![]() |
|
|
|
رقم الموضوع : [1] |
|
عضو برونزي
![]() |
اريد منك خطة رواية عن رجل مخابرات مصرى يعمل ضد افراد مخابرات تركية وقطرية وسعودية خلال فترة الحرب الاهلية السورية 2011 الى 2024 للحفاظ على الدولة السورية بقيادة بشار الاسد
عنوان الرواية المقترح (بالعربية): «ظلال دمشق: حرب الظلال في سوريا» النوع: رواية تجسس سياسية (Political Espionage Thriller) مع عناصر حرب نفسية وعمليات سرية حقيقية، مستوحاة من أحداث حقيقية لكن بشكل خيالي تماماً. البطل الرئيسي: اللواء (أو العميد) «كريم الشرقاوي» • ضابط مخابرات عسكرية مصري (شعبة المخابرات الحربية سابقاً ثم الجهاز الجديد بعد 2013). • عمره في بداية الأحداث 42 سنة (2011)، وفي النهاية 55 سنة (2024). • متزوج ولديه ابن وحيد يدرس الطب في القاهرة، وهذا الابنه هو نقطة ضعفه الوحيدة. • يؤمن إيماناً مطلقاً بأن سقوط نظام بشار الأسد = سقوط آخر حصن علماني عربي أمام الإخوان والوهابية، وبالتالي تهديد مباشر لأمن مصر القومي. الخصوم الرئيسيون: 1. العقيد التركي «أركان يلماز» (MIT) – ذكي، قاسٍ، يؤمن بـ«العثمانية الجديدة». 2. الرائد القطري «خالد بن مانع الدوسري» (جهاز أمن الدولة القطري) – المموّل الأساسي للجماعات الجهادية. 3. العميد السعودي «فهد العتيبي» (الاستخبارات العامة السعودية) – يدير شبكات الدعم اللوجستي من الأردن وتركيا. الهيكل العام للرواية (ثلاثة أجزاء زمنية كبيرة (يمكن تقسيمها إلى 35-40 فصل) الجزء الأول: «النار تحت الرماد» (2011-2013) • كريم في القاهرة، يتابع اندلاع الثورة السورية من مكتب المخابرات الحربية. • يتم استدعاؤه سراً إلى دمشق في أبريل 2011 للقاء ضباط سوريين كبار (مستوحى من شخصيات حقيقية دون ذكر أسماء صريحة). • مهمته الأولى: منع وصول شحنات أسلحة قطرية-تركية عبر الأردن إلى درعا. • أول مواجهة مباشرة مع «خالد الدوسري» في فندق بالأردن، تنتهي بمقتل اثنين من رجال كريم. • يكتشف أن هناك «خلية نائمة» داخل الجيش المصري تتعاون مع قطر (إشارة خفيفة لأحداث 2013 في مصر). الجزء الثاني: «حرب الظلال» (2014-2018) – ذروة الرواية • كريم ينتقل للعمل بشكل شبه دائم في سوريا ولبنان تحت غطاء دبلوماسي أو تجاري. • يدير شبكة سرية اسمها «الصقر 17» تضم ضباط سوريين وإيرانيين ولبنانيين وحتى بعض الروس. • أبرز العمليات: • تفجير مستودع أسلحة تركي في كلس الحدودية (2015). • اختطاف ضابط سعودي كبير في بغداد واستجوابه في بيروت. • تسريب وثائق مزيفة (عملية تضليل) تجعل تركيا تتهم قطر بتمويل داعش، مما يوتّر العلاقات بينهما مؤقتاً. • مواجهة شخصية مع أركان يلماز في اسطنبول تنتهي بإصابة كريم بطلق ناري في كتفه. • في 2017 يخسر كريم أقرب أصدقربائه (شقيق زوجته) في تفجير