شبكة الإلحاد العربيُ  

العودة   شبكة الإلحاد العربيُ > ملتقيات الفنون و الآداب > ساحة الكتب

إضافة رد
 
أدوات الموضوع اسلوب عرض الموضوع
قديم 09-10-2017, 08:21 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [11]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

رجل لم يكن يحلم
اقتباس:
أطل الليل من النافذة، وراح الظلام يقتحم الغرفة رويدا رويدا حتى لم يعد يرى شيئا على صفحات الكتاب المبسوط فوق ركبتيه. لم يفكر في إشعال الضوء. ولم يشأ أن يترك الكتاب جانبا، نظر جهة النافذة، وتراءت له أضواء المدينة باهتة يكسوها ضباب كثيف. تخيل أنها ستطفأ لحظة ويعم ظلام طويل، ولحظتها سيخرج ليسير في طرقات المدينة متفحصا عماها. لم يكن مجنونا. هذا الفراغ القاتل يبيح كل شيء، وهو يعلم أنه لا يستطيع أن يجيد شيئا سوى أن يتخيل أشباحا تلتهم العالم فيسقط في عتمة أبدية. تساءل في صمت «أأكون مجنونا حقا؟ أليس العالم أكثر حلكة من ليل لا تشتعل فيه أضواء ولا تبرق فيه نجوم!» قام نحو النافذة وسحب فوقها الستارة كي لا يتسرب إليه ضوء الخارج، ثم جلس يتلمس صفحات الكتاب. لم يستطع أن يتحسس شكل الحروف تحت أصابعه، ولم يكن ذلك مهما، فقد حفظ كلماته عن ظهر قلب، وصار بإمكانه أن يغمض عينيه ويردد عباراته كما لو كانت تنبع من ذاته بعد أن تسربت إليه كما يتسرب الرمل عبر ثقب في الكرة الأرضية، ثم ارتخى على السرير وأطلق ذهنه للشرود. 2 عيناك صامتتان وثرثارتان.. أنت أيتها المجنونة.. عيناك تتقنان كل لغات العالم. من كثر ما نظرت فيهما لم أعد أفقه غير كلامهما. نجلس معا.. نثرثر، ندخن ونشرب القهوة السوداء. القهوة السوداء! هل تذكرين كم قرأنا لبورخيس؟ حين أصابه العمى وراح يشتهي اللون الأسود؟ هل تذكرين تلك المفارقة الشاسعة بين اللون الأسود والظلام؟ وهل تذكرين تلك «الخرائب الدائرية» و«الآخر»؟ مرة جلسنا على الشاطئ. ولم يكن الجو رومانسيا أبدا، كانت جثة ضخمة ما على الشاطئ. جثة «أجمل رجل غريق في العالم». تحلقت حوله نسوة القرية وألفينه أجمل وأضخم من كل رجالهن.. ساعتها قمت لتشتركي معهن في تنظيف جثته من الطحالب وتشييع جنازته بالورد والطيب. عزاء لي أن أتذكر الآن كل ذلك.. وجهك الأسمر والعينين الحاملتين. كان البحر يرتد إلى الخلف، وكنا نرتد إلى أعماقنا لنرى تلك الصورة الجميلة لأول لقاء.. في زحمة الشارع وسط زخم السيارات والمارة اصطدمنا وجها لوجه، ولم تكن أمامي سوى عينيك. ثم التقينا صدفة في معرض للوحات تشكيلية... لا أنكر أنك كنت التشكيل الرائع للأنوثة والجنون. تتربعين على الأرض وترسمين خطوطا ودوائر حلزونية على التراب، سألتك ذات مرة عن تلك العلامة الصغيرة التي تتكرر دائما في خطوطك، فقلت لي أنها طائر. لم تكن تشبه طائرا في شيء، لكنها كانت طائرك.. كان لا يغرد، لكن صوته كان أبديا.. كما صمتك! تكررت طرقات على الباب، فأفاق من غفوته.. لم يدركم مر من الوقت. ولم يخمن من الطارق... فتح الباب دون أن يشغل الضوء، لم يجد أحدا. أطل على الخارج، ولا أحد كان. حتى باب الحديقة كان مغلقا. تحسس جيوب سترته وأخرج لفافة تبغ أشعلها وجلس على العتبة يدخن في هدوء. كان ضوء المدينة شاحبا أكثر. صرخات سكارى وقهقهات تأتي من بعيد. أحس ببعض البرد، فانكمش على أعضائه مشغولا بتك الطرقات التي كانت تصدر عن لا أحد. تيقن أنه لازال يسمع نفس الطرقات في ذهنه. إنها تتكرر كما لو كانت صوت إزميل ينحت صخرة. وضع يده على رأسه محاولا إسكات الطرق الموجع، لكن عبثا، فهو لا زال يذكر التفاصيل تماما، كما في البداية... حين وقف أمام ذلك المكعب الصخري وفي يده مطرقة وإزميل.. كانت في ذهنه تتضخم صورتها ثم تضمحل. كانا قد افترقا لشهور قليلة، وأحس أنهما لن يلتقيا بعد ذلك، أبدا. لذلك قرر أن ينحت تمثالها كي يظل أبدا حاضرا معه.. ثم صار ينحت، فتفسد ضربات الإزميل على الصخر. مرت سنة وهو يحاول أن يشكل ذلك الجسد البديع على الصخر، لكن عبثا.. فهو لم يولد نحاتا، ومشوه ذلك الجسد الذي كان يخرج من الصخر! مرة ظل ينحت طول النهار، وحين سقط الظلام كان لازال ينحت.. لم يعد يرى شيئا، لكنه لم يستطع أن يفارق تلك العملية المرهقة من الضرب والحفر.. في الصباح كان يرى عينين تبرقان في الصخر.. كانتا جميلتين وحالمتين.. كانتا عينيها حقا.. نبعتا من الظلام، لكن الطرقات ظلت تضرب في الصخر عبثا دون أن ينبع منه ذلك الجسد الجميل.. وكان إحباطه آنذاك أكبر حجما من فراقها. أتذكرين ذلك اليوم الممطر الدافئ؟ وقفنا أمام محطة الباص، وكانت مكتظة كعادتها. تنحينا جانبا أمام باب المسرح نحتمي من المطر.. فخرج طفل من وسط الازدحام يصرخ ويبكي متفقدا كل الوجوه التي حوله. هرعت إليه امرأة تسأله، فتخلص منها بقوة، ثم تجمع حوله أناس كثيرون يتساءلون. لحظة رمقك بعينيه. كنا بعيدين بعشرين خطوة، وظل ينظر إليك.. كف عن الصراخ..وأنت وقفت مذهولة، فتفتحت عيناك من الدهشة فممدت له ذراعيك. بينما ركض إليك وارتمى في حضنك بفرح. اذكر جيدا كيف كان ينظر إلينا ذلك الشيخ العجوز الذي خرج من وسط الازدحام غاضبا وصرخ فينا : «لماذا تتركون أبناءكم هكذا... أي جيل هذا الذي يلد ويترك أبناءه يضيعون في الزحمة..!» لكن امرأة أومأت إليك: «امسكي ابنك جيدا يا ابنتي، فأبناء اليوم شياطين صغيرة.! ابتسمت لها، وعجزنا معا أن نشرح الأمر... إننا لا نعرفه، لكنه كان طفلا، وكان مدهشا أن يحدث بينكما ذلك السحر الغريب.. عدلنا ذلك اليوم عن ركوب الباص والذهاب إلى حفل افتتاح معرض للنحت، وفضلنا مشاهدة مسرحية «بيت الجنون». كان الطفل معنا، كان يضحك ويبكي ويركش بين الصفوف، ثم يتقلص في المقعد بيننا حالما ومنقبضا، ثم نام. خرجنا وأوصلنا مركز الأمن، فقد يأتي أحد يسأل عنه. كان اسمه ... اسمه.. لا أذكر تماما.. أذكر أنه كان طفلا وكفى. 5 رمى عقب السيجارة، وعاد إلى غرفته، لم تشغله طرقات الباب طويلا، لكنه راح يتحسس أين وضع الكتاب.. تيقن أنه تركه على الفراش قبل أن يقوم إلى الباب. لكن شيطانا ما كان يحثه على ألا يشعل الضوء. «أي عبث يتلهى بأولئك العميان؟» غير أن بوخيس كان مطمئنا ومرتاحا. يتذكر بشغف لون فستان أخته الأصفر في «بوينس ايرس» دون أن يرها. لم يجد الكتاب، كان يعرف مواضع الأثاث جيدا. كان يتحرك في غرفته بجنون دون أن يصطدم بشيء، بدأ يردد بعض العبارات بصوت مرتفع. تلك العبارات الأخيرة التي رددتها على مسمعه حين أهدته الكتاب: «وحيث لا أكون تراني، لا تشعل أضواء فاسدة، إن الشعاع يفسد الحلم. يقلص امتدادي. مد يدك، وترنح في الجهات. ليس ثمة من ظلام ليس ثمة غير أضواء فاسدة تكشف قهرنا لمن سيرموننا في سراديب الأفول...». توقف فجأة، وأحس بأنفاس قوية تحوم حوله. أحس بالخوف، هب نحو النافذة كي يزيح عنها الستار، لكنه تبين أن الأنفاس تأتي من جهتها. ارتد إلى الخلف باحثا عن زر الضوء فلم يعثر على موضعه. اصطدم بالطاولة فسقط. أحس بدائرة ما تبتلعه، أراد أن يستمر في ترديد العبارات المتبقية كي يستعيد ثباته وهدوءه. لكن الأنفاس كانت تحاصره أكثر. أنفاس محمومة وغريبة، ثم حشرجة مخنوقة. أحس أن الظلام مصيدة تبتلعه، صرخ في ذعر، وارتج صوته بين الأثاث تاركا غير صداه. تكوم على نفسه ساقطا وسط الغرفة فانجلى كل شيء. صار كل شيء هادئا وطبيعيا، «وفي ثنايا الظلام يرقد ذلك الوهم ثقيلا وقاتلا» تمكن أن يجد زر الضوء. ضغط عليه فتفجر شعاع الضوء في كل الزوايا. كان الكتاب على الفراش كما تركه. وكان تحت الغطاء جسد ما يرقد هادئا كصبي! 6 ها قد بدأت تتعبني هذه المسافات الجارحة بيننا. انتظر عودتك عبثا. أترقب القطارات وصندوق الرسائل، لكن ساعات الانتظار تتحول إلى ليل طويل لم يعقبه نهار. أحيانا أتساءل لماذا صنع لنا القدر ذلك اللقاء في زحمة الشارع! لماذا اصطدمنا نحن الاثنين؟ أكان حظا أن نسير معا في رحلة عشق تنهينا إلى هذا الانفصام. كل الأشيائ بيننا كانت اصطداما. اللقاء والطفل والسفر. رسالتك الوحيدة لي كانت عقب رحيلك بيومين. كنت أنتظر أن أقرأ فيها صفحات طويلة، لكنك رسمت تلك العلامة التي سميتها طائرا وكتبت تحتها عبارة يتمية: «أنا هناك تلمسني، ومن بين ثنايا الكتاب ينبع صوتي إليك وما دونه صمتي!» مللت الصوت الذي يقهر بالاختفاء. أما في حاجة إلى عينيك وصمتك. صمتك كان ثرثرة.. عيناك كانتا كل اللغات. مرة كان صوتك رقيقا وعذبا. جلسنا أمام الشموع. وفضلت أن تقرئي لي قصة «الخرائب الدائرية» قبل إطفاء الشموع. وجلسنا حالمين، صوتك كان نارا ونورا وهواء.. ثم أنهيت القراءة ونظرت إلي مليا. كان في عينيك فرح كبير وخوف.. لم أستطع ساعتها أن أميز أيهما كان صادقا: الفرح أم الخوف؟ لأول مرة اندهشت من نظراتك وسألتك. - ماذا؟!! - حدث شيء ما. - حدث شيء ما - أي شيء؟! - صخب - صخب!!!؟ ثم أمام دهشتي وضعت يدك أسفل بطنك وهمست: «هنا». لم أدرك كيف قفزت عليك ألثم خديك وشفتيك وكل موضع في جسدك الجميل. كنت في خجل تبتسمين، وكنت أجن وأنا أداعب ذلك الانتفاخ الجميل. في الصباح كنت تبدين كئيبة وحزينة. كان لازال ذلك الفرح العظيم يغمرني، لكنك ما لبثت أن أوقفته كمدية في دمي. نظرت إلي شاخصة وأخرجت من بين شفتيك كلمات ميتة: «سأرحل. لا أريد من أحد أن يلحظ حملي.. سألده بعيدا وأعود إليك...» لم أدر كيف صدقت تلك الكذبة وتركتك في جنب ترحلين. مرت كل الشهور الكافية لوضع عشرة أطفال. أنت لم تعودي ولا طفل ودلت لي.. ألم يكن هينا أن نحتفظ بذلك الطفل الذي خرج من زحمة الباص..؟ ألم يكن أهون ذلك الشيء الذي اسمه القتل...!؟ 7 زفر في خوف وهو ينظر إلى الجسد الراقد تحت الغطاء، أزاح الغطاء برعب عن الجسد، فكشفت له لعنة الضوء عن ذلك التمثال الصخري المشوه الذي نحتته يداه صرخ بعنف كما لو كان يود أن يفتت تلك الصخرة. ثم تنبه إلى أن الشيء الجميل في التمثال قد انطفأ، تلك العينان كانتا كاذبتين، حفرتين غائرتين ومخيفتين. أقحم أصبعيه فيهما بعنف. فتفجر من أصبعيه ينبوعا دم ساخن. ثم راح يحفر بأظافره على طول الجسد ويترك خطوط الدم تسرح فوقه.. وكان الحفر والصراخ عنيفين. ثم تلمس البطن، فتح فمه برعب حين تبين أن البطن كان ضامرا ومتقلصا. انقشعت في ذهنه عبارات مجنونة من أول الكتاب: «في منتهى الأفق ارتفعت تلك الصخور الجميلة كالعلامات ترشف ضوء الشمس. يسقط الليل عليها فتبدو في المدى عقيمة تلك النتوءات التي تلك الشهوة..» كان يصرخ بالعبارة وهو يضرب بقبضتيه ورأسه على الصخر محاولا أن يتهشم بأسرع ما يمكن، وظل يقاوم الشلل حتى يختلط لحمه ودمه بذلك التمثال المشوه العقيم.



:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
قديم 09-10-2017, 08:22 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [12]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

صراصير وأكفان

اقتباس:
1 – فاطمة:

فتحت فاطمة شباك نافذة غرفتها. ولم تستطع مع ذلك الإمساك بخيط من خيوط الشمس المدلاة. إذ كانت الخيوط تسقط ذابلة بلون رمادي يتسرب عبر القهوة الأسمنتيه ويعتمر داخل الغرفة، لأن نافذة فاطمة لم تكن تطل على شارع أو تتشكل عبرها بادية. كانت كفوهة مدفأة تنفتخ على متر مربع من الأسمنت يتسلق طولا كالمدخنة، احتلته صراصير تصعد فيه وتنزل دون أن تتعب. أطلت فاطمة تتحدى الجدارات إلى ما فوق، فتلاحقت على نظرها غيوم صغيرة تعبر كشريط صور من الفتحة الفوقية التي رسمت للسماء شكل مربع، بينما سقط في القعر لون داكن عصي، تحول معه هذا الممر الإسمنتي إلى نفق طويل بدت فيه النوافذ كثقوب ناي. كان المربع الأزرق الفوقي عالم فاطمة الملون، علمت وهي الصغيرة أنه السماء وعلمت فيما بعد أن له امتدادات شاسعة في الخارج وأنه قبة الأرض. لكنها احتفظت بشاعرية المربع الصغير الذي وحده كان قادرا على تلوين النفق الطويل المبثوث في صدر بناية الاسمنت. علقت فاطمة رسوم "حنظلة" على جدران غرفتها، فقد دأبت منذ زمن على اقتطاعها من جرائد والدها، وعلقت أيضا رسوم "الصبان" وراحت تفتح لها كل صباح كوة النافذة، فالهواء ضروري لكل هذه المخلوقات الصغيرة الذابلة على ورق الجرائد، ثم راحت تكتب عنها: «غرفتي شكل مكعب. لها باب ونافذة. كل جدار شاشة. فيه رسوم على ورق جرائد، وشاشة أخرى نافذة حين تنفتح على الجدار المقابل تتحرك فيها آلاف الصراصير.. ثم حين أطل منها برأسي إلى أعلى، تظهر شاشة السماء مربعة وبعيدة». في الصباح الباكر، تخرج فاطمة لتكتشف كيف يغرس ضوء الشمس ألوانا في رماد المدينة، تحمل خبزا وبيضا وحليبا وجرائد، وتجلس على المائدة قبالة والدها الذي يدفن صمته في تباريح مذياع، ويدفن دمه في عروق تلبدت بمآسي الوطن العريض. تتحلى الصمت أو تسأل والدها عن هذه الصراصير التي سترث الأرض بعد الإنسان. يقطب حاجبيه ويعدها بدمي كثيرة إن نسيت موضوع الصراصير. ويوم آخر تقول له أن دمي بغداد احترقت وأن الصراصير وحدها استطاعت أن تقاوم رماد هيروشيما فيشيح بوجهه أو يقاوم السؤال، ثم في الليل يحمل لها قصصا ملونة ويصب مبيدات من فوهة النافذة، لكنها تطلع من جديد، صراصير أخرى تصعد وتنزل دون أن تتعب. وتخبره بأن غرفتها ليست صحية لأنها لم تكن أبدا لتطل على حديقة أو بستان، وأن لصديقاتها غرفا سحرية، وهو لم يغط أبدا جدران غرفتها بورق ملون، فينتفض ويقر أنه نسي درس علم النفس ومتطلبات الطفل السيكولوجية نظرا لانشغاله الصامت بأرق النكبات التي تلاحقت على العرب منذ انطفاء نشوة الفتوحات الكبرى: علقت فاطمة رسومات جديدة على الجدران، وظلت تخرج في الصباح الباكر تكتشف ارتسام الألوان على رماد المدينة، تكبر، تطرح السؤال، تطل على شاشة السماء وتنظر في صمت إلى عيون الصراصير. تفتح نافذة للهواء تقول، كم ضروري هو الهواء لكل هذه المخلوقات الصغيرة الذابلة على ورق الجرائد. حلت نهارات ورحلت أخرى. أغرق الغيم السماء، وفي الصباح خرجت فاطمة ولم يرسم الضوء على المدينة ألوانه، دخلت البيت ولم تكن في يدها جرائد، سمعت مذياع أبيها ينز أسخف الأخبار. أغلقت باب غرفتها، وعلى ورق أبيض وضعت مربعا لونته بالأزرق ثم أحاطت اللون الأزرق بمساحة رمادية، تأملت الرسم ثم لاحظت أن مساحة الأزرق شاسعة، لونت جنباتها بالرمادي وأضافت تقلص تلك المساحة الزرقاء حتى أضحى المربع نقطة صغيرة تختنق باللون الرمادي، تركت الألوان على طاولة غرفتها وارتخت في السرير. في المساء كانت الصراصير تسبخ على الرسم تتسلق الجدران تملأ الأرض، تصعد، تنزل، تحتل السرير، تنسج لبدة سوداء كي تكفن جسد فاطمة.

2 – سلمـى

فتحت سلمى شباك نافذة غرفتها، ولم تستطع مع ذلك الإمساك بخيط من خيوط المدلاة. إذ كانت الخيوط تسقط ذابلة بلون رمادي يتسرب عبر الفوهة الأسمنتية ويعتمر داخل الغرفة، لأن نافذة سلمى لم تكن تطل على شارع أو تتشكل عبرها بادية. كان كفوهة مدفأة تنفتح على متر مربع من الأسمنت يتسلق طوالا كالمدخنة.......................................... .................................................. .........................




:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
قديم 09-10-2017, 08:24 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [13]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

حالات طائر حجري ينام ويستيقظ

اقتباس:
ابتعدت السيارة عن المدينة، ثم سارت ببطء حين استوت الطريق كخط رفيع يرقد بين الأشجار... أنزلت زجاج النافذة الذي أتاح لي نفسا عميقا شربته من الهواء المتسرب من بين ثنايا الشجر. خلت أني انا الذي طلبت من السائق أن يسير بهذا البطء، أو لعله فعل ذلك من تلقاء نفسه، إذ لابد للقلب أن يخطف لهذا العمق النباتي الذي يعيد للذات جذورها الأصلية. نظر السائق في ساعة اليد، ثم ضغط قليلا على دواس السرعة. لاحت بناية المستشفى كرسم متحرك. صارت ترتفع. نقترب فتظهر بطوابقها الأربعة كيخت صغير في بحيرة ماء متداعية الشاطئ. ثم كبرت البناية حين توقفت السيارة عند سياجها المعدني الذي انفتح بابه بمتحكم إلكتروني عن بعد. كبر السياج أيضا، ورأيت وأنا أوضع برفق في السرير المتحرك زجاج الطابق التحتي المصقول الذي عكس الغابة الممتدة إلى الخلف. رأيت طائرا يعبر، حين عبرت الباب محمولا إلى الداخل.. حلق واختفى. ظل الطائر يحلق في ذهني، ثم تحول إلى حجر نزل أسفل بطني، بدأ يعبث داخل الأمعاء. يصعد إلى القلب، يضغط على الرئتين، يتضخم في المعدة. ينز الجسد عرقا، وأحس يصعد على البلعوم، تعصف بي رغبة قذف ذلك... الشيء المستعطي إلى الخارج، قذف الأمعاء. القيء حلم يتملكني بشدة كلما تحرك في داخلي الحجر الثقيل كالسم. يقبض الرئتين، أحسهما عضلتين منقبضتين كلحاء الشجر. حالة الاختناق عنيدة.. تتجاسر على الجسد الرخو الذي انهزم كيانه. تحول إلى مجرد أنسجة أعصاب وخلايا مختلة التوازن. أفكر فيه كأمعاء شاة مبقورة البطن تتهاوى داخل هذا الوعاء الجلدي الذي ينز بالعرق والحموضة. حلمت بهذا الهواء النقي وبالحدائق الخضر.. مذْ امتدت السيارة وسط البحيرة الخضراء، ولاح في عمقها اليخت كسفينه تبيح الترحال والسفر. حالة الإرهاق اندفنت في أجواء المدينة المقهورة بالإسنمت ووجع الآلات على الإسفلت، وشاحنات القمامة المسربلة بالنتانة والحزن. ولهذا استلقيت بارتياح وسط السرير المتحرك الذي يدفعه الممرض خلفي في ممرات المستشفى النقية المصقولة. أحسست بهذا الامتياز الذي منحتني إياه الإدارة التي اشتغلت فيها طلية هذه السنوات الأخيرة، لولاها لما استطعت بإمكانياتي المادية المحدودة أن آمل فترة استشفاء أقضيها ببناية من هذا النوع... إن الشيء الأكيد هو أن الإدارة أدركت أن حالة التسمم التي أصبت بها هي تحت مسؤوليتها رغم أنها لم تحاول أن تخطو هذه الخطوة إلا بعد مرور ما يقرب الشهر. حين دفعت أوراق الفحص الطبي الذي أكد أن حالة التسمم التي أصابتني جاءت نتيجة مأكولات سامة. ولأن الإدارة في الفترة الأخيرة كانت بصدد إعداد مشروع عمل جديد ومتطور ضاعفت من ساعات عملي اليومية إلى درجة أني قضيت ما يقرب الشهر داخل مكاتبها... أشتغل ليل نهار وأتناول وجباتي داخل مطعمها الذي يشتغل في حالات الطوارئ. دفع الممرض السرير المتحرك داخل المصعد الذي تحرك ببطء. أحسست بأن حالتي لتلك اللحظة لا تستدعي استلقائي على السرير، ولا حتى أن اركب مصعدا.. فكرت أيضا أنه كان بإمكاني أن أصعد السلم وأن اشعر كأي مسافر يتسلق فندق سيقيم به يرغب في اكتشاف فضاءاته والإمساك بدرابزين السلم واكتشاف طابق بطابق... رغم أني لم أكن سائحا ولا حتى متيقنا بأنه باستطاعتي أن أتجاوز طابقا واحدا. إنه مستشفى، والمصعد لم يتوقف بعد... ربما دخلت زمن الصعود ونقل الأرجل عبر الأدراج واحدا واحدا، لكن زمن المصعد الآلي يمتص طابقا في نفس فترة الرجل بين خطوة وأخرى. كان الممرض يرفع راسه ليرى الرقم المرتسم في المؤشر الإلتكروني والذي لم أكن ألمحه، كنت فقط أنتظر أن ينفتح باب المصعد، وأدفع إلى غرفتي التي تلهفت على الوصول إليها برغبة حادة في اكتشاف فضائها والإمساك بمقبض مفتاح النافذة وإشراع دفتيها على السماء والغابة، ثم استقبال ذلك الهواء المتداعي نحو الشرايين. نافذة الغرفة تؤطر الامتداد، يرتسم منها الطريق الذي يصعد عموديا نحو الأفق ويندفن فيه. ينقسم الفضاء اللامتناهي إلى زرقة في الأعلى وخضرة عميقة في الأسفل يحركها الهواء... تحلق فيها الطيور.. مشهد استوائي يصير الإسفلت فيه نهرا متدفقا نحو الأفق. ينهض السياج كعقبة تاريخية نحو استكمال المشهد الحالم. ربما شاعر هاهنا سيعطي للسياج معناه.. يلحق أعمدته الحديدية بفضاء مفتوح على الشهوة الصوفية، حاجزا لامتداد المطلق، حافزا لتحطيم العقبة بين توحد المشهد الأخضر والذات. هذا السياج لم ألحظه من الغرفة، ولم أبين خلفه حدائقه الغابة، لأن النافذة كانت مفتوحة على غرفة أخرى مضاءة بالنيون تؤثثها أجهزة الفحص.. تذكرني بمكاتب الإدارة وأجهزة الكمبيوتر التي امتصت شاشاتها المربعة الصغيرة فضاء عيني طيلة سنوات مريرة. كائنات تفكر لها كي تفكر لك. في العمق هناك فكرة خفية تأتي من فوق.. نظام دقيق يدعوك لأن تندمج في منظومة هذه الشاشة المربعة المعقمة والملقحة بأفكار ضيقة تنسف الكيان من الداخل. تفكر بعقول ساستها الكبار الذي يفكرون بجد في وضع مخططات مشاريع جديدة ومتطورة لا يمكن بأي حال من الأحوال خذلانها لأنك بذلك تخذل منظومة فوقية. غير أني حاولت أن أفعل شيئا مختلفا، إذ أن الإنسان لا يمكن... حصره في دائرة تعطيه .. يفكر بعمق في الذي يجب أن يكون.. ترفض خلاياه بحساسيتها المفرطة احتواء أي جسم سام ناسف... طعام متسمم أو طعام مدسوس. من دسني في تلك الغرفة الوقحة التي لا نافذة تمنحها الهواء؟ تطلع رائحة من الجناح.. وجه الممرض مستدير ومنتفخ. الرائحة التي جعلتني منذ أن وضعت في تلك الغرفة أرغب في تقيئ أمعائي. فكرت في الشاعر مكاني.. الشاعر الذي لو كان هاهنا مكاني..!! يهتز الطائر الحجري في داخلي.. تحط. كف الممرض على الصدر وتضغط … يتفصد الجبين عرقا… ترتجف الأعصاب.. حقنة… هواء معقم… شيء ما يتداعى في الداخل. أرتخي وأفقد الإحساس بجسدي. المصحة… تطلع الرائحة من جديد.. أقوم مشلول الذهن، أسير نحو الباب وأدفعه. أسير في الممر أبحث عن أدراج تسير نحو الأسفل. نحو الطابق الأرضي المفتوح على السياج المفتوح على الطريق... لا أحد يتحرك في الممر الطويل الممتد عميقا نحو نقطة مظلمة. مرت مدة لم أستطع حصرها بين تناول الأقراص والانصياع للحفن وعمليات غسل الجوف والارتماء المشلول في الامتداد العميق لهذا الممر… لا فتحة لا نافدة ولا شرفة. أتعب وأجد دائما الممرض المنتفخ الوجه قادما نحوي خارجا من عتمة مظلمة. يسندني وترتمي ذراعي المشلولة فوق كتفه. أوجد من جديد في الغرفة إياها.. الغرفة التي لو .. لقتلت الشاعر.! تلك الرائحة.. تلك الرائحة ! أسأل الممرض الأبكم… أسأله بصدق فيحرك رأسه الثقيل. مع نم سأتقاسم الحديث في غياب أي صوت يأتي غير صوت الداخل المتعب؟ يحلق الطائر إياه في ذهني. أراه منطلقا باندفاع كسهم مجنون، محلقا فوق تلك الغابة التي صارت تمتد بانصياع نحو غابة متلاشية في السواد. رائحة عنيفة نتنة تبعث على الاختناق. يقصف بي الوهم، الهذيان. أقلص عضلات وجهي. استنشق الاكتواء. اطرح السؤال الإشارة. يلين صدر الممرض، يحرك رأسه كي ينفي أن تكون ثمة رائحة تأتي من الخارج. هناك جثة ما في مكان ما.. جسد مريض يتفسخ، ينسف الروح برائحة موته.. في الأفق تحلق طيور سود، ترسم دائرتها التي تضيق… دائرتها التي توقظ في داخلها الشهوة الكاسرة.. الجثة الآن تنتظر هذا العقاب الجارح، يتسرب إليها الرعب إذ تشتد الدائر حدة في السماء. الدائرة السوداء التي ستنسفها هذه الرائحة المجنونة الغاضبة. من أوقعني في هذا الشرك الفج. أتوسد كتف الممرض الذي صار يستجيب بإذعان لرغباتي المقلقة. كأن شيئا إنسانيا عميقا في داخله يمنح وجهه مسحة حزن ويتركه يتحمل موتي البطيء. ثمة منفذ واحد في الممر غير باب غرفتي. نقطع الممر سويا إلى حيث لا يستطيع أن ينتهي. ندخل في تلك النقطة السوداء ولا باب يوجد كي تنفذ منه تلك الرائحة. نعود مغتربين… باب المصعد ذاك! يحرك الممرض يديه. يتسلق شيئا في الفراغ. أعقب بحركة إلى التحت "في أي طابق نحن؟" أرسم الطوابق بيدي، أضع علامة استفهام، إذ لم أكن أبصرت المؤشر الإلكتروني حين كنت بالمصعد، ولا يمكن أن يكون إلا الطابق الأخير، يرفع الممرض عشر أصابع، أرسم أربعة. وتلوح لي البناية من جديد حين صارت تكبر وترتفع ونحن نشق بالسيارة طريقها الغابوي.. صار شريطها الآن بالأبيض والأسود. يتقاسم المشهد هذين اللونين بتدرجاتهما الرمادية. أؤكد مرة أخرى أنها أربعة، فتنثني أصابع الممرض وتنزل الى الأسفل راسمة عشرة طوابق مدفونة بسوادها تحت بياض اليخت. غرفها أقبية للموت معتمة. تنيرها مصابيح النيون الكئيبة. وأدرك للمرة الأولى أن المصعد كان ينزل "بأورفي" إلى أعماق الجحيم.. حقن أقراص. يضغط الممرض على صدري. أحس بجلدي المهترئ تحت كفه كيف صار يتفسخ. أرى الآن هذه الرائحة العنيفة التي صارت تنبعث من غرفتي المدفونة تحت الأرض.. أرى الآن نتف هذا الجسد الآيل للسقوط. النافذة … آلات الفحص العنيدة التي لم أكن أطل عليها. كنت أرسم من النافذة الزجاجية الغابة، فيرتسم قرب الغابة السياج. صرت ألمح السياج في الأعلى. أراه الآن يقف فوق رأسي حدودها الصوفية، يدفعه عنه بعمق الرؤى، ينسفه وينسف هذا الزجاج المتجمد في حولي.. ألتصق بالنافذة، أرى أجهزة الكمبيوتر المريضة. أفتح بوابة الداخل، يرقبني الممرض دون اعتراض أو حركة. فأجد نفس الآلات الإلكترونية التي امتصت حياتي. أضغط على الأزرار وأقرأ في المربع الضيق الصغير إشارة، "لقد حاولت نسف مشروعنا الجديد، ولهذا سحبنا منك لك الثقة». يكاد الطائر أن يتحول حجرا، يكاد أن يتحرك في البطن، لكني أراه الآن منطلقا… عينا الممرض صافيتين. أرى وجهه المبتسم يرسم يكفيه جناحين. أقترب منه فيسند ذراعي على كتفه إذ لا بد أن ننسف بوابة المصعد ونصعد.



:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
قديم 09-10-2017, 08:25 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [14]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

غيـوم صغيـرة
اقتباس:
بدأت الجدران تتسع، تضيق ثم تكبر وتفقد قدرتها على التصلب. شكلها المعتم يتلون ونفتح فيه الأفق الأحمر. تظهر السماء كعين لكمتها قبضة من حديد فتشعبت فيها شعيرات الدم. السماء كعين لكمتها قبضة من حديد فتشعبت فيها شعيرات الدم. الجدران تفسخت حجارتها. صارت مدى. أمد رجلا في الرمل يثقل واعجز عن تحريك الرجل الأخرى. أنشد للأفق الغاضب، أحدق في شعيرته الأفقية الحادة… أركز فيها يعنف وقوة، لكنها تتآكل تلك الشعيرة وتتحول إلى ذبذبة مرتجفة.. بدأ النمل يزحف فوق القدمين، أحس بلسعاته القوية، امتص الصرخة فتحول عضات النمل بالتدريج إلى دبيب خافت على الجلد. أحس بلمسات أرجله النشيطة التي تدغدغني مانحة دمي نشوة صغيرة. عين السماء صارت صافية زرقاء عميقة. ينشف حبات العرق هواء رطب منعش. تأتي رائحة المحار قوية.. ماء البحر الصافي يمتد إلى الساقين الذابلتين، أحركها ثم انطلق. اخبط الماء بحركات عفوية منتشية. ألمح الوجوه من حولي. أركز فيها النظر محاولا ان اكتشف تقاسما للذة الماء الرطب والهواء المنعش. تفاجئني يد من الخلف وتسقطني داخل اللجنة. انتفض، التفت بسرعة لأجد سعاد في الخلف واقفة تضحك: - هل لازلت تفكر أن تقطع هذا البحر إلى الوراء!؟ انتصب واندفع اتجاهها. تركض فارة وارتمى خلفها. ترفع ضحكاتها وصرخاتها الجميلة وهي تحاول أن تفلت مني. امسكها بسرعة كما لو أحاول أن أضمها إلي. أشعر بنعومة ذراعيها المنسابتين من تحت فستانها الصيفي المخطط بالأبيض والأزرق. تغلبني نظرتها الساحرة وتغمرني بلذة الشفتين الراجفتين : - لا تسقطني أرجوك.. سأتبلل ويصبح الفستان أكثر شفافية. أشفق على نفسي من رؤية جسدها الجميل - لن أفعل… لكن أطيل الوعيد إن هي حاولت إسقاطي ثانية مبقيا ذراعيها تحت ملمسي، ناعمتين تظلان. نجلس وتستمر تلك اللذة في قبضتي. تلفحنا شمس البحر الدافئة. أشعل لفافة تبغ فترتمي أصابعها المباغثة عليها، أحاول عبثا إنقاذ لفافتي. تلسعني أظافرها… تتشابك اليدان فتتكاثر الخربشات على ظهر كفي. انظر إليها بلوم وأطلبها أن تقص تلك الأظافر. تمد يدها إلى حقيبة صغيرة، وتسحب مقص أظافر وتبدأ في تقليمها دون كلام. تنظر إليها سميرة بغيرة واحتجاج : - ما تفعلين يا صاحبتي … إنك تفسدين جمال أصابعك. انظر إلى سميرة نظرة المنتصر وأقول: - أنا أحب هذه الأصابع المقلمة الجميلة… تنتفخ خربشاتها على ظهر يدي. أحس بها تخز.. تنتفخ… ترافقني تلك الخربشات في السفر، وأحلم أن تظل موشومة، تسرقني الخيالات الجميلة، التفت وأرى امتداد الرمل الشاسع، تكبر تلك الخربشات وتتحول جروحا على طول الجسد… يكبر الألم، تنتصب الجدران هذه المرة. اصرخ. يعتصرني الألم المر وتعتم الوجوه من حولي، انظر بحق في تلك العينين الوقحتين، اصرخ. امتص الصرخة. اكتشف فجأة سعاد بجانبي. تقول له: - ماذا تريد؟ - من أين أنتم؟ - من ارض الله الواسعة.. لماذا؟ - هكذا… - وأنت من أين؟ - أنا من هنا … سبق لي أن رأيتك. - أنا أيضا رأيتك. لكنكم كلكم تتشابهون - كيف نتشابه!؟ - ألا تتعبون من ارتداء هذه البدل الكاكية وتتبع حركات الناس…!؟ - نحن لا نتبع الناس. نحن نسهر على الأمن. - أذن أنت جئت لتعسس علينا.. - أنا أريد أعرفكم فقط. - هل يطلبون من التقارير؟؟ ورأيت ملامحه تنقبض. والدم يصعد إلى أنفه. وسعاد مندفعة بلسانها الحاد كاندفاع أظافرها نحو يدي. لكزتها في رجلها فنظرت إلي: - دعنا نعرف منه ماذا يريد - سيفسد علينا جلستنا - نحن من سيفسد عليه مهمته ونظرت إليه كيف صار يجبن. سار نحو البحر. ثم كثرت من خلفه الوجوه بنفس البذلة ونفس الهراوات المدلاة من الأحزمة. الغضب المستشيط والنظرات الحاقدة… - يخافون من لحظة حب، قلت هذا لسعاد وحين التفت لم أجدها. رأيتهم وحدهم ينزلونني وعضات النمل على كل جسمي. دفعني أحدهم وسقطت ملئ وجهي. صعدت جرعة الماء المالح التقاط الأنفاس. أحسست بالقبضة تشد شعري وتدفع الرأس إلى أسفل. ليس الماء مالح. العفونة تطلع إلى خياشيمي. العفونة العطنة. تسحب القبضة رأسي إلى أعلى، تدفنه من جديد في الوعاء العفن، ترفعه: - ستتكلم يا ابن الكلب. قم… سر .. وأدور بثقل بين الجدران وأحس بالإبر توخز قدمي.. «تحرك» أضاعف السرعة… «قف» أقف… أحس بالدوار الحاد ولحظة الغثيان القوية… أحس بمنشار يقتلعني من الجذر فأتساقط كجذع شجرة. رأيت عين السماء مريضة، ارتسمت فيها جلطات دم… بقع حمراء مرتسمة على الحائط. الحائط إياه الذي كنت أراه في الرسوم بآذان تنتصب منه. لم أكن أشم في تلك الرسوم هذه الرائحة العفنة. كني كنت اشعر بثقل تلك الآذان الحجرية التي تلتقط الأنفاس. أنفاس القهر والمهانة. الأنفاس المعتمرة بالحلم. البرد الحاد يعتمر في العظام. يشقها كالسكاكين. قالت سميرة: - ضح، واعط سترتك لسعاد قلت لها: - رغم هذه البذلة، اشعر بلسع البرد… إن التضحية ليست على هذه الشاكلة.. وكنت أدفء سعاد في قلبي، وأشعر أن الذين يمنحون ستراتهم لرفيقاتهم يفتعلون ذلك ويحلمون بلحظة تعريتهن تماما.وأنا كنت أفضل أن يحتفظ كل بملابسه إلى حين أن يتضح ذلك الحب في الداخل ويفض عنه قشوره كثمرة الجوز. أتكوم قرب الحائط اللزج الرطب، المس أعضائي المتجمدة. أمرّر الكف المنتفخة على صدري المتورم. لقد عروني تماما كي اشعر بعظمة هذه المهانة… كأنه البدر الرحيم.. بدأت أبحث عن عين السماء من جديد. أبحث عنها رغم تورمها فتتفسخ كما كل مرة تلك الجدران، وارى تلك العتبات الخلفية لبناية قديمة. سعاد تجلس وأتكوم بجانبها. أنظر إلى فخذيها الجميلتين كيف تلتصقان لمقاومة البرد، ويديها كيف تشتبكان حول خصرها النحيل… أنظر إلى عينيها ودفئهما الخارق واشعر كيف تدفئ أنفاسها عضلات قلبي المزدحم بالحياة… - متى تسافر؟ - الليلة. - الليلة ! .. وأحسست برعب ذلك البرد القاتل في عربات القطار، ورعب افتراقنا من جديد… قمنا ومشينا… ليل المدينة يشيخ بأضوائه عنا… لم أكن اعلم أنها آخر جلسة وآخر ليلة… رأيت الأدراج تمحي وتنغلق الجدران. لاح لي وجه سميرة في العتمة يتلصص على حزني وعربي، تكومت أكثر كي احتمي من نظراتها الساخرة وشربت من عتمات الليل العميق. - ستتكلم يا ابن الكلب. وأزم شفتي محاولا استحضار تلك الصورة الأليفة المنقذة. ينسفني وجع الليل ووجه سميرة. أحاول النسيان، لكن الضغط يتوالى مزدحما بعنف كعربات قطار زاحف…. صرت أهذي في داخلي بتلك الصور المتلاحقة تلك اللحظات المؤرقة التي تعاقبت علي في غيبة وجهها ورسائلها… وحبها. صرت أحلم بفقدان الذاكرة، لكن وحدها الآن هذه الذاكرة التي تنشلني من الألم الحاد الذي يمعنون عني تعميقه، لكنه يخذلهم بالتدرج إذ يتلاشى كلما ارتجفت تلك الجدران وضاعت قدرتها على محاصرة الخيال. - بم تفكرين…؟ - أفكر في اللاشيء. - لقد صمتت طويلا. - لقد صمتنا معا.. أنت أيضا كنت تفكر - كنت أفكر فيك…. وفي الخدوش التي تتركها أظافرك على ظهر كفي… لكنها كانت مشغولة بأقوال سميرة عني، وأنا نسيت تلك الخدوش على ظهر اليد وأحسست بالخدش الكبير يكبر في الصدر. هل انتهى كل شيء؟ انتهى… وكنا ونحن نسير يملؤنا الحب الوطن، يملؤنا الحديث عن الأطفال والبحر وتشغلنا كتابة الرسائل التي لم ننتظر بعدها هذا التوقف العنيف… لقد حدث كما في كل قصة حب… وها نحن نؤدي الثمن. وهم يكرهون كل من يحب، يفصح الآباء عن هذا الكره ويضربون عليه رؤوس الأصابع مجتمعة فيجفل القلب لحظة لكنه يستمر فيحبه النبيل، وهاهم يضربوننا الآن حب اكبر ويصرخون : - ستتكلم يا ابن الكلب.. ويعتل صوتهم بالنباح. ثم كلما بح صوتهم النشاز أركبونني تلك الظاهرة التي لا تحلق… أحس بالدوار العنيف وبالرغبة في التقيؤ… أطبق جفني فيهدأ صداع الرأس… اطل من تلك النوافذ المستديرة فتظهر تلك الغيوم الصغيرة التي تندفع بانسياب جميل. أرى المدن التي تحلم، والوديان التي تحلم والغيوم الصغيرة التي ستنزل بالمطر. يغلبني الابتسام وأنا أتذكر وجه رفيقتي الصغيرة التي رممت جراح صدري. أتذكره صغيرا بين كفي وخصلة الشعر المتطايرة بهواء الجبل… تسألني : - ألازلت تحبها؟ - صرت أحبك - تحبني حقا…؟ - نعم أحبك - وماذا تحب أيضا؟ - أحب الغيوم الصغيرة والأطفال والوطن. وتتعطل الآلة وافتح عني وأراهم يزبدون. وفي تلك الغيبوبة اللذيذة، أرى وجهها الصغير بين كفي وأقول: "أحب الغيوم الصغيرة والأطفال والوطن" فتملأ وجهي لكمة، واسمع أمرهم يقول: «اخصوه». ويقذفونني في الزنزانة اللزجة وأنا أتخيل بطنها الصغير الذي صار يعلو ببطء. أتخيلها تتوسد صدري… أضمها إلى برفق وأنام.




:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
قديم 09-10-2017, 08:26 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [15]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

انتهى.
كان بين يديك كتاب نسته الايادي..



:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
المجاني, الليدي, الهواس, البيضاء, غبي, قصص


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
اسلوب عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
التجزيئية في المجتمع العربي ـ نازك الملائكة كتاب مهم للتحميل المجاني غيورغي ساحة الكتب 0 03-03-2018 08:56 PM
كيف يمكن أيصال اجور الأيدي العاملة الى ما يقارب الصفر؟ جريثم اللحيان الساحة الاقتصاديّة 凸 37 01-03-2017 07:42 AM
الليدي غوديفا زوجة الحاكم الظالم ليو فريك! ابن دجلة الخير ساحة الشعر و الأدب المكتوب 0 03-14-2016 08:13 AM
رسالة عبد الله بن إسمعيل الهاشمي إلى عبد المسيح بن إسحق الكِنْدي يدعوه بها إلى الإسلا مُنْشقّ حول الإيمان والفكر الحُر ☮ 4 07-31-2015 01:59 PM
المجاهد الإلكتروني الذي خرب ويكيبيديا الإنجليزية Lucifer العلوم و الاختراعات و الاكتشافات العلمية 6 02-14-2015 09:43 PM