مبرهنًا_البشر لديهم التزامات أخلاقية عديدة حتى لو أن الله لا يوجد. قد يوافق بعض المؤمنين على ذلك، لكن يزعمون أن لو لا وجود لله، فمن ثم فليس لدينا سبب لمراعاة التزامات كهذه. في كونٍ بلا إله قد تكون أفعال معيَّنة ملزِمة أخلاقيًّا وأخرى ربما تكون خاطئة أخلاقيًّا، لكنْ ليس هناك سبب لأن يهتم البشر بوجه خاص بأيها كذلك أو كذلك. فلنعد مرة أخرى مجدَّدًا إلى وِلْيَمْ كرِيج William Craig لأجل اقتراح يتماشى مع هذه الفقرة:

"حتى لو كان هناك قيم وواجبات أخلاقية موضوعية في ظل المذهب الطبيعيّ، فإنها غير ذات صلة لعدم وجود حساب أخلاقيّ. إن كانت الحياة تنتهي بالقبر، فلا فارق سواء أعاش المرء كستالين أو كقديّس...لماذا ينبغي أن تضحّي بمصلحتك الشخصية وخاصّةً حياتك لأجل شخص آخر؟ لا يمكن أن يكون هناك سبب وجيه لتبنّي مثل هذا السلوك الإيثاريّ المنكر للذات وفقًا للرؤية الطبيعية للعالَم...الحياة قصيرة للغاية عن أن نعرّضها للخطر بالتصرُّف بدافع أي شيء ما عدا المصلحة الذاتية المحضة. التضحية لأجل شخصٍ آخر ستكون مجرد غباء ."

لقد لاحظ Simon Blackburn (1998) أن التصريح بأن "س لديه سبب لـ أ" يمكن أن تُفهَم كـ "ملاحظة وصفية عن نفسية س، أو ملاحظة معيارية عما ينبغي أن يكون س سواء مستجيبًا له أو لا ." فلنستحضر مثالًا لسبب بالمعنى الأول: سبب نفسيّ، وسبب بالمعنى الأخير: سبب معياريّ، لنفترض أني مدرك أن قطعة كعك الجبن التي أمامي بها طعم الزرنيخ لكني لا أبالي كثيرًا. ليس لدي نزوعٌ للامتناع عن أكل كعكة الجبن. في هذه الحالة ربما نقول أني بينما ليس لدي سبب نفسيّ للامتناع عن أكل كعكة الجبن (أنا لست في الحقيقة محفَّزًا للامتناع عن أكلها)، فإن لديَّ سببًا معياريًّا للامتناع عن عمل ذلك (ينبغي أن أكون محفَّزًا للامتناع عن أكلها). لأن كون كعكة الجبن مسمَّمة يحتوي على سبب معياريّ لي للامتناع عن أكل كعكة الجبن، سببٌ أنا غير مبالٍ به.

بوضوح فإن كريج يقصد أن يناقش الأسباب الموضوعية. إن ادعاء ليس أن لو أن الله لا يوجد فمن ثمَّ لا أحد في الحقيقة محفَّز لعمل الشيء الصائب. بل إن ادّعاءه أن لو الله لا يوجد فمن ثَمَّ لا أحد لديه سبب معياريّ لعمل الشيء الصائب، لكن لو كان الله يود فقط عندها نكون غير مبالين بالاعتبارات المتعلقة بنا للفشل في مراعاة مواضع واجبنا الأخلاقي. فيزعم كريج أنه عدا حالة ما إذا كان قيامنا بواجبنا متصل بالمصادفة مع مصلحتنا الشخصية، فإن مثل هذه الصلة لا توجد في الكثير من الحالات، وفي الحالات من هذا النوع ليس لدينا سبب للقيام بواجبنا لو أن المذهب الطبيعيّ صحيح.

إن ادّعاء كريج يتصلّ بأحد أقدم التحديات في الفلسفة الأخلاقية الغربية. عبَّر أفلاطون عن التحدّي بوضعه على لسان جلوكِن Glaucon في (الجمهورية) كما ورد في الجملة الافتتاحية لهذا الفصل. كثيرًا ما يُطرَح السؤال على شكل سؤالٍ: لماذا ينبغي أن نكون أخلاقيين؟ ويمكن أن يًطرَح أيضًا في شكل جدلية. رغم أن هناك طرق لا تُحصى لطرح التحدّي، فسيكون أكثر إفادةً لأغراضنا هنا أن نناقش نسخة عامّة جدًّا من التحدِّي. سيُفهَم التحدّي كهجوم على الادّعاء بأن أي إنسان على الإطلاق لديه سبب معياريّ لأن يكون أخلاقيًّا. الكينونة أخلاقيًّا ستُفهَم إجمالًا، بحيث أن تحقيق المرء لالتزاماته الأخلاقية، وغرس السمة الفاضلة في الذات، والقيام بالأفعال الفاضلة، والتصرُّف بأسلوب تطوعيّ فوق الواجب كلها أمور تعَدُّ طُرُقَا للكينونة أخلاقيًّا. مع وضعنا هذا في الذهن، فيمكن صياغة التحدي على هذا النحو:

التحدّي الأخلاقيّ

1- الشخص يكون له سبب معياريّ ليكون ذا أخلاقٍ فقط لو كان عند ذلك الشخص أَوْلى اهتمام هو أن يكون ذا أخلاقٍ.
2- ليس عند أي أحدٍ تكون الكينونة أخلاقيًّا هي أولى اهتمام أبدًا.
3- بالتالي، لا أحد أبدًا يكون لديه سبب معياريّ موضوعيّ لأن يكون ذا أخلاقٍ .

الإجابة الأولى: لأن الأخلاق والمصلحة الذاتية متقابلان

إحدى الاستراتيجيات الأكثر شعبية للردِّ على هذا التحدّي هي الهجوم على المقدِّمة المنطقية الثانية. إن يمكن البرهنة بأن دائمًا أو على الأقل عمومًا أو حتى كثيرًا ما يكون في مصلحة الشخص أن يكون أخلاقيًّأ، أن الأخلاق والمصلحة الذاتية متطابقان دائمًا أو كثيرًا، فإن السؤال: "لماذا ينبغي أن نكون أخلاقيين؟" يمكن أن يُعطَى إجابة وافية. اتّبَّع هذا النوع من الاستيراتيجيات_بطرق مختلفة_عدد من الفلاسفة الغربيين البارزين، بمن فيهم أفلاطون وأرسطو[تِلْس] وديـﭬيد هيوم .

يمكن للمؤمن أيضًا أن يقوم باستعمال هذا النوع من الاستِراتيجية. إن العنصر الأساسي للرد الإيمانيّ على التحدي هو مفهوم حياةٍ بعد الموت فيها تُكافَأ الأخلاق وتُعاقب اللاأخلاقية. لو أن الله يوجد، فمن ثَمَّ يكون هناك ضمانة إلهية للعدل الكامل، ففي النهاية سيتلقَّى كل الأفراد الذين عاشوا من قبلُ على الإطلاق المصيرَ الذي يستحقونه بدقَّة. لو أن الله يوجد، فمن ثمَّ يوجد ارتباط تامٌّ بين الأخلاق والمصلحة الذاتيّة. يشرح كريج الأمر كالتالي:

"وفقًا للفرضية الإيمانية، فالله يعتبر كل الأشخاص مسؤولين أخلاقيًّا عن أفعالهم. الشرّ والخطأ سيُعاقَب عليهما، والاستقامة سوف تُبرَّأ. الخير سينتصر آخر الأمر على الشر، وسنرى آخرَ الأمرِ أننا نعيش فعلًا رغم كل شيء في عالمٍ أخلاقيٍّ. رغم مظالم [جُوُر] هذه الحياة، ففي النهاية موازين عدل الله سوف تُوازَن. هكذا فإن الاختيارات الأخلاقية التي نقوم بها في هذه الحياة مُفعَمة بأهمية أبدية."

إنه مهمٌّ أن نميِّز بين ادّعائين هنا. الأول هو الادّعاء بأن لو الله لا يوجد فمن ثمَّ فليس لدينا سببٌ لأن نكون أخلاقيين. والآخر هو الادّعاء بأن لو الله يوجد فمن ثَمَّ يكون لدينا سبب لأن نكون أخلاقيين والذي نفتقده لو أن الله لا يوجد، أيْ: الضمانة الإلهية للعدالة. بينما قد يكون الادّعاء الثاني صحيحًا، فإني أعتقد أن الادّعاء الأول باطلٌ. قبل الشرح لماذا هو باطل، سيكون مفيدًا دراسة بعض الطرق غير الإيمانية لرفض المقدمة المنطقية الثانية للتحدّي الأخلاقيّ. ففعل هذا سيكون مرشدًا [منوِّرًا] لأنه سيكشف ما كم العمل الذي سيكون متطلَّبًا من مؤمنٍ ككريج_والذي يصرُّ على أنَّ الإجابة الإيمانية هي السبيل الوافي الوحيد للتعامل مع التحدي. سيحتاج مؤمنٌ كهذا للبرهنة على أن الإجابات الغير الإيمانية غير ناجحة، وهذا شيءٌ لم يقم كريج_على الأقل_بمحاولة حتى فعله.

لأجل هجومنا الأول الغير إيمانيٍّ على المقدِّمة المنطقية الثانية للتحدِّي الأخلاقي سنعود مرة أخرى ثانيًا إلى ذلك العملاق اليونانيّ أرسطو[تِلْس]. كما دوَّنْتُ في الفصل الأول، فإن أرسطو[تلس] اختار التأمُّل في كتابه (الأخلاق النيقوميدية) كأفضل أنواع النشاط جوهريًّا. لكنه أكَّدَ كذلك أن النشاط الفاضل أخلاقيًّا هو خير في جوهره، رغم أنه ليس بنفس درجة خيرية التأمل النظريّ. أفضل نوع حياة بشرية ممكن هو واحدة ممتلئة بالتأمل النظريّ، وحياة ممتلئة بالنشاط الفاضل أخلاقيًّا هي حياة بشرية خيِّرة أيضًا . إذن، فوفقًا لرأي أرسطو[تلس] فالنشاط الفاضل هو مكافأة في حد ذاته. لجأ أرسطو[تلس] لهذه الفكرة ليشرح سبب انخراط شخص فاضل أخلاقيًّا في أفعالٍ قد تُرى على أنها أفعال تضحية بالذات:

"الكثير من الأفعال للـ[الشخص الفاضل] يُقام بها لصالح أصدقائه أو بلده، ولو كان هناك ضرورة فسيضحِّي بحياته لأجلهم. سيمنح طوعًا ماله ومظاهر مكانته و_باختصار_كل الخيْرات التي يتنافس الرجال لأجلها، بينما ينال نبلَ نفسِه...الرجل الخيِّر سيهَبُ طوعًا ماله لو عنى هذا أن صديقه سيحصل على ما هو أكثر، لأن (بهذه الطريقة) كسْبَ الصديق هو الثروة، بينما ما يملكه هو النبل، لذا فهو يُخصِّص الخيرَ الأكبر لنفسه .
الشخص الذي يعطي بكرمٍ صديقًا محتاجًا بعض المال يخسر المالَ لكنه "ينال" (أي: ينخرط في) فعلٍ كريمٍ [شهمٍ]، والفعل الكريم هو الخير الأكبر. لشخصٍ يقدِّر المالَ أكثر من النشاط الفاضل، فإن فعلًا كهذا يبدو فعل تضحية بالذات، لكن وفقًا لرأي أرسطو[تلس] فإن الشخص الحكيم يعلم أن المُعطِي قد حصل على الطرف الأفضل من الصفقة. إنه أفضل حقًّا أن تعطِيَ من أن تتلقَّى وفقًا لمنطق أن نشاط العطاء هو مكسب أكبر للمعطي من المال المتلقَّى من المتلقِّي. لقد حاول أرسطو[تلس] حتى أن يبرهن أن التضحية بحياة المرءِ أحيانًا هي في الصالح الأفضل للمرء:

"الشخص الفاضل سيفضِّل أن يحيا بنبلٍ لسنة واحدة مليئة عن أن يعيش وجودًا غير مميَّز لعدة [سنوات_م]، وسيفضل القيام بفعل عظيم ونبيل واحد عن الكثير من الأفعال غير المهمة. الناس الذين يموتون لسبب ربما ينجزون هذا، وهم يختارون بجلاءٍ نبلًا عظيمًا لأنفسهم."

افترض أننا نتصوَّر رسمًا بيانيًّا يصوِّر كمية النشاط الفاضل خلال حياة شخص معيَّن، حيث يشير المحور أ إلى الزمن والمحور ب إلى مستوى النشاط الفاضل الذي انخرط فيه الشخص خلال وقتٍ محدَّد. إحدى سبل فهم الفقرة التي اقتبستها للتو هي أن أرسطو[تلس] يقترح أن القيمة الكلية لحياة الشخص ليست ببساطة المنطقة تحت المنحنى في الرسم محل الكلام. بل بالأحرى ربما اعتقد أرسطو[تلس] بوجهةِ نظرٍ كليَّةٍ، وفقًا لها فإن حياة ذات نقطة أو نقطتين مرتفعتين من النشاط الفاضل أفضل من حياة ذات معدل منخفض وثابت وأكثر استمرارًا من النشاط الفاضل، حتى لو كان الكم الكليّ للنشاط الفاضل في الحياة الثانية أكبر من الكم في الحياة الأولى. إن تضحية نبيلة بحياة المرء الخاصّة به_بينما بالتأكيد تضع نهاية لحياة المرء وبالتالي كل نشاطه الفاضل_تنتج أيضًا ارتفاعًا ضخمًا من النشاط الفاضل. هذا الارتفاع ربما حقًّا ينتج حياةً أفضل لمن عاشها من حياة أطول بدون ذلك الارتفاع. وفقًا لهذا الرأي، فإن الاستشهاد يمكن أن يكون الاختيار الذي يزيد الحد الأقصى لمصلحة الشخص الذاتية، حتى لو ليس هناك حياة أخرى والموت هو النهاية الدائمة للخبرة الواعية .

يردّ أرسطو[تلس] على التحدّي الأخلاقيّ باقتراح ما قد ندعوه ببديهية معدَّلة [منقَّحة]. فلنفترض مع أرسطوتلس أن ما يعتقد معظم الناس أنه أقيم الأشياء كالسلطان والثروة والسمعة الجيدة والسعادة. قد ندعو هذا الرأي بأن هؤلاء الأشياء أفضل الأشياء في الحياة، الخيْرات التي تجعل حياة الإنسان تستحق العيش، ببديهية الحسّ العامّ . يرفض أرسطوتلس بديهية الحس المشترك ويجادل بأن النشاط من نوع معيَّن بدلًا من ذلك، النشاط الذي ينتج عن سمة فاضلة أخلاقيًّا، أفضل من أيٍّ من هذه الأشياء. اكتساب السمة الفاضلة أخلاقيًّا والانخراط في فعل فاضل أخلاقيًّا هو سبيل للعيش إحدى أفضل أنواع الحيوات المتاحة للبشر؛ هذا سبب أننا ينبغي أن نكون أخلاقيين.

