![]() |
|
|
|
رقم الموضوع : [1] |
|
موقوف
![]() |
في مداخلة مع الزميل (مسلم موحد) تطرقت إلى مفهوم الشك في النصوص الإسلامية وحاولت إزالة الإشكال لديه ورفع التناقض المتوهم بين النصوص الإسلامية بخصوص مسألة الشك واليقين. وأرجو أن أكون قد وفقت لذلك. ورأيت أن أكتب بشىء من التفصيل حول هذه المسألة في شريط مستقل.
يمكن تعريف الشك، الذي هو نقيض اليقين، بأنه التردد بين المتناقضين بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الأخر. والشك يأتي أحيانا بمعنى الوسواس وهذا إن كرهه الإنسان واستعظمه ودافعه فهو دليل على شدة الإيمان. وهذا الشك هو المقصود في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ). وإن كان قد تأوله كثير من العلماء على أن المقصود الشك الذي هو نقيض اليقين، وأن المعنى المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم ينفي تهمة الشك عن إبراهيم عليه السلام لما قال: رب أرني كيف تحيي الموتى. بقوله : نحن أولى بالشك. أي لو كان ذلك من قبيل الشك لكنت أنا أولى بالشك ولأنني لا أشك فكذلك إبراهيم بطريق الأولى. ومن قبيل الشك بمعنى الوسواس أيضا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث قصة صلح الحديبية: وَاللَّهِ مَا شَكَكْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، إِلَّا يَوْمَئِذٍ. فإذا صح الخبر، لأن هذه الزيادة ليست في صحيح البخاري، فالمعنى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه راودته وساوس حول وعد النبي صلى الله عليه وسلم بدخول المسجد الحرام والطواف بالكعبة. وأراد أن يدفع تلك الوساس بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : فَخَبَّرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيَهِ الْعَامَ؟، قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ تَأْتِيَهِ، فَتَطُوفُ. وكذلك قال أبو بكر: فَأَخْبَرَكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟، قُلْتُ (أي عمر): لَا، قَالَ (أي أبو بكر): فَإِنَّكَ آتِيَهِ، وَتَطُوفُ بِهِ. وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك. ودليل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: ( وقد وجدتموه؟" قالوا: نعم، قال: " ذاك صريح الإيمان". قال النووي في شرحه لهذا الحديث: (فقوله صلى الله عليه وسلم: " ذلك صريح الإيمان، ومحض الإيمان،" معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه، ومن النطق به، فضلاً عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً وانتفت عنه الريبة والشكوك. وقال الخطابي: ( المراد بصريح الإيمان هو الذي يعظم في نفوسهم إن تكلموا به، ويمنعهم من قبول ما يلقي الشيطان، فلولا ذلك لم يتعاظم في نفوسهم حتى أنكروه ، وليس المراد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، بل هي من قبل الشيطان وكيده). ومن تابع الوسوسة، وتكلم بها، ونشرها، ورضي بها وركن إليها ووصل معها درجة الشك التي تزعزع أركان اليقين فهذا ممن قيل فيهم: وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ. فاطمئنان القلب الذي طلبه إبراهيم هو دفع تلك الوساس. ولا يوجد أحد إلا ويعرض له هذا النوع من الشك. وهذا لا ينافي قوة الإيمان ولا عظم اليقين. فحاشا لله أن يكون إبراهيم عليه السلام من هؤلاء وحاشا لله أن نكون مأمورين بهذا الشك. ومن هذا القبيل أيضا الشك المقصود في قول الله تعالى: فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ۚ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فقد أرشد من شك، أي راودته الوساس، في أن مضامين القرآن حق وهدى، كوجود بشارة بنبي يبعث وغير ذلك، فليسأل مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره. وهذا دليل على أنه لا يصح للمرء أن يتجاهل الوساوس التي لها وجه بل يجب أن يجاهدها، وجهاده إياها هو طلب إزالتها بالدلائل والبراهين التي يحصل بها تبدد الشكوك. وهذا ما أرشد إليه القرآن بالسؤال. وما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه. لكن يجب التنبيه على أن الوساوس نوعان. النوع الأول هو وساوس لها وجه أو مبرر وهذه التي يجب أن يجاهدها المرء بالحجة و البرهان. والنوع الثاني هو وساوس لا معنى ولا وجه لها ولا تستند إلى أساس وإلى هذا الصنف تنتمي شكوك غلاة المشككين الذين يشككون في وجود العالم الخارجي على سبيل المثال، أو يشككون في سائر البديهات العقلية أو حتى يشككون في أسس العلوم التجريبية. ومن هذا القبيل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يسترسل المرء في تسلسل العلل، أو ما يعرف بالتسلسل بالمؤثِّرين ، أي : بأن يؤثِّر الشيء بالشيء إلى ما لا نهاية، بقوله في الحديث الذي رواه مسلم: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق اللهُ الخلقَ ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله. وفي رواية: يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول من خلق كذا وكذا ؟ حتى يقول له من خلق ربَّك ؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته. وهذا لأن الله هو الأول الذي لا شيء قبله كما دلت على ذلك النصوص دلالة قطعية. وحتى من يجوِّز التسلسل بالمؤثِّرين فهذا لا سبيل إلى دفعه بالحجة العقلية، لأنه أمر نعلمه بالبديهة وهذا يشكك في أمر بديهي، ويعتبره ليس أمرا بديهيا. ولو سلمنا أن التسلسل المذكور جائز عقلا فكذلك كون هناك علة أولى لم تزل هو جائز عقلا أيضا، وفي هذه الحال يكون الاعتماد في الجزم بصحة القول الثاني على النص. فالشك سواءا قصد به الوساوس أو نقيض اليقين لا يرضاه عاقل ولا يطلبه. فالعقلاء جميعا يطلبون دفع الشكوك. ولأجل هذا كانت البحوث العلمية. فغرض الباحثين هو تبديد أو تقليص الشكوك بخصوص العالم المحيط بنا، وأن نكون على بينة. وحتى من يرى استصحاب الشك من العقلاء، باستثناء المغالطين أو المسفسطين وهؤلاء لا أعدهم من جملة العقلاء، لا يعني بذلك أن الشك مرغوب لذاته أو التردد بين المتناقضين المحتملين نظريا بحيث لا يجيز ترجيح أحدهما على الأخر، وإلا لما كان هناك فرق بين العلم و الخرافة فكلاهما نظريا محتمل.فنحن بحكم طبائعنا نتمسك بما يغلب على ظنونا، فمن يترك الراجح إلى المرجوح لا يفعل ذلك إلا لهوى في نفسه أو خلل في عقله. |
|
| مواقع النشر (المفضلة) |
| الكلمات الدليلية (Tags) |
| الشك |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
diamond