![]() |
|
|
|
رقم الموضوع : [1] |
|
عميد اللادينيين العرب
![]() ![]() |
مجموعة قصص قصيرة تمهد للإلحاد بقراءتها الواحدة إثر أخرى.. حقد.. وغفران إفتح عينيك.. البناء الأم أذنان.. حوافر.. وذيل احتراق الشمعة |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [2] |
|
عميد اللادينيين العرب
![]() ![]() |
حقد.. وغفران (قد يكون كل ما تظنه خاطئ) لقد كان طفلاً، ولكنّه يحمل هموماً كبيرة وأحزاناً أكبر.. قهر وإحساس بالظلم كانا يُسيطران عليه رغم صغر سنّه.. لم يتجاوز بعد العاشرة.. كان يجلس خلف باب الغرفة المظلمة وهو يحاول كتم أنفاسه وشهيقه المتقطّعين.. دموع كانت تسيل من عينيه الواسعتين بحدقاتها الواسعة.. دموع جرت على وجهه لتتمايل وفق تضاريس خدّه الشاحب.. كانت تلك القطرات الصغيرة تنزلق بسرعة على بشرته الناعمة الباردة إلى أن أوقفت حماسها حرارة شديدة نابعة من خدّه ، حرارة تكاد أن تكون كافية لتبخّر تلك الدموع.. دموعه مُسحت.. ولم تكن سوى يده من مسحها.. فلم يكن هنالك من هو قادر على فهمه والعطف على حالته سوى ذاته.. هو وحده كان المُلتصق بالحائط في تلك الغرفة المُعتمة الفارغة.. وهو يشعر بأنّ ألمه قادر على ملئها.. لقد كان ضوءً بسيطاً يمرّ من خلال النوافذ يُصدره قمر حزين ، ضوء قادر على إضاءة وجهه لكي يراه وبعينين دامعتين مُنعكساً على مرآة مُغبرّة.. وبيد مُرتجفة بدأ يتحسس خدّه بألم عميق.. عاودت معه دموعه بالسقوط.. لقد كان يُشاهد في المرآة طفلاً يُشبهه تماماً سوى أنّ خدّه الأيسر كان مُختلفاً.. أو كان قد تبدّل والآن فقط.. إنّها أربعة خطوط حمراء كانت ترتسم على خدّه.. خطوط تلتهب ناراً.. لم تكن سوى علام لأربعة أصابع لُصقت خطأ على وجهه.. خطأ على الأقل من وجهة نظره.. كانت عينيه تنظران إلى تلك الخطوط ومن ثمّ إلى العينين من جديد.. عينين كانتا قادرتين على الإفصاح بكلمات مؤثّرة في نفسه.. " لستُ أنا !... " . لقد كانت ذاكرته قادرة على إعادته ـ وبصور تحوّلت إلى كابوس بالنسبة لطفل ـ إلى تلك اللحظات الأولى من اليوم.. وتوالت الصور مُتقطّعة تتخللها دموع وزفرات ألم وخوف.. بدأ كل شيء حين نادته أُمّه ، وطلبت منه أ، يرتدي ثيابه لأنّهم سيزورون جيرانهم الجدد في البناء مع بقيّة الجيران.. إنّها زيارة نسائيّة للترحيب والتعرّف على الجارة الجديدة.. وبسعادة قام بارتداء ملابسه المُفضّلة ، وهو يترقّب لحظات السعادة التي سيقوم خلالها في الزيارة باللعب مع أولاد بقيّة الجارات ، وبالأخص صديقه الصغير " فارس " الذي سيكون هناك حتماً مع أمّه وأخته الكبيرة " هناء ".. إنّها زيارة تعارف لأمّه ولعب له.. ومن ثمّ رأى نفسه وأمّه يقفان أمام باب الجيران بانتظار أن يُفتح.. بهدوء وخوف فُتح الباب لتُطلّ منه ربّة المنزل.. حديث الترحاب والتودد كان في البداية ، ومن ثمّ أمسكته الجارة وقبّلته من خدّه تودداً بعد أن قدّمته أمّه لها.. دخل وهو مُلتصق بأُمّه خوفاً من المجهول الذي يدخل إليه.. لقد كان خجولاً جداً وقليل الكلام إلا مع من يألفه.. وكان كل جديد بالنسبة له مُخيف إلى أن يألفه تماماً.. جلس بالقرب من أُمّه وهو ينظر إلى كل النسوة في الغرفة بحثاً عن أم " فارس ".. هاهي.. إذاً ف" فارس " هنا.. ولكن أين ؟!.. اقتربت منه صاحبة المنزل وأمسكته من يده بينما ظلّ هو مُتمسّكاً بأُمّه.. وحين شعرت بخوفه خاطبته : "ألا تُريد أن تلعب مع الأولاد ؟!...".. هزّة من رأسه كانت الجواب بالإيجاب.. خاطبته أمّه : "اذهب معها ف" فارس " في الداخل أيضاً".. قادته صاحبة المنزل بعد أن اطمأنّ قلبه وأرخى يده عن أُمّه.. وصلا إلى غرفة كانت تبدو كغرفة طفل.. لكنّها لم تفتح الباب بل انخفضت نحوه وخاطبته وعينيها تقدحان شرراً : "لا تُزعج «إيلين».. إنّها ابنتي وهي أصغر منك بسنتين.. في الداخل .." لم يُدرك لماذا خاطبته بهذه اللهجة لكن هزّة من رأسه كانت كافية لأن تسمح له بدخول الغرفة.. فتح الباب فوجد في الداخل " هناء " ذات الثلاثة عشر عاماً تجلس على الكنبة قرب فتاة صغيرة يبدو أنّها «إيلين».. وكان " فارس " يراقبهما وهو يجلس على السجادة.. لقد كانت رؤيته ل" فارس " تكفي لأن تُنسيه كل شيء ، فلم يكن يهمّه سواه ممن في الغرفة.. ابتسامات مُتبادلة ، وأحاديث أطفال كانت بداية اللعبة بينه وبين " فارس ".. وضاعا في عالم خيال الأطفال.. لم يكن هنالك من شيء يمكنه أن يُخرجهما منه سوى فتح وإغلاق الباب كل خمس دقائق ، تتفقّدهم خلالها أم «إيلين» ، لم يعرفا سبب هذا التفقّد الدوري ، لكنّهما كانا يُعاودان اللعب بعد ذلك إلى أن قاطعهما صوت بكاء «إيلين».. التفت نحوها فرآها تبكي بعد أن أدارت " هناء " وجهها عنها وهي منزعجة.. لم يكن يدري ما سبب بكائها ، ولكنّ حدّته ونعومتها وبراءتها الشديدين كانا كافيين لأن يجعلا قلبه يرثي لحالها ويحاول وبحالة من الخوف والعطف أن يقترب منها مُحاولاً تهدئتها ، والتخفيف من حدّة بكائها.. لقد كان رغم خجله ذا قلب كبير ، يحاول مساعدة المظلومين والمساكين لشعوره بأحاسيسهم.. جلس بقربها ، وحاول أن يُهدّئ من روعها ، وضع يده على كتفها ليُشعرها بأنّه مُدرك لحالتها رغم أنّه لم يكن كذلك.. وبعيون كئيبة نظر إليها وهي تبكي دون توقّف ، لم يعرف ماذا يجب أن يفعل.. ولكنّ اللحظات القليلة تلك لم تكن لتسمح له بأن يُحاول فعل شيء ، فهذه اللحظات قد انتهت بسرعة حين فُتح الباب.. لم يتوقّف بكاء «إيلين» ولكن النظرات الخائفة التي توجّهت نحو الباب كانت قادرة على إنهاء لحظات الحيرة تلك.. كانت أم «إيلين» عند الباب.. وبعينين تُشعلهما دموع ابنتها ، ودون سابق إنذار توجّهت نحوه ، وبيد تُحرّكها مشاعر الخوف على ابنتها صفعته على خدّه لتنقله من صدمة بكاء الطفلة إلى صدمة أُخرى ، هي صدمة التعجّب.. وبيدين رقيقتين كيدي أُمّ حنون حملت ابنتها إلى صدرها وضمّتها وبكائها مازال يصدح في الغرفة.. نظرت في عينيه نظرة تأنيب يلمع فيها التوعّد ، وخاطبته بصوت أجشّ : "ألم أقل لك لا تُزعج «إيلين» ؟؟! ".. وبنظرات الصدمة والفم المفتوح نظر إليها ودون أن يخرج من فمه أيّ صوت.. كان يُحاول أن ينطق بكلمات لم يُسعفه لسانه على نطقها فحبسها في عينيه.. "لستُ أنا ..! " .. لقد كان صفع طفل شيء عادي بالنسبة للكبار ، ولكنّه كان شيئاً مؤلماً لذلك الطفل ، ليس لأنّه موجع بل لأنّه لم يكن يستحقّه.. شعور بالقهر بدأ يتحوّل شيئاً فشيئاً أمام المرآة إلى حقد.. تحوّل الظلم إلى ضغينة ورغبة بالانتقام.. لقد قرر أن ينتقم من «إيلين» لعدم قدرته على أُمّها.. وأمام المرآة في تلك الغرفة المظلمة جفف دموعه ليحوّلها إلى غضب وحقد كانا شديدي الوقع على مثل هذا الطفل.. حين خرج من تلك الغرفة كان قد دفن أفكاره في صدره ليتحوّل إلى ملاك بروح شيطان ، على الأقل في لحظات الألم تلك لحداثة جرحه.. لقد كانت الأيّام كفيلة بأن تُنسيه ذلك الجرح لولا أنّ شيئاً جديداً بدأ يلوح في الأفق.. بعد أيّام جاء طلب أُمّه منه أن يلبس لزيارة جارتهم أم «إيلين».. لقد كان قولها هذا كفيل بفتح جرح كاد أن يندمل ، فعادت إلى قلبه لحظات الخوف ، التي تحوّلت من جديد إلى حقد.. ومن ثم إلى ابتسامة مكر في عيني طفل لم تكن مناسبة له.. كانت تلك الصفعة أقوى من أن ينساها خلال أيّام قصيرة ، لقد كان أثرها في نفسه أبلغ من يُدفن مع مرور زمن ، وخصوصاً إن كان هذا الزمن قصيراً جدّاً كما هو الآن.. ومن ثم أعاد وقوفه أمام باب الجيران الخوف إلى قلبه والذكريات المُرعبة إلى أفكاره , وعاد للالتصاق بأُمّه.. فُتح الباب ، ولم يرَ حينها سوى عينين كانتا تنظران إليه نظرة عطف وأسف لم يكن قادراً على ترجمتها.. لقد تعذّر عليه فهم اعتذار أم «إيلين» لإدراكها خطئها.. وهي لم تكن قادرة على الاعتذار شفويّاً لطفل.. مما ولّد بينهما حاجز كان موجوداً بين كل طفل وإنسان بالغ ، وإنّما في هذه اللحظة كان الحاجز يزداد سماكة بينهما.. حين حاولت أم «إيلين» إدخاله إلى غرفة «إيلين» كان تمسّكه بأُمّه قد تلاشى ، ليس لانعدام خوفه وإنّما رغبة منه لدخول تلك الغرفة.. انتقاماً.. أمام باب الغرفة وقفا ، فتحت له الباب بوجه مُبتسم ودون أن تنطق بكلمة فما الذي ستقوله لطفل أدركت أنّها ضربته خطأ منها.. في الغرفة لم يكن هناك سوى «إيلين» تجلس في نفس المكان الذي كانت تجلس فيه في تلك الزيارة.. نفس الثبات ونفس الوضعيّة.. وكأنّها لم تبرح مكانها منذ ذلك الوقت.. لم يكن قادراً على الكلام.. نظرات الخوف والحقد كانت تتبادل بينهما.. اعتذار وتأنيب.. عيون لعيون.. والشفاه مُغلقة.. لقد كانت ناعمة وملائكيّة لدرجة أنّها أنسته خطّته للانتقام منها.. لم يكن وبقلبه الكبير قادراً على أن يمسّها بأذى.. لكن ورغم ذلك فالخوف مازال مُسيطراً ، والعيون هي التي تتولّى الحوار.. بينما الأصابع كانت تُحاول تفريغ التوتّر بحكّ القماش.. ومن جديد فُتح باب الغرفة ليكسر الصمت ولتُطل أم «إيلين» لتتفقّد الأمور ومن ثم تنصرف.. لم يعرف ماذا يفعل بعد ذلك.. هل يُحاول الانتقام من تلك البريئة أم يتناسى حقده عليها.. قلبه كان يلين كلّما نظر إليها.. وهاهو جرحه قد اندمل بابتسامة رمته بها.. ومن ثم بدأ حديث طفوليّ بريء بينهما كان كفيلاً بأن يُنسي ذلك القلب الأبيض رغبته بالانتقام.. ابتسامات مُتبادلة وأحاديث أطفال كانت تنقطع بين الحين والآخر بفتح الباب والتفقّد الروتيني لأم «إيلين» لهذين الطفلين الذين لم يبرحا مكانهما بعد منذ دخل الغرفة.. وبسؤال منه توقّف فمها عن الابتسام أو الكلام : " لماذا لا تأتي لعندنا نلعب معاً بلعبي ؟.. ".. لم تُجبه بل أطرقت دون أن تنبس ببنت شفة.. وسؤال آخر منه كان أكثر حيرة في عينيها : " ألا تسمح لك أُمّك بالخروج من المنزل ؟.. ".. وسؤال ثالث كان يستدعيه صمتها وإطراقها العجيبين : " كيف تلعبين مع أصدقائك في المدرسة ولا تسمح لكِ باللعب معي في منزلنا ؟.. هل تبقين طوال الوقت في عرفتكِ ؟.. " وهنا لم يُدرك ما الذي أصابها فكأن سؤاله الأخير كان القشّة التي قسمت ظهر الجمل.. سالت الدموع من عينيها ، وبدأت تأنّ في مكانها وبصوت منخفض ، كمن طُعن في جرح عميق في قلبه كان يُحاول ومنذ زمن بعيد أن ينساه.. أنين كاد أن يُقطّع قلبه ، ودموع جعلته يشعر بالذنب رغم عدم إدراكه للخطأ الذي ارتكبه.. بهدوء وخوف تقدّم منها زاحفاً على ركبتيه ، وحالة من الذهول والألم قد أصابته.. بل هي حالة من العطف كانت تُسيّره نحوها.. رفع نفسه وجلس بقربها ، وهو يحاول أن يُخفف عنها ، بينما كان صوت أنينها لا يكاد مسموعاً ..همّ باسترضائها لكن الباب الذي فُتح في غير وقته سمّره في مكانه خوفاً.. رفع عينيه باتجاه تلك الأم التي كانت قد رأت دموع ابنتها ، وصوت أنينها قد لامس أذنها.. وبعينين عاد وأشعلهما الخوف على ابنتها حتّى أعماهما نظرت إليه.. فسمّرته وأنطقت عينيه برعب جديد حوّل وجهه إلى الصفرة.. وجاءت حركة سريعة من يديه أبعدهما فيها عن «إيلين» لتكون الدليل الكافي بالنسبة لتلك الأم لكي تُنزل عليه غضبها من جديد.. وها هي صفعة عنيفة تلقّاها خدّه الأصفر حوّلته إلى الحُمرة.. وعينيه عادتا لحالةٍ من التعجّب والغباش.. دموع كانت تحجب عنه الرؤية بوضوح ليُبصر ومن خلال تلك القطرات وجه أمّه عند الباب تُراقب ما يجري.. لكنّه لم يفعل شيء.. كان هذا ما يحزّ في قلبه ليكاد يُخرجه من صدره.. لقد كان لابدّ له من أن يُطلق صرخته ليسمعها الجميع.. وبصوت يرتجف مزّق جدار الصمت وهو يواجه أم "أيلين " التي كانت تحملها بقوله " أنا لم أفعل شيء ..".. صوته كان عالياً وعنيداً أتبعه بقوله " هي بكت لوحدها .." وهو ينظر بمحاولة للتواقح في عيني أم «إيلين».. لم يشعر سوى بيد تسحبه من كتفه وأُخرى تنهال على خدّه بلطمة أنسته ألمه من الأوّلى.. وكلام أُمّه يُجيبه " لا ترفع صوتك على من هم أكبر منك.. ومَن كان غيرك في الغرفة مع «إيلين» حتّى يُبكيها ؟...".. لقد كانت لطمة أُمّه أشدّ أثراً على روحه من سابقتها.. فها هي أُمّه لا تُصدّقه وتضربه على ما لم يفعل.. لقد كانت الصدمة أقوى من أن تسمح له بالكلام ، وعيني والدته المؤنّبة تدفع عينيه من جديد لإطلاق دموع الألم والشعور بالقهر.. كان الصمت هو جوابه ، بينما بقي الكلام المحبوس في عينيه غير مُقنعاً " أنا لم أفعل شيئاً .." عاد إلى حُجرهِ خلف الباب.. انذوى في تلك الزاوية المظلمة ليحاول الهروب من الواقع.. كان الظلام في الغرفة يريحه.. على الأقل للحظات ريثما تعاود صور الصفعات إلى مخيلته.. ونظرات العيون التي تنهره.. ولكنه كان يزداد حزناً وأنيناً عندما يذكر أنه لم يفعل شيئاً يستحق عليه كل هذا.. أخذ ينظر وبعينين بريئتين يملأهما الدمع إلى المرآة.. لقد بدأ يعتاد على خدّه وهو محمر.. اعتاد النظر إلى عينيه الدامعتين.. والحزن على قسمات وجهه بدا جزء من تكوينه الحاليّ.. لقد تغيّر، فلم يعد ذلك الطفل الصغير.. قد أصبح إنسان حزين يحمل في داخله رمال تجري في عروقه وتسحن لحمه.. رمال حقد.. وانتقام.. لقد بدأ يدرك بأنه لن ينسى حقده أبداً.. ففي هذه المرّة لم يكن الوقت علاجاً والنسيان دواء.. وهل يندمل جرح قد شقّ وبأيدي باردة للمرة الثالثة.. لقد كان يدرك أن حقده سيكبر معه، وخططه للانتقام ستكون جزء من تفكيره.. لقد كان وكطفل يكبر مع كل لطمة على خده، ولكن هذه اللطمات الثلاث لم تكن كغيرها من سابقاتها.. فهذه اللطمات كانت قد جعلته أكبر ليبدو الهرم على وجهه وعينيه.. أفلا يحوّل الحقد الإنسان إلى هَرِم.. فكيف بطفل.. مسح دموعه بنظرة بالغ ورمق نفسه في المرآة والشر يلمع في عينيه، وخرج من الغرفة المظلمة ليواجه النور وهو يشعر بنفسه وقد كبر، إن لم يكن مرحلة، فثلاث مراحل .. في أحد الأيام نادته أمه.. طلبت منه أن يلبس لأنهم سيذهبون لزيارة جارتهم أم «إيلين».. عندها بدأت النظرة في عينيه غير قابلة للتفسير.. أهي الخوف أم السعادة لأن أوان الانتقام قد جاء، أم عودة الذكريات والأحقاد.. لم يكن يعرف ما هو شعوره حتى.. فكل المشاعر تلك قد جاءته دفعة واحدة.. لتتحول شيئاً فشيئاً إلى شعور واحد هو الرغبة بالانتقام.. أثناء لبسه كان تفكيره يجول بأفكار شتى.. فكيفيّة الانتقام كانت تأخذ الجزء الأكبر من تفكيره سواء الآن أم في الأيام السابقة.. لم يكن من السهل على طفل في العاشرة أن يخطط للانتقام وهو يخشى في نفس الوقت ذلك العقاب الذي يتوقعه.. عاد ليتحسس خده.. لقد كان ذلك النوع من العقاب قد أصبح بسيطاً بالنسبة له.. فتحوّله إلى إنسان صلب في حقده جعله عنيداً غير قابل للألم.. على الأقل ألم الصفع.. ذلك أن الألم أصبح جزء من تركيبته النفسية.. أمام باب الجيران كان يتماسك ويجمع حقده إلى قمته ليبدو وقد ازداد رجولة.. فُتح الباب، بينما حافظ هو على تماسكه رغم زيادة نبضات قلبه، ورجفان يده التي ازدادت في شد قبضتها وهو ممسك بثوب أمه.. يده كانت منبع الثقة، ومفتاح الأمان له رغم مظهره الموحي بالثقة الكاملة.. نظرات لم يفهمها في عيني أم «إيلين».. ولم يكن بمقدوره أن يفهمها قط لأن الحقد والخوف قد أعمياه عن معناها.. بدخوله المنزل، وكما هي العادة، قادته أم «إيلين» إلى غرفة ابنتها، وبصوت حازم همست في إذنه " لا تزعج «إيلين».. ".. لكنه لم يستمع إليها جيداً لأن جلّ تفكيره كان منصباً في حقده وانتقامه.. فتح باب الغرفة وتسمر في مكانه.. لقد رأى ما جعله يدرك كل الأجوبة لأسئلة لا تحصى ضائعة في أفكاره.. " لماذا تخاف أم «إيلين» بشدة على ابنتها.. !؟ " " لماذا كانت تحذره من إزعاج «إيلين».. !؟ " " لماذا كانت تثور غضباً عندما ترى ابنتها تبكي.. !؟ " " لماذا كانت تبكي «إيلين».. !؟ " " لماذا كانت تتفقدهم أمها كل خمس دقائق.. !؟ " " لماذا بكت «إيلين» و أنّت عندما سألها عن سبب عدم خروجها.. !؟ " " لماذا.. لماذا.. لماذا.. !؟ " كل هذه الأسئلة كان جوابها واضحاً أمام عينيه الآن.. جواب أنساه وإلى الأبد حقده وخططه للانتقام.. جواب جعل عينيه تدركان معنى الدموع الحقيقية التي كان قد جففها منذ زمن.. لقد رأى «إيلين» تجلس على كرسي بعجلات.. كانت مشلولة القدمين.. لقد أدرك أنه وبأسئلته تلك كان يحفر ودون أن يلحظ بجرحها العميق.. جرح كانت تحمله في قلبها وهو أعمق من جراحه بكثير.. وهنا شعر بأنه قد أصبح رجلاً حقيقياً، ليس بحقده، وإنما بغفرانه.. بل بندمه.. تمت |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [3] |
|
عميد اللادينيين العرب
![]() ![]() |
نلتقي بعد أسبوع مع القصة التالية: "إفتح عينيك.." (الوعي بعد الوعي)
تحياتي.. |
|
|
|
رقم الموضوع : [4] |
|
الباحِثّين
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
انتظرها بفارغ الصبر....سيادة العميد
|
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [5] |
|
زائر
|
قصة جميلة و اطروحة مفيدة ,,,
شكرا لك ,, ننتظر جديدكـ |
|
|
|
رقم الموضوع : [6] |
|
عميد اللادينيين العرب
![]() ![]() |
إفتح عينيك.. (الوعي بعد الوعي) فتح عينيه لأوسع حالاتها.. حدقاته توسعت حتى ليكاد السواد يملأ القزحية.. لهاث سريع يخرج من فمه وأنفه وحتى من عينيه.. لم يعد يريد أن يغلق جفنيه أبداً بعد أن فتحهما الآن.. فتحهما ولأول مرة.. بدأ عقله بالاستيعاب.. وبدأت حواسه بتلمس هذا العالم الجديد الذي دخله للمرة الأولى.. لقد كان يعيش فيه.. بل نائماً فيه.. والآن أدرك وجوده.. إنها أول مرة يستيقظ فيها منذ أن ولد.. أراد أن يفهم كل شيء وبسرعة.. ماذا كان يفعل قبل أن يفتح عينيه الآن ؟!.. هل فعلاً كان نائماً طوال تلك الفترة التي يجهلها ؟!.. وبماذا كان يشعر وقتها ؟.. بدأ يتذكر ذلك العالم القديم الذي أصبح حلماً منذ أن فتح عينيه على الواقع الجديد.. لم يعد حلماً جميلاً، أو واقعاً يحياه في خياله.. بل لقد أصبح كابوساً هرب منه بأعجوبة حين فتح عينيه لأول مرة.. بدأت الآن خلايا جسمه تشعر بوجودها، لقد بدأت الخلايا تتواصل لتحاول إدراك هذا الواقع الجديد الذي فتح عينيه عليه الآن.. ولكن ما ذالك الشيء الذي أيقظه من نومه الأبدي؟!.. عادت ذاكرته شيئاً فشيئاً لتدرك أنها حرارة لامست بعض خلايا جسمه فأيقظته على وقع حروقها.. نظر إلى مصدرها في الواقع الجديد.. إنها شيء يلتهب.. أسماه "النار".. أدرك عن طريقه أنه كان يحلم وأن حلمه كان كابوساً أسماه "الغريزة".. وأطلق الآن في هذا الواقع الجديد اسماً على جميع خلاياه لينطبق هذا الاسم على نفسه.. إنه "البشر".. الآن أدرك واقعه بعد أن أدرك عقله.. وجد نفسه في واقع كان يغطيه بأحلامه، والآن قرر أن يواجهه.. واقع مختلف تماماً عن حياته في الحلم.. هو الآن المسيطر، وهو من سيحمي خلاياه من الإبادة، ومن سيمنحها فرصة التكاثر ليزداد حجمه.. بدأ بتفحص هذا الواقع الجديد.. هنالك شمس تضيء نهاراً.. وقمر ينوب عنها ليلاً.. سماء هائلة الكبر.. أراضي واسعة المساحة وطبيعة جبارة قادرة في أية لحظة أن تقضي على خلاياه.. وها هي بداية صراعه مع الطبيعة تأخذ أولى أشكالها.. لقد أدرك أنه كان غبيّاً عندما كان نائماً دون أن يحاول مقاومة الطبيعة.. ولكنه الآن وصل إلى مرحلة الأكثر رقياً من حيث الذكاء.. فقد استيقظ.. وها هو سيحاول مصارعة الطبيعة والواقع.. لكن هل كان بمقدوره أن يفعل ذلك ؟!.. بمعلوماته الضئيلة وخبرته البسيطة لم يكن هنالك أية قدرة لخلاياه لأن تسيطر على الطبيعة.. لقد كانت أقوى منه.. فتلقى منها الضربات الموجعة حتى تخيلها مؤلفة من كائنات أقوى منه يجب عليه طلب رحمتها لا مقاومتها.. لقد أوجد لكل مظهر من مظاهر الطبيعة قائد أسماه "إله".. منها الطيب ومنها الشرير، يتصارعون فيما بينهم وعليه أن يكون محور الصراع.. ولكي يأمن شرهم وينال عفو أخيارهم، كان لا بد له من إرضائهم.. بدأت خلاياه بتقديم غذائها لمظاهر الطبيعة ظناً منها أنها تتغذى عليه.. وبدأت أفكاره تنحو به في اتجاه التضحية ببعض خلاياه لتلك الكائنات طمعاً بإرضائها.. ومن ثم بدأ بعبادتها بشتى الطرق.. وبهذا بدأ بإيجاد الخاصة التي ميزت واقعه الجديد عن حلمه السابق.. هذه الخاصة الفريدة التي امتاز بها بالإضافة للإدراك أسماها "الدين".. وتعامل مع واقعه الجديد على أساسها.. إلى أن شعر من جديد بشيء يدفعه لفتح عينيه.. فتح عينيه لأوسع حالاتها.. حدقاته توسعت حتى ليكاد السواد يملأ القزحية.. لهاث سريع يخرج من فمه وأنفه وحتى من عينيه.. لقد اعتقد نفسه أنه واعياً.. ولكنه وجد نفسه وقد استيقظ من واقعه السابق إلى واقع جديد.. وهنا أدرك أنه كان يعيش في حلم استيقظ إليه من حلم يسبقه.. ولكن حلمه الأخير والذي كان يراه حلماً جميلاً بدأ الآن يشعر به وكأنه كابوس ثاني استيقظ منه إلى الواقع الجديد ..واقع كان يحيا فيه.. بل نائماً فيه.. والآن أدرك وجوده.. اعتقد أنه مستيقظ في السابق ولكنه كان يشاهد حلماً، وها هو الآن مستيقظ منه إلى الواقع.. الواقع الجديد.. وكما في المرة السابقة بدأت خلايا جسمه تستجمع وتتحسس الواقع الجديد.. ولكن ما سبب استيقاظه هذا.. بدأ يتذكر السبب الذي نبهه إلى هذا الواقع وفتح عينيه إليه.. إنها ثلاث خلايا من دماغه بدأت بالتنبيه لسبب يجهله.. لقد أرادت أن تفتح عينيه إلى الواقع الجديد.. ولكن ما هذا الواقع ؟!.. بدأ بمحاولة إدراكه.. إنه واقع شبيه بالواقع السابق والذي أسماه حلماً.. إنها قوى الطبيعة نفسها.. ولكن الذي تغيّر هو فهمه لها.. بل لمسبباتها.. ولمسبب وجوده فيها.. إنه شيء أوجدها كلها.. هذا هو المفهوم الجديد الذي جعله يشعر بيقظته وبغبائه السابق.. ولكن ما هذا الشيء ؟!.. إنه لغز غامض حافظ على كونه لغز في عقله لعدم قدرته على فهمه.. أسماه "آيل" هو إله ولكنه في هذا الواقع كان إله واحد.. وهو مسبب كل شيء.. لقد كان إدراكه لخطأ مفاهيمه في الحلم السابق حول كون ظواهر الطبيعة هي آلهة سبب شعوره باليقظة.. فكل تلك الآلهة لم تكن لتلبي طلباته ودعاءاته.. حتى فهي لم تكن موجودة سوى في خياله وأحلامه.. إنه الآن على أرض الواقع.. بعيداً عن الأحلام.. وهو يدرك أن مقاومة ومحاولة السيطرة على الطبيعة ستكون من خلال القناعة بما تجلبه له وذلك تحت رغبة الإله الأوحد "إيل" وبتنفيذ وصاياه.. لقد بدأ يقبل بسيطرة الطبيعة وقوتها التي لا تقهر.. فهو مهما حاول وتطور و أصبح يملك الخبرة.. فإن الطبيعة وبقدرة الإله الأوحد "إيل" تبقى قادرة على القضاء عليه.. أو على بعض خلاياه.. وها هو قد بدأ يتنعم بعبادة هذا الإله الأوحد ويطلب عونه على الطبيعة.. وبدأ يتقبل واقعه الجديد الذي يراه الآن ولا يريد أن يغلق عينيه عته أبداً.. واقع تتعايش فيه خلاياه بعلاقات ينظمها دستور الإله الأوحد "إيل".. إلى أن شعر من جديد بشيء يدفعه لفتح عينيه.. فتح عينيه لأوسع حالاتها.. حدقاته توسعت حتى ليكاد السواد يملأ القزحية.. لهاث سريع يخرج من فمه وأنفه وحتى من عينيه.. لقد استيقظ من جديد.. رغم اعتقاده أن عينيه مفتوحة، إلا أنه استطاع فتحها مرة ثانية وكأنها كانت مغلقة.. لقد أدرك أن شعوره بأن عينيه مفتوحة كان شعور كاذب في السابق.. فهو شعور النائم بأنه مستيقظ ويتحرك ولكن ذلك كله حلم.. حلم استيقظ إليه من حلم أسبق.. وهو الآن على أرض الواقع الجديد.. ما هو ؟!.. لم يعرف بعد ولكنه بدأ بأن أدرك أنه استيقظ.. ومن ثم بحث عن المسبب لاستيقاظه.. وتذكر.. إن مجموعة كبيرة من خلايا عقله المفكرة أطلقت تنبيهاتها إلى جميع خلايا جسمه تدعوها للاستيقاظ.. ولكن ما سبب هذه الدعوة من العقل المفكر.. بدأ ينظر من حوله ليفهم شيئاً فشيئاً سبب هذه الدعوة.. لم يعد يرى ذلك الواقع السابق الذي كان يراه في أحلامه السابقة.. إنه يرى الآن واقعاً يشبهه قليلاً.. ويختلف عنه بالكثير.. حوله الآن أزرار وآلات.. سيارات.. أبنية.. عقول ألكترونية.. طائرات.. ناطحات سحاب.. علم.. ولكن ما كل هذا ؟!.. ولماذا ؟!.. وما عملها ؟!.. وبدأ عقله بالإجابة لخلاياه كلها.. كل هذا هو ما صنعه عقلك أيها النائم.. وذلك لأجل خيرك ومصلحتك وبقائك.. وعملها هو السيطرة على الطبيعة !.. نعم، السيطرة على الطبيعة.. فلقد انتهى عهد الأحلام والوقائع السابقة.. فأنت الآن في واقع جديد استطعنا نحن الجزء من خلايا عقلك أن نسيطر فيه ولو جزئياً على قوى الطبيعة.. هي لم تكن آلهة.. وهي لم تكن بيد "إيل" وليس هو من سببها.. إنها واقع وُجدتَ فيه وعليك السيطرة عليه بكل الوسائل إلا بالعبادة وطلب المساعدة.. فلن يقوى على مساعدتك سوى أنت.. لقد كان هذا جواب الجزء المفكر من خلايا العقل إلى خلايا الجسم بعد أن أيقظتها على الواقع الجديد.. إنه الواقع الواقعي.. أو واقع البقاء للذي يعمل ليحصل على ما يريده.. وما يريده هنا هو السيطرة على الطبيعة.. وهكذا بدأت بقية خلايا جسم هذا الكائن بإيجاد علاقات جديدة تربطها فيما بينها لمواجهة هذا الواقع الجديد.. إلى أن شعر من جديد بشيء يدفعه لفتح عينيه.. فتح عينيه لأوسع حالاتها.. حدقاته توسعت حتى ليكاد السواد يملأ القزحية.. لهاث سريع يخرج من فمه وأنفه وحتى من عينيه.. نظر بعد أن فتح عينيه من جديد وهو متلهف لمعرفة ما هو ذلك الواقع الذي استفاق إليه، فقد اعتاد الآن على الاستيقاظ من الأحلام إلى الأحلام، والآن ما هو هذا الحلم الجديد ؟!.. لقد رأى يده تقترب من عينيه.. وتغرز أظافرها في جفونه.. تألم.. حاول منعها ولكنها ترفض الاستجابة لنداء عقله.. ومن خلال تلك الحدقات بدأ يرى يده وقد اصطبغت بالأحمر، وها هي قطرات الدم تسيل على زجاج عينيه.. إنه دمه.. وهي يده.. حاول الصراخ لكن يده الأخرى كانت قد سدت فمه بأن دخلت فيه لتنتزع لسانه من حلقه.. لقد أدرك العقل الآن أن يده تحاول جاهدة أن تطبق جفنيه المفتوحين.. ولو بدموية.. بكى دماً.. وهو يقاوم، ومن ثم أغلقهما وهو يتمنى أن يكون هذا مجرد حلم مزعج.. كابوس.. سوف يفتح عينيه بعده ليرى واقعاً آخر.. ولكنه لم يرَ سوى السواد الدموي.. تمت |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [7] |
|
عميد اللادينيين العرب
![]() ![]() |
نلتقي بعد مدة مع القصة التالية: "البناء الأم" (البحث عن الحقيقة)
تحياتي.. |
|
|
|
رقم الموضوع : [8] |
|
عميد اللادينيين العرب
![]() ![]() |
البناء الأم (البحث عن الحقيقة) كان يعيش مع أمه وأخوته.. لم يعرف قط عددهم، فهم كثر وفي تزايد مستمر.. أمه لم تلدهم، بل كانت تحصل عليهم عندما تفتح باب شقتهم.. كان الأطفال في جعبهم يتجمعون أمام الباب.. أطفال جدد يتدفقون كل يوم.. ومهمة أمه أن تربيهم حتى يكبروا.. وبدأت الأسئلة تكبر في رأسه ورؤوس أخوته الذين في عمره.. كيف نأتي إلى هذه الشقة التي لم نرَ غيرها ؟!.. وكان جواب الأم في الليالي المعتمة عندما يتجمع الأطفال من حولها غامضاًَ كغموض هذا الليل.. كانت تجلس على كرسيها الفخم.. كرسي لا يجلس عليه أحد سواها، ولا يجرأ أحد على السؤال عن سر هذا الكرسي، أو أن يحاول معرفة ماذا يحوي في داخله !!.. كانت تجلس بكل هيبة وسماحة وجه.. تتكلم بنبرة ثقة وحنان بالغين.. إن أحاديث الليل تلك كانت تريح الجميع قبل النوم.. إنها قصص ووقائع تشرح فيها كيف كانت ولم تزل تربي أطفالها الكثر.. تؤمّن احتياجاتهم، وتسهر على راحتهم.. أحاديث فأحاديث كانت تُحشى في رؤوسهم لتريحهم وتشعرهم بالأمان والجو الدافئ الحنون الذي تحيطهم به أمهم.. لكن شيئاً في عقل هذا الطفل كان يبعده عن الشعور بالراحة والأمان.. إنه ينظر إلى أخوته فيراهم صغار السن ليلعب معهم.. ينظر حوله في الشقة.. يدور قرب جدرانها.. يصغي إلى الأصوات القادمة من خارج الباب.. الباب المغلق دائماً.. إلا عند إدخال الأطفال الجدد إلى الشقة.. تابع مسيره قرب الجدران الصماء.. كان يحاول أن يبصر ماذا يوجد خلفها.. رغم معرفته الجيدة بها وبعدم قدرته على الرؤية من خلالها.. وصل إلى النوافذ.. لكنه كان يعرف أنها لا تجدي لمعرفة الخارج.. فيده كانت تصطدم بلوحة المنظر الطبيعي حين كان يحاول مدها خارج النافذة.. حين كان صغيراً كان يعتقد أن هذا المنظر بعيد جداً وعميق.. والأكثر من ذلك أنه كان يعتقده حقيقياً.. بل كان يجلس ساعات يتأمل به على أنه الخارج.. والآن وبعد أن أصبح كبيراً استطاع أن يطاله ليدرك أن لوحة تسد النافذة.. ماذا يوجد خلفها ؟!.. ماذا يوجد خلف الحائط ؟!.. ماذا يوجد خلف الباب ؟!.. أسئلة كان يدور فيها ليبدو غريباً عن أخوته، ولتشعر أمه بابتعاده عنها.. ولكن السؤال الأكبر الذي يشغله داخل تلك الشقة كان : ما هو سر هذا الكرسي ؟!.. كرسي الأم !!.. لماذا لا يُسمح لأحد بالجلوس عليه سواها ؟!.. وماذا في داخله ؟!.. حين كان الجميع نيام لم تكن عينيه مفتوحة أيضاً، ولكن عقله كان مفتوحاً ويعمل بتوتر هائل.. لم يكن يعرف شيئاً سوى هذه الشقة وهذا الكرسي.. ولكنه أراد أكثر من ذلك.. لقد كانت الأسئلة تتوقد الليلة في ذهنه أكثر من غيرها من الليالي.. فغداً سيكون قد مضى على وجوده في الشقة ثمانية عشر عاماً.. وغداً سيسمح له - إذا أراد - بالخروج من الباب إلى خارج الشقة.. ولكن إلى أين ؟ هو لا يعرف.. سيكون ذلك مسموحاً ولكن دون رضا أمه الكامل.. فذلك القانون موجود دون رضاها، وهي غير قادرة على منعه سوى بترغيبه بالبقاء وإخافته من الخروج.. 18 عاماً في الشقة تجعله حراً بالخروج منها.. لمعرفة الخارج.. الآخر.. المجهول.. ولكن أمه ستحاول منعه !!.. لماذا ؟!.. لم يكن يعرف !!.. ولكنه شاهد ما كان يحدث لأخوته الذين خرجوا وكيف كانت تحاول استبقائهم وتنجح في ذلك مع بعضهم.. ولكن هل ستنجح معه غداً ؟!.. لم يكن النوم يدخل إلى جفونه وكذلك لم تكن الأسئلة لتخرج من عقله.. أراد أن يعرف ماذا في الخارج، ولم يكن هنالك ما يفصله عن الجواب سوى ليلة طويلة لم تكن لتنتهي في عينيه.. " لا تسمع كلام الأمهات الأخريات.. لا تدخل الشقق الأخرى.. اكتفِ بالنظر إليها.. ولكن إذا أردتَ أن تريح قلبي فلا تخرج.. ابقَ معي.. ألستُ حنونة عليك ؟! " كانت تلك كلمات أمه ونظرات الاستعطاف تخرج من حدقاتها.. ولكن عينيه كانت تجيب : " أنت الأعظم حناناً.. وأنا أحبك كثيراً.. فأنت أمي !!.. ولكن يجب أن أرى الخارج.. ".. وهنا رأى في حدقاتها نظرات الاستعطاف وقد استحالت إلى نظرات حقد وتوعد خفية أخفتها بأن أغمضت عينيها وأدارت له ظهرها.. استدار هو الآخر ونظر إلى الباب.. يستطيع الآن أن يفتحه.. مدّ يده المرتجفة.. وألقى نظرته الأخيرة على الشقة.. الجدران.. النوافذ.. الكرسي.. إخوته.. أمه.. كل ما يعرفه.. واستقرت يده على قبضة الباب.. وعاد نظره ليستقر عليها هو الآخر.. إنها الآن الإجابة لأسئلته.. أو مفتاح الإجابة.. سمعت أذنيه وآذان أمه وأخوته طقطقة قبضة الباب وهي تدور.. همست أمه : " لا تفعل.. ".. لكنه فعل.. تدفق الأطفال الصغار من الباب إلى حضن الأم ليعوضوها عن ابنها الذي خرج.. أطفال جدد بحاجة إلى تربية وحنان دخلوا الشقة.. بينما خرج منها من لم يعد يريد كل هذا.. لم يعد يريد سوى الأجوبة.. لقد أصبح في الخارج.. وأراد أن يعرف ما هو هذا الخارج ؟!.. نظر من حوله فوجد أطفالاً كثر يجوبون المكان.. أطفال يريدون التربية والحنان.. ولكنهم ينتظرون أن يُفتح الباب مرة ثانية.. لم يكونوا بانتظار الباب الذي خرج منه فقط ليُفتح.. بعد أن حوّل نظره عنهم وجد نفسه على أرض تتصل بطرف منها إلى درجين.. أحدهما نحو الأسفل والآخر نحو الأعلى.. الأطفال يعجون في المكان.. في كل مكان.. على الأرض وعلى الدرجين.. ولكنهم كانوا قصيري القامة غير قادرين على بلوغ قبضة الباب، لذا فقد كانوا بانتظار أحد أن يفتح لهم الباب.. ليس الباب الذي خرج منه فقط.. بل البابين الآخرين الذين رآهما الآن أيضاً.. لقد كان يوجد في جدران هذا المكان المسمى بالخارج أبواب.. باب في كل جدار.. والجدران ثلاثة.. وأما الجهة الرابعة فهي للدرجين.. بدأ الآن بإدراك المكان.. يعرف ولو بنظرة أولى ما هو هذا الخارج.. ومن ثم بدأ الفضول يدفعه نحو البابين الآخرين.. ماذا يوجد خلفهما ؟!.. إنه كبير وقادر على أن يطال قبضات الأبواب ليفتحها.. فهل يفعل ؟!.. انتظر قليلاً في الخارج ليتماسك تماماً بعد أن وجد نفسه يتعامل مع شيء جديد ومختلف.. لقد رأى أمامه أيضاً كباراً مثله يقفون في الزوايا ويستندون على البابين الذين خرجوا منهما.. لقد كانوا خائفين مثله تماماً.. فهم لم يفهموا هذا الخارج بعد.. إنهم أطفال في كل مكان يغطون الأرض .. درجين وثلاثة أبواب في ثلاثة جدران.. ومشدوهين كبار يحاولون قدر الإمكان الابتعاد عن الأطفال.. كلهم يتصرفون بخوف من الجديد ولكن الإصرار على حل الأسئلة كان يدفعهم للبقاء في الخارج.. تجرأ أحد الكبار وحاول التقدم بعيداً عن الباب الذي خرج منه.. كان لابد له من أن يفعل شيئاً.. أن يتحرك.. ولكن صوت هرس الأطفال تحت قدمه أوقفه مكانه.. لابد له من أن يدوس عليهم ليتقدم.. ولكن سحقهم تحت قدمه كان أقوى من أن يسمح له بالمتابعة.. ارتد فوراً.. فتح الباب الذي خرج منه ورمى نفسه إلى الداخل.. لقد كان هذا حال أول من حاول الحركة والتقدم.. إن رؤية الآخرين لهذا ردّ أكثرهم إلى الجدار والعودة إلى الداخل الذي خرجوا منه.. وجد نفسه وحيداً بين كل هؤلاء الصغار.. هو لم يتحرك بعد ولكنه لم يكن يريد العودة إلى شقته.. الأسئلة التي أراد أن يجيب عليها لم تنتهي بعد.. فماذا يوجد خلف هذين البابين ؟.. نظر إلى الأرض.. إلى الأطفال.. وردد في نفسه.. ماداموا وجدوا على الأرض ليكوّموا هكذا فلا بأس بأن يموت بعضهم في سبيل معرفتي لإجابات تلك الأسئلة.. رفع قدمه وداس بها في مكان ما.. لم يعلو الصراخ.. لكن الشعور بهرس طفل كان يتخلل قدمه.. لكنه كان عنيداً.. القدم الأخرى تحركت لتشعر بشعور سابقتها.. تابع سيره وكأن شيئاً لم يحدث.. لم يعد ينظر إلى الأرض خوفاً من أن يصاب بالرعب.. بل كان يسير دون توقف نحو الباب الأقرب.. وضع يده على المقبض.. وسمع طقطقته وهو يدور .. تدفق عدد من الأطفال إلى الداخل.. لكنه بقي في الخارج يراقب ما خلف الباب.. إنها شقة أخرى تشبه شقته التي خرج منها.. جدران صماء.. نوافذ مسدودة بلوحات بيضاء.. أطفال كثر كبار وصغار.. أم وحيدة.. وكرسي.. شقة تشبه تماماً شقته سوى أنها ليست أمه والكرسي يختلف قليلاً عن كرسي أمه.. دعته تلك الأم للدخول، ولكنه تذكر كلام أمه ونصائحها بألا يدخل الشقة الأخرى وألا يسمع كلام الأمهات الأخريات.. لم يدخل.. فرؤيته للشقة من بابها كان كافياً بالنسبة له لإشباع فضوله حول هذا الباب.. بالإضافة إلى خوفه من تحذيرات أمه له.. اكتفى بالنظر ثم أغلق الباب، والتفت في الخارج نحو الباب الثالث.. وكمن يسير في مستنقع طيني، لا تهمه العراقيل – فالإجابة على التساؤلات كان الأهم بالنسبة له – تابع دهسه للأطفال.. باتجاه الباب الثالث كان مسيره.. وضع قبضته على مقبض الباب ليسمع طقطقته وهو يدور.. تدفق عدد من الأطفال إلى الداخل.. لكنه بقي في الخارج يراقب هذه الشقة الجديدة.. بالطبع كانت شقة.. جدران صماء.. نوافذ مسدودة بستائر سوداء.. أطفال كثر كبار وصغار.. أم وحيدة.. وكرسي.. هي ليست أمه والكرسي يختلف قليلاً عن كرسي أمه.. لم تَدْعه تلك الأم للدخول، فقد كانت مشغولة بمحاولة منع أحد الكبار البالغين 18 عاماً في الشقة من الخروج.. لقد بدا على عينيه العناد وبدت في عقله أسئلة بحاجة إلى إجابات.. لم تستطع منعه.. فتوعدته بالعقاب.. توجه ذلك الكبير نحو الباب ليتقابلا معاً ويغلقا الباب خلفهما.. أدركا أن كليهما شبيه بالآخر.. الأسئلة نفسها.. والرغبة للمعرفة ذاتها.. ابتسما لبعضهما.. إلى أن ظهرت علامات الدهشة على وجه الجديد في الخارج.. وا كل هؤلاء الأطفال !!.. وما هذا الخارج ؟!.. بدأ الأول بالإجابة حسب خبرته بأن هذه الأبواب هي أبواب شقق كشقته وفيها نفس الأشياء وحتى أنها تحوي أم وكراسي.. وأما هؤلاء الأطفال فلابد من أن يدوس عليهم إذا أراد التقدم.. " لا بأس بذلك " كان جوابه للتخفيف من هلع زميله.. " أنت الآن في الخارج ولابد هنا من التقدم.. ولن تسمح لخوفك من أن يمنعك عن ذلك.. ".. شد على يده وطلب منه أن يحاول للمرة الأولى.. ففعل متردداً.. كان الشعور مقيتاً بأن تدوس طفلاً مما رده نحو الباب.. لكن الأول أمسكه ومنعه من التراجع.. " لقد فعلتها مرة وبمقدورك أن تتابع من جديد.. ".. وضع الجديد ثقته بالأول وتابع خطوته الثانية.. فالثالثة.. اعتاد على الأمر.. وصلا إلى منتصف الخارج وتوقفا.. إلى أين الآن ؟.. الأبواب الثلاثة أصبحت أسئلة محلولة.. ولكن الدرجين كانا بلا إجابة بعد.. اختارا الدرج النازل لقلة الأطفال عليه.. فشعور الدهس كان مقيتاً رغم الاعتياد عليه.. نزلا على الدرج ليشعران شيئاً فشيئاً بالراحة للسير على أرض غير قابلة للهرس.. استمرا بالنزول على الدرج الدائري ليصلا إلى أرض منبسطة محاطة بجدران ودرجين أحدهما هبطا منه والآخر يتجه نحو الأسفل.. لقد كان هناك عدد من الأطفال على هذه الأرض ولكن أعدادهم كانت أقل ممن في الطابق العلوي الذي كانا فيه.. عدد من الأبواب موزعة على جدران كانت تثير فضولهما من جديد.. وضع يده على مقبض الباب الأول.. وسمعا طقطقته وهو يدور .. تدفق عدد من الأطفال إلى الداخل.. وكما هي العادة تفحّص هذه الشقة من الخارج مع زميله.. جدران صماء.. نوافذ مفتوحة إلى ضباب.. أطفال وكبار.. أم وكرسي بشكل جديد.. دعتهما للدخول.. همّ صديقه ليفعل فمنعه.. " لماذا ".. جاء جوابه بأن أمه قد حذرته من دخول الشقق الأخرى.. " ومن ثم فهي شقة كشقتك التي خرجت منها سوى أن الأم والكرسي يختلفان، فلماذا تدخلها بعد أن خرجت من الأولى.. إذا أردت أنا أن أدخل شقة فيجب أن أدخلها لأنها تمتاز بشيء ما أكثر من غيرها وأكثر من التي تربيت فيها.. ".. كان جوابه مقنعاً لصديقه لئلا يدخل.. " إذاً فلنتابع الاستكشاف ".. نحو الباب الآخر.. وشقة أخرى.. آخر وأخرى.. سلالم وطوابق أسفل فأسفل وأبواب وشقق.. إلى أن وصلا إلى باب كان مفتوحاً أصلاً.. ليس فيه أي طفل وأي كبير.. أثناء نزولهم على الأدراج كان الأطفال يقلون حتى انعدموا، والآن وفي هذا الطابق كان المكان خاوياً من الأطفال.. فقط أبوابٌ مفتوحة تطل على شقق فارغة من الناس.. كلها كانت كذلك، في كل تلك الشقق لم يكن يوجد سوى بقايا عظام.. وكرسي في كل شقة.. كرسي مختلف عن الآخر في كل شقة.. وكأن المكان كان يحوي أطفالاً وأمهات وكراسي كما في الطوابق السابقة، ولكنه هُجر ومات مَن فيه مِن بشر ولم يبقَ هنالك ليراقب الصمت سوى الكرسي.. كانت كراسي عتيقة جداً ومهترئة وفي وسط كل واحد منها في كل شقة فجوة.. كأن هنالك من مزق القماش ليصل إلى شيء كان محشواً داخل الكراسي.. دخلا إحدى الشقق واقتربا بصمت وأصوات تكسر العظام البالية تحت أقدامهما تخيّم على الجو.. اقتربا من الكرسي المثقوب.. نظرا في داخله.. ومن ثم ذهلا لما وجداه فيه.. لقد وجدا فراغاً.. لا شيء.. لم يكن ذهولهما بسبب عدم وجود شيء، ولكنه كان بسبب تخيلهما لكراسي أميهما.. ماذا يوجد بداخله حتى مزّق وسرق ؟!.. ربما كان هنالك شيء مهم في كراسي أمهاتنا !!.. " لقد نزلنا كل هذه الطوابق لنعرف أن السر موجود في الكراسي !!.. ".. قررا العودة إلى الأعلى لمعرفة ماذا يوجد في كراسي أميهما.. أثناء صعود الأدراج بدأ الأول يستفسر من الثاني رغبة بإشباع فضوله عن طبيعة أمه.. فأجاب الآخر بأنها أكثر الأمهات حناناً على الإطلاق.. نظر صديقه بتعجب ثم قال له " لكن أمي حنونة أيضاً، فكيف تعرف أن أمك هي الأكثر حناناً ؟!.. ".. – " لقد ربتني واعتنت بي طوال 18سنة.. ".. – " وكذلك فعلت أمي.. " .. بدأا يدوسان على الأطفال أثناء صعودهما.. عندها أدركا شيئاً جديداً.. كل هؤلاء الأطفال يدخلون إلى الشقق بشكل عشوائي.. لقد كانا منذ 18 سنة مثل هؤلاء الأطفال.. وبهذا كان يمكن أن يدخل أحدهما شقة الآخر لتربيه أم الآخر.. إذاً فالأمهات هنّ لسن أمهات وإنما مربيات.. نعم، فعملهم فقط هو التربية.. كلاهما تربيا.. وكلاهما نالا الحنان.. ولكن أي التربيتين أو أي الأمهات هي الأقدر على التربية ؟!.. أي الأمهات هي الأكثر حناناً ؟!.. لا بد من وجود اختلاف في تربيتهم وحنانهم لاختلافهم وعدم كونهم واحدة.. ولكن أيهما الأكفأ ؟.. لقد أدركا غايتهما.. فأثناء دهسهما للأطفال كانا يبحثان عن المربية الأقدر لتربية هؤلاء الأطفال.. كانا يبحثان عن الأقدر لينالا منها التربية الأصح.. والحنان الأكبر.. لقد تركا مربيتيهما ليبحثا عمن تتابع تربيتهما، ولكن ليس أي مربية، وإنما الأكفأ والأكثر حناناً.. لكن ومن خلال مشاهداتهما للشقق كانت كلها متشابهة.. لم يكن هنالك سبيل لمعرفة أي المربيات هي الأكفأ.. فكل مَن يخرج مِن شقة يعتقد أن مربيته هي الأكفأ !!.. بدأا نقاشهما حول المربية المثالية، والأطفال من حولهما وتحت أقدامهما.. هما الآن في الطابق الذي يحوي شقتيهما.. طابق الشقق الثلاث الأولى.. وكان السؤال الأهم في هذا المكان "ما هو دليل كفاءة المربية؟!.." لقد كانت لهفتهما للعثور على المربية المثالية عارمة لدرجة أنهنا كانا سيحاولان الحياة في كل الشقق لتجربة كل المربيات.. ولكن العقل عاد ليسيطر على العاطفة والاندفاع.. فتجربة العيش في كل الشقق كانت ستأخذ زمناً أكثر من عمريهما.. إذاً فما الحل ؟!.. كانا بحاجة إلى سهم أو مؤشر يشير إلى المربية المثالية.. كان عقلاهما هما المؤشر والحل هو لغز.. كل المربيات تعشن في شقق متشابهة.. جدران متشابهة.. نوافذ مغلقة.. أطفال من مصدر واحد.. ولكنهنّ كنّ مختلفات من حيث مثالية التربية.. ولكن هنالك الكراسي المختلفة أيضاً.. فباختلاف المربية يختلف كرسيها.. عرشها.. إنه يحمل صفاتها وحنانها في شكله.. وهنا عادت صورة رهيبة إلى مخيلتيهما.. الكراسي المثقوبة.. هنالك مَن فتحها ليعرف ما بداخلها.. وبما أن الكرسي هو سر المربية ولا يُسمح لأحد غيرها بالجلوس عليه.. فهو يحمل في أحشائه سرها.. حقيقة حنانها وتربيتها.. هنا، أضاء النور في عينيه وأطلع صديقه على هذه الحقيقة، ليشعرا فعلاً بصدقها ومعقوليتها.. ولكن ما العمل ؟!.. فهل سيدخلان إلى الشقق التي تربيا فيها ليمزقا كرسي المربية ؟!.. لم يكونا ليجرءان على ذلك.. نظر كليهما إلى الباب الثالث.. باب الشقة الثالثة.. شقة لم يربى أحد منهما فيها.. إن فتحا الكرسي الذي في داخلها فلن تكون هنالك عيون مقرّبة إليهما لتنهرهما.. عيون أناس غرباء لا تهمهما.. المهم هو معرفة الحقيقة.. ولكن المقاومة هو ما خشياه.. إذاً فليكن الغدر.. نعم.. في الليل ستكون العملية.. طال انتظارهما بين الأطفال و فوقهم.. أمامهما الباب المطلوب ويديهما على مقبضه.. الليل بدأ يسدل أجنحته على المكان.. نام الأطفال.. ونام الجميع.. إلا عقليهما.. بقيا متيقظين ليسمعا طقطقة مقبض الباب وهو يدور.. المكان مظلم لكن الأطفال النائمين على الأرض كانوا واضحين في عيونهما.. أعداد كبيرة من الأطفال والكبار مستلقين على الأرض، والمتيقظ الوحيد بينهم هو ذلك الكرسي القابع لحراسة المكان.. حتى المربية كانت نائمة قرب الكرسي.. فتحا عيونهما حتى الجحوظ.. وبدأا بالسير قدماً نحو الكرسي.. كانا يحاولان ألا يدوسا على النيام.. وأما إن اضطرا إلى ذلك فكانا يتعمدان سحق جمجمة النائم بعد أن يدوسا على فمه لئلا يصرخ.. اقتربا شيئاً فشيئاً من غايتهما.. غرزا أظافرهما في قماشه.. وبدأا بتمزيقه.. طبقة خلف أخرى.. تسع طبقات تم تمزيقها إلى أن مُزقت العاشرة والأخيرة.. وهنا ازداد جحوظ عيونهما عما كانت عليه.. لم يشاهدا سوى الفراغ.. كان الفراغ هو المحشو في الكرسي.. لا شيء.. فراغ أجوف.. أخافهما ما اكتشفاه فأعادا الطبقات العشر إلى مكانها وهمّا بالخروج والخوف يُسمع في دقات قلبيهما.. أغلقا الباب.. ولم يتنفسا بعدها.. كانا قد كتما أنفاسهما حتى خرجا.. والآن وبعد إغلاق الباب لم يعودا قادرين على استعادة أنفاسهما.. شيئاً فشيئاً عاد صدريهما إلى الحركة.. وعاد الدم إلى عقليهما.. لا شيء.. فراغ.. هذا ما أدركاه.. لقد كانت المربية في الداخل تجلس على عرش فارغ.. تربي وتمنح الحنان ولكن مصدر الحنان عندها كان فارغاً.. لقد كان لا شيء.. لم يقتنعا بما توصلا إليه.. لقد كانا بحاجة إلى جواب مقنع أكثر مما رأياه.. لقد أرادا كرسياً آخر لفتحه.. أو ربما كرسيين !!.. نظرا في عيون بعضهما وأدركا عندها أن على كل واحد منهما أن يدخل إلى شقة الآخر ليفتح كرسي مربية صديقه.. فلا مجال لأحد منهما أن يتغلب على خوفه ويفتح كرسياً كان طوال 18 سنةً يهابه ويحب الجالسة عليه.. أخذا موافقة بعضهما على تمزيق الكراسي المتبادل.. وتوجها ظهراً إلى ظهر نحو البابين الآخرين.. أيدي متعرّقة أمسكت بمقبضي البابين.. وآذان أنصتت إلى طقطقة دورانهما.. داسا على أفواه.. سحقا أدمغة.. وبدأا بتمزيق الكرسيين.. سبع طبقات مزقها أحدهما بأظافره.. في حين مزق الآخر ثلاث.. ليصلا إلى نفس النتيجة الموجودة بكرسيين مختلفين في شقتين متشابهتين.. نتيجة توقعاها وخشيا رؤيتها.. إنه الفراغ.. اللاشيء.. عادا إلى الخارج ليتصارحا بما شاهدا وليَخلُصا إلى نتيجة هي أن الكراسي الثلاثة فارغة.. العروش مجوّفة.. والمربيات الثلاث متشابهات ولكنهنّ يجلسن على فراغ.. تحطمت ثقة كل منهما بمربيته، لقد كانت المربية بالنسبة لهما الأكثر حناناً ومثالية.. والآن قد أدركا أن مثاليتها أصبحت فراغاً.. بل كانت كذلك منذ البداية.. فراغ مستور بطبقات.. لا شيء.. لا شيء سوى خيبة الأمل بمن كان مصدر الثقة والحنان.. عيون تدمع وهي تتمنى بألا تصدق كلام الصديق.. " هل أثق بكلامه حول الفراغ في كرسي مربيتي ؟!.. ".. لقد رأى كل منهما كرسيين فارغين بأم عينيه، فهل سينكر ويرفض كون الثالث فارغاً لمجرد كونه كرسي مربيته !!.. لم يرَ بعينيه ولكن ذلك كان متوقعاَ في عقله بعد كل الذي رآه من كراسي فارغة الأحشاء.. مسح دموعه وحاول مسح دموع صديقه التي جفت.. " والآن أين المربية المثالية ؟!.. ".. ظل السؤال يجوب في رأسيهما.. " هل سنحاول فتح كل الكراسي لمعرفة أي المربيات هي الأصلح ؟!.. ".. جاء الجواب محيّر في عيونهما.. " لا بد من وجود مؤشر آخر غير الكراسي يشير إلى المربية المثالية.. مؤشر موجود ولكننا لم نحاول أن نفكر فيه.. ".. أطرق في الأرض ليرى الأطفال تحت قدميه.. ومع بداية سطوع ضوء الصباح أخذ يتأمل الدرج الصاعد.. " لم نسلكه.. ".. أكوام من الأطفال تتدفق عبر هذا الدرج إلى الطابق الذي يقفان فيه.. إنه سيل من الأطفال.. كميات هائلة تتدفق وكأنها تريد أن تشير في تدفقها إلى شيء ما.. انعكس ضوء الشمس على عينيه بلمعة المعرفة.. ورفع يده مشيراً نحو الدرج الصاعد.. وصاح " بالطبع.. الأطفال يتدفقون من هناك.. إنه المنبع.. الأم.. المربية المثالية في الأعلى.. ".. نظر في عيني صديقه ليجد التخاذل فيها.. صاح فيه " هيا بنا نصعد.. ".. لكن صديقه بقي ساكناً والدموع الجافة ما تزال على خديه.. أجابه بصوت يرتجف .. - " لن أصعد.. لم أعد أتحمل دهس المزيد من الأطفال.. الدرج مليء بهم.. وبكل خطوة سنقتل العشرات.. لم أعد أستطيع.. " جحظت عينيه من جواب صديقه وعاد ليتساءل .. - " وماذا ستفعل إذاً ؟!.. ستظل هنا دون إجابة على أسئلتك ؟!.. " وبصوت خافت جاء الجواب .. - " سأعود إلى شقتي.. إلى مربيتي.. " - " ماذا ؟!.. بعد أن عرفتَ أن كرسيها فارغ.. هي ليست المربية المثالية.. " - " صحيح هي ليست المثالية، ولكنها مَن ربتني.. لا أريد المزيد من التربية.. تكفيني تربيتها وحنانها.. زمن ثم فأنا لستُ متأكداً من أن كرسيها فارغ.. " - " أنا رأيته.. ".. أجابه والعناد في عينيه .. - " أنتَ رأيته ولستُ أنا.. ربما تكون كاذباً.. " - " ألا تثق بي ؟!.. إذاً فادخل إلى شقتك وافتح كرسي مربيتك بيديك لتشاهد فراغه بعينيك.. " - " لا لن أفعل.. لقد عشت طوال 18 سنة وأنا أجهل حقيقة الكرسي.. وأعتقد أنني أستطيع أن أعيش بقية عمري دون أن أعرف سره.. على الأقل سأقنع نفسي بأنه مليء بشيء حقيقي.. ربما يكون حناناً.. ولكنني لن أحرم نفسي من الثقة بمربيتي.. " أدار الصديق وجهه وسدّ أذنيه لئلا يسمع كلاماً يرده عن تصميمه بالعودة إلى شقته.. واتجه بحزم نحو باب الشقة بينما كان الآخر يصيح وبأعلى صوته محاولاً إسماعه بقوله.. " وماذا عن الأسئلة ؟!.. الإجابات بانتظارنا في الأعلى ؟!.. ".. لكن ذلك النداء لم يجد سوى أذنا مُطلِقه لتسمعانه.. شاهد صديقه يفتح الباب ويدخل.. أُغلِق الباب.. الأبواب الثلاثة مغلقة.. لكن الدرج مفتوح.. مسح عينيه ليزيل عنها خيبة الأمل.. وبقدمين ثابتتين تسحقان الأطفال بدأ يتقدم نحو السيل.. نحو الدرج .. نحو الحقيقة كان يتجه.. درجة خلف أخرى، والأطفال بازدياد.. أصبحوا أكثر ولكن أقل حجماً.. تابع تقدمه.. الأطفال أصبحوا شيئاً فشيئاً مع صعوده خُدّجاً.. فبويضات ملقحة.. فبويضات ونطاف.. لقد أدرك أنه يتجه في صعوده نحو مصدر الولادات.. إنها الأم الحقيقية.. الدرج بعيد.. والنهاية لم تبدُ قريبة.. أعداد النطاف والبويضات في تزايد.. بدأت تغمره.. لكن وجهته نحو الأم لم تكن لتتوقف.. بدأ يدرك أنها الحقيقة الوحيدة.. الأم الوحيدة.. هي ليست حنونة.. فهي ترمي أطفالها.. ولكنها كانت الأم والحقيقة وقد قبل بها هكذا.. لم يعد يريد الحنان.. اكتفى بالحقيقة وسعى نحوها.. لكنها لم تقبله.. فالنطاف والبويضات غمرته حتى أغرقته.. بل هرسته.. هرسته كما كان يهرس الأطفال سابقاً.. لقد قتلته الأم.. قبل أن يصل إليها.. هي لم تقتله بوعيها، بل ضمته إلى صدرها حتى هرسته، فأصبح جزءاً منها.. أشعرته بأنه سعيد لأنه أصبح جزءاً من الأم.. جزءاً من الحقيقة، رغم موته في سبيلها.. شرح المفردات : - الشقق: الديانات ؛ الشعوب والقوميات والأمم .. - المربيات: رجال الدين ؛ رجال الدولة .. - الكراسي: الآلهة ؛ النظم الاجتماعية .. - الأم الحقيقية: الطبيعة والعلم .. تمت |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [9] |
|
عميد اللادينيين العرب
![]() ![]() |
نلتقي بعد مدة مع القصة التالية: أذنان.. حوافر.. وذيل (النظر من الخارج)
تحياتي.. |
|
|
|
رقم الموضوع : [10] |
|
عميد اللادينيين العرب
![]() ![]() |
أذنان.. حوافر.. وذيل (النظر من الخارج) اهبط.. أكثر.. نحن على ارتفاع 2000 ذيل عن سطح هذه الرمال.. رمال كثيرة تشكل أفقاً بعيداً.. فلنخبر العقل بوصولنا.. ولكن ماذا سنقول له اسمها ؟!.. سنقول له أنها بحر من الرمال لا نهاية له في الأفق، وحسب معطياتنا فإن كائنات تدب على سطحها.. لنقول له أننا أطلقنا عليها اسم "الصحراء".. أجل هذا جيد.. ولكن ألن نقدم له تقريراً عن الكائنات التي تعيش عليها ؟!.. سنقدمه، فنحن ندرس الآن ماضيهم وأهم الأحداث بنظرة سريعة ولن يتأخر التقرير حسب تقديري، فبدائية هؤلاء الأحياء لن تحتاج الكثير من الوقت لشرحها.. وهنا بدأت الأوراق التي تشرح طبيعة حياة تلك الكائنات تتراكم بكميات تجاوزت تقدير ذلك المراقب، تقارير خلف أخرى أثارت فضوله.. لم يكن يتوقع أن تكون حياتهم بهذا التعقيد.. أراد أن يعرف طبيعة تلك الحياة، فوضع أسنانه على الأوراق وراح يقرأها بتمعن، ومن ثم عاود مضغها في قراءته.. وعلا نهيقه لطرافة ما قرأه.. وللأمانة في سرد الأحداث التي بلغته ودفعته للنهيق من كل قلبه، سنقدم لعزيزنا القارئ ترجمة مصدقة طبق الأصول لتلك التقارير.. تقرير عن حياة كائنات الصحراء ((... يُطلقون على أنفسهم اسم "بشر"، وهم كائنات بجنسين (ذكر وأنثى) تملك أربعة أطراف دون ذيل ويملكون عضو -.. < حذفته الرقابة الجنسية >.. – و عُقيل يُحمل فوق القسم العلوي من الجسد في ما يُسمى بالرأس.. وهم يسيرون على طرفين منتصبي القامة.. يتعاونون فيما بينهم فيما يُسمى بالقبائل.. قبائل كثيرة العدد تنتشر في تلك الصحراء، بعضها لا يعرف عن الآخر شيئاً.. الغزو هو سبيلهم للعيش.. فسلب الأقوياء من تلك القبائل للضعفاء منها كان السبيل الأيسر للحياة.. الذكور تستولي على النساء المسبيّات بعد قتل ذكورهنّ و -.. < حذفته الرقابة الجنسية >.. – وظلت حالهم تسير بهذا الشكل إلى أن بدأ أحد الأفراد في إحدى القبائل بتشغيل عقله.. كان ذكياً فسرح بأفكاره السامية بعيداً عن واقع قبيلته الضعيفة الأليم.. كان يعرف تاريخ هزائمها وأراد أن يدفع عنها بشكل ما هذا الأذى.. سرح بأفكاره إلى المثاليات في طرق التعامل.. أراد أن يعلمها لجميع القبائل لتأمن قبيلته من غدرهم.. تعمّق في هذه الأفكار إلى أن سيطرت عليه كلياً فنسي السبب المباشر الذي دفعه للتفكير بهذه المثاليات، جعل هدفه منها هو كونها تمثل الخير العام لجميع الجنس البشري بالإضافة إلى خير قبيلته بالذات.. كانت أفكاره قد تجمعت وتبلورت فقرر أن يبوح بها.. صاح بأعلى صوته في وجه رجال القبيلة المسيطرة على قبيلته قائلاً: - " إن ما تفعلوه هو خطأ.. فالقتل خطأ.. والزنى خطأ.. والاستعباد هو خطأ.. " صاح بأعلى صوته، لكن ضحكهم كان هو الأعلى.. بقي يصرخ إلى أن شعر بنظرات الشر في عيونهم.. وأدرك أنهم لن يتركوا ما استمتعوا به طوال سنين وأنهم سيقتلونه لمحاولاته منعهم.. فهرب.. تقوقع على ذاته وحيداً في بقعة قريبة من بقعة قبيلته في الصحراء وأخذ يطور أفكاره.. زادها عمقاً ومنهجية وأخذ يوجد الحجة القوية التي ستقنع الجميع بتلك الأفكار المثالية.. وبلحظة دهاء عظيم أدرك الحل، فغاص في الرمال وأخذ يكوّن بيديه من تلك الرمال عصاً.. هي ليست عصاً عادية.. بل كانت عصا ساحر.. نعم.. فهي سوداء اللون وفي طرفيها نهايتين بيضاوين.. عصاً ذات قدرات عجيبة.. إنها بالطبع تملك تلك القدرات، فهي عصا ساحر.. عاد أدراجه نحو قبيلته والقبيلة المسيطرة عليها وهو واثق من نفسه ومن تلك الأفكار التي يحملها في رأسه، ومن تلك العصا السحرية التي تحملها يده.. حين وصل خيمة قائد القبيلة المسيطرة توجه بكلامه وعصاه نحو وخاطبه قائلاً: - " لقد أرسلني إليك "الشيخ الكبير".. " - " ومن هو هذا الشيخ الكبير ؟!.. " - " إنه شيخ كل هذه الصحراء.. إنه الأقوى فيها.. إنها ملكه، وهو الآمر الناهي على سطح هذه الرمال.. " علا الضحك في الخيمة واستلقى جميع من فيها أرضاً مغشيين ضحكاً.. ضحك الجميع عدا حامل العصا.. الذي عاد إلى الكلام: - " لقد أعطاني "الشيخ الكبير" هذه العصا لتكون دليلاً على سلطانه على كل الصحراء ودليلاً على قوته الخارقة.. لوّح بالعصا وإذ بالعجائب السحرية تتراءى أمام أعينهم الواحدة تلو الأخرى.. فها هي الأرانب تقفز في كل مكان.. الحمائم تتطاير في أرجاء الخيمة.. والثعابين تزحف فوق الرمال متجهة نحوهم.. صاح قائد القبيلة: - " أوقفهم، فلقد أدركنا عظمة قدرات هذا "الشيخ الكبير".. ولكن ماذا يريد منا ؟" وبحركة من يده الملوحة بالعصا أوقف كل هذه الحيوانات ومن ثم أخفاها.. وقال بكل عظمة وفخر بلهجة الآمر: - " إنه يطالبكم بإطلاق سراح قبيلتي التي تستعبدونها.. " تبادل القائد مع نفسه وأتباعه نظرات الحيرة.. لكن الخوف كان يتملكهم.. فقرر القائد إطلاق سراح العبيد .. خرج حامل العصا إلى قبيلته ليسوقهم نحو حريتهم.. بسعادة تبعوه.. بعجب شاهدوا أعاجيبه وأسحار عصاه.. وبإنصات سمعوا كلامه عن " الشيخ الكبير" وعن الأفكار المثالية التي راح يرغمهم على تنفيذها في حياتهم خوفاً من غضب "الشيخ الكبير" ملك الصحراء عليهم.. لكنهم ظلوا ضعفاء.. طالبوه بالقوة لقبيلتهم فأجاب: - " لقد أرسلني إليكم "الشيخ كبير" لكي يطالبكم بإطاعته وتنفيذ أفكاره المثالية.. فإن أطعتموه ونفذتموها ونشرتموها بين القبائل فإنه سينصركم عليهم، وهو يعدكم بإرسال القائد الذي سيقودكم إلى النصر لإقامة القبيلة الكبرى لكم.. القبيلة المسيطرة.. قبيلة تعيش على أرض الصحراء تحت سلطان "الشيخ الكبير".. " وهنا أخذت مشاعر القهر التي عانتها قبيلته تظهر في كلامه على شكل آمال بالسيطرة وخلق القبيلة العظيمة التي تُرضخ جميع القبائل الأخرى لها.. ونتيجة اندفاعه في الكلام النابع من شعوره بالقهر أخطأ في تقدير عواقب كلامه فقال: - " إن "الشيخ الكبير" ولفخره بكم لكونكم أول قبيلة دخلت تحت لوائه فإنه سيمنحكم شرف السمو عن القبائل الأخرى بجعلكم "قبيلة الشيخ الكبير المختارة" والمفضلة إلى قلبه من بين كل القبائل الأخرى.. لكم سيمنح الصحراء لتعيشوا عليها خاضعين لسلطانه الكبير.. سيمنحكم كل خيراته الصحراوية، فأنتم قبيلته المختارة.. اخضعوا كل القبائل الأخرى لسلطانه ولأفكاره، وهو سيجزي الخير لكم بإرسال القائد الكبير المنتصر الذي سيقيم "قبيلة الشيخ الكبير المختارة" ويجعلها أقوى القبائل.. " ارتاحوا لكلامه.. وأدهشتهم عصاه السحرية.. فأطاعوا كل ما قاله.. إلى أن مات وعصاه.. لقد كان فعلاً "رسول الشيخ الكبير" .. أخذوا بنشر أفكار "الشيخ الكبير".. وارضخوا العديد من القبائل لتدخل تحت سلطانه.. كبرت رقعة أتباع "الشيخ الكبير" في تلك الصحراء ولكنهم لم ينشروا أفكاره على كامل الصحراء.. فالكثير من القبائل كانت تجهل كل شيء عن هذا "الشيخ الكبير" .. ظل حالهم هذا مدة من الزمن إلى أن بدأ أحد الأفراد في إحدى القبائل بتشغيل عقله.. كان ذكياً فسرح بأفكاره السامية بعيداً عن واقع قبيلته الخاضعة لسلطان "الشيخ الكبير".. كانت له أفكاره الأكثر سمواً من سابقه.. أراد أن يعلمها للقبائل لكي تزدهر حياتهم.. حاول في البداية الصراخ بتلك الأفكار، لكن الآذن كانت مغلقة عنها.. تنسّك في تلك الصحراء وبدأ يزيد من عمق أفكاره ومن منهجيتها.. أخذ يوجد الحجة القوية التي ستقنع الجميع بتلك الأفكار المثالية.. وبلحظة دهاء عظيم أدرك الحل.. غاص في الرمال.. أخذ يدفن رأسه بها ليستمد منها طاقة رهيبة.. إنها طاقة مغناطيسية منحته قدرة التنويم المغناطيسي والتأثير النفسي العميق التي بدت شديدة الوضوح في عيناه.. أضافها إلى ذكائه ليكون قادراً بهما معاً أن يقنع الناس بأفكاره.. عاد إلى أرض قبيلته وبدأ كلامه فيهم بقوله: - " يا قوم ..لقد أرسلني إليكم "الشيخ الكبير".. أنا مَن وعدكم به لإقامة قبيلته العظمى.. قبيلة عظمى ليس بقوتها وإنما بأفكارها ومحبتها للبشر.. إنه يطلب إليكم أن تحبوا الجميع حتى أعدائكم فبهذا تصبحون أبنائه بحق وقبيلته المختارة.. " علا الضحك في المكان، وأخذ الجميع يسخرون منه، فقائدهم الذي وُعدوا به كان قوياً قادراً على إقامة قبيلة "الشيخ الكبير" المختارة بالقوة لا بالمحبة .. لكن شموخه وصلابته لم يهتزا لضحكهم، كان بقدراته الذكائية الكبيرة وبقوته في التنويم المغناطيسي واثقاً من قدرته على إقناعهم بصدق كلامه، لمعت تلك الرمال في عينيه، وما هي إلا حركات بسيطة من يديه ونظرات ثاقبة من عينيه لتجعل الرمال ترتفع طوعاً لإرادته وتهدأ تحت صوت أوامره.. الرياح أطاعته وحتى السراب في الصحراء كان يُسيّر بيديه.. أذهلهم وخفف من ذهولهم بقوله: - " بقوة "الشيخ الكبير" التي مُنحت إليّ أقوم بتلك الأشياء والعجائب.. أنتم لم تدركوا بعد عظمة سلطان "الشيخ الكبير".. إنه قوي أكثر مما رأيتم.. هو عظيم أكثر من عظمة هذه الصحراء.. وحبه يفوق قبيلتكم فقط، فهو يمنح حبه لكل قبائل الصحراء.. إنه قادر على كل شيء فهو يشفي السقيم بتلك القوة التي منحني إياها ".. وما هي إلا نظرات من تلك العينين حتى بدأ المرضى بالشفاء.. لقد صعق الجميع.. وذهلوا بالعجائب فآمنوا بسلطان "الشيخ الكبير" وبأن هذا الذي أمامهم كان رسولاً منه.. وهكذا رأى الذهول في عيونهم فشعر بعظمة ذاته الخارقة.. فبدأت أفكاره تنحو به باتجاه مجده الذاتي بعيداً عن إيصال تلك الأفكار السامية حول المحبة.. وهنا أخطأ بتقدير عواقب كلامه فقال: - " لكي تعرفوا ماهيّة "الشيخ الكبير" فيكفيكم أن تعلموا أنه يطلب منكم أن تحبوا بعضكم وتحبوا الآخرين لأنه محبة.. إنه المحبة بحد ذاتها.. وكذلك فهو ليس بواحد.. بل هو ثلاثة.. إنه أبٌ وصديق روحه وابن الأب الذي هو أنا.. نحن الثلاثة نكوّن هذا "الشيخ الكبير" الذي يملك الصحراء ويفرض سلطانه عليها محبة بساكنيها.. " دارت الشكوك في عقول بعض من سامعيه.. فهو ليس بذلك القائد المنتصر الذي انتظروه.. وكلامه يغاير كلام "رسول الشيخ الكبير الأول" حول حقيقة "الشيخ الكبير".. لم يشاءوا أن يخسروا أحلامهم بتحقيق "قبيلة الشيخ الكبير المختارة" ليسيطروا على الصحراء، فقرروا قتله.. وفعلوا.. قتلوه رغم قوته المغناطيسية التي ماتت معه.. لكن مَن صدقه وآمن بعجائبه من أبناء القبيلة قرروا نشر أفكاره بين كل القبائل الأخرى.. فلتلك القبائل الحق في أن تنعم بسلطان "الشيخ الكبير".. وفعلاً، دخلت العديد من القبائل تحت لواء "الشيخ الكبير" وذلك بجهود أتباع "الرسول الثاني للشيخ الكبير" وبأفكاره السامية.. ولكن الكثير من القبائل الأخرى كانت ما تزال تجهل كل شيء عن هذا "الشيخ الكبير" .. ظلت الحال هكذا مدة من الزمن إلى أن بدأ أحد الأفراد في إحدى القبائل بتشغيل عقله.. كان ذكياً، فسرح بأفكاره السامية بعيداً عن واقع قبيلته البدائية الهمجية.. سمع عن القبائل التي رضخت لسلطان "الشيخ الكبير" وعلم الكثير عن أفكار الرسولين.. شعر بأنه يملك أفكاراً أكثر سمواً من سابقيه.. وأراد أن يعلمها لقبيلته ليغيّر حالهم الهمجية إلى حالة أكثر أخلاقية ومثالية.. حاول في البداية الصراخ بتلك الأفكار، لكن الضحك كان أعلى من صوته، ولكنه تابع الصراخ إلى أن شعر بالعيون تنهره وتضمر له الشر، فهم لن يتخلوا عن متعهم ولو اضطروا إلى قتله.. فهرب.. تنسّك في تلك الصحراء وبدأ يزيد من عمق أفكاره ومن منهجيتها.. بحث عن الحجة التي ستقنع الجميع بتلك الأفكار المثالية.. وبلحظة دهاء عظيم أدرك الحل.. غاص في الرمال وأخذ يكوّن بيديه من تلك الرمال جهاز لا سلكيّ.. نعم، إنه هاتف لا أسلاك له.. عاد أدراجه نحو قبيلته وهو واثق من نفسه ومن تلك الأفكار التي يحملها في رأسه ومن جهاز اللاسلكي الذي في يده.. وبدأ كلامه مخاطباً السامعين: - " يا قوم.. لقد أرسلني إليكم "الشيخ الكبير".. " تسائل البعض: - " ومن يكون هذا "الشيخ الكبير" ؟!.. " - " إنه شيخ كل هذه الصحراء.. إنه الأقوى فيها.. إنها ملكه وهو الآمر الناهي على سطح هذه الرمال.. " علا ضحك الناس من حوله.. استلقى الجميع مغشيين ضحكاً.. ضحك الجميع عدا حامل اللاسلكي.. الذي عاد للكلام : - " لقد أعطاني "الشيخ الكبير" هذا الجهاز ليخاطبكم من خلاله.. ويثبت لكم أنه سلطان الصحراء.. إنه سوف يكلمني عن طريق هذا الجهاز، وأنا سأنقل لكم كلامه.. " وضع يده على الجهاز ومدد اللاقط (الهوائي) ومن ثم بدأت الأضواء، الأصوات والإشارات غير المفهومة تخرج من الجهاز.. وضع إذنه عليه وبدأ بالنطق بكلام غاية في الوضوح والغرابة.. كلام منسّق كأنه شعر عظيم.. كان أوله التهديد.. نعم، جاء الوعيد.. فلو أن أبناء هذه القبيلة وكل القبائل الأخرى لم يرضخوا لسلطان "الشيخ الكبير" فإنه وبكامل قوته الصحراوية سيرسل جيوشه الرملية الجرارة لتسحق الجميع.. كل من لم يرضخ سيموت تحت وطأ أقدام جيشه الجرار.. ومَن ثم جاءهم كلام الإغراء.. نعم، جاء الوعد لهم.. فلو أن أبناء هذه القبيلة وكل القبائل الأخرى رضخوا لسلطان "الشيخ الكبير" وآمنوا بقدراته فإنه سوف يمنحهم كل الصحراء ليستمتعوا بخيراتها.. !! .. كلام خلفه كلام كان يخرج من فم "الرسول الثالث للشيخ الكبير" ولكنه ليس أي كلام، بل كلام عظيم وحكم وأفكار مثالية منسّقة تنسيق لا يقدر عليه البشر العاديون.. لابد أنه كان يخرج من جهاز اللاسلكي وهو أصلاً يصدر من فم "الشيخ الكبير".. اقتنع الأغلبية خوفاً، وآمن البقية أملاً بالسعادة.. رضخت القبيلة لسلطان "الشيخ الكبير" وبقوتهم وهمجيتهم أرضخوا العديد من القبائل الأخرى لسلطانه.. سار كل شيء كما تمنى "الرسول الثالث" وخطط.. والآن وبعد أن شعر بعظمته، وتخلله الشعور بالدهاء العظيم، قرر أن يحطم مبادئ وأفكار الرسولين الأولين لينال وحده المرتبة العليا بين الرسل، فقال عن كلام اللاسلكي : - " إن "الشيخ الكبير" ليس ثلاثة كما قال لكم "الرسول الثاني" وهو ليس ابنه.. وكذلك فالشيخ الكبير لم يميز قط قبيلة عن أخرى كما قال لكم "الرسول الأول" فسكان الصحراء كلهم أبنائه.. " .. ومن ثم حين وجد أن الجميع قد صدقوا كل ما يقوله ويخرج من فمه ترجمة عن اللاسلكي، قرر أن ينال بعض المتعة لذاته.. وهنا أخطأ بتقدير عواقب كلامه المنافي لما أقره الرسولان السابقان، فقال عن كلام اللاسلكي : - " إن "الشيخ الكبير" يسمح لكل روح ذكرية في إنسان مذكر أن تستغل لمتعتها - ولخير الإناث – أربعة أرواح أنثوية في أناس إناث.. وأما بالنسبة للرسول الثالث فقد سُمح له بالزواج من أكثر من هذا العدد لأنه ليس إنساناً عادياً.. !! " سمع الجميع هذا الكلام فأعجبهم كذكور وأرضخهم كإناث.. أيدوه بكل سعادة على اعتباره نعمة من نعم "الشيخ الكبير" عليهم.. ومن ثم، وبعد الانتصارات والمتعة، مات "الرسول الثالث للشيخ الكبير" ومعه جهاز اللاسلكي.. وأخذ أتباعه من القبائل بنشر أفكار "الشيخ الكبير".. وارضخوا العديد من القبائل لتدخل تحت سلطانه.. كبرت رقعة أتباع "الرسول الأول" أو "الثاني" أو "الثالث".. كنهم لم ينشروا تلك الأفكار على كامل الصحراء.. فالكثير من القبائل كانت وما تزال تجهل كل شيء عن هذا "الشيخ الكبير".. )) وفي نهاية هذه الترجمة المصدقة حسب الأصول لتلك التقارير يوجد خاتم الترجمان المحلف وهو عبارة عن بصمة حافر .. أما الآن عزيزي القارئ لنعود إلى ذلك الناهق من كل قلبه.. نعم، إنه مَن مضغ التقارير في قراءته.. فعلا نهيقه لطرافة ما قرأه .. تمالك نفسه شيئاً فشيئاً ونهض عن الأرض على قوائمه الأربعة وأرسل تلك التقارير إلى العقل.. وقف أمام النافذة يراقب تلك الصحراء من الأعلى وابتسامة السخرية تعلو على شفاهه.. انتظر قليلاً إلى أن جاءته أوامر العقل بما يلي : - " فلنهبط على هذه الصحراء ونُطلع أحد هؤلاء البشر على حقيقة الأمر ليتولى بدوره توعية بقية الكائنات هناك.. " صاح المراقب بالطاعة.. وأمر بإنزال المركبة على الرمال.. هبطت وقد أثارت الرمال من حولها ليراها بشريّ كان يجلس خارج قبيلته يسرح في أفكاره السامية.. لم يصدق ما يراه.. مسح الرمال عن عينيه ليشاهد مركبة تسمّرت أمامه.. فُتح بابها.. وبقيت ساكنة.. دفعه الفضول لمعرفة حقيقة أمرها للدخول.. فدخل.. في الداخل رحّب به المراقب وبشّره بأنه الشخص المختار لمعرفة الحقيقة ونقلها إلى قومه وإلى كل سكان الصحراء.. فرح هذا المفكر ولمعت المعادن في عينيه، وضع ثقته بمخاطبه ليعرف المزيد عن هذا المراقب وعن حقيقته.. كان تواقاً إلى المعرفة والحقيقة.. حقيقة "الشيخ الكبير"، فهو وقبيلته من الخاضعين لسلطانه.. وها هي الفرصة تتاح أمامه لمعرفة الحقيقة الكلية عن طريق كائنات أرقى منه.. وبنظرات الشوق خاطب المراقب كي يبدأ بإيصاله إلى الحقيقة.. نهق المراقب قليلاً ومن ثم أمر بإطلاق المركبة.. لم تنطلق إلى الأعلى بل إلى الأسفل.. بدأت تدور حول نفسها وتحفر في الرمال.. شيئاً فشيئاً بدأت تغوص.. غطتهم الرمال.. بسرعة غاصوا إلى أن وصلوا إلى طبقات سحيقة، ومن ثم عاودوا الصعود ببطء.. وقف المراقب أمام النافذة ومعه البشري وبدأ يشرح له .. - " هل ترى هذه الطبقة من الرمال ؟.. لقد عاش عليها في غابر الزمان بشر مثلك، تجمعوا في قبائل.. لقد خضعوا لسلطان مجموعة من الشيوخ الوهميين أشهرهم كان : "آشور"، "رع"، "آمون"، "أتون"، "عشتار"، "أوزيس"، "أوزيريس"، "بعل"، "اللات"، "العزة" و"آيل".. كل البشر وقتها كانوا يعتقدون بوجود هؤلاء الشيوخ، ولم يعرفوا غيرهم قط.. ولكنهم ماتوا ودُفنوا تحت الرمال، ونعرف نحن الآن أن شيوخهم كانت كاذبة ! " تابعوا طريقهم في الصعود إلى طبقة أخرى.. ومن ثم عاود الشرح : - " هل ترى هذه الطبقة من الرمال ؟.. لقد عاش عليها في غابر الزمان بشر مثلك، تجمعوا في قبائل.. لقد خضعوا لسلطان مجموعة من الشيوخ الوهميين أشهرهم كان : "أورفوس"، "زوس"، "هيرا"، "أبولو"، "أريس"، "أثينا"، "أفروديت"، "مينيرفا"، "مارس" و"جوبيتر".. كل البشر وقتها كانوا يعتقدون بوجود هؤلاء الشيوخ، ولم يعرفوا غيرهم قط.. ولكنهم ماتوا ودُفنوا تحت الرمال، ونعرف نحن الآن أن شيوخهم كانت كاذبة !! " ومن ثم تابعوا طريقهم في الصعود عبر طبقات وشيوخ.. إلى أن وصلوا إلى سطح الرمال.. حيث كان الشرح : - " وأنتم هنا تعيشون وتخضعون لسلطان "الشيخ الكبير"، لقد أدركتم أنه الشيخ الوحيد الصحيح، وهو موجود منذ الأزل، وهو مالك كل هذه الصحراء !!! " عاودت المركبة الارتفاع طيراناً في الهواء.. ارتفعوا عن سطح الصحراء.. ليشاهدوا مساحات واسعة من الرمال تمتد أمامهم، وعليها بقع بشرية من القبائل.. وتابع الشرح : - " هل ترى الآن كل شيء من الأعلى ؟.. ها هي مجموعة القبائل الخاضعة لسلطان "الشيخ الكبير" وهم من أتباع "الرسول الأول".. وها هي مجموعة ثانية خاضعة لسلطانه من أتباع "الرسول الثاني".. وها هي الثالثة من أتباع "الرسول الثالث".. ولكن ماذا ترى خارج نطاق هذه المجموعات الثلاثة ؟.. هل ترى تلك الجماعة ؟.. إنهم قد نصبوا من بينهم شيخاً خضعوا لسلطانه اسمه "بوذا".. وهذه الجماعة شيخهم اسمه "كونفوشيوس".. وهؤلاء "زارادشت".. وهؤلاء ما يزالون يأكلون لحوم البشر ويخضعون لسلطان الحجارة والخشب..!" أخذ البشري يحملق بعجب فهو يرى الصحراء بوضوح لأول مرة.. لقد عرف كل شيء عن جميع سكانها.. ظل مشدوهاً إلى أن قطع تفكيره المراقب قائلاً : - " والآن ما رأيك بـ"الشيخ الكبير" ؟!.. هل هو موجود حقاً ؟!.. " نظر البشري إليه متعجباً والسؤال ما يزال يتردد كالصدى في عينيه.. عاد المرقب للإجابة : - " إنه شيخ.. يرسل ثلاثة رسل بأفكار مختلفة.. الأول يتحدث عن قبيلة مختارة للشيخ رغم أنه عادل وكل البشر عنده سواء.. والثاني يصف نفسه بأنه ابن الشيخ، وأن الشيخ هو ثلاثة.. رغم أن الرسول الأول تحدث عن شيخ وحيد.. والثالث يتحدث عن سماح "الشيخ الكبير" باستغلال أربعة أرواح مؤنثة لمتعة روح مذكرة واحدة، ولا يسمح للروح المؤنثة أن تستغل لمتعتها سوى روح ذكرية واحدة، رغم أن هذا لم يكن وارداً في كلام الرسولين السابقين.. ورغم معرفتنا بأن "الشيخ الكبير" يساوي بين الأرواح باختلاف جنسها لأنه عادل.. إنه نفس "الشيخ الكبير" ولكن بآراء مختلفة وثلاثة رسل ناقضوا بعضهم وأنكروا بعض كلام الآخرين.. ومن ثم، فهذا الشيخ العظيم هو سلطان الصحراء كلها وله نفوذ وقوة عظيمين، فكيف يسمح للقبائل البائدة بأن تخضع لسلطان شيوخ زائفة دون أن يعلمهم بوجوده وبوجوب خضوعهم لسلطانه.. وكذلك تلك القبائل الحالية التي لم تسمع به وبسلطانه وهي تخضع لسلطان غيره.. كيف يسمح وهو سلطان الصحراء والقادر على كل شيء بألا يخضعوا لسلطانه دون أن يرسل إليهم مَن يُعلمهم بوجوده.. أم أن عدم وجوده هي الحقيقة ؟! " وبعينين مشدوهتين جاء جوابه : - " ولكن ألا يمكن أن يكون موجوداً وأرسل رسله لإعلامنا بوجوده، ومهمتنا إعلام بقية القبائل بذلك.. " - " إذا كان موجوداً فأي الرسل هو الأصح ؟ فثلاثتهم تناقضوا في الكلام عنه رغم أنه ثابت لم يتبدل !.. " وجاء جواب البشري بثقة : - " إن الرسول الذي أتبعه أنا هو الأصح لأن كلامه هو الأكثر منطقية " - " ولكن كلام الرسولين الآخرين منطقي أكثر بالنسبة لمن يتبعوهما.. وكذلك فكلام "بوذا" منطقي أكثر من كلام أي من الرسل الثلاثة بالنسبة لأتباعه.. أنت تقول عن كلام رسولك أنه منطقي أكثر من غيره لأنك تتبع أفكاره، ولكن هذا لا يجعله منطقي بالنسبة لغيرك.. المنطق يقول بأنك يجب أن تتجرد عن كونك تابع لأفكار أحدهم.. وانظر إلى الصحراء من منظور المحايد أو المراقب عن بعد.. سترى بأن الجميع كانوا يحملون بعض الخطأ في أفكارهم، والحقيقة الكبرى هي أن هذا "الشيخ الكبير" لم يكن سوى وسيلة لإيصال هذه الأفكار.. فالحقيقة إنه لم يكن موجوداً قط.. " نظر البشري في عيني مخاطبه الذكي.. فوجد نفسه أمام ذكاء ومنطق متناهيين أوصلاه إلى الحقيقة.. شعر بنفسه وقد أصبح ذكياً مثله بمعرفته الحقيقة.. ومن ثم تبسم المراقب وخاطبه : - " أنت الآن أذكى بني البشر، ولكي تحافظ على ذكائك سوف نزودك بما نملك نحن زيادة عنكم أنتم البشر.. إنها أشياء ثلاثة تجعلك تحمل صفاتنا.. الأول هو الأذنين الطويلتين.. فهما ستمنحانك القدرة على سماع أصوات وأفكار جميع القبائل الموجودة على الصحراء، لتعرف أن غيرك لا يخضع لسلطان شيخك، وهذا سيدفعك لتدرك أنه مادام الجميع ليسوا متفقين فجميعهم على خطأ.. والشيء الثاني هو حوافر أربعة.. فحين تدوس بها على الرمال ستذكر أنه يوجد تحت أقدامك قبائل بائدة تحولت إلى رمال، هذه القبائل كانت تخضع لسلاطين شيوخ غير موجودين كما كنت تفعل تماماً قبل أن نخبرك بالحقيقة.. والشيء الثالث هو الذيل.. بوجوده على مؤخرتك سوف تذكر بأنك قد تطورت من الحيوانات، وأنك لست من نسل الشيوخ.. إنها ثلاثة أشياء.. تُسمعك واقع القبائل الخاطئ، وتحسسك بحال القبائل البائدة الخاطئ.. وتشعرك بأن جزء منك هو حيوان تطورتَ عنه.. " عندها، بعد أن أصبح البشري الذكي مالكاً لهذه الأشياء الثلاثة، بل وأصبحت جزء من تكوينه الجسدي، شكر المراقب على كل ما أعطاه إياه.. نهقا معاً.. ومن ثم لعقه لعقة الوداع، هبط من المركبة.. ووقف يراقبها وهي تعلو عن رمال الصحراء ملوحاً لها بذيله الجديد.. اتجه نحو قبيلته وراح يعدو نحوها على قوائمه الأربع وحوافره تحتك برمال الصحراء التي منحته القوة.. وصل البشري إلى قبيلته وبدأ يصيح بأعلى صوته وهو يتكلم عن الحقيقة التي يعرفها، لكن صوت الضحك كان أعلى من صياحه.. توقف عن الصياح خجلاً.. لم يكونوا يضحكون من أفكاره فقط.. فلقد سمعهم يقهقهون قائلين : " إنه حمار.. !!!..." تمت |
|
|
|
|
![]() |
| مواقع النشر (المفضلة) |
| الكلمات الدليلية (Tags) |
| الإلحاد, الإلحاد، قصص, الواحد, واحد |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه
|
||||
| الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
| دين واحد ،، معتقد واحد ،، هو من شوه كل شيء لـآ تسألوني عنه ! | المنهج التجريبي العلمي | العقيدة الاسلامية ☪ | 585 | 03-08-2025 01:32 PM |
| دين واحد ،، معتقد واحد ،، هو من شوه كل شيء لـآ تسألوني عنه ! | المنهج التجريبي العلمي | مواضيع مُثبتةْ | 2482 | 02-14-2020 07:59 PM |
| الاكتشافات العلمية في القرن الواحد والعشرين | الأسطورة | العلوم و الاختراعات و الاكتشافات العلمية | 0 | 01-25-2019 01:34 AM |
| نظرية الكترون الواحد | امير الملحدين | حول المادّة و الطبيعة ✾ | 10 | 12-14-2015 06:59 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
diamond