أسلوبٌ آخر للردّ على التحدّي الأخلاقيّ اقترحه الفيلسوف الإلحاديّ ديـﭭيد هيوم في ختام كتابه (مبحث يتعلّق بمبادئ الأخلاق). هناك يسأل هيوم السؤال البلاغيّ:

"أيُّ نظريةٍ للأخلاق يمكنها أن تؤدي غرضًا مفيدًا، ما لم يمكنها البرهنة_بتفصيلٍ دقيقٍ_أن كلَّ الواجباتِ_التي تنصح بها_هي كذلك المصلحة الحقيقية لكل فرد؟"

واصل هيوم محاولة التلاؤم مع مُتَطلَبِه الخاصّ به:

"فلنفترض أن امرؤًا لديه السلطة الكاملة لتشكيل طبعه، وليدرسْ بتأنٍّ أي الرغبات أو الشهوات سيختارها لتأسيس سعادته ومتعته...متعاملين مع الرذيلة بأكبر صراحة، ومعتبِرين إياها كل التنازلات الممكنة، فيجب أن نعترف أنه لا يوجد_في أي مثالٍ_الحجَّة الأصغر لإعطائها الأفضلية على الفضيلة، وفقًا لرأي للمصلحة الذاتية....."

يدّعي هيوم أن السمة الشخصية هي الأرجح أن تمكِّن من يملكونها من العيش حيواتٍ جيِّدة لهم. فمثل أرسطوتلس، يؤكِّد هيوم أن الأخلاق والمصلحة الشخصية متوافقان عمومًا، ليس بسبب أن العدل يُكافَأ في ما بعد الحياة، بل لأن أن تكون أخلاقيًّا مفيدٌ في هذه الحياة. رغم ذلك، فإن هيوم يصل إلى هذا الاستنتاج من خلال طريق مختلف تمامًا عن الخاصّ بأرسطوتلس. فبخلاف أرسطوتلس، لا يرفض هيوم بديهيةَ الحسِّ المشترك. بدلًا من ذلك، فإنه يجادل بأن السمة الأخلاقية تؤدي بالضبط إلى الأشياء التي يقدِّرها الناس العوَام. كمثال، وفقًا لتفسير هيوم فإن مكونًا رئيسيًّا للسمة الفضيلية هي سمة الإحسان [الخيرية] أو البشرية. والتي تهتم بالحالة الجيدة لكل البشر. يمتدح هيوم هذه الصفة للشخصية لأجل السعادة التي تُحدِثها للأشخاص الذين يملكونها:

"إن الشعور الفوريّ للإحسان والصداقة، الآدمية واللطف، حلوٌ ولطيف ورقيق ومقبول، بالاستقلال عن كل الحظوظ والمصادفات...أي رغبة أخرى هناك حيث نجد بها الكثير للغاية من الأفضليات متحدّةً؛ شعور مقبول، ضمير سعيد، وسمعة طيبة؟"



  رد مع اقتباس
قديم 12-31-2015, 08:09 PM لؤي عشري غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [8]
لؤي عشري
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية لؤي عشري
 

لؤي عشري is on a distinguished road
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى لؤي عشري
افتراضي

يُمتدَح الاهتمام بالآدمية لأسباب مشابهة من قِبَل جون ستيورات ملْ، في كتابه (مذهب النفعية) Utilitarianism الفصل 13:

"للذين ليس لهم سواءً عواطف عامّة ولا خاصّة، فإن الأشياء المثيرة للحياة تُقلَّص كثيرًا، وفي أيِّ حلٍ تتضاءل في القيمة كلما يقترب الوقت الذي يقضي الموت فيه على كل الرغبات الأنانية؛ بينما الذين سيتركون وراءهم مواضع للعاطفة الشخصية، وخاصّةً الذين يُنمُّون تعاطفًا مع المصالح الجمعية للبشرية، يحتفظون باهتمام بالحياة في ليلة الموت بنفس النشاط الذي كان لهم في حيوية الشباب والصحة."

الاهتمام والقلق لأجل نجاح فريقٍ رياضيٍّ محترف يمكنه أن يسبِّب إثارة وسعادة حتى بعدما تتضاءل القدرات الرياضية للشخص أو تتلاشى كليًّا[57]. على نحوٍ مشابه، فأن تكون متكرِّسًا للإنسانية يمكنه التسبُّب في سعادة حتى بعدما تتضاءل قدرة المرء على فعل الكثير من أي شيء على الإطلاق. لأجل هذا السبب ينصح جون ستيورات مل بأن تصير متكرِّسًا للإنسانية.

إذن، فإن رأي هيوم هو أن تكون فاضلًا هو أفضل سبيل للحصول على الثروة والسلطة والسعادة، ذلك سبب أننا ينبغي علينا أن نكون أخلاقيين. رغم ذلك، فهناك تحدٍّ جدِّيّ لهذه النظرية والذي يتعلَّق بنوع الشخص الذي يسمّيه هيوم بـ "المخادع المُدرِك" [أو الوغد العاقل، الواعي_م].

"إن مخادعًا واعيًا قد يفكِّر_في أحداث معينة_أن فعل ظلمٍ أو خيانةٍ سيقوم بإضافة كبيرة إلى ثروته، بدون التسبُّب في أيِّ خرق كبير في الوحدة والاتحاد الاجتماعي. وأن [عبارة] الأمانة هي أفضل سياسة قد تكون قاعدة عامة جيدة، لكنها خاضعة للعديد من الاستثناآت، وربما يعتقد أن الذي يسلك بأكثرِ حكمةٍ هو من يتَّبع القانون العام، ويستفيد من كل الاستثناآت."

يتبع المخادع الواعي إستِراتيجية أن يكون أمينًا وعادلًا عندما يكون فعل ذلك في صالحه، لكنه يكون خائنًا وظالمًا عندما يعلم أنه يستطيع الإفلات بهذا وعندما يكون فعل ذلك في مصلحته. لذلك فهو يحصل على الأفضل من كلا الجانبين: لأنه يخون عندما يعلم_وعندئذٍ فقط_أنه لن يُقبَض عليه، إن لديه سمعة بالفضيلة، ولذلك يكتسب كل الفوائد التي تنشأ من سمعة كهذه. بالإضافة إلى هذه الفوائد، فهو يحصل على الفوائد الإضافية من الخيانة عندما يمكنه الإفلات بها، فوائد لن يتلقَّاها شخص فاضل على نحوٍ حقيقيٍّ. لذلك، في حالة كان كل شيء آخر متساويًا [بينهما]، فإن الوغد الواعي يتقدَّم أفضل من الشخص الفاضل على نحو حقيقي. من ثمَّ أفليس الوغد الواعي_عوضًا عن الفاضل الحقيقيّ_هو نوع الشخصية التي يرجَّح أكثر أن تمكِّن من يملكونها أن يعيشوا حيوات جيدات لهم؟ إن كان لدينا القدرة على صياغة شخصيتنا حسبما نرتئيه ملائمًا، وأردنا أن نختار لأنفسنا نوع الشخصية التي ستعزِّز سعادتنا على نحوٍ أفضل، ألن يكون الخداع [الوغدنة] الواعية اختيارًا أفضل من الفضيلة الحقيقية؟

على هذا النوع من التحدّي، كان أرسطوتلس سيجيب بأن المخادع الواعي هو في الحقيقة أحمق ينخرط في النشاط الفاسد لكي ينال المال أو السلطة أو الثروة أو المجد، عن طريق جعل نفسه أسوأ عمومًا. تمامًا كما أن النشاط الفاضل هو ذو الخيرات الأكبر، فكذلك النشاط الآثم هو ذو الشرور الأكبر، وبالانخراط فيه فإن المخادع المدرك يجعل نفسه بائسًا[58]. لكن هيوم لا يمكنه الاستفادة من هذا الردّ لأنه_على عكس أرسطوتلس_يقبل بديهية الحسّ المشترَك.

إن ردَّ هيوم الخاصّ به على هذا التحدّي مختصر. العنصر الأساسيّ لرده يوجد في هذه الفقرة:

"بينما يعتزمون [المخادعون الواعون] أن يخونوا باعتدال وسرية، تحدث أحداث مغرية، الطبيعة سهلة الانقياد[59]، ومن ثَمَّ لا يمكنهم أبدًا تخليص أنفسهم، بدون خسارة كلية للسمعة، وفقدان كل الثقة والائتمان المستقبليِّ مع الجنس البشريّ."

إن ادّعاء هيوم هنا هو أن الخداع الواعي إستِراتيجية يصعب بالنسبة لها للغاية أن تكون سبيلًا معقولًا لتحقيق السعادة. إن إغراء الخيانة_حتى عندما لا يكون حكمةً فعلُ ذلك_قويٌّ للغاية، والساعون للخيانة الواعية ميّالون للسقوط سريعًا وأن ينتهي الأمر بهم كمخادعين غير واعين للغاية. إنه صعبٌ تمامًا أن تخونَ فقط عندما تعلم أنك لن تُمسَك، وتبعات القبض عليك وخيمة تمامًا. على هذا النحو يدّعي هيوم أن الفضيلة الحقيقية هي رغم ذلك أفضل رهان عندما يتعلَّق الأمر بتأمين سعادتك. لماذا تكون أخلاقيًّا؟ لأن فعلَ ذلك يمنحكَ أفضل الاحتمالات لتأمين حياة جيدة لك (رغم أنها لا تضمَن حياةً كهذه).

لكن هل هيوم مُصيبٌ؟ هل هو حقًّا صعب للغاية أن تكونَ مخادعًا واعيًا؟ قد يتساءل المرء عما إذا كانت هذه مجرد فقرة من التفكير المتمنّي [لصحة الأمر]. لا يقدّم هيوم أي دعم للادّعاء. رغم ذلك، فهناك كتابٌ معاصر يقدم دليلًا من علم النفس ليدعم ادعاءَ هيوم، وبذلك يسُدُّ ثغرةً كبيرة في جدلية هيوم. الكتاب محل الكلام هو (الرغبات داخل العقل) Passions Within Reason لروبرت فرانك Robert Frank (1988). يلجأ فرانك إلى ما يدعوه علماء النفس بـ "قانون التطابق" لدعم رفض هيوم لـ [مبدأ] المخادع الواعي (والذي يدعوه فرانك بالانتهازيّ). ينصّ قانون التطابق على أن: "جاذبية المكافأة متناسبة عكسيًّا مع تأخرها". يميل البشر إلى تخصيص اهتمام أكبر بالمكافآت والعقوبات الأقرب زمنيًّا عما يفعلون بالنسبة للأبعد زمنيًّا[60]. هذه السمة للنفس البشرية تطرح مشكلة خطيرة لمن سيكون مخادعًا متعقِّلًا [أو واعيًا] [وبكلمات فرانك]:

"المشكلة هي أن المكاسب المادية من الخيانة تأتي سريعًا، والعقوبات تأتي فقط متأخرة أكثر...لو أن آلية المكافأة النفسية تخصِّص حقًّا تقديرًا غير متناسب للمكافآت قريبة الزمن، فالشخص الذي يبالي فقط بالمكافآت المادية سيخون حتى عندما يكون فعل ذلك غيرَ فطِنٍ."

بسبب قانون التطابق [أو المضاهاة]، يقترح فرانك أن من يفترَض أنهم سيكونون المخادعين المتعقِّلين سيخونون آخر الأمر عندما لا يكون حكيمًا فعلُ ذلك وسيُقبَض عليهم. بسبب الطريقة التي يعمل بها العقل البشريّ، فنحن ببساطة لسنا مُصمَّمين للخداع المتعقِّل. فقط الذين هم أمناء على نحو حقيقي سيكونون قادرين على مقاومة إغراء الخيانة في المواقف التي حينها سيكون غيرَ حكيمٍ فعلُ ذلك. يشرح فرانك الآلية النفسية العاملة هنا كالتالي:
"إن يكن فلانٌ ميّالًا عاطفيًّا لاعتبار الخيانة فعلًا غيرَ سارٍّ في حد ذاته ولذاته، أي: لو لديه ضميرٌ، فسيكون قادرًا على نحوٍ أفضلَ على مقاومة إغراء الخيانة. إن كانت آلية المكافأة النفسية مجبَرة على التشديد على المكافآت في اللحظة الحالية، فإن أبسط مضادٍّ لمكافأة معقولة ظاهريًّا من الخيانة هي أن يكون لديك شعور حاليّ يشدُّ في الاتجاه المعاكس بالضبط. الشعور بالذنب هو هذا الشعور بالضبط."

أفضل وسيلة لمنع النفس من الخيانة عندما سيكون من غير الحكيم فعل ذلك هو جعل النفس من نوع الشخص الذي يقدِّر الأمانة لأجل ذاتها. وكما عبَّر فرانك عن الأمر في كتابه في فقرة قبل ما أوردنا: "لكي تبدو أمينًا، ربما يكون ضروريًّا، أو على الأقل مساعدًا جدًّا، أن تكون أمينًا[61]." السبيل الأفضل لتأمين السعادة هو أن يكون لك سمعة بالفضيلة، وأفضل سبيل للحصول على سمعة كهذه هو أن تكون شخصأ فاضلًا على نحو حقيقيّ. يظل أن تكون شخصًا أخلاقيًّا على نحو حقيقيٍّ أفضلَ رهانٍ لتأمين السعادة؛ لأجل ذلك ينبغي أن نكون أخلاقيين. إلى هذا يذهب ردُّ هيوم/ وفرانك.

هاكم_إذن_اعتراضان على المقدِّمة المنطقية الثانية للتحدّي الأخلاقيّ، إجابتان غير إيمانيتين [إلحاديتين] على السؤال لماذا تكون أخلاقيًّا. لقد شرحتُ هذين الردَّين لأني أعتقد أن كلّيهما يستحق اعتبارًا جديًّا. علاوة على هذا، فإن وجود مثل هذه الردود يبرهن على أن من سيجادل_ كما يفعل كريج Craig_بأن الإيمان فقط يقدِّم ردًّا وافيًا على التحدّي يحتاج إلى جهد فلسفيّ أكثر ليؤدِّيه. في النهاية_رغم ذلك_لن أرفع قبعتي لأيٍّ من الردَّيْنِ. أود أن أوافق بدلًا من ذلك على ردٍّ مختلف تمامًا على التحدِّي الأخلاقيّ.

الإجابة الثانية: لأنه ينبغي عليكّ

لقد درسنا ثلاثة طرق للاعتراض على المقدمة المنطقية الثانية للتحدي الأخلاقي، وهي: الإجابة الإيمانية، والإجابة الأرسطوطاليسية، وإجابة ديـﭬيد هيوم وروبرت فرانك. لكنْ ماذا عن المقدمة المنطقية الأولى للتحدّي؟ تلك المقدمة المنطقية تقوم على مفهوم أن السبب الوحيد الموجود الممكن للقيام بفعل معيَّن هو أن يكون ذلك الفعل في مصلحة المرء. لكن يبدو لي أن مثل هذا الادّعاءِ باطل مباشرةً. هناك الكثير من الأنواع المختلفة الممكنة من الأسباب للقيام بفعل معيَّن؛ وكونه في صالح المرء هو واحد منها فقط. سببٌ آخرُ للقيام بفعلٍ هو ببساطة أن فعل ذلك إلزاميٌّ أخلاقيًّا على المرء.

وفقًا لعمانوئيل كانط [إيمانويل كانْتْ): "الكمال الأعظم لإنسانٍ هو أن يفعل واجبه لأجل الواجب (لأجل أن يكون القانون ليس فقط حاكمَه بل أيضًا الحافزَ لأفعاله)[62]. وفقًا لرأي كانط، فإن الشخص الفاضل هو الذي ليس فقط ينجز التزاماته الأخلاقية، بل ويفعل ذلك تحديدًا لأنها التزاماته. في أكثر كتبه قراءة على نحو واسع عن الأخلاق، كتاب أساس أو (تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق)، يبيِّن كانط أوجه الاختلاف بين القواعد القائمة على الافتراضات من ناحية والقواعد المطلقة من ناحية أخرى. القواعد القائمة على الافتراضات تشير إلى الوسائل للوصول إلى نهاية محدَّدة، وتنطبق فقط على الكائنات التي ترغب في النهاية [الغاية] محلّ الكلام. "إن أردت الحصول على درجة علامة الامتياز في الاختبار التالي، فابدأ المذاكرة الآن" هي قاعدة قائمة على الافتراض، قاعدة ليست ذات صلة بمن يفتقد الرغبة في الحصول على درجة امتياز في الاختبار التالي. أما القواعد المطلقة_على النقيض_تنطبق على كل الكائنات العقلانية بغض النظر عما تكونه رغباتهم. أي القانون الأخلاقيّ، قانون يجب أن تطيعه بصرف النظر عما يحدث أن تكونه الرغبات التي لديك.

يتطابق مع هذا التمييزِ بين أنواع القواعد التمييزُ بين أنواع الأسباب للفعل. أنَّ سلوكَ فعلٍ معيَّنًا سيُشبِع أحدى رغباتك هو نوع من الأسباب للقيام بفعلٍ؛ وأنَّ سلوكَ فعلٍ معيَّنًا ملزِمٌ أخلاقيًّا هو سبب آخر للقيام به. بالإضافة إلى ذلك، وفقًا لرأي كانط، فإن النوع الثاني من الأسباب هو أقوى أنواع الأسباب الموجودة. كونُ فعلٍ معيَّنٍ ملزِمًا أخلاقيًّا يفوق كل الاعتبارات الأخرى. حالما يكتشف شخصٌ ذو فضيلة كانطية خيارًا ملزمًا أخلاقيًّا، فإن التساؤل بصدد كيفية السلوك ينتهي، لأن ما عليه فعله واضح، مع اعتبار كل الأشياء. حسب رأي كانط، اعتبار الواجب اعتبارًا مهيمنًا هو صفة مميِّزة للشخص الجيِّد أخلاقيًّا، بينما اعتبار مصلحة ذات المرء أهمَ اعتبارٍ هو صفة مميِّزة للشخص السيء أخلاقيًّا، يقول في كتابه (الدين ضمن حدود العقل):

"التمييز بين الرجل الخيِّر والذي يكون شريرًا.....يجب أن يعتمد على....أي الحافزين يجعله الشرطَ للآخر. بالتالي فالرجل...يكون شريرًا فقط بعكسه للترتيب الأخلاقيّ للحافزين عندما يتبنّاهما كقاعدته السلوكية....فهو يجعل حافز حب الذات ورغباتها شرطَ إطاعة القانون الأخلاقي...."

الشخص الشرير هو من يقوم بواجبه طالما يتوافق مع ما هو أفضل لمصلحته. لكن عندما تتعارض المصلحة الذاتية والالتزام فإن الشخص الشرير يتّبع المصلحة الذاتية. هذا ما عناه كانط بقوله أن الشخص الشرير "يجعل حافز حب ذات ورغباتها الشرطَ لإطاعة القانون الأخلاقيّ". على الجانب الآخر، فإن الشخص الصالح يفعل ما هو أفضل لمصلحته، لكن فقط طالما يتوافق مع ما هو مطلوب أخلاقيًّا منه. عندما تتعارض المصلحة الشخصية والالتزام، فإن الشخص الصالح يقوم بواجبه.

هذا كله يقترح إجابة من نوع مختلف على تحدّينا المُستَهَلُّ به. الإجابة هي ببساطة ان حقيقة أن سلوكًا معيَّنًا ملزِمٌ أخلاقيًّا هي نفسها سببٌ_بالواقع أقوى أنواع الأسباب_للقيام بالفعل محل الكلام بغير اعتبار لما إذا كان الفعل في مصلحة المرء. على نحوٍ أعمَّ، حقيقة أن سلوكًا معينًا هو سبيل لأن تكون أخلاقيًّا هي سبب للقيام بذلك الفعل. ردًّا على السؤال "لماذا أكون أخلاقيًّا؟" فإن إجابة مقبولة على نحو على نحوٍ تامٍّ هي: "لأنه أخلاقيٌّ". قد يبدو هذا غريبًا حتى يلاحظ المرءُ أن السؤال "لماذافعل ما هو في مصلحة المرء؟" الإجابة المقبولة على نحو تامّ عليه هي: "لأنه في مصلحة المرء". لا تفسيرَ إضافيَّ مطلوبٌ في كلا الحالتين.

اعتقد كانط أن من يسعَوْنَ لتعليل السلوك على نحوٍ أخلاقيٍّ على أساس أن الأخلاق والمصلحة الشخصية متطابقان يقومون في الحقيقة بإساءة بالغة للأخلاق:

"لا يجب أن تقلِّل الأخلاق من نفسها. إن طبيعتها الخاصة بها يجب أن تكون تزيكتها. كل شيء آخر_حتى المكافأة الإلهية_هي لا شيءٌ مقارنةً بها...الأسباب الأخلاقية للحافز ينبغي أن تقدَّم على أنها [الأخلاق] نفسها ولأجل ذاتها...تغنُّج [العاهرة_م] يغوي بدلًا من امتداح ذاته، وعندما تقوم الأخلاق بالمغازلة فإنها تنال نفس المصير. الجمال والبساطة والتواضع أكثر جاذبية على نحو مطلق من كل فنون وإغراآت التغنُّج. نفس الأمر بالنسبة إلى الصلاح الأخلاقيّ. إنه أكثر فاعليةً وجاذبية في طهره البسيط مما هو عليه عندما يُزيَّن بالإغراآت، سواءً مكافأة أو عقاب.[63]"

يرى كانط محاولة البرهنة على أن لدينا سببًا لإنجاز التزاماتنا الأخلاقية لأن فعل ذلك في مصلحتنا كخيانةٍ للأخلاق. قد نربط ذهنيًّا هذه المسألة الكانتية [الكانطية] مع التحدّي الأخلاقيَ كالتالي: من يسعَوْنَ للردِّ على التحدّي بمهاجمة المقدمة المنطقية الثانية يصادقون ضمنيًّا على صحّة المقدمة المنطقية الأولى. لكن قبول المقدمة الأولى ليس فقط قبولَ ما هو باطل_وفقًا لرأي كانط_بل قبول مثل هذه المقدمة هو أكثر من خطإٍ معرفيّ، إنه خللٌ أخلاقيٌّ. الاعتقاد بأن الاعتبار الوحيد ذا الصلة بتحديد ما على المرء فعله هو ما سيزيد إلى الحد الأقصى مصلحة المرء هو إظهار للأنانية الأثيمة. إن الشخص الفاضل يدرك نوعًا من الأسباب مختلفًا عن الخاصة بالمصلحة الذاتية: أسباب الأخلاق. علاوة على ذلك، يدرك ذلك الشخص أن الأسباب من النوع الثاني تفوق التي من النوع الأول.

تأكيدًا لكوننا لدينا سببٌ لمراعاة أين توجد التزاماتنا فقط لو الله يوجد، يفترض كريج أن النوع الوحيد من الأسباب الموجود الممكن مطلقًا للقيام بفعل معيَّن هو أن يكون في مصلحة المرء فعله. تبدو الفكرة أنه ما لم تُعاقَب لفعل ما ينبغي ألا تفعل وتكافَأ لفعل ما ينبغي أن تفعل، فليس هناك سبب لتولية أدنى اهتمام لعين بشأن الفرق بين الاثنين. لكن هذا باطلٌ، وفي الواقع يدلّ على رأيٍ طفوليٍّ عن الأخلاق. يدرك الأشخاص الراشدون أن حقيقةَ كونِ فعلٍ ملزِمًا أخلاقيًّا هي ذاها سبب مهيمن للقيام بذلك الفعل. الفعل الملزِم أخلاقيًّا هو الفعل الذي يجب على المرء فعله سواءً يريد المرء فعله أو لا. قد تقدِّم المكافآت والعقوبات أسبابًا إضافية لفعل ما ينبغي علينا أخلاقيًّا فعله، لكنها لا تشكِّل الأسباب الوحيدة لفعل ذلك. بالتالي تفشل جدلية كريج.





الضمان الإلهيّ للعدالة الكاملة وجدلية كانط الأخلاقية

إن عنصرًا رئيسيًّا لجدلية كريج هو أن وجود الله يضمن كونًا عادلًا على نحو كامل. أود استكشاف بعض المعاني الضمنية لهذا المفهوم، بادئًا بفحص استعمال كانط لهذا المفهوم في جدلية مهمة توجد قرب نهاية كتابه (نقد العقل العمليّ).

تظهر الجدلية التي في بالي في الجزء من كتابه المذكور المعنون بـ(وجود الله كشرط ضروري للعقل العملي النقيّ). إن مفهومًا أساسيًّا في هذه الجدلية هو الخير الأعلى، والذي يعتبره كانط يتكون من مكونين رئيسيين: 1-الأخلاق، والتي تتلف بدورها من الكائنات العقلانية الكاملة أخلاقيًّا، و2-السعادة متناسبة مع تلك الأخلاق. إن المكون الثاني للخير الأعلى هو ما يؤدّي العمل في الجدلية المتناوَلة، وهذا المكون ذو صلة بالضمان الإلهيّ للعدل الكامل.

تبدأ جدلية كانط من المقدمة المنطقية بأن كلًّا منا ملزَم أخلاقيًّا "بالكفاح لترقية الخير الأعلى". هذا يعادل الادعاء بأن كلًّا منا ملزَم بمحاولة جعل الوضع أن كل امرئٍ كامل أخلاقيًّا، وأن ينال كل امرئ كم السعادة التي نستحقها, من هذه المقدمة المنطقية يجادل كانط كالتالي:

"بالتالي يوجد فينا ليس فقط مجرد المبرر، بل كذلك الضرورة، كحاجة متصلة بالواجب، لأن نفترض مقدمًا إمكانية هذا الخير الأعلى، والذي_حيث أنه ممكن فقط تحت شرط وجود الله_ يربط افتراض وجود الله مقدمًا بشكل ملازِم مع الواجب، أي أنه ضروريّ أخلاقيًّا افتراض وجود الله."

كلٌّ منا ملزَم بالسعي للخير الأعلى. إلا أننا لا يمكننا على نحو معقول السعي له ما لم نعتقد أنه ممكن تحقيقه. لا يمكننا الاعتقاد على نحو معقول بأن الخير الأعلى ممكن الحصول عليه ما لم نعتقد أن هناك كائنًا سيجعل الخير الأعلى ممكنَ الإتيان إلى الوجود. وتفكر قليل يكشف أن الكائن الوحيد الذي يمكنه إنجاز هذا هو الله. بالتالي، لا يمكننا على نحو معقول السعي للخير الأعلى ما لم نعتقد أن الله يوجد. لكن حيث أننا ملزَمون بالسعي للخير الأعلى، فيجب أن نعتقد أن الله يوجد، كما عبر كانط عن الأمر، فإن مثل هذا الاعتقاد "ضروري أخلاقيًّا". كان كانط حريصأ على جعل الأمر واضحًا أن استنتاج الجدلية ليس أننا ملزَمون أخلاقيًّا بالاعتقاد بوجود الله، حيث "لا يمكن أن يكون هناك أي واجب لافتراض وجود أي شيء" [على حد قوله]. بالأحرى، فإن استنتاج كانط المراد يبدو شيئًا كهذه الفقرة: بينما ليس الادعاء بوجود الله شيئًا نحن ملزَمون بالاعتقاد به على نحو مباشر، فهو ادعاء يجب أن نقبله لكي نصل على نحو معقول إلى المستوى المتوقع بالنسبة لالتزاماتنا بالسعي للخير الأعلى.

إذن، فإن جدلية كانط هي أن الإلحاد يتعارض مع قدرة الشخص على تحقيق كل التزامات المرء الأخلاقية. لا يستطيع ملحد أن يسعى على نحو عقلاني للخير الأعلى، رغم أن كل البشر ملزَمون أخلاقيا بالسعي له. لذا يجب على الملحد إما أن يتصرف على نحو غير عقلاني (يسعى إلى الخير الأعلى بينما يعتقد أنه غير ممكن التحقيق)، أو يفعل شيئا خاطئا بتجاهل السعي للخير الأعلى. ربما اعتقد كانط أن الخيار الأول مستحيل نفسيا في الحقيقة، ففي هذه الحالة يمكن للمرء تحقيق كل التزاماته الأخلاقية فقط لو أنه مؤمن.

تعتمد جدلية كانط على الادعاء بأن الخير الأعلى غير ممكن التحقيق على الأرض. فلو كان كذلك، لأمكننا من ثم إنجاز التزامنا بالسعي للخير الأعلى بدو الاعتقاد بحياة أخرى بعد الموت فيها يوزَّع فيها العدلُ من قبل قاضٍ إلهيّ. عند هذه النقطة أود أن أفحص بعض جوانب الفكر المسيحي الكامنة وراء فكرة أن الخير الأعلى الكانطي لا يمكن تحقيقه في هذه الحياة[64]. سيساعد هذا النقاش على تسليط الضوء على بعض العناصر الهامة للرؤية المسيحية للكون وسيساعدنا على رؤية كيف ينبغي على الطبيعيّ أن يرد على جدلية كانط.

إن عنصرا مركزيا للرؤية المسيحية للكون هي أن البشر فاسدون أخلاقيا كنتيجة لسقوط الإنسان [آدم]. في التوراة يلاحظ الله [المزعوم] أن "....تصور قلب الانسان شرير منذ حداثته" [التكوين8: 21][65]. وفقًا لـ C. S. Lewis، فإن إحدى تبعات سقوط الإنسان هي أن "الإنسان صار الآن رعبًا لله ولنفسه.[66]" وفقا لرأي كانط، فالبشر غير قادرين على تحقيق الكمال الأخلاقي في هذه الحياة بسبب هذا الفساد: "التطابق التام للإرادة مع القانون الأخلاقي هي...قداسة، كمال لا كائن عاقل في العالم المحسوس قادر عليه في أي لحظة من وجوده". [نقد العقل المحض]. تتضمن القداسة تحررا تاما من الرغبات التي تدفعنا بعيدا عن طريق الواجب، لكن مثل هذه الرغبات المناقضة لا يمكن إزالتها تماما في هذه الحياة: "أن تكون رجلا فاضلا للغاية على الإطلاق، يوجد فيه دوافع الشر، ويجب عليه باستمرار مكافحة هؤلاء." [محاضرات عن الأخلاق لكانط]. بالتالي، فإن المكون الأول للخير الأعلى الكانطي، الكمال الأخلاقي لكل الكائنات العاقلة لا يمكن تحقيقه على الأرض.

عائق آخر لتحقيق الخير الأعلى الكانطي على الأرض يشكل أساس وصية يسوع أن "لا تُدينوا، لئلا تُدانوا". يقترح Lewis أننا قد أُمِرنا بألا نحكم على السمة الأخلاقية للآخرين لأننا غير مؤهلين لفعل ذلك. إن تقديرا مناسبا للسمة الأخلاقية لفردٍ سيتطلب معرفة كاملة بنفسيته الداخلية وصفاته الوراثية وتربيته، ما يسميه Lewis بالمادة الخام. لكننا "نرى فقط النتائج التي تصنعها اختيارات إنسان بسبب مادته الخام...الله لا يحاكمه على المادة الخام على الإطلاق، بل عما قد فعله بها.[67]" يقول كانط نفس الأمر تقريبا، مقترحا أن: "الله فقط من يمكنه رؤية أن أمزجتنا أخلاقية ونقية."[محاضرات].

يمضي كانط بهذه الفكرة إلى حد أبعد: أننا غير مؤهلين للحكم حتى على شخصيتنا. يؤكد كانط أن: 1- امتلاك النوع السليم من الحافز هو أحد مكونات الفضيلة الأخلاقية؛ و2-لا يمكننا معرفة طبيعة حوافزنا.

"إن إعماق القلب البشري لا يمكن سبر أغوارها. من الذي يعرف نفسَه على نحو جيد كفاية ليقول أنه عندما يشعر بالحافز لإنجاز واجبه، ما إذا كان ينشأ على نحو كامل من الاستجابة للقانون أم أن هناك حوافز معقولة كثيرة أخرى مساهمة فيه والتي تبدو في صالح المرء...وذلك_ في ظروف أخرى_قد يؤيد الرذيلة كذلك؟" [من: ميتافيزيقيا الأخلاق]

قبل ذلك يسأل كانط على نحو بلاغي في (ميتافيزيقيا الأخلاق): "كم من الناس قد عاشوا حيوات طويلة وخالية من الذنب قد لا يكونون محظوظين فقط في الهرب من الكثير للغاية من الإغراآت؟؟

هذا الجانب من رأي كانط توضحه بقوة رواية Joseph Conrad (قلب الظلام) 1976. تدور تلك الرواية حول شخصية كورتز، الرجل الأورُبيّ الذي يدخل الكونجو تحت حكم بلجيكا بحثًا عن العاج. كورتز جدير بالملاحظة في أنه قبل دخوله الغابة كان معتبرًا على نحو واسع كرجل أخلاقيّ ذي أفكار قوية. كان غرضه من الذهاب إلى الكونجو ليس كسب المال فحسب، بل أيضًا لجلب الحضارة إلى البدائيين، لجلب الضوء إلى قلب الظلام.

يحكي المؤلف Conrad القصة من وجهة نظر شخصية مارلو، الذي خلال رحلته إلى الكونجو يصير مهووسًا بكورتز وينطلق للبحث عنه. في إحدى اللحظات تقدم شخصية أخرى لمارلو الوصف التالي لكورتز:

"قال آخر الأمر: ‘إنه أعجوبة، إنه مبعوث الشفقة والعلم والتقدم، ويعلم الشيطان ماذا أيضًا.’ ثم بدأ يتكلم بطريقة خطابية فجأة: ‘لأجل إرشاد القضية التي ائتمنتنا عليها أورُبا، على سبيل المثال: المعرفة الأعلى، التعاطفات الأكبر، والإخلاص للغرض’."

لاحقًا، يجد مارلو بعض كتابات كورتز الخاصة به:

"لقد كانت قطعة كتابة جميلة.....لقد بدأ بالجدل بأننا_البيض_لأجل نقطة التطور التي قد وصلنا إليها: "يجب أننا نظر لهم [البدائيين] بالضرورة في طبيعة كائنات فئقة للطبيعة، لقد اقتربنا منهم بقوة كما للتي لإله". وإلخ وإلخ. "بالتمرّس البسيط يمكننا ممارسة قوة للخير غير محدودة عمليًّا." من هذه النقطة حلَّقَ وأخذني معه. كانت خاتمة كلامه رائعة، رغم أنها يصعب تذكرها، أنت تفهم. لقد أعطتني المفهوم لاتساع غريب يحكمه حاكم محسن على شاكلة القيصر أغسطس. لقد جعلتني أشتعل حماسة."

يُصوَّر كورتز كرجل جدير بالملاحظة لرؤيته الأخلاقية وطموحاته العالية، واثقًا في كلٍّ من جودة شخصيته وقدرته على تغيير شخصيات الآخرين إلى الأفضل. من قرؤوا الرواية يعرفون_بالتأكيد _أن كورتز فشل تمامًا في أن يكون على مستوى مثالياته الخاصة به. بدلا من ذلك، في الوقت الذي وجد مارلو فيه كورتز، كان قد جن بوضوح، متحولا إلى قائد حربي مجنون بالقوة متعطش للدماء. بدا أن المحليين قد اعتبروه بالفعل كإله من نوع رديء بالكاد، لكن لم يكن هناك أي شيء يشابه ولو من بعيد "قيصر أغسطس الإحسان" في الطريقة التي كان يحكمهم بها. كان كورتز يعيش في بيت في وسط الغابة محاطا برؤوس مقطوعة على عصي، رؤوس موجهة إلى اتجاه الداخل، باتجاه كورتز. تفكَّر مارلو في الرؤوس وفي كورتز في هذه الفقرة القوية:

"لم يكن هناك أي شيء مفيد تماما في وجود هذه الرؤوس هناك. إنها فقط تظهر أن السيد كورتز افتقد كبح إرضاء شهواته العديدة، وأن هناك شيئا كان معوزا فيه، أمر صغير ما، والذي عندما برزت الحاجة الملحة لم يمكن أن يوجد تحت غلاف بلاغته البديعة. لا يمكنني القول ما إذا كان هو نفسه قد عرف هذا النقص. أعتقد أن المعرفة جاءت له في النهاية، فقط عند النهاية تماما. لكن الوحشية اجتاحته مبكرا، وانتقمت منه انتقاما مريعا لأجل اجتياحها الهائل. أعتقد أنها همست له بأشياء عن نفسه والتي لم يكن يعرفها، أشياء لم تكن في تصوره حتى أشار عليه هذا القُفْر العظيم، واتضح أن الهمس فاتن على نحو لا يقاوَم. لقد تردد صداها بصوت عالٍ داخله لأنه كان أجوف في لُبِّه...."

كورتز الذي كان في المجتمع الأوربي قد بدا كأخلاقي لكل أحد بما فيهم نفسه، اكتشف اكتشافا كريها بصدد شخصيته عندما وجد نفسه خارج المجتمع، وحيدا في الغابة، وعُبِد كإلهٍ. لو لم يكن ترك المجتمع الأوربي لربما كان قد عاش حياة طويلة وبلا ذنب تماما، لكنه كان سيكون_بكلمات كانط_"محظوظ قط في الهرب من الكثير من الإغراآت". في الغابة اكتشف افتقاد الكبح داخل نفسه، مع الرغبات المظلمة التي لم يعرف قط أنها لديه. وفقًا لمارلو: "كانت روحه مجنونة...لقد كانت تنظر إلى ضمن نفسها، وبحق السماوات! أقول لك: لقد جُنَّتْ." باختصار، لقد اكتشف كورتز داخل نفسه قلبَ ظلامٍ. هذا هو معنى كلمات كورتز الشهيرة الأخيرة: "الرعب! الرعب!". والتي وصفها مارلو كـ "حكم على مغامرات روحٍ فوق الأرض[68]".

توضح حالة كورتز ادعاء كانط بصدد صعوبة الحكم على شخصيتنا الخاصة بنا. عندما ذهب كورتز إلى الغابة، قام باكتشاف بصدد نفسه. لقد اكتشف نقصا في شخصيته كان موجودا طوال الوقت، لكنه لم يكن سيُكشَف أبدًا لو لم يكن قد غادر المجتمع المتحضر. هذا يتناغم على نحو جيد مع شرح Lewis المقترَح لوصية يسوع للبشر بألا يحكموا على الآخرين: أننا ببساطة لسنا مؤهلين لفعل ذلك.

لو أننا لسنا مؤهلين للحكم على شخصيات الآخرين، وربما حتى الخاصة بنا، فمن ثم لن نكون قادرين على توزيع السعادة وفقًا لاستحقاقها. ما يستحقه الناس يعتمد جزئيا على طبيعة سماتهم الأخلاقية. إن نكن لا نستطيع الحكم بدقة على سمات [شخصيات] الآخرين، فلن نكون قادرين على إعطاء الناس ما يستحقونه. وبالتاي، فإن الخير الأعلى الكانطي غير ممكن التحقيق من جانب البشر. الله فقط يمكنه القيام بالأحكام المتطَلَبة لتحقيق الخير الأعلى.

نوع ثالث من العقبات لتحقيق الخير الأعلى الكانطي على الأرض ينشأ من مشكلة الشر. في محاولة للإجابة على مشكلة الشر، قدم بعض الكتاب المسيحيين على الأقل آراء تستلزم أن المعاناة غير المستحَقة على جزء من البشر سمة حتمية للظرف الإنساني. أحد الأمثلة البارزة لهذا تظهر في كتاب Lewis المُبرَز (مشكلة الألم)، والذي كتبه بوضوح كرد على النقاش عن الألم قرب نهاية كتاب هيوم (حوارات بخصوص الدين الطبيعي). يحاول لِوِس Lewis تفسير وجود الألم في العالم بافتراض أن بعض الألم على الأقل يستعمله الله كوسيلة لتحقيق أهداف معيَّنة. يصف ببلاغة أحد الاستعمالات التي يستعمل الله لأجلها الألم:

"الله_الذي قد خلقنا_يعلم من نكون وأن سعادتنا تكمن فيه. إلا أننا لن نسعى لها فيه طالما يترك لنا أي ملجأ آخر حيث يبدو حتى معقولا ظاهريا السعي لها فيه. طالما ما ندعوه "حياتنا الخاصة بنا" تظل سارّة فلن نسلِّمها له. ما الذي يمكن لله إذن لله أن يفعله لصالحنا عدا جعل "حياتنا الخاصة بنا" أقل سرورا لنا، ونزع المصدر المعقول ظاهريا للسعادة الزائفة؟[69]"

افترضْ أن لديك طفلًا يحب لعب ألعاب الـﭬيديو. طفلك يحبها للغاية لدرجة أنه لا يفكر في أي شيء آخر؛ إنه سعيد تماما بلعب ألعاب الـﭬيديو، ما لم_كما يُقال_تقتحم الأبقار المنزل. افترض أنك تعلم أن طفلك سيكون أسعد ويعيش حياة أكثر امتلاءً لو وضع جانبا ألعاب الـﭬيديو خاصته وكرس طاقته لاتجاه آخر. إحدى وسائل جعله يفعل ذلك ستكون تخريب لعبه لها. إن استطعتَ جعلها مملة أو غير مرضية له، هذا سيحفزه على البحث في اتجاه آخر عن الإنجاز.

فكرة لِوِس هي أن البشر مشابهون إلى حد ما للأطفال لاعبي ألعاب الـﭬيديو جيمز. أننا نميل إلى البحث عن السعادة والإنجاز في الأشياء الأرضية بدلا من في الله. يعلم الله أن سعادتنا الحقيقية تكمن فيه لكنه يدرك أننا لن نلتفت له أبدا إن ظللنا قانعين بالأشياء الأرضية. يستخدم الله الألمَ لإفساد الأشياء الأرضية بالنسبة لنا. هذا يحررنا من هم أن الأشياء الأرضية تحتوي على سعادة حقيقية لنا ويقنعنا بالنظر إلى جهة أخرى. إذن [فحسب هذا الرأي] أحد استعمالات الله للألم هو لتعليمنا الدرس الذي عبَّر عنه باسكال بهذه الطريقة: "لا تبحث عن الرضا على الأرض، لا تأمل في أي شيء من البشرية. خيرك في الله فقط، والسعادة تكمن في معرفة الله، والصيرورة متحدا معه إلى الأبد في أبد الآبدين[70]". يلاحظ لِوِس أن ذلك الرأي يتضمن أن بعض الألم على الأقل الذي يوقعه الله على البشر هو ألم غير مستحَق. في الحقيقة هذه إحدى عناصر قوة افتراض لِوِس كحلٍّ لمشكلة الشر: إنها تقدِّم تفسيرا لإحدى أكثر أنواع الشر إزعاجا: المعاناة غير المستحَقّة. كتب لِوِس Lewis:

"إننا متحيِّرون لرؤية المحن تقع على الناس المحترمين المسالمين الفاضلين، وعلى أمهات الأُسَر المجتهدات في العمل البارعات، أو صغار التجار المجتهدين المزدهرين، أو على الذين قد عملوا باجتهاد وأمانة للغاية، لأجل تأمين سعادتهم المتواضعة وكانوا قد بدؤوا في الاستمتاع بها مع استحقاق كامل. كيف يمكنني أن أقول برقة كافية ما يجب قوله هنا؟....الحياة بالنسبة لهم ولأسرهم تقف بينهم وبين إدراك احتياجاتهم؛ إنه يجعل [الله] الحياة أقل حلاوة لهم[71]."

طالما يميل البشر إلى الرضا بالسعادة الأرضية و_كنتيجة لسقوط آدم_فسيكونون كذلك دومًا، فسيوقع الله المعاناة غير المستحَقة عليهم لكي يصرفهم عن السعادة الزائفة ويعيدهم إلى اتجاهه، [هو] مصدر السعادة البشرية الحقيقية. بالتالي فالمعاناة الغير مستحَقة لا يمكن إزالتها بالكامل أبدا من العالم، ما كان الله ليسمحَ لهذا بالحدوث، [وبكلمات لِوِس]:

"لا يمكن لمسيحي_لذلك_تصديق أي من هؤلاء الذين يعدون بأنه لو قيم ببعض الإصلاح في نظامنا الاقتصادي أو السياسي أو الصحي فستنتج جنة على الأرض...السعادة والأمن الثابتين اللذان يستحقهما كلنا، يحجبها الله عنا عن طريق طبيعة العلم نفسها..سيعلمنا افتقاد الأمان أن نريح قلوبنا في هذا العالم ونعارض عقبة لعودتنا إلى الله...أبونا ينعشنا خلال رحلتنا ببعض النُزُل [الخانات] السارّة، لكنه لن يشجعنا على أن نظنها على نحو خاطئ البيت."
وفقًا لرأي لِوِس، فإن الخير الأعلى الكانطي غير ممكن التحقيق على الأرض لأن الله لن يسمح به على الأرض[72].

إذن، فماذا ينبغي على الطبيعيّ القول بشأن جدلية كانط الاستهلالية؟ هل هناك أي سبيل لمقاومة استنتاج كانط بأن ما لم يكن المرء مؤمنا فلا يمكنه تحقيق كل التزاماته الأخلاقية؟ إحدى سبل الرد على جدلية كانط ستكون رفض المقدمة المنطقية بأن الخير الأعلى الكانطي غير ممكن التحقيق على الأرض. لكن لا تبدو هذه الإستِراتيجية واعدة على نحو خاص. فحتى وفقًا للرؤية الطبيعية للأشياء يبدو أن هناك عدد من العوامل التي تجعل إمكانيات نجاح تحقيق الخير الأعلى الكانطي ضعيفة باهتة تمامًا.

أولًا، حتى لو نمضي إلى الحد الذي وصل إليه كانط في الشك في قدرتنا على تقدير نوعية شخصيتنا الأخلاقية الخاصة بنا، فهناك بالتأكيد صحة إلى حد ما في افتراض كانط و لِوِس أننا غير قادرين على القيام بأحكام دقيقة ومُحكَمة على نحوٍ كافٍ بصدد سمات الآخرين لنقرر بالضبط ما يستحقه كل شخص[73]. يبدو صحيحًا أن العدالة الكاملة على الأرض معاقة بعدم قدرتنا على الوصول إلى تقديرات كاملة عن كيف ينبغي أن يُعامَل الآخرون.

ثانيًا، الكثير من الأشياء خارج تحكمنا. بالتأكيد هذا صحيح أيضا وفقا للرؤية الإيمانية للعالم. لكنْ وفقا للرؤية الطبيعية [اللادينية] فالكثير من الأشياء خارج تحكم أي أحد. وفقا لهذا الرأي، فلا أحد مسؤول على نحو مطلَق عن الكون. فرغم التقدم الهائل في الطب والتكنولوجي، ورغم الثروة والسلطة التي لا تصدَّق لأغنى وأكثر البشر سلطة الأحياء حاليًّا، فإن الأشياء السيئة تحدث أحيانا للناس الصالحين ولا شيء يمكن لأي أحد فعله بصددها. يبدو غيرَ مرجَّحٍ للغاية أننا يمكن أن نحصل على تحكم كافٍ أبدًا بالكون لجعل الوضع أن كل أحد ينال ما يستحقه أو تستحقه (حتى لو عرفنا ما يستحقه كل واحد). هذا الخضوع وافتقاد التحكم الكامل يبدو ظرفا غير ممكن تجبنه للظرف الإنساني. وكما عبَّر John Cottingham عن الأمر:

"مهما بعد المسار الذي قد توصلنا له العقلانية العلمية..فلا يمكنها إزالة أكثر الجوانب جذرية للظرف الإنساني: خضوعنا، محدوديتنا، وأخلاقنا. الكثير من الفلاسفة يُظهِرون ميلا غريبا لإخفاء هذه الحقيقة المجرَّدة [الكئيبة] عن أنفسهم باتخاذ....نوع من التفاؤل المتبختر بصدد قوى العقل البشري. العلم في أفضل الأحوال يمكنه تخفيف الألم ولكن ليس استئصاله. إن قابليتنا المورثة للانجراح هي حقيقة نجحت بطريقة ما في تجنب التحدي." [من كتابه: عن معني الحياة]

]John Cottingham, On the Meaning of Life (New York: Routledge, 2003),76–77[

ثالثا، وفقا للمذهب الطبيعي، فهناك حد أعلى محدود (وربما يقول بعضهم متواضع نسبيا) لكم الخير الذي يمكن لشخص تلقِّيه. على الأقل كما هي عليه الأمور حاليًّا، فلا بشر يمكنه الحصول على أكثر من_لنقل_130 عاما من الحياة الصحية نسبيا مليئة بكل الخيرات في هذا العالم موفَّرةً له. لكن إنه معقولٌ ظاهريا على الأقل أن نفترض أن بعض من قد عاشوا استحقوا أكثر من هذا. ألا يمكن أن أن جاندي أو الأم تريزا استحقوا أكثر من أفضل حياة بشرية أرضية؟ ربما البعض حتى يستحقون الخلاص الأبدي الذي تعد به المسيحية. لكن لو أن المذهب الطبيعي صحيح، فمن ثم فإن البشر من هذه الفئة لا يمكنهم ببساطة تلقّي ما يستحقونه. أفضل ما يمكن أن يقدِّمه لهم الكون ليس جيدًا على نحوٍ كافٍ تمامًا.

إن ردًّا أفضلَ على جدلية كانط_أعتقد_هو السؤال عما إذا كان علينا التزام بإحداث الخير الأعلى الكانطيّ. لاحظْ أن كانط نفسه في الحقيقة قال أننا ملزَمون فقط بـ"الكفاح لترقية الخير الأعلى". وفقا للمذهب الطبيعي، فالخير الأعلى الكانطي غير قابل للتحقيق. وبالتالي، باستعمال مبدأ كانط الشهير: "[كلمة] ينبغي تتضمّن الاستطاعة"، لسنا ملزَمين بتحقيق الخير الأعلى. لكن رغم ذلك ربما نكون علينا الالتزام بالوصول لأقرب ما يمكننا له. ما تكونه التزاماتنا يعتمد جزئيا على ما هو ممكن، وما هو ممكن يعتمد جزئيا على ما إذا الله يوجد. إن يكن الله يوجد، فمن ثم فإن الخير الأعلى الكانطي ممكن تحقيقه[74]، ومن ثم ربما علينا الالتزام بتحقيقه. لكن لو أن الله لا يوجد، فمن ثم لا يمكن أن يكون علينا التزام كهذا، لكن يمكن أن يكون علينا الالتزام بالوصول لأقرب ما نستطيع لتحقيقه. في الحقيقة، لو أن الله يوجد، فمن ثم فإن المكون الثاني على الأقل للخير الأعلى الكانطي (العدل التام) ليس فقط ممكنا بل حقيقيٌ. هذا ينتج عن سمة الإيمان التي يلعبها كدور في جدلية كريج المناقشة سابقًا في هذا الفصل: الضمان الإلهي للعدل الكامل[75]. هذه الضمانة تزيل على الأقل بعض الحاجة الملحة للفعل البشري: فلو أننا نعلم أن الله سيجعل الكون عادلا بالكامل في النهاية، فإننا نفقد أحد الأسباب لمحاولة ترقية العدل، تحديدا أننا لو لا نفعل، فلا أحد سوف يفعل، رغم أننا يظل لدينا سبب متعلق بالمصلحة الذاتية لترقية العدل بما أن الله افتراضًا سيكافئ العادلَ. فبدون الله في الصورة، فإن الكون يكون عادلا فقط بقدر ما نجعله كذلك، وبالتالي فهناك حاجة ملحة أكبر بكثير للسعي للعدل هنا على الأرض. في الحقيقة، يمكن لمفهوم وجود ضمان إلهي للعدل الكامل أن يؤدّي ليس فقط إلى الرضا الذاتي، بل وإلى الوحشية التامة. ضمانٌ مثلُ هذا كذلك قد يجعل أكثر أنواع أفعال البشر إثارة للإعجاب مستحيلة، كما سنرى في المقطع التالي.

العدالة الإلهية والتضحية بالنفس والسخافة الأخلاقية

يروي كريج Craig التقرير التالي من قِبَل Richard Wurmbrand (1967):

"إن وحشية الإلحاد يصعب تصديقها عندما لا يوجد لدى الإنسان إيمان بمكافأة الخير أو معاقبة الشر. ليس هناك سبب ليكون إنسانًا, ليس هناك كبح عن أعماق الشر الذي في الإنسان. كثيرًا ما قال المعذِّبون الشيوعيون: "ليس هناك إله، لا آخرة، لا عقاب على الشر. يمكننا فعل ما نشاء." سمعت أحد المعذِّبين حتى يقول: "أشكر الله، الذي لا أؤمن به! أني قد عشت حتى هذه الساعة حيثما أقدر على التعبير عن كل الشر في قلبي." لقد عبّر عنه في وحشية وتعذيب لا يصدَّقان أوقعهما على المسجونين.[76]"

رواية مقنعة بنفس الدرجة على الأقل كهذه هي رواية إبادة كل قاطن لمدينة Beziers بيزيرز الفرنسية عام 1209م. اجتاح الصليبيون الكاثوليكيون المدينة خلال الحملة الصليبية على الألبيجيين [أو الكاثاريين: مذهب ديني اعتُبِر كهرطقة تقول بثنائية قوى التحكم في الكون، الشر والخير كالمانوية والزردشية واتسم بالغنوسية والزهد والمسالمة_م]، التي أطلقها البابا إنوسنت الثالث في عام 1208م. أديرت هذه الحملة الصليبية ضد الكاثاريين في جنوبيّ فرنسا. كان الكاثاريون هراطقة اعتقدوا بأن كل المادة شر وأن هناك كائنان كليا القدرة، إله خيِّرٌ قد خلق العالم الروحي غير المرئي، وقوة شر قد خلقت العالم المادي المرئي." سرعان ما وقعت مدينة بيزيرز وأحرقها الصليبيون تماما حتى صارت رمادا مسوى بالأرض. قتلوا كل القاطنين، رجالا ونساء وأطفالا وعجائز، كاثوليكًا وهراطقةً على السواء. كتب المؤرخ Jonathan Sumption (1978):

"ردَّدَ راهب جرمانيَ قصة تقول أن Arnald-Amaury عندما سٌئِلَ في وسط المذبحة عن كيف يمكن تمييز الكاثوليك عن الهراطقة، أجاب: ‘اقتلهم جميعًا، الله سوف يعرف الخاصّين به’ وهذا الشعار قد دخل التريخ كخلاصة للروح التي جلبت الصليبيين إلى جنوب فرنسا. ما إذا كان Arnald-Amaury قد استُشير، أو قد تلفظ على الإطلاق بهذا الرأي يظل غير مؤكَّد. لكن هذا غير مهم. أبلَغ الموفدُ الرسمي بالمذبحة بدون تعليق للبابا إنوسنت الثالث، ملاحظًا بأن "لا سن، ولا جنس، ولا حالة قد استُثنِيَتْ.[77]"

يشير كريج إلى حالة حيث ألهم الإلحادُ بارتكاب السلوك المريع؛ هنا يبدو الإيمان_خاصةً الضمان الإلهي للعدل_يظهر أنه قد ارتكب نفس الشي[78]. بدلا من المجازفة بترك بعض الهراطقة يهربون، آثر المحتلون تسليم كل أحد إلى الله ليحكم، معتقدين (على نحو صحيح وفقا للرؤية المسيحية للأشياء) معتقدين أن الله سيعاقب ويكافئ كلًّا كما يلائم[79].

يشير ستيـﭬن بِنكَر Steven Pinker (2002) إلى مثال أكثر معاصَرةً:
عندما ألقت سوزان سِمِثْ بطفليها الصغيرين إلى قاع بحيرة، فقد هدَّأَتْ ضميرها بالتبرير بتعقلن [مزيف] أن: "طفلاي يستحقان الحصول على الأفضل، والآن سيفعلان." الأوهام بسعادة في حياة أخرى بعد الموت نمطية في الكلمات الأخيرة للآباء الذين يسلبون حيوات أطفالهم قبل انتحارهم...[80]"

كمذبحة بريزيرز، فإن مفهوم الضمان الإلهي للعدل الكامل يبدو أنه أساس المآسي التي يصفها بِنكَر. إن يكن العدل لا يمكن تحقيقه على الأرض، فمن ثم فإن إحدى وسائل الاستعانة للمؤمن هي وضع الأمور بيدي الله مباشرة.

ليس للملحد مثل هذه الاستعانة. وفقًا للرؤية الطبيعية للأشياء، فإن الكون هو عادل بدرجة ما نجعله عليه فقط؛ ليس هناك كائن إلهي ليضمن كونًا عادلًا، لا قاضيَ عادلَ يمكننا إعطاؤه الحالات العويصة. إن الشعور بعدم وجود مثل هذا الضمان الإلهي يمكن أن يحثَّ شعورًا بالحاجة الملحة للسعي إلى تحقيق العدل في هذا العالم. علاوة على هذا، فإنه يمكنه أن يجعلنا أكثر احتراسا بصدد سلب حياة إنسان. أما مفهوم وجود ضمان إلهي للعدل_من جهة أخرى_فيمكنه جعلنا أكثر لا مبالاةً بالحياة البشرية. يمكن أن يجعلنا أكثر رغبة في إيقاع العقوبة الكبرى [الإعدام]، وإرسال جنودنا إلى الحرب، و_كما في حالتي سوزان سِمِثْ والصليبيين في بريزيرز و[العالم العربي والقسطنطينية]_ذبح الأبرياء. ربما يمكن للإلحاد أن يجعل البعض أكثر رغبة في الانخراط في الأفعال المريعة، لكن المقصد هنا أن الإيمان يمكنه فعل نفس الشيء.

في كون به ضمان إلهي للعدالة التامة، مستحيلٌ أن يوقع شخصٌ على آخر مصيرا نهائيا لا يستحقه الشخص الثاني. ففي كون كهذا مهما فعل أ لـ ب الآن، فسوف يحكم الله في الأمر، بحيث أن ب في النهاية سينال بالضبط ما يستحقه. حتى بقتل شخص آخر، فالمرء لا يوقع مصيرا نهائيا غير مستحَق على الضحية. ففي كون به ضمان إلهي للعدل التام يتسبب القاتل في جعل الضحية تعبر إلى يديّ قاضٍ عادل، والذي يعطي بدقة المصير الذي تستحقه الضحية.

رؤية كهذه للكون يمكن أن تكون_بالتأكيد_مصدرا للمواساة الهائلة. يمكنها أيضا_كما في حالة المذبحة في بيزيرز_أن تلهِم ببشاعات مريعة. هذه الرؤية لها تضمين آخر مهم. هذا التضمين هو أنه يستحيل على شخص أن يقِرَّ [بوجود] مصير نهائي غير مستحَق، وبالتالي بفعل ذلك منع تحمل شخص آخر لمصير نهائي غير مستحَق. على وجه الخصوص، فهذا الرأي يتضمن أنه يستحيل على شخص أن يقر بمصير نهائي أسوأ مما يستحق، وبالتالي بفعل ذلك منع تحمل شخص آخر لمصير نهائي أسوأ مما يستحَق.

إننا نعجب حقا بمن يضحون بحيواتهم لكي يعيش الآخرون. تصور_كمثال_أمًّا تضحي بحياتها الخاصة لكي يستطيع طفلها أن يعيش. لو أن هناك ضمان إلهي للعدل الكامل، فمن ثم فالطفل الذي يعيش لم يُنقَذ من مصير غير مستحَق، ولا الأم التي ماتت قد قبلت بمصير أسوأ مما تستحِق. لكن لو أنه لا إله، وبالتالي لا ضمان إلهي للعدل الكامل، فإن الموقف مختلف. في كون من منظور طبيعي [لا ديني]، فالموت يعيِّن حدود النهاية الدائمة للخبرة الواعية، ويحرم الفرد من أي خيرات مستقبلية كان سينالها في الحياة[81]. بدون الله، فالمرأة التي ضحت بحياتها لإنقاذ طفلها قد قبلت مصيرا أسوأ من الذي تستحقه، وبفعل ذلك قد أنقذت طفلها من مصير أسوأ من الذي يستحقه. ينتج عن هذا_بالتالي_أنه فقط في كون بلا إله يكون هذا النوع من أفعال التضحية بالنفس معقولا. فقط في كون بلا إله يمكن لشخص أن يمتنع عن مصيره النهائي الذي يستحقه لكي يساعد الآخرين.

لا ينتج عن هذا أنه في كون يوجد به الله ليس هناك ما يثير الإعجاب في أفعال الذين يضحون بحيواتهم الخاصة لكي يعيش الآخرون. هذا صحيح ومنطبق على السواء على الذين هم متيقنون أنهم متوجهون إلى الخلاص الأبدي. مثلما هناك ما يثير الإعجاب في أفعال المصابين بفوبيا الأماكن المغلقة الذين يتغلبون على المخاوف غير العقلانية ليدخلوا مصعدا مزدحما. الخوف في مواجهة الموت هو رد فعل بشري طبيعي، وهناك ما يثير الإعجاب في اأفعال من يتغلب على هذا الخوف، حتى لو كان مؤكدًا أن ذلك الخوف بلا أساس. لكن هناك ما يثير الإعجاب أكثر في أفعال من يعلمون أن الموت هو النهاية ويقبلون به على أي حال لأجل الصالح العام. فقط بدون إله يكون هذا الشكل الأسمى من التضحية بالنفس_أحد أكثر أنواع أفعال البشر إثارة للإعجاب_خيارا متاحا. فقط بدون إله يمكن لإنسان_عالما بأن الموت هو النهاية، وأن لا أمل في خلاص أو حياة أبدية أو عدل إلهي، ولا فرصة لنيل الخيرات المستقبلية التي يستحقها_أن يقبل رغم ذلك بالموت لنفسه لكي يعيش الآخرون.

بقيامي بهذه الجدلية فأنا احاول_إلى حد ما_قلب الطاولة على كريج. فكما قد رأينا، يعتقد كريج أنه بدون الله ليس هناك صواب وخطأ؛ وبالتالي بدون الله، لا يمكن أن يكون هناك أي أفعال أخلاقية على الإطلاق. لقد اقترحت من قبل أن كريج مخطئ في هذه المسألة، وافتراضي هنا هو أنه فقط لو أن الله لا يوجد يكون أحد أكثر أنواع الأفعال الأخلاقية إثارة للإعجاب ممكنا. يتضح أن غياب الله من الكون يجعل من الممكن أحد أكثر أنواع الأفعال قيمة التي يمكن لإنسان أن يتخذها.

هذه الحقيقة لها علاقة بنوع معين من الجدليات لصالح وجود الله. هذه الجدلية_كجدلية كانط من كتابه نقد العقل العملي_تتضمّن مفهوما عن الضامن الإلهي للعدل الكامل. تبدأ هذه الجدلية بالادعاء أنه يوجد هنا على الأرض كم هائل من الظلم. الكثير من الفاضلين يعانون والكثير من الأثيمين يزدهرون ويُترَفون. من ينجزون التزاماتهم الأخلاقية ينتهي بهم الأمر أسوأ حالا كنتيجة، بينما من يتجاهلون التزاماتهم يستفيدون من لا أخلاقياتهم. في كون من منظور طبيعي [لا ديني] فليس هناك حياة أخرى يمكن فيها معالجة كل هذا اللم. بالتالي، فبدون الله والحياة الأخرى فالكون ظالم على نحو أساسي؛ في كشف الحساب النهائي يتساوى الأثيمون مع الفاضلين. لكن هذا لا يمكن ببساطة. وبعبارة George Mavrodes (1993) وهو مدافع بارز عن إحدى نسخ هذه الجدلية، فإن كونًا ظلم على نحو أساسي على هذا النمط هو "عالم سخيف...ومجنون[82]". وبما أن كوننا ليس سخيفا على هذا النحو، فيجب أن يحتوي على الله وحياة أخرى؛ وضمان إلهي للعدل الكامل. بالتالي، يمكننا أن نستدل أن الله يوجد بالفعل في الحقيقة. وجوده والعدل الإلهي يمنعان الكون من أن يكون ظالما على نحو جذري.

هذا النوع من الجدال سخر منه Bertrand Russell برتراند رَسِل (1957) في معالجته الشهيرة (لماذا لست مسيحيًّا). كتب رَسِل:

"ولنفترض أنك حصلت على قفص من البرتقالات والذي فتحتَه، ووجدت أن كل الطبقة العليا منه فاسدة، فإنك ما كنت ستجادل قائلا: "الموجودات تحت يجب أن تكون جيدات، لإصلاح التوازن". بل كنت ستقول: "على الأرجح كل الكمية هي شحنة فاسدة"؛ وذلك بالفعل ما سيقوله شخص علميّ عن الكون. سيقول: "إننا نجد هنا في هذا العالم كما كبيرا من الظلم، وطالما يصح ذلك فذلك سببٌ للافتراض بأن الظلم يحكم بالفعل العالم، وبالتالي طالما يصح ذلك فهو يقدم جدلا أخلاقيا ضد الألوهية [الله] ولا يؤيد وجود واحد.

شكَّكَ رَسِل على نحو صائب في المقدمة المنطقية للجدلية التي تقول بأن الكون يجب أن يكون عادلا جذريا رغم كل شيء. ربما لو كان لدينا تأكيد مستقل ما يدل على أن الله يوجد لأمكننا أن نكون متأكدين أن الكون عادل جذريا، لكن بالتأكيد لو كان لدينا ذلك النوع التأكيد فإن الجدلية [الخاصة بنا] كانت ستكون غير ذات صلة. وبدون مثل هذا التأكيد، فأي سببٍ هناك للقبول بالمقدمة المنطقية محل كلامنا؟ هذه الجدلية زائدة وغير مقنعة كذلك.

في ضوء النقد السابق يمكننا القيام بنقد إضافي للجدلية. النقد الإضافي هو أن وجود الله في الكون يجعل نوع التضحية المثيرة للإعجاب المناقّشة سابقًا مستحيلا. ألا يمكن أن يوصَف كونٌ به هذا النوع من الأفعال مستحيل بالسخافة أيضًا[83]؟ لو أن هذا صحيح، فإذن فالموقف كالتالي: لو أن الله لا يوجد، فمن ثم فالكون سخيف بسبب كونه ظالم جذريا. من ناحية أخرى، لو أن الله يوجد بالفعل، فمن ثم فالكون سخيف بسبب حقيقة أن التضحيات المثيرة للإعجاب مستحيلة. يتضح أن الكون يجب أن يكون سخيفا في جانب ما، وبالتالي فكرة أن الكون لا يمكن أن يكون سخيفا تفقد كل المعقولية الظاهرية.

الشر المطلق والإيمان الأخلاقيّ

يظل هناك تنويعة أخرى على جدلية كانط تظهر في الكتاب الصعب (الشر والأخلاق المسيحية) Evil and Christian Ethics لـ Gordon Graham (2001). إن جدلية جْرام Graham_باختصار_هي أننا يمكننا أن نقبل على نحو عقلاني وجود ما يدعوه بـ"الشر المطلق" فقط لو افترضنا مقدَّمًا أن الله يوجد. وبما أن الشر المطلق حقيقة، فينبغي أن نقبل وجوده؛ وبالتالي لو لم نفترض مسبقا أن الله موجود فسنكون غير عقلانيين.

ادعاء جْرام أن الشر المطلق يوجد له مكونان. أحد المكونين هو الادعاء بأن حقيقة أن فعلا معينا ملزِم أخلاقيا لشخص معين يستلزم أن ذلك الشخص لديه سبب مهيمن للقيام بالفعل الذي عليه الكلام. سبب يفوق كل الاعتبارات الأخرى. الفعل يجب أن يُقام به، مع اعتبار كل الأشياء. المكون الثاني للادعاء هو أن هناك على الأقل نوع واحد من الأفعال حيث يكون خاطئا أخلاقيا لأي أحد القيام بفعل من ذلك النوع (أو_بعبارة أخرى_كل أحد عليه التزام أخلاقي دومًا بالامتناع عن القيام بالأفعال من ذلك النوع). وكما عبّر جْرام عن الأمر، فهناك "بعض الأساليب لمعاملة البشر محرَّمة في الواقع على نحو مطلق". قدَّم جْرام الاستعباد كمثال.

إذن، فالجدلية_أو مهما تكن الأمور إحدى جوانبها_تبدو أنها تمضي كالتالي: إن وجود الشر المطلق يستلزم الإمكانية الحقيقية لكون شخصٍ قد يجد نفسه في موقف حيث يكون فعل ما هو ملزِم أخلاقيا يؤدّي إلى_بقدر ما يمكن لأي أحد أن يدرك_إلى كل من الهلاك الشخصي والكارثة المنتشرة. لكن لا أحد يمكنه أن يقبل على نحو عقلاني إمكانية موقف حيث فيه اتباع فعل إلزامي سيؤدي إلى كل من الهلاك الشخصي والكارثة المنتشرة. بالتالي، يمكن لشخص أن يقبل على نحو عقلاني وجود الشر المطلق فقط لو أن لديه إيمانًا أخلاقيا، والذي يصفه جْرام كالتالي:

"إنه الإيمان بصحة افتراضين: 1-السلوك على نحوٍ أخلاقيّ في صالحي حتى عندما لا أعرف ولا يمكنني معرفة هذا. 2-الأخلاق لن تتعارض على نحو مطلق مع الحالة الحسنة للشخص أو المجتمع، على الرغم من المظاهر المناقضة.

فلندرس المكون الأول للإيمان الأخلاقي. الإيمان بأن الأخلاق والمصلحة الشخصية للمرء متطابقان على نحو مطلق. إن ادعاء جْرام هو أننا لا يمكننا قبول وجود الشر المطلق ما لم يكن لدينا هذا النوع من الإيمان. ويمكننا أن يكون لدينا هذا النوع من الإيمان فقط لو أن لدينا إيمانا بأن الله يوجد. يُفترَض أن يكون هذا صحيحا لأجل السبب المألوف لنا الآن أنه فقط لو أن الله يوجد فهناك ضامن إلهيّ للعدل الكامل، وبدون ضمان كهذا فيُحتمَل أن الأخلاق والمصلحة الشخصية لن يتطابقا.

ما إذا كانت جدلية جْرام تنجح أم لا يبدو أن هذا يعتمد على الإجابة الصحيحة على هذا السؤال: هل صحيح أنه غير عقلاني أن نعتقد أن المرء قد يجد نفسه في موقف حيث فيه إنجاز الالتزامات الأخلاقية للمرء يؤدّي إلى الهلاك الشخصي (نهاية الجملة هنا)؟ هل صحيحٌ أنه غير عقلاني أن نعتقد بأن المصلحة الشخصية والواجب قد يتعارضان بنمطٍ قويٍّ كهذا؟ حسنا، ما يكون انعدام عقلانية لإنسان هو الحقيقية البديهية لآخر؛ كل ما أقدر أن أفعله هو التعبير عن رأيي بأن الاعتقاد بهذا ليس غير عقلاني ولو إلى أدنى حد. في الواقع، إنه يذهلني أنها إحدى أكثر سمات الخبرة الأخلاقية وضوحًا. بالتأكيد يمكن أن تتعارض الأخلاق والمصلحة الشخصية بهذه الطريقة القوية، بالتأكيد يمكن مواجهة موقف حيث فيه القيام بواجب المرء سيؤدّي إلى الهلاك الشخصي. بالتالي، لو اتضح أن السبيل الوحيد ليمكن أن يتوقف كائنات فضائية عن استعباد كل إنسان على وجه الأرض هي أن تبيع كل شيء تملكه، وتتخلى عن المال، وتعيش في الشوارع حينذاك حظا قاسيا بحق؛ فلتجعل المزاد يبدأ! الاستجابة لهذه الأنواع من المواقف على نحو ملائم، والقيام بالتضحيات المطلوبة، والتضحية بالذات لأجل المجموعة، هذا هو جوهر الفعل الأخلاقي. ليس هناك بالتأكيد أي شيء غير عقلاني في إدراك إمكانية هذه الأنواع من الحالات. ربما جزء من الإمكانية المبدئية_لو كان هناك أيٌّ منها_لادعاء جْرام مستمَدٌّ من الافتراض بأن كل ما نعرفه بشأن الفعل الذي يؤدي إلى الهلاك الشخصي هو أنه ملزِم أخلاقيا. لكن هذا نادرا ما يكون الوضع، لو أمكن أن يكونه على الإطلاق؛ نموذجيا، عندما نعلم أن فعلا ملزِم أخلاقيا فإننا يكون لدينا معرفة طفيفة على الأقل بسبب كونه ملزما أخلاقيا. وينبغي أن يُلاحَظ أننا يمكننا معرفة هذا النوع من الأشياء بدون أن يكون لدينا نظرية كاملة عن الصواب والخطأ. حالما أدرك أنه فقط من خلال الهلاك الشخصي يمكنني إنقاذ الجنس البشري، يمكنني أن أدرك بسهولة لماذا يجب أن أسبب هلاكي الشخصي.

ماذا عن إمكانية أن تنفيذ التزامات المرء قد يؤدي إلى كارثة ليس فقط للمرء بل على مقياس أكبر بكثير؟ ردي هنا أنه لو أن الكارثة محل الكلام كارثية على نحوٍ كافٍ، فيمكن أن يكون في الواقع غير عقلاني أن نعتقد بأن المرء ملزَم أخلاقيا بالسلوك على مثل هذا النحو بحيث يسبِّب الكارثة. لكني أعتقد أن في الحالات من هذا النوع فإن الالتزامات محل الكلام لا توجد في الحقيقة. هذه المسألة تحتاج تفصيلا.

في شرحي لمفهوم جْرام عن "الشر المطلق" ميَّزْتُ بين مكونين له. سبب هذا سيصير الآن واضحا؛ أعتقد أننا ينبغي أن نقبل المكون الأول لكن نرفض الثاني. يتضح أن الشر المطلق بالمعنى الذي يستعمله جْرام لا يوجد. سابقا ناقشت رأي كانط بأن الأسباب الأخلاقية تفوق كل أنواع الأسباب الأخرى، وأن حقيقة أن فعلا معينا إلزامي أخلاقيا تحتوي على سبب مهيمن للقيام بذلك الفعل. أعتقد أن ذلك صحيح، وهذا المكون لما يدعوه جْرام بـ"الشر المطلق" حقيقي. ما ينبغي أن نرفضه هو الادعاء بأن هناك بعض أنواع الأفعال تكون دائما_تحت أي ظروف_من الخطإ القيام بها. فلو اتضح أن السبيل الوحيد الذي يمكنك به منع كائنات فضائية من تعذيب كل البشر ببطء حتى الموت على وجه الكوكب هو باستعباد شخص واحد، فمن ثم ينبغي أن تستعبد ذلك الواحد. الاستعباد خطأٌ في معظم الحالات وينبغي أن يُتخذَّ فقط كحل أخير، لكن هناك ظروف محتملة [افتراضية] يكون فيها مسموحا به. إن كانت نتائج عدم استعباد شخص سيئة على نحوٍ كافٍ، فيمكن أن يكون المرء ملزًما بالانخراط في استعباده. لا يحتاج المرء أن يكون معتقِدًا بالسببية غير المباشرة ليدرك أن النتائج تكون دائما نسبية إلى حدا ما، وأن النتائج الجيدة أو السيئة على نحو كافٍ يمكن_مبدئيا_أن تجعل أي نوع من الفعل صوابًا أو خطأ.

يدمج مفهوم جْرام عن الشر المطلق جانبين متمايزين من فلسفة كانط الأخلاقية. أحدهما هو مفهوم المتطلبات الأخلاقية كمهيمنة، والآخر هو وجود ما دعاه كانط بـ "الواجبات المطلقة". ادعى كانط في (ميتافيزيقيا الأخلاق)_على نحو مشهور إلى حد ما_كمثال_أن علينا واجب مطلق بالامتناع عن الكذب، أي أنه دائما_تحت أي ظروف_خطأ أخلاقيا أن تكذب. أعتقد أن كانط محقٌّ بصدد الطبيعة المهيمنة للمتطلَبات الأخلاقية، لكنه مخطئ بصدد وجود الواجبات المطلقة. ينبغي أن نقبل ادعاء كانط بصدد أهمية الأخلاق، لكن ينبغي أن نرفض بعض ادعاآته على الأقل بصدد محتواها.

إلى ماذا وصلنا حتى الآن

إنه لمفيدٌ أن أتوقف برهة هنا وأجري جردًا [أقوم بتلخيص] جدليتي حتى الآن. لقد نقدت عديدا من الجدليات الهادفة للصق معانٍ ضمنية قبيحة عديدة بالمذهب الطبيعي. لقد اقترحت أنه حتى لو أن الله لا يوجود، فإن بعض حيوات البشر لها معنى داخلي وأننا لدينا التزامات أخلاقية عديدة. لقد نقدت مفاهيم معيَّنة عن العلاقة بين الأخلاق والله وأوجزت العناصر الأساسية لما أعتقد أنه رأي واعد أكثر. لقد جادلت مبرهنا بأنه حتى لو الله لا يوجد، فليس فقط أننا علينا التزامات أخلاقية معينة حقا، بل علاوة على هذا لدينا سبب وجيه لأن نهتم بماهية هذه الالتزامات الأخلاقية. إن سبب كوننا ينبغي أن نهتم بالتزاماتنا هو قط أنها التزاماتنا. هذا المكون لفلسفة كانط الأخلاقية صحيح على نحو جذري، رغم أن مفهوم أننا علينا "واجبات مطلقة"_كما قد جادلت للتو_بالمعنى الكانطي يجب أن يُرفَض.

في التالي سوف ألتفت إلى السؤال عن السمات الأخلاقية. على وجه الخصوص، سوف أدرس ما إذا كان هناك مكان في كون من منظور طبيعيّ لفضائل مثل التواضع والإحسان والأمل، وأجادل بأنه هناك. سأصف النسخ الطبيعية لهذه الفضائل، وفي سياق ذلك سأوجز عناصر أساسية معيَّنة في الفكر المسيحيّ. سأشير إلى بعض التشابهات والاختلافات بين الرؤية الطبيعية للكون والرؤية المسيحية وأختتم بنقاش عما إذا يكون المذهب الطبيعيّ عقيدة يمكن لنا العيش بها.



  رد مع اقتباس
قديم 12-31-2015, 08:09 PM لؤي عشري غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [9]
لؤي عشري
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية لؤي عشري
 

لؤي عشري is on a distinguished road
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى لؤي عشري
افتراضي

[57] بالتأكيد ما إذا تنتج هذه الضروب من الاهتمام السعادة أو الحزن يعتمد على كيف يبلي الفريق.
[58] انظر Aristotle, Ethics, 26, NE 1100b35.
[59] كما نقول بالعربية: الطبع يغلب التطبع.
[60] لأجل نقاش أكثر حداثة وتفصيلًا لهذه الظاهرة وكذلك بعض النقاش النقديّ كتاب روبرت فرانك، انظر Jon Elster, Ulysses Unbound, (Cambridge: Cambridge Univ. Press, 2000), Chapter 1.
[61] يجادل فرانك بأن البشر جيدون تمامًا في تمييز السمات الشخصية للآخرين مباشرة في فترات زمنية قصيرة نسبيًّا. باختصار، لدينا موهبة جيدة تمامًا لمعرفة الفرق بين المخادعين المتعقلين والفاضلين على نحو حقيقي، انظر الفصول2 و3 و5 و6 و7 من كتابه. لو صح هذا الادعاء فهو يحتوي على سبب آخر لكون الفضيلة الحقيقية طريق واعد أكثر للسعادة مما عليه الخداع المتعقل (الانتهازية). لكن انظر كذلك John Doris, Lack of Character (Cambridge: Cambridge Univ. Press), 2002، خاصة الفصل5، لأجل اعتبارات تقترح بأن نظرية فرانك قد تفتقد جدارة جوهرية، ربما ما تكشفه بيانات فرانك حقًّا هو أن الناس جيدون تمامًا في استبانة نزعات محدَّدة وموضعية. يجادل دوريس بأن آراء الحس المشترك عن السمة الأخلاقية تتعارض مع التأثير الدراميّ لعوامل المواقف على سلوكياتنا. إن فرضيته المركزية أن الأدلة التجريبية المتاحة المتاحة تقترح أن البشر خلُوٌّ تمامًا (أو تقريبًا تمامًا) من السمات الشخصية كما نفهمها تقليديًّا. مناقشة كاملة لكتاب دوريس ستكون خارج هدف العمل الحالي، لكن جدلياته فاتنة وتستحق اهتماما جديًّا. لأجل أحد النقاشات النقدية المفيدة انظر: (علم النفس الاجتماعيّ وأخلاق الفضيلة) Christian Miller, “Social Psychology and Virtue Ethics", Journal of Ethics 7 (2003), 365–92

[62] ميتافيزيقيا الأخلاق_عمانوئيل كانط.
[63] محاضرات عن الأخلاق_عمانوئيل كانْتْ
Immanuel Kant, Lectures on Ethics, trans. L. Infield (Indianapolis, Hackett: 1930), 76.
[64] بفعلي هذا فأنا لا أقصد الاقتراح بأن الاعتبارات التي سأستكشفها هي أجزاء من جدلية كانط في الجزء ذي العلاقة من كتابه، رغم أن بعض هذه الاعتبارات مشار إليه من قبله في مواضع أخرى.
[65] يحتوي القرآن كذلك على نفس العنصر الفكري: خلق الإنسان هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، و: إن الإنسان لربه لكنود، و: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، وغيرها
[66] C. S. Lewis, The Problem of Pain (New York: HarperCollins, 2001), 63.
[67] C. S. Lewis, Mere Christianity (New York: HarperCollins, 2001), 91.
[68] في كتابه (افتقاد الشخصية) يجادل دوريس بأن البحث في علم النفس الاجتماعي يقترح بأننا نشبه كثيرا كورتز أكثر مما قد نتصور، ربما نكون كلنا_إلى حد مهم_"فارغين من الداخل"، انظر الفصل3 من كتابه، خاصة نقاشه على تجربة ميلجرام الخاصة بالطاعة وتجربة السجن لجامعة ستانفورد هاتان التجربتان تبدوان قد أحدثتا تطرفا أقل حدة، تجربة حياة واقعية من النوع الذي مضت فيه شخصية كورتز في الرواية.
[69] قارن القرآن: {....فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)} آل عمران
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} الأنعام

ومسند أحمد: (24301) - حَدَّثَنَا ابنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ : اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ...إلخ
(8074)- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، يَعْنِي ابْنَ بُرْقَانَ، قَالَ : سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ الأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْفَقْرَ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمُ التَّكَاثُرَ..إلخ
(17234)- ....فَقَالَ : أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ وَجَاءَ بِشَيْءٍ ؟ قَالُوا : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ . قَالَ : فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ_م.

[70] Blaise Pascal, Pensees and Other Writings, trans. Honor Levi (Oxford: Oxford Univ. Press, 1995), #182, 54. Also see Boethius, Consolation of Philosophy, 99–104.
[71] في مواضع أخرى من كتابه يقترح لِوِس أن: "المشكلة الحقيقية ليست لماذا بعض الناس المتواضعين الأتقياء المؤمنين يعانون، بل لماذا البعض لا يعاني." في الحقيقية هذه مشكلة جدية لرأي لِوِس، على نحو ساخر فإن حله لمشكلة الألم قد يسقط فريسة لمشكلة عدم الألم! لكني لن أتفحص هذه المسألة هنا.
[72] كتابا (وادي صنع الروح) لـJohn Hick ، و(الشر وإله المحبة) بنظريته عن العدالة الإلهية التي ناقشناها في الفصل2 تبدو كذلك بها هذا التضمين. وفقا لذلك الرأي فالله يوقع الألم غير المستحق على البعض لكي يمنحهم الفرصة لتحسين سماتهم الأخلاقية من خلال إرادتهم الحرة الخاصة بهم
[73] هناك بعض الأدلة من علم النفس أننا يمكن أن نرتكب أخطاء بصدد طبيعة حوافزنا الخاصة كذلك و_في بعض الحالات_يكون العاملون أقل قدرة على إدراك أسباب سلوكياتهم عن الملاحظين الخارجيين. انظر كمثال: بحث (الإخبار بأكثر مما يمكننا أن نعرف، تقارير عملية عن العمليات العقلية) من جريدة مراجعات أبحاث علم النفس وكتاب (الاستدلال العقلي: إستراتيجيات وعيوب الحكم الاجتماعيّ).
Richard Nisbett and Timothy Wilson, “Telling More than We Can Know: Verbal Reports on Mental Processes,” Psychological Review 84 (1977), 231–59, and Richard Nisbett and Lee Ross, Human Inference: Strategies and Shortcomings of Social Judgment (Englewood Cliffs, NJ: Prentice Hall, 1980), particularly 195–227.
[74] كمترجم لا يمكنني الإحجام عن القول هنا أن الله التوراتي والقرآني لو كان له وجود فالمطلق الوحيد الذي سيتحقق وفقا لصفاته المزعمة هي الشر المطلق فقط!
[75] قارن مع القرآن في آيات كثيرة مثل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}المؤمنون. _م
[76] من خطبة كريج (اعتمادية الأخلاق على الله) نقلا عن كتاب (معذَّب لأجل المسيح)
Craig, “Indispensability.” The report is from Richard Wurmbrand, Tortured for Christ (London: Hodder & Stoughton, 1967), 34.
وشخصيا كمترجم بوسعي القول أني لن أسارع بتكذيب زعم هذا التقرير، النظام الستاليني الروسي والصيني والكوري الشمالي حكم شمولي دكتاتوري عنيف، لكن أيا منهم لا يمثل كتيار سياسي وثوقي الإلحاد بأي حال، ربما خير ممثل للإلحاد مثلا الدول الإسكندناﭭية وبعض علماء الغرب اللادينيين.
[77] Jonathan Sumption, The Albigensian Crusade (London: Faber and Faber (1978), 48. and 93.
[78] لا يصعب العثور على الحالات الأخرى للمذابح في التوراة والكتاب اليهودي، كمثال الخروج32: 25-29 ويشوع6: 15-21 واللتان تصفان مذبحتان مريعتان على وجه الخصوص_المؤلف [وانظر نقد العهد القديم للؤي عشري، وللاطلاع على مجازر تاريخ محمد انظر كتابي حروب محمد الإجرامية، ومن قال أن اختلاف الدين يبرر لأحد ارتكاب القتل؟!_المترجم]
[79] لا أقصد الافتراض بأن المسيحيين ملتزمون بالرأي القائل بأن المحتلين تصرفوا على نحو سليم؛ بل أدعي فقط أنهم ملتزمون بالرأي القائل بأن المحتلين كانوا محقين في الاعتقاد بأن الله سوف يعاقب أو يعاقب كلا من ضحاياهم على نحو مناسب. أما كريج فيقترح بالفعل أن الملحد ملتزم بالرأي القائل بأن لا شيء خطأ في الطريقة التي تصرف بها المعذِّبون الشيوعيون. في الواقع_ كما قد رأينا_يؤكد كريج أن الملحد ملتزم بالرأي بأن لا شيء خطأ في أي سلوك الذي يتخذه أي أحد. أعتقد أننا قد رأينا أن كريج مخطئٌ بصدد هذا. [أخلاق مسيحيي القرون الوسطى الغربيون هي أصولية وتعصب ووحشية مجنونة وإرهاب بحت_م]

[80] الصخر الأجوف_الإنكار المعاصر للطبيعة البشرية_ستيـﭬن بِنكَر
Steven Pinker, The Blank Slate: The Modern Denial of Human Nature (New York: Penguin Putnam, 2002), 189.
[81] هذا ما يسمى برأي الحرمان، بصدد سوء الموت، لأجل دفاع عن هذا الرأي انظر: (مواجهات مع الحاصد [الموت]).
Fred Feldman, Confrontations with the Reaper (Oxford: Oxford Univ. Press, 1992).
[82] George Mavrodes, “Religion and the Queerness of Morality,” in Moral Philosophy: A Reader, ed. L. Pojman (Indianapolis: Hackett, 1993), 257.
[83] كونك تكره نتائج الشيء أو ما تفترض أنت أنه نتائجه، لا يعني أن الشيء نفسه بالضرورة خطأ، نفس الأمر قلناه عن نظرية التطور مثلا_م.



  رد مع اقتباس
قديم 12-31-2015, 08:10 PM لؤي عشري غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [10]
لؤي عشري
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية لؤي عشري
 

لؤي عشري is on a distinguished road
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى لؤي عشري
افتراضي

الفصل الرابع: السمات الأخلاقية في كون من منظور بلا إله

افتراضٌ جديد

لأجل أغراض هذا الفصل سيكون مفيدا أن أقدم افتراضا جديدا، واحدا لم أقم به قبل هذه النقطة: أننا نعلم أن المذهب الطبيعيّ صحيح. إنه مهم أن ندرك أن هذا الادعاء يُقدَّم فقط كافتراض. غرضي هنا ليس الجدال لصالح صحة المذهب الطبيعي، بل بالأحرى فحص بعض نتائج كون المذهب الطبيعي صحيحا على الأخلاق، وليس فقط كونه صحيحا، بل معروف أنه صحيح. الموضوع الرئيسي لهذا الفصل هو السمات الأخلاقية.

ما نوع السمات التي ينبغي على المرء أن يكافح ليغرسها في ذاته والأخرى المعتمدة جزئيا على ما يعرفه المرء عن طبيعة الكون. أن تكون شخصا صالحا أخلاقيا هو جزئيا مسألة تتعلق بأن تكون متوجها على نحو ملائم اتجاه الكون. الصفة التي ستكون فضيلة في نوع من الأكوان قد تكون رذيلة تماما في آخر، والعكس صحيح. في هذا الفصل سأحاول وصف بعض الفضائل في كونٍ يُعرَف فيه أن المذهب الطبيعي صحيح.

سقوط الإنسان: الغرور والعصيان

الكون المسيحي هو كون تراتبي هرمي التسلسل ذو ترتيب للأهمية واضح المعالم: الله عند القمة، بالأسفل المراتب العديدة للملائكة، ثم البشر، ثم الحيوانات. كل كائن له مكانة محدَّدة ودور ليلعبه. الله له السيادة على كل الكائنات الأخرى، البشر لهم السيادة على "سمك البحر...طيور السماء...الماشية...وكل الحيوانات البريّة على الأرض". [كما في التكوين1: 26]. بعد السقوط، على أي حال، صار الأزواج يحكمون على الزوجات[84]. الكتاب المقدس المسيحي هو_جزئيا_ رواية عن الدور المخصص للبشر من قِبَل الله، مع مخاطر الانحراف عن هذا الدور المخصص. في هذا المنهاج، من الهام للغاية أن يدرك البشر كلًّا من مكاناتهم وأدوارهم المحددة في الكون وألا يحاولوا الارتفاع فوقها.

نتج سقوط الإنسان عن محاولة كهذه تماما. في الرواية الكتابية للسقوط، تصوِّر الحيةُ اللهَ على أنه مستبدٌّ مخادع، والذي_محاولةً لجعلهم أدنى_كذب على آدم وحواء بصدد نتائج الأكل من شجرة المعرفة:

(2فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، 3وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا». 4فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! 5بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ».) التكوين3 [85]

في رواية الشاعر مِلْتُن الأكثر تفصيلا للسقوط [الفردوس المفقود، وهي مقتبسة من الهاجادة وسفري حياة آدم وحواء ورؤيا برثولماوس الأبوكريفيين_م][86]، الحية هي في الحقيقة الشيطان متنكرا، والذي_وقد تعلم بالطريقة الصعبة عدم جدوى المواجهة المباشرة مع الله_لجأ إلى الخداع. لقد طمأن حواء بأن "الله لا يمكنه...إيذاؤكما، ويكون عادلا" وقد حرم على آدم وحواء الأكل من الشجرة "ليبقيكما أدنيين وجاهلين". بُعَيْد ذلك، يقترح الشيطان حتى أن الحسد من جانب الله هو ما حرضه على محاولة جعل البشر أدنى. في كل من سفر التكوين من التوراة ونسخة [الأبوكريفا التي استُوحي منها] الفردوس المفقود، إن رغبة حواء في السمو فوق مكانتها في الكون، وعلى وجه التحديد أن تكون كالله فيما يتعلق بمعرفة الخير والشر، هي ما أدى إلى الكارثة. في رواية مِلتُن المطوَّلة الشعرية [حسب تصوره الأدبي الروائي الإضافي] يكون السبب النهائي لكل الشر هو فشل الشيطان في الاستيلاء على السلطة. ثار الشيطان وجيش من الملائكة الآخرين ضد حكم الله؛ فتلا ذلك المعركة، وهُزِم المغرورن نهائيا وألقوا في الجحيم. هذا جعل الشيطان يتفوَّه بجملته الشهيرة: "أن أحكم في الجحيم أفضل من أن أخدم في السماء"[87]. مجددا، فإن مصدر كل
المتاعب هو رفض قبول مكان المرء في التراتبية.

