هكذا كان الحال مع أحد منظري الفاشية جورج سوريل في كتابه (أوهام التقدم) مهاجماً ديكارت و ناعتاً إياه بالدجّال مفضلاً باسكال المؤمن، الذي يعتبره منتصراً على ديكارت. يقول تلميذ سوريل إدوارد بيرث : "بهزيمة ديكارت هزمت العقلانية، تلك العقلانية التي اخترعت لدحض المعتقدات المسيحية و لتبديل الدين بمفهوم علمي للعالم، و هو الشيء الأكثر بلاهة الذي عرفته البشرية على مر القرون". يقول موسوليني: " إن عصر الفاشية سيرى نهاية العمل الفكري، و نهاية للمثقفين، هؤلاء العقيمين، و الذين هم تهديد للأمة." ألا يذكرنا هذا بالمنظرين الإسلاميين، يمدحون الغزالي، و يذمون ابن رشد؟
إن ما هو أكيد أن العقل الجبري هو التعبير السيكولوجي لطبقة ما في ظروف اجتماعية و تاريخية محددة. إن نجاح إيديولوجية ما مرهون بكون هذه الأيديولوجية تحمي مصالح الطبقة المسيطرة في المجتمع. فكان نجاح العقل الجبري بسبب كونه يحمي مصالح الطبقة الإقطاعية العسكرية الحاكمة في ذلك الوقت.
إن الطبقة التي اعتنقت الفكر الإسلامي اليوم هي البرجوازية الصغيرة التي وجدت نفسها تنهار نحو الطبقة العاملة. إن البرجوازية الصغيرة هي ضد كل تطوّر، فكل تطوّر بالنسبة لها، يجري ضد مصالحها، فلا ترفض الماركسية و حسب و لكنها ترفض حتى الدّاروينية. الإسلاميون يرفضون الفكر المادي، لأن الفكر المادي يقول بالتهام الرأس مال الكبير على الصغير، و هذا يعني فنائهم. يغتالون الفكر الحر، لأنه يتفوّق عليهم، و لأن وضعهم التاريخي بحسب الفكر المادي الحر يقول بفنائهم.
يعطي العقل الجبري للخرافة أهمية كبرى. لكن لماذا؟
إن الفكر الإسلامي ليس مجرد موقف تتخذه الفئات الرجعية للدفاع عن مصالحها، و إنما أيديولوجية توجد آثارها بين كل طبقات المجتمع. تستمد هذه الأيديولوجية غذائها من انخفاض مستوى الوعي السياسي، و تراث التخلف الطويل، الانتاج الحرفي و الملكية الصغيرة، تدني مستوى الثقافة، حداثة الأسلوب العلمي،...إلخ. هذا يعني أن العقل الجبري يخاطب فئات اجتماعية غير متجانسة، لكل منها تطلعاته الخاصة. فكان لا بد من لغة واحدة تجمعهم، ألا و هي الخرافة. و طبعاً لا ننسى أن العقل الجبري يخاطب الإيمان و لا يخاطب العقل في اللحظة التي ينطفئ فيها العقل، يسهل العبث بالحقيقة و المنطق. و إذا استيقظ العقل يوماً نقمعه بالنص المقدس، الذي لا يجوز النقاش فيه ( إن هذه الحقيقة حقيقة، لأنها موجودة بالقرآن). طبعاً فالخطاب الجبري موجه لأناس متعبين، حانقين على أوضاعهم. فبعد مرحلة معينة من المعاناة، يتوقف عقل الإنسان عن التفكير بمنطق و عقلانية، يتوقف عن الاستعانة بالمنطق ليشفي أوجاعه، يفقد الأمل بأنه يستطيع الخلاص بنفسه من آلامه. إنه ينتظر المعجزة. ينتظر المخلص، أو المهدي المنتظر.
لهذا يقدم العقل الجبري نفسه دائماً كدين جديد، أو على أنه دين الحق، أنا الحق و الجميع على كفر و ضلال. إن أصل الدين لدى الإنسان البدائي هو الخوف. إن يأس الإنسان البدائي أمام قوى الطبيعة التي تذهله و ترهقه. إن الإنسان في منطقتنا يشعر دائماً بوضاعته و عجزه، فهو يواجه بحاملات الطائرات الهائلة، و القوة الجبارة، التي تستطيع أن تفني الآلاف في رمشة عين، إن هذه الظروف تمتص منه كل طاقة على التفكير و كل شعور بالكبرياء، إن هذه الظروف بدلاً من أن تعطي الإنسان منهجاً للتفكير، تسحقه، و تجعله في حيرة و يأس من أن يصدر حكم على أي شيء.
إذا كان العقل الجبري يلعب دوراً هاماً في تطور مجتمعنا، فلا يجب أن ننسى أنه هو أيضاً مخلوق في البداية من ظروف هذا المجتمع.
تحياتي للجميع...
|