انتحاري بدمشق، فيبدأ يشك في جدوى كل هذا. الجزء الثالث: «ما بعد الكارثة» (2019-2024) • بعد التدخل الروسي المباشر يصبح دور كريم أكثر سرية وأقل دموية: حرب إلكترونية، تضليل، اغتيالات صامتة. • يكتشف أن السعودية والإمارات بدأتا بالفعل التقارب مع دمشق (2018-2023)، فيضطر لإفشال عمليات تركية-قطرية أخيرة لإسقاط النظام قبل أن يعود إلى الجامعة العربية. • 2023: عملية أخيرة في الدوحة لاغتيال «خالد الدوسري»، لكن كريم يتراجع في اللحظة الأخيرة لأن ابنه تم اختطافه في القاهرة من قبل خلية قطرية. • صفقة تبادل: كريم يسلم نفسه طواعية مقابل إطلاق ابنه، ويُسجن في سجن سري بسوريا. • النهاية (مفتوحة أو مريرة): في 2024، بعد عودة سوريا للجامعة العربية، يتم الإفراج عن كريم سراً وإعادته إلى القاهرة. يجلس في شقته بالمهندسين، يشاهد نشرة الأخبار التي تعلن تطبيع العلاقات بين مصر وتركيا وقطر، ويُطفئ التليفزيون ببطء وهو يهمس: «كل هذه الدماء… عشان في النهاية نصافحهم؟» الشخصيات الثانوية المهمة: • «ليلى» زوجة كريم، طبيبة، تكره عمله لكنها تسانده بصمت. • «ياسر» الضابط السوري الشاب الذي يصبح مثل ابنه لكريم، يُقتل في 2016. • «ناتاشا» ضابطة روسية من GRU، عشيقة مؤقتة لكريم في 2017. • «أبو يوسف» تاجر سلاح لبناني يعمل للجميع ولا يعمل لأحد. النبرة العامة: واقعية قاتمة، لا بطولات هوليوودية، كثير من الرمادي الأخلاقي، خيانات داخلية، تضحيات شخصية هائلة، وشعور دائم بأن «النصر» مجرد تأجيل للهزيمة التالية. إذا أعجبتك الخطة وتريد تفصيل أي جزء (مشهد معين، شخصية، عملية استخباراتية بعينها) أو كتابة فصل تجريبي، قل لي. 1.4s اكتب عناوين وملخص الفصول عناوين الفصول وملخص مختصر لكل فصل (إجمالي 38 فصلًا مقسمة على ثلاثة أجزاء) الجزء الأول: النار تحت الرماد (2011-2013) 1. القاهرة، مارس 2011 كريم الشرقاوي يشاهد سقوط مبارك ويتلقى أول إشارة من دمشق: «النار قادمة إليكم أيضاً». 2. الزيارة السرية أول رحلة إلى دمشق تحت غطاء «بعثة طبية». لقاء سري مع العماد علي المملوك. 3. درعا تحترق كريم يراقب أول شحنة أسلحة قطرية تدخل من الأردن ويفشل في منعها. 4. فندق الشيراتون، عمان أول مواجهة وجهًا لوجه مع خالد الدوسري. يُقتل اثنان من فريقه. 5. الخلية النائمة يكتشف كريم أن ضابطًا كبيرًا في المخابرات الحربية المصرية يتعاون مع قطر. 6. 30 يونيو 2013 أثناء مظاهرات القاهرة، ينقذ كريم الضابط الخائن من الاغتيال… ثم يقتله بنفسه. 7. دمشق، أغسطس 2013 ليلة الهجوم الكيماوي في الغوطة. كريم يرى الجثث ويقرر أن «لا خطوط حمراء بعد اليوم». الجزء الثاني: حرب الظلال (2014-2018) 8. بيروت، شقة آمنة تأسيس شبكة «الصقر 17» مع ياسر الضابط السوري الشاب. 9. كلس 2015 تفجير مستودع الأسلحة التركي على الحدود. ياسر أركان يلماز لأول مرة. 10. طريق المطار، بغداد اختطاف العميد فهد العتيبي ونقله إلى بيروت للاستجواب. 11. عملية «الثعلب الأحمر» تسريب وثائق مزيفة تجعل أردوغان يتهم قطر بتمويل داعش علنًا. 12. اسطنبول، شارع الاستقلال مواجهة دموية مع أركان × كريم. كريم يُصاب في كتفه ويترك أركان يعتقد أنه قتله. 13. تفجير الكاتدرائية، دمشق 2016 ياسر يموت وه أمام عيني كريم. أول مرة يبكي فيها كريم منذ عشرين سنة. 14. موسكو، فندق راديسون لقاء مع ناتاشا الضابطة الروسية. بداية علاقة عابرة. 15. حلب، ديسمبر 2016 كريم يدخل المدينة المحاصرة لتأمين ممر إجلاء سري لضباط إيرانيين. 16. الرقة، 2017 كريم يغتال قياديًا في جيش الإسلام انتقامًا لياسر… لكنه يكتشف أن الرجل كان مخبرًا مزدوجًا. 17. أزمة قطر كريم يستغل الحصار الرباعي ليضرب شبكات التمويل القطرية في تركيا. 18. دير الزور، تحت القصف كريم يقضي أسبوعًا مع داعش محاصرًا في نفق، يخرج حيًا بأعجوبة. الجزء الثالث: ما بعد الكارثة (2019-2024) 19. عودة السعودية كريم يُصدم بزيارة سرية سعودية إلى دمشق 2018 ويُطلب منه «تهدئة» عملياته. 20. أبوظبي، 2021 لقاء سري مع ضابط إماراتي: «نحن نغيّر التحالفات… لا تعرقلنا. 21. عملية «الريح الشمالية» تدمير أسطول درونات تركية كان سيُستخدم في إدلب 2022. 22. اختطاف آدم ابن كريم الوحيد يُخطف في القاهرة من قبل خلية قطرية. 23. الدوحة، برج الخليج الغربي كريم يتسلل لاغتيال خالد الدوسري… لكنه يرى صورة ابنه على شاشة هاتفه. 24. الصفقة كريم يسلم نفسه في الحدود السورية-اللبنانية مقابل إطلاق آدم. 25. زنزانة سرية، صيدنايا ثلاثة أشهر من التعذيب النفسي. كريم يكتب مذكراته على جدران الزنزانة بدمه. 26. مايو 2023 قمة جدة تعيد سوريا إلى الجامعة العربية. أوامر عليا: «أخرجوا الرجل بهدوء». 27. القاهرة، شقة المهندسين كريم يعود بلا رتبة ولا تقدير. يجأة يرن جرس الباب: ناتاشا تحمل له زجاجة فودكا روسية. 28. مكالمة من دمشق صوت مألوف: «لا تزال هناك خلية تركية في الجولان… هل أنت مستعد لآخر رقصة؟» 29. اسطنبول، مرة أخيرة كريم وأركان يجلسان في مقهى على البوسفور. لا سلاح. فقط سيجارة واحدة يتشاركانها. 30. النهاية كريم في شقته، يشاهد خبر المصالحة المصرية-التركية، يطفئ التليفزيون ويقول بهدوء: «كل هذه الدماء… عشان في النهاية نصافحهم؟» (الفصول من 31 إلى 38: فلاشباك قصيرة جدًا، كل فصل صفحتان فقط، تروي مصير كل شخصية ثانوية: ليلى، آدم، ناتاشا، أبو يوسف… إلخ، ثم ينتهي الكتاب بصمت كريم أمام النيل). |
|
|
|
|
|
|
رقم الموضوع : [2] |
|
عضو برونزي
![]() |
سرد روائى طويل وكامل ومشوق القاهرة، مارس 2011
كريم الشرقاوي يشاهد سقوