![]() |
|
|
|
رقم الموضوع : [1] |
|
عضو برونزي
![]() |
كأنّ الوجود، منذ البداية، لم يكن إلّا زلّةً في حسابٍ كونيّ قديم؛ مجرّد اضطرابٍ في سطح عدمٍ مطلق، اهتزّ للحظةٍ واحدة، فانبثقت منه كل هذه الكثافة التي نسمّيها نحن سذاجةً: عالماً. فالكون — في حقيقته العميقة — ليس سوى جرحٍ في جسد الفراغ. جرحٌ لم يندمل لأنه تذكّر نفسه. نحن أبناء ذلك الجرح. شراراتٌ صغيرة خرجت من شرخٍ بين اللاشيء واللا-وقت، نُركل بلا رحمة بين انحناءات المكان، غير قادرين على إدراك أنّ قوانين الفيزياء التي نتغنّى بها ليست إلّا سلاسل ذهنيّة تثبّت وعينا كي لا يسقط في الهاوية التي ولد منها. فالزمكان نفسه — هذا الهيكل العظيم الذي يخدع العلماء بوقاره — لا يملك أيّ يقين. إنه يهتزّ. يتلوّى. ينكمش عند الحواف، ويتمزّق عند حدود بلانك كجلد ورقيّ اليابس. وفي تلك الشقوق، في تلك المساحات التي لا يستطيع العقل البشري أن يضع عليها اسماً… هناك تسكن الحقيقة السوداء التي نخافها: الوعي ليس حدثاً كيميائياً، ولا صورةً عصبية، بل تشوّهٌ صغير في النسيج الكوني… تشوّهٌ يعتقد أنه حي. وحين تنحني المجرّات تحت ثقل جاذبيتها، وحين يلتهم الثقب الأسود ضوء النجوم كما يلتهم المنتحر آخر فكرة في رأسه، نرى الحقيقة نفسها تتكرّر: كل ما يُخلق، يُخلق ليزول. وكل ما يزول، يعود ليذكّر الكون بخطئه الأول: أنه حاول أن يكون شيئاً. حتى الإلكترون — هذا الكائن الصغير الذي يدور كصرخة ضائعة حول نواة لا ترحمه — يعرف أنه ليس إلا احتمالاً، همساً، ظلاً بلا أصل. أمّا نحن، فنكذب… نخفي هشاشتنا وراء فلسفاتٍ طويلة، وشِعرٍ ثقيل، وإرادةٍ نتظاهر أنها حقيقيّة. لكن الحقيقة؟ أن الوعي نفسه هو مُنتَج خوف كونيّ؛ خوف المادة حين أبصرت نفسها لأول مرة في مرآة الفراغ، فلم تعرف هل هي موجودة أم لا. والكون، في نهاية المطاف، ليس آلة عظيمة ولا حكاية مُحكمة. إنه سقطةٌ لغويّة… خطأ نحويّ في جملة لم تُكتب بعد. ولذلك ينكمش، ويتمدد، ويتصدّع، كأنه يبحث عن صياغةٍ جديدة، عن معنى ناقص، عن جملةٍ مفقودة. لكن لا معنى. المعادلات التي تقيس توسّعه لا تملك قلباً، والثقوب السوداء التي تبتلع الزمكان لا تبحث عن خلاص. والمجرّات، مهما اتّسعت، تبقى مجرد تجلّيات عابرة لعدمٍ أكبر وأشد صمتاً. ونحن؟ نحن ذلك الوهم الصغير الذي يطفو فوق محيطٍ لا نهائيّ، يظنّ نفسه مركز الوجود… بينما الحقيقة أن الوجود نفسه لا يملك مركزاً، ولا اتجاهاً، ولا سبباً كي يوجد. كل شيء يسير نحو نقطةٍ واحدة: ليس الموت، بل الانطفاء… عودة الوعي إلى المادة، وعودة المادة إلى الفراغ، وعودة الفراغ إلى صمته الأبدي الذي بدأ منه كل شيء. وحين يحدث ذلك، حين يسقط آخر عقلٍ بشريّ في العدم، لن يبكي الكون. لن يتذكر شيئاً. بل سيعود إلى ما كان قبل كل هذا الضجيج: انحناءةً خفيفة في سطح اللاوعي الكوني… اهتزازاً بلا شاهد… همساً بلا معنى |
|
|
|
|
![]() |
| مواقع النشر (المفضلة) |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
diamond