![]() |
|
|
|
رقم الموضوع : [1] |
|
موقوف
![]() |
حرية الإرادة
انقسم الفلاسفة و المفكرون فيما يتعلق بحرية الإرادة إلى طرفي نقيض - ووسط بينهما - ألا وهما الحتمية الصلبة Hard Determinism أو الجبرية من جهة و التي تنفي المسئولية الأخلاقية عن الأفعال، و الإرادة الحرة بمعنى نفي القدر أو ما يسمى بالليبرتالية Libertarianism أو بالقدرية من جهة أخرى. وهذا الموقف الوسط هو ما يعرف بالحتمية اللينة أو التوافقية Compatibilism or soft determinism والذي لا يرى تعارضا بين حرية الإرادة من جهة ومن ثم مسئولية الإنسان عن أفعاله التي تصدر عن إرادة منه وبين الحتمية بمعنى أن الأفعال الصادرة عن إرادة الإنسان لها أسباب سابقة عليها. والحتمية تنقسم إلى قسمين: داخلية بمعنى أن الأسباب المتحكمة في سلوك الإنسان داخلية متعلقة بالعوامل البيولوجية كالبنية العصبية و الهرمونات و العوامل النفسية كالمعتقدات و كالرغبات و المشاعر و السمات الشخصية، وخارجية أي متعلقة بعوامل بيئية ظرفية. أما حرية الإرادة بمعنى الليبرتالية أو القدرية فتنفي أن يكون هناك أسباب للإرادة سابقة عليها أي أنها بمنأى عن تأثير الأحداث الماضية. ومما يتفرع على القول بحرية الإرادة بمفهوم القدرية أنه لا يمكن التنبوء بسلوك الآدميين وأن الله لا يعلم مسبقا ما سيصدر عن العباد وهو ما يسمى بعقيدة البداء أي سبق الجهل وحدوث العلم تبعاً لحدوث المستجدات. وهذا التصور في حقيقته يجعل من الشخص مجرد مولد للاختيارات العشوائية لأن الحدث – كالاختيار الإرادي- الذي لا سبب له سابق عليه يعني أنه حدث عشوائي عشوائية وجودية كما سيأتي بيانه. في حين أن القول بالحتمية الصلبة أو الجبرية وأن ما يصدر عن الإنسان يحدده جملة من الأسباب الخارجية أو الداخلية – وفق التعريف السابق – وأن السلوك الآدمي نتيجة مؤثرات خارجية وداخلية يتفرع عنه القول بأن الإنسان ليس لديه أدنى مسئولية عن أفعاله والإرادة ما هي إلا وهم. أما الموقف الوسط بين طرفي النقيض وهو الحتمية اللينة أن الإنسان لديه إرادة حرة إلا أنه يتأثر بعوامل داخلية وخارجية. هذه العوامل لا تحدد سلوك الآدمي لكنها تؤثر فيه و تجعل سلوكيات معينة أكثر احتمالا أو أقل احتمالا في الوقوع. وهذا التوجه هو ما يراه عامة علماء النفس باستثناء السلوكيين منهم ممن يرون الحتمية الصلبة. وتعريف الإرادة الحرة عند أصحاب مذهب التوافقية أو الحتمية اللينة يشترط فيه أن تكون الأرادة صادرة عن ذات الإنسان نفسه وليس عوامل خارجة عنه. فهذا معنى أن يكون مختارا عندهم. أما عند أصحاب مذهب اللاتوافقية أو الإرادة الحرة بمفهوم القدرية هو أن يكون من الممكن للإنسان أن يتصرف على نحو غير الذي تصرف وفقا له في الواقع. ويرى ستيفين هوكنج أن دماغ الآدمي تخضع لقوانين ميكانيكا الكم و بالتالى هناك عشوائية وجودية Ontological randomness ( وليست معرفية) فيما يتعلق بسلوك الآدمي وأنه لا يمكن التنبؤ بسلوك الآدمي إلا في صيغة احتمالات – وهذا يصب في اتجاه القائلين بالإرادة الحرة بمفهوم القدرية نفاة القدر - إلا أن يتم التوصل إلى النظرية الموحدة التي تحتم كل شيء وحينئذ ستكون العشوائية في سلوك الآدميين معرفية epistemological randomness أي بسبب عدم إلمامنا بكل العوامل المؤثرة في السلوك. غير أن تصور أن اللجوء للعلم التجريبي للإجابة على إشكالية الإرادة هل هي حرة أم لا هو تصور غير دقيق لسببين أولهما أن العلم التجريبي لم يحسم قضية هل