في رواية الفيلسوف لِوِس Lewis للسقوط، والتي يصفها بأنها "أسطورةٌ" بالمعنى السقراطي، رواية ليست غير مرجحة"، فالسقوط أيضا بسبب محاولة للبشر للترقي فوق مكانتهم الملائمة وأن يصيروا كالله[88]. لكن لِوِس يقوم باقتراح بديل بصدد الجانب الذي كافح فيه البشر ليصيروا كالله:

"سريعا أو لاحقا شعرا، شخص ما أو شيء ما همس لهما أنهما يمكنهما أن يصيرا كإلهين، أنهما يمكنهما التوقف عن تخصيص حياتيهما لخالقهما...كشاب يريد سماحا قانونيا من أبيه والذي يستطيع به الاعتماد على نفسه، وبه يقوم بعمل خططه الخاصة...كذلك رغبا أن يكونا معتمدان على نفسيهما بلا مساعدة، أن يعتنيا بمستقبلهما، أن يخططا للسعادة واللأمن....أردا ركنا ما في الكون يمكنهما أن يقولا منه لله: "هذا شأننا، لا شأنك". لكن ليس هناك ركنٌ كهذا".[89]"

في روايتي سفر التكوين و[الأبوكريفا] يكافح البشر ليصيروا كالله بمعرفة الخير والشر. في رواية لِوِس للسقوط يكافح البشر ليصيروا كالله بأن يصيروا مكتفين ذاتيا، مستقلين، حاكمين لأنفسهم، على الأقل فيما يتعلق بـ"ركن من الكون". المشترك في كل الروايات هو عصيان أوامر الله محاولةً للترقي فوق المكانة الملائمة للمرء في الكون.

كعقاب على محاولة الترقي إلى منزلة أعلى في التراتبية، بدلا من ذلك خُفِّضت مرتبة البشر. فبعدما كانوا خالدين، جُعِلوا فانين. في الرواية الكتابية كان العنصر النهائي للعقاب هو عقوبة الموت: حكم الله بأن كل البشر سيعودون آخرَ الأمر إلى التراب الذي صُنِعوا منه. [التكوين3: 19]. في نسخة [تفسير] لِوِس، كعقاب على محاولة الصيرورة مكتفين ذاتيا، جُعِل البشر أكثر اعتمادا على الله. بينا قبل ذلك، تمتع البشر بتحكم كامل في أجسادهم وعقولهم، كنتيجة للسقوط فقدوا التحكم إلى حد ما:

"لم تعد الأعضاء من بعد محكومة بإرادة الإنسان، فوقعت تحت تحكم القوانين البيوكيميائية العادية وعانت أيا ما كان تسببه التشغيلات الداخلية كعائق كالألم والشيخوخة والموت. وبدأت الرغبات تنشأ في عقل الإنسان، ليس كاختيار للعقل، بل فقط كما يتفق أن العوامل البيوكيميائية والبيئية تسببها.

أما باسكال [في كتابه التأملات Pensees] فكاتبًا بوجهة نظر الله، عبر عن الأمر على هذا النحو:

"يريد البشر أن يجعلوا أنفسهم مركز انتباههم الشخصي وأن يكونوا مستغنين عن مساعدتي. لقد أبعدوا أنفسهم عن سيادتي ويريدون العثور على السعادة بجعل أنفسهم مساوين لي بالعثور على سعادتهم في أنفسهم، لقد تركتهم لأنفسهم. لقد قللت كل الحيوانات التي كانت خاضعة لهم وأثرت فيهم العداوة، بحيث أن البشر اليوم صاروا كالوحوش...."

بعدما بدأ البشر كمهيمنين على كل الوحوش البرية، صاروا كالوحوش البرية هم أنفسهم. نتيجة ثالثة للسقوط ناقشناها في الفصل الثالث هي فساد البشر الأخلاقي. يصف Alvin Plantinga ذلك الفساد_في (الاعتقاد المسيحي) Christian Belief_كالتالي:

"نحن البشر، بعيدا عن نشاط الله الخاص والرحيم_غارقون في الإثم؛ نحن ميالون لكره الله وجيراننا؛ إن قلبونا_كما قال إرميا_مخادعة أكثر من كل الأشياء وفاسدة على نحو يدعو إلى اليأس."

وفقًا لأوجستين [في اعترافاته] فإن هذا الفساد الأخلاقي موجود منذ الميلاد: "هكذا فإن براءة الأطفال في عجز أجسادهم عوضا عن أي خاصية في عقولهم. لقد رأيت بنفسي رضيعا صغيرا غيورا؛ لقد كان أصغر من أن يقدر على الكلام، لكنه كان مشتعلا بالغضب لأنه رأي رضيعا آخر عند الثدي."

من ثم فمع سقوط الإنسان، [على حد تعبير لِوِس] "نوعٌ جديد، لم يصنعه الله قط، بارتكابه الإثم أوجد نفسَه في الوجود". هذا النوع الجديد هو "رعب لله". وبعبارة لِوِس "لقد تولى عن الله وأصبح صنمًا لنفسه".لم يتدمر البشر أخلاقيا فحسب، بل وإدراكيا كذلك، كثيرا للغاية بحيث لا يمكنهم حتى معرفة أن الله موجود بدون مساعدته [لهم ليعرفوا]. بدون مساعدة الله فنحن_وفقا لباسكال_ "مساوون للحيوانات الوحشية". بدون الله، لا يمكننا أن نصبح سعداء ولا صالحين، ومحكوم علينا بدلا من ذلك بالشر والبؤس والجهل.
من خلال هذه الخلفية نقدر أن نفهم أهمية طاعة الله [التعاليم والأفكار الدينية] ضمن الأخلاق المسيحية ولماذا يُعتبَر الفخر ضمن الخطايا السبع المهلكة. كتب Jerome Neu (1999) أن الفخر هو "خطيئة عدم معرفة مكانة المرء والالتزام بها. إنها....الإثم الطموح لفاوست. تحدي الله والمضي فوق مكانتك.[90]" الفخر الأثيم_تقدير مبالغ فيه لمكانة المرء الملائمة في التراتبية، أو محاولة للترقي فوق ذلك المكان_متصلة بخسارة لاحترام الله، وبالتالي ميل لمعصية أوامر الله. بالنسبة لكائنات مثلنا، والذين نميل على نحو طبيعي للشر والبؤس_ليس هناك خطر أهظم من فقدان الاحترام لقواعد الله لأجلنا. هذا سبب كون أن إدراكا وقبول لمكانتنا في الكون ذوا أهمية مركزية في الأخلاق المسيحية. هذا الإدراك ضروري لأجل الاحترام الملائم لله، والذي هو ضروري للطاعة، والتي هي ضرورية لأجل الفضيلة والمعرفة والسعادة والخلاص. وكما قال الرسول بولس: بل طاعة وصايا الله هي كل شيء[91]. ربما لهذا كتب Philip Quinn في (أولية إرادة الله) Primacy of God’s Will:

"أنا متبع للرأي القائل بأن الفلاسفة الأخلاقيين المسيحيين ينبغي عليهم أن يشاركوا [توماس] الأكويني في الاعتقاد بأن الفضيلة تختص على نحو رئيسي بالتوافق مع إرادة الله وطاعة أوامره. كما أرى الأمر، ينبغي أن تكون هذه هي الفكرة المهيمنة لأي تفسير للفضائل يدعي أنه جزء من الأخلاق المسيحية على نحو حقيقي."

ولعل هذا سبب أن بعض الكتاب المسيحيين قد التمسوا فهم الالتزامات الأخلاقية للبشر كليا بمصطلحات الطاعة والأوامر الإلهية (راجع الفصل الثاني).

التواضع، وفق الرؤية المسيحية والطبيعية

لو أن الطبيعية معروف أنها صحيحة، فمن ثم فإن الرواية الكتابية للسقوط هي مجرد أسطورة. ليس هناك إله يجب أن نطيعه؛ ليس هناك مكانة في تراتبية قد خُصصنا لها من قِبل إله. في كون من منظور طبيعي، ليس للتواضع والطاعة المسيحيين مكان. ما الذي يحل مكانهما، لو كان هناك أي شيء؟ في كون من منظور طبيعي هل هناك أي فضائل تتوازى مع التواضع والطاعة المسيحيين؟

قد نقترب من هذه الأسئلة بتأمل ما قد قاله الفيلسوف الوثني أرسطوتلس بصدد الفخر والتواضع. لقد رأينا من قبلُ نقطة خلاف بين الرؤية الأرسطوطاليسية والرؤية المسيحية. في الفصل الأول لاحظتُ أنه وفقا لرأي أرسطوتلس فإن أفضل أنواع الأنشطة في جوهره والذي يستطيعه البشر هو التأمل النظري، نفس النشاط الذي ينهمك فيه الآلهة باستمرار. الفيلسوف وحده من يمكنه الترقي فوق مكان الفرد في الكون ويصير_ولو لوقت قصير_كإله. علاوة على ذلك، فهذا شيء ينبغي أن يكافح المرء لأجله ويستحق المديج لأجله. أم وفقا للرؤية المسيحية، كما قد رأينا، فالعكس صحيح تماما. محاولة الترقي فوق مكانة المرء في الكون خطيئةٌ، شيء يجب تجنبه مهما كلّف الأمر.

مسألة الموقف الملائم اتخاذه اتجاه المرء وإنجازاته يكشف عن تعارض آخر بين الرؤيتين الأرسطوطاليسية والمسيحية. إحدى أكثر الفضائل الأرسطوطاليسية إثارة للجدل هي فضيلة "التعقل السامي" أو "عظمة الروح" (megalopsychia) (ميجالوسايكِيا). وفقا لأرسطوتلس [في كتابه الأخلاق النيقوميدية]، فإن الشخص سامي العقل هو من "يعتقد أنه يستحق الأشياء العظيمة وهو حقيقةً يستحقها". ما يستحقه المرء يُفهَم بمصطلحات يكون وفقا لها الخيرات الخارجية مستحَقة. أعظم الخيرات الخارجية هو الشرف، لذا فإن سمو العقل يتعلق بالشرف. الشخص السامي العقل هو امرؤٌ يعتقد على نحو صحيح أنه يستحق كما هائلا من الشرف. ولأنه لا يمكن لشخص أن يستحق تشريفات عظيمة بدون أن يكون فاضلا بالكامل، فلا يمكن للمرء حيازة فضيلة التعقل السامي ما لم يكن لديه كل الفضائل الأخلاقية الأخرى كذلك. لهذا السبب يعلن أرسطوتلس أن التعقل السامي هو: "تاج....االفضائل: إنه يعظِّمها ولا يمكن أن يوجد بدونها". إحدى أكثر السمات الجديرة بالملاحظة لنقاش أرسطوتلس عن الفضيلة هو ملاحظته أن: "إن شخصا سامي العقل مسوَّغٌ له النظر من علٍ إلى الآخرين لأن لديه رأيا صائبا عنهم." بلا شك أن ملاحظات كهذه ما قاد Alasdair MacIntyre (1998) [بتوجهه الدينيّ] لأن يصف شرح أرسطوتلس للسمو العقلي بأنه "صورة مروِّعة"[92].

إنه مفيدٌ أن نقارن بين شرح أرسطوتلس مع شرح علماني أكثر معاصرة للتواضع. فوفقا لجوليا درايـﭭر Julia Driver (2001) فإن التواضع فضيلة، وأن "الشخص المتواضع يقلل من تقديره لقيمة نفسه....إنه يبخس من تقديره لنفسه، ولذلك يحصل على جزء فقط من الفضل المستحق له"[93]. تقول درايـﭬر كذلك أن: "ليكون شخصٌ متواضعًا، فيجب أن جاهل فيما يتعلق بقيمة نفسه. لابد أنه يعتقد نفسَه أقل استحقاقا، أو أقل جدارة، عما هو عليه حقا". إذن فإن السمة التي تدعوها درايـﭬر بـ"التواضع" هي تقريبا الرذيلة أو النقصان الذي يدعوه أرسطوتلس [في الأخلاق النيقوميدية] بالتعقل الضئيل (ميكروسايكِيا) (mikropsychia):

"إن الشخص الذي يقلل من تقديره لنفسه صغير العقل، بصرف النظر عما إذا تكون قيمته الحقيقية كبيرة أو متوسطة، أو....صغيرة".

إن تفسير جوليا درايـﭭر للتواضع مشابه أيضا على نحو مذهل لشرح للاتّضاع الذي يشجِّع الشيطان Screwtape ابنَ أخيه على فرضه على "مريضه" أو بالأحرى ضحيته في رواية لِوِس C. S. Lewis (رسائل سكروتِب ) The Screwtape Letters (1996):

"لذلك يجب أن تخبئ عن المريض الغاية الحقيقية من التواضع, فلتجعله يعتقد أنه...نوع معيَّن من الاعتقاد (تحديدا: اعتقاد وضيع) عن مهاراته وشخصيته. بعض المهارات التي يملكها حقا، كما أستنتج. ثبِّتْ في عقله فكرة أن التواضع يتعلق بمحاولة الاعتقاد بأن هؤلاء المهارات أقل قيمة مما يعتقد أنهن عليهن.[94]"

جنيًّا شريرا كما هو عليه، يهدف سكروتِب في الرواية إلى الخداع، وتفسير التواضع محل الكلام قُصِدَ به أن يكون تفسيرا [تعريفا] باطلا. ما الغرض من جعل البشر يقبلون بتفسيرٍ مثلِ هذا للتواضع؟ يشرح سكروتِب:

"الشي العظيم هو أن تجعله يقدِّر اعتقادا على أساس سمة أخرى غير الحقيقة، وبالتالي تقديم عنصرا من التضليل والتظاهر في قلبه بما كان في حال آخر سيهدِّد بأن يصير فضيلة. بهذه الوسيلة جُعِل آلاف البشر يعتقدون أن التواضع يعني نساء جميلات يحاولن الاعتقاد بأنهن قبيحات ورجال أذكياء يحاولون الاعتقاد بأنهم حمقى. وبما أن ما يحاولون الاعتقاد به ربما يكون _في بعض الحالات_يُظهِر سخافة [انعدام منطق]، فإنهم لا يقدرون على النجاح في الاعتقاد به، ولدينا الفرصة لإبقاء عقولهم تدور حول نفسها بلا نهاية في جهد لتحقيق المستحيل."

نتيجتان مرغوبتان (من وجهة نظر الشيطان سكروتِب) من ترويج الرؤية الباطلة عن التواضع الموصوفة هنا. إحدى وسائل إفساد "الروح" التي كثيرا ما يشجع Wormwood [يعني اسمه بالعربية نبات الأفسنتين أو المرار!] على استعمالها هي أن يغرس في البشر عادة الاعتقاد بالآراء التي يعتقدون، ليس لأن هذه الآراء صحيحة، بل عوضا عن ذلك لأجل سبب آخر.[95] وفقا لتفسير سكروتِب الباطل، فإن التواضع يتضمّن فعل هذا بالضبط، وبالتالي فإن جعل إنسان راغب في أن يصبح فاضلا يقبل برأي كهذا هو وسيلة جيدة لتعزيز العادة المرغوبة فيه.

ثانيا، يلاحظ سكروتب أن تحقيق هذا التواضع الزائف يكون في الأغلب صعبا للغاية أو مستحيلا، ومن كان سيكون إنسانا فاضلا ويقبل هذا الرأي سيجد نفسه يدور في حلقات مفرغة لانهائية في محاولة لأن يصبح متواضعا.



  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
إله, القيم, بها, كون, والأخلاق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
هل يوجد نهاية للكون أم أنه بلا نهاية ؟ مجدي ابو عيشة حول المادّة و الطبيعة ✾ 81 01-19-2018 02:02 PM
افلام بلا ملل alzoool ساحة الفنون و الموسيقى و الأعمال التصويرية 14 08-17-2017 03:20 AM
كرة القدم معاداة لله ! إبسلون استراحة الأعضاء 0 05-07-2017 05:15 AM
القول المفحم في كون الإسلام مجرم _(تكفير أهل الكتاب والكافرين وواجب قتالهم) zaher_god العقيدة الاسلامية ☪ 0 07-20-2015 08:56 PM
تجاهل كون زوجتك لا تمنع يد من يلمس جسدها، طالما تستمتع بها ! السيد مطرقة11 الأرشيف 0 09-15-2013 02:37 PM