الدين وتغييب العقل - من كُنَّاشَة اليماني

[الباحث الحثيث]

تمهيد :

إذا أردت أن تحكم الشعوب فشرِّع لهم أحكاماً باسم الدين .

فالأديان تغتال العقول .

وعلى هذه القاعدة نشأت ممالك الأديان في شرقها وغربها ، والكل يتستر بستار الدين ، والكل يقمع من يحاول التفكير ، فما أوروبا المسيحية عنا ببعيد ، وكذا ممالك الإسلام كان بطشها لمفكريها شديد ، والأمثلة من هنا وهناك تطول ، فلا تخرق سفينتك لتغرق أهلها ، ولا تقذفها في اليم وحيدة فيأخذها مجرمها ، فالعقل زينة ، وطمسه صفة مشينة ، فدع عنك التواكل والخمول ، والتحامق والفضول ، وشمِّر عن ساعديك وخذ الكتاب بقوة ، فإن العلم هو غذاء الألباب ، ومزيل الجهل وفاضح كل كذاب ، فهيا بنا لنرى ماذا فعل الجهل بأصحابه ، وكيف كان الدين حارساً على أبوابه ، فهيا بنا .

[الباحث الحثيث]

مقدمة :

لقد غرقت أوروبا في ظلمات بحر الجهل في العصور المظلمة بسبب عداءها للعلم والعقل ، وتبعتها ممالك الإسلام بعداءها لمفكريها وعلماءها الذين ألحدوا وأنكروا تعاليم الأديان جملة وتفصيلاً ، فنكَّلوا بهم كما فعل أسلافهم في العصور المظلمة ، حتى بات كل مفكر وعالم يوصم بوصم الإلحاد والزندقة بسبب أنه قال "لا" بصوت عالي يسمعه القاصي والداني .
فكان ولا يزال الجهل والدين هما المغذيان لعقول الناس بمواجهة العلم والعقل ، فنشروا الخرافات والأساطير وجعلوها من المسلمات ، وهم على يقين بأن الناس قد غُيبت عقولهم بسبب الخوف من العقاب وطمعاً بالأجر والثواب !.

فخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا أرثهم العلمي الذي خلَّفه هؤلاء العلماء الملحدين الزنادقة بزعمهم ! ، وركنوا إلى جهل الأديان ، فنسجوا لهم قصص تضحك الثكلى ، فضلوا الطريق وأضلوا الفريق.

وسأضرب أمثلة لتلاعب الدين بعقول الناس ، لتروا إلى أي مدى تم إغتيال هذه العقول حتى جردوا اصحابها من هذه النعمة التي تميزوا بها عمن سواهم من مخلوقات !


ولكي لا نطيل ؛ فالنبدأ بذكر بعض الأمثلة :

[الباحث الحثيث]

"ألم أخبرك أنهم بقر؟" :

قال علان الوراق : رأيت العتابي (1) يأكل خبزا على الطريق بباب الشام [في بغداد] (*)
فقلت له: ويحك أما تستحي؟
فقال لي: أرأيت لو كنا في دار فيها بقر أكنت تحتشم أن تأكل وهي تراك؟
فقلت: لا
قال: فاصبر حتى أعلمك أنهم بقر .
ثم قام فوعظ وقص ودعا حتى كثر الزحام عليه ثم قال لهم: روي لنا من غير وجه أن : من بلغ لسانه ‌أرنبة ‌أنفه لم يدخل النار .
قال: فما بقي منهم أحد إلا أخرج لسانه يوميء به نحو أرنبته ويقدره هل يبلغها؟
فلما تفرقوا قال لي العتابي : "ألم أخبرك أنهم بقر؟" ! (2)


- وقال حسين الكرابيسي : فأنا قاعد ذات يوم على باب داري حتى مر بي شيخ محلوق الرأس واللحية معه زنبيل فيه خيار أصفر .
فقلت : يا شيخ ، ‌لمَ ‌حلقت ‌رأسك ‌ولحيتك ؟
قال : حكم الكتاب والسنة
قالَ: قُلتُ له : وأيش من حكم الكتاب والسنة
قَال: قَال لنا أبو مرحوم : إخواني إن ذا الشعر نبتت على الضلالة ، فاحلقوها حتى تنبت على الطاعة .
قال فحمل الناس على أن حلقوا لحاهم له .
وذلك إنما جرى ذلك أن الجهل يغلب العلم (3)

وقال سَعِيد بن عَبد العزيز البيروتي : كان عندنا من قال للناس : احلقوا لحاكم فإنها نبتت على الضلالة حتى تنبت على الطاعة .
قال : فحمل الناس كلهم على حلق اللحى ، فكنت لا تلقى أحدا إلَاّ محلوق اللحية (4).

- وقال رجل لأحد الشعراء : أين سكة الحمير؟
فقال اسلك أي سكة شئت فكلها دروب الحمير! (5)

- وقال بعضهم (6) : الناس أربعة أصناف : آساد، وذئاب، وثعالب، وضأن!
* فأما الآساد فالملوك ومن إليهم من الحكام المستبدين
* وأما الذئاب فالتجار
* وأما الثعالب فالقراء المخادعون
* وأما الضأن فالمؤمن - يريد الطيب الكريم - ينهشه كل من يراه (7)

وقال كثير عزة:
سواس (8) كأسنان الحمار فما ترى ... لذي شيبة منهم على ناشئ فضلا (9)

وقال آخر:
شبابهم وشيبهم سواء ... سواسية كأسنان الحمار (10)

قلت : وهذا حال المسلمين بالأمس واليوم وغداً !

فالدين أفيون الشعوب ، بل هو المعطل لعمل العقل لأن المنقول مقدَّمٌ على المعقول بزعمهم الخاطىء!، فأصبح العقل تابع لزمام الدين منذ 1400 عام ! .

[الباحث الحثيث]

وليس أدلَّ من ذلك :

ما رواه الإمام البخاري في صحيحه في مواضع ، منها : (7/100 برقم 5550 طبع بالمطبعة الكبرى الأميرية ، ببولاق / مصر 1311هـ ، بتحقيق جماعة من العلماء) : (حدثنا محمد بن سلام، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، أي شهر هذا؟ .
قلنا: الله ورسوله أعلم.
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ! (11)
قال: أليس ذا الحجة؟
قلنا: بلى
قال: أي بلد هذا؟
قلنا: الله ورسوله أعلم
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه
قال: أليس البلدة؟
قلنا: بلى
قال: فأي يوم هذا؟
قلنا: الله ورسوله أعلم
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه
قال: أليس يوم النحر؟
قلنا: بلى
قال: فإن دماءكم وأموالكم -قال محمد [يعني : ابن سيرين] : وأحسبه قال- وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا، يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه)

ثم قال البخاري : (وكان محمد [يعني : ابن سيرين] إذا ذكره قال: صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال : ألا هل بلغت، ألا هل بلغت مرتين)

وأخرجه مسلم في صحيحه (2/1305 برقم 29-(1679) الناشر دار إحياء الكتب العربية فيصل عيسى البابي الحلبي / القاهرة ، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي) : (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ويحيى بن حبيب الحارثي، وتقاربا في اللفظ، قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم .... فذكره بطوله.

قلت : فانظر يارعاك الله ! كيف أصبحت المسلّمات والحقائق متوقفة على قول المشرِّع الحكيم [كما يظنون!] ! ، حتى لو قال عكس الواقع وعكس ما يعلمون فيجب اتباعه وعدم مخالفته ! .

وهذه كارثة بكل المقاييس ، حيث يصبح الإنسان كالآلة يتبع التعاليم التي تصدر إليه ولو كانت مخالفة لكل للعادات والتقاليد والأعراف والقيم !

فقد سلبهم الدين إرادتهم وفكرهم ، فلما أعملوا العقل نازعوا تسلط الدين ، فاتهموهم بالإلحاد والزندقة كما هو حال الرازي ، وابن سيناء ، وابن الهيثم وغيرهم الكثير الكثير من مصابيح الدجى الذين أناروا البسيطة بعلومهم ، وانتفع من علومهم القاصي والداني بمجرد أن حكَّموا العقل وتركوا تعاليم الدين السالبة لحرية هذا العقل .

وإنه ليحزنني أن أكتب هذه السطور التي تُحزن من كان له عقل رشيد ، وليس أدل من هذه الأمثلة لمن أراد رؤية الحق ولو كان مراً.


وبهذا أختم ..




وكتب / محمد اليماني – الباحث الحثيث.

[الباحث الحثيث]

هامش :

(*) ما بين المعقوفتين [ ] من توضيحي.
(1) وهو هو ‌كلثوم ‌بن ‌عمرو من بنى تغلب من بنى عتّاب، من ولد عمرو ابن كلثوم التّغلبىّ، ويكنى أبا عمرو.
وكان شاعرا محسّنا، وكاتبا فى الرسائل مجيدا، ولم يجتمع هذان لغيره.
(2) أوردها الخطيب في الجامع (2/167 برقم 1507 الناشر مكتبة المعارف / الرياض ، بتحقيق محمود الطحان) ، ومن طريقه ابن الجوزي في القصاص (ص 319 برقم 172 الناشر المكتب الإسلامي / بيروت الطبعة الثانية 1409هـ - 1988م ، بتحقيق محمد الصباغ)
(3) أوردها ابن عدي في الكامل (3/241 برقم 495 الناشر الكتب العلمية / بيروت الطبعة الأولى 1418هـ - 1997م ، بتحقيق عادل عبد الموجود ، وعلي معوض) في ترجمة "الكرابيسي" ، وكذا ابن الجوزي في القصاص (ص 141 برقم 172 الناشر المكتب الإسلامي / بيروت الطبعة الثانية 1409هـ - 1988م ، بتحقيق محمد الصباغ)
(4) أوردها ابن عدي في الكامل (3/242 برقم 495 الناشر الكتب العلمية / بيروت الطبعة الأولى 1418هـ - 1997م ، بتحقيق عادل عبد الموجود ، وعلي معوض) في ترجمة "الكرابيسي"
(5) ذكرها الراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء (2/32 الناشر شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم / بيروت الطبعة الأولى 1420هـ) ، والبرقوقي في الذخائر (2/154 الناشر مكتبة الثقافة الدينية / مصر)
(6) نُسب هذا القول لسلمان ، أنظر غرر الخصائص لأبي إسحاق الوطواط (ص 589 الناشر دار الكتب العلمية / بيروت الطبعة الأولى 1429هـ - 2008م ، بتحقيق ابراهيم شمس الدين)
(7) ذكرها الراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء (2/31 الناشر شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم / بيروت الطبعة الأولى 1420هـ) ، والبرقوقي في الذخائر (2/154 الناشر مكتبة الثقافة الدينية / مصر)
(8) أسنان الحمار يضرب بها المثل فى التماثل والتساوى ، يقال هم سواسية وسواس وسؤاسية: إذا استووا في اللؤم والخسة والشر وقال آخر:
شبابهم وشيبهم سواء ... سواسية كأسنان الحمار
(9) أنظر لسان العرب لابن منظور (14/409 الناشر دار صادر / بيروت الطبعة الثالثة 1414هـ ، بحواشي اليازجي وجماعة من اللغويين) ، ومن قبله :
ابن السكيت في الألفاظ (143 الناشر مكتبة لبنان الطبعة الأولى 1998م ، بتحقيق فخر الدين قباوة) ، والجاحظ في البرصان (ص 364 الناشر دار الجيل / بيروت الطبعة الأولى 1410هـ) ، والحيوان (6/371 الناشر دار الكتب العلمية / بيروت الطبعة الثانية 1424هـ) ، والثعالبي في ثمار القلوب (ص 370 برقم 568 الناشر دار المعارف / القاهرة)
(10) ذكره البرقوقي في الذخائر (2/154 الناشر مكتبة الثقافة الدينية / مصر)
(11) قلت : وبسبب الخوف من الدين ؛ ضلوا أمامه يشكُّون بالحقائق الكونية والمسلمات التي ربوا عليها !، ويرددون وهم مسلوبي العقل والإرادة : "الله ورسوله أعلم"!
ويظنون أنه قد سيسميه بغير اسمه !
فأي مثال أعظم من هذا في التدليل على أن الدين يغتال العقول ويسيرها حسب ما يريد !؟

[mystic]

تحية طيبة :

ذكرني مشهد (( الله و رسوله أعلم )) بمشهد ليونس شلبي و سعيد صالح في مسرحية العيال كبرت , حيث يخطب فيهم أخوهم المثقف أحمد زكي و يأخذ يونس شلبي بهز رأسه , فيقول له سعيد صالح : إنت بتهز ليه هو انت فاهم حاجه؟ فيجيبه يونس شلبي : يا عم كلهم بيهزوا كده ...

[الباحث الحثيث]

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة mystic

تحية طيبة :

ذكرني مشهد (( الله و رسوله أعلم )) بمشهد ليونس شلبي و سعيد صالح في مسرحية العيال كبرت , حيث يخطب فيهم أخوهم المثقف أحمد زكي و يأخذ يونس شلبي بهز رأسه , فيقول له سعيد صالح : إنت بتهز ليه هو انت فاهم حاجه؟ فيجيبه يونس شلبي : يا عم كلهم بيهزوا كده ...

😂

المشكلة ان هذا المشهد نأخذه كمسلمين على انه غاية النهاية في الاتّباع !

وهو في الحقيقة سلبٌ للارادة باوضح صورها للاسف الشديد.