الطبيعة بها قدر من اللايقين متأصل فيها ومن ثم فنظرية الكم هي نهاية الفيزياء أم هذا القدر من اللايقين سببه قصور في معارفنا لا أكثر. ثانيها أن طائفة من العلماء و الفلاسفة وهؤلاء يمثلون اتجاه الذرائعية لا يرون في العلم التجريبي أصلا وسيله للبت في شأن حقيقة الواقع كما هو بل مجرد أداة للتنبوء بسلوك الطبيعة وظواهرها وما تفرع عن ذلك من تطبيقات عملية وإن كانت تلك النماذج التي نسميها نظريات علمية لا تعبر بالضرورة على واقع الأمر. وإن كانت هناك آيات قد يشى ظاهرها بأن القرآن يقول بالحتمية الصلبة بل حتى بنقيض ذلك أي القول بالبداء فحقيقة موقف القرآن هو القول بالتوافقية بمعنى الجمع بين القدر و المسئولية الأخلاقية للبشر عن أفعالهم. فمن الصنف الأول قوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا. والمعنى أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة . رواه ابن جريج عن ابن عباس ، وقاله سعيد بن جبير أيضا. و الإرادة و الأمر و القضاء ونحو ذلك قسمان كوني و شرعي فالكوني هو واقع الأمر و الشرعي هو ما يحبه و يرضاه وإن كان مخالفا لما أراده أو أمر به أو قضاه كونيا. إلا أن مقصود الأمر في الآية هو الأمر الشرعي كما تقدم. أما الإرادة في الآية هي الإرادة الكونية و ليس الشرعية لأن الله لا يرضى الكفر و لا الفسوق و لا العصيان لعباده كما في قوله: إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ. فلأن الله يعلم قبل أن يأمرهم بالطاعات أنهم سيعصون وبالتالي سيستحقون العقوبة فقد أراد أن يهلكم وإلا لما أمرهم بالطاعة كي لا يقعوا تحت طائلة العقاب عند عصيانهم الأمر. ومن الصنف الثاني قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ. قال ابن كثير: قول ابن عباس وغيره في مثل : ( إلا لنعلم ) [ البقرة : 143 ] : إلا لنرى ; وذلك أن الرؤية إنما تتعلق بالموجود ، والعلم أعم من الرؤية ، فإنه [ يتعلق ] بالمعدوم والموجود. والمقصود أن يصبح أمرا واقعا وليس غيبا مطويا في علم الله. لأن هذا هو المسوغ لمعاقبة الكاذبين ومكافأة الصادقين. و القرآن أثبت للعبد مشيئة فقال: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ. وقال: لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين. و ذلك لأن هذه المشيئة الحادثة في العبد هي مخلوقة لله ولو شاء الله لم يخلق فيه تلك المشيئة. كما في قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ. ومذهب السلف في حرية الإرادة مذهب برجماتي – كما ذهب ويليام جيمس على سبيل المثال من الفلاسفة من غير المسلمين - لا يبحث في كيفية الجمع بين القدر و حرية الإرادة أو كيفية الإردة الحرة بل يثبتون القدر و حرية الإرادة بما يترتب على ذلك من مسئولية أخلاقية للإنسان عن أفعاله لأن اثبات القدر و المسئولية الأخلاقية معا تقتضيه المصلحة الدينية و الدنيوية. وكما أن الناس اتفقوا في مجموعهم على إثبات المسئولية الأخلاقية للآدميين عن أفعالهم التي تصدر عن إرادتهم دون إكراه لاعتبارات عملية وما يترتب على ذلك من مبدأ الثواب و العقاب لتحفيز السلوكيات الإيجابية و تثبيط السلوكيات السلبية واعتبار أن ذلك لا ينافي العدل فكذلك محاسبة الناس على أفعالهم في الآخرة لا يتنافى مع العدل لأن الهدف من الثواب و العقاب الأخروي هو عينه الهدف من الثواب و العقاب الدنيوي. |
|
| مواقع النشر (المفضلة) |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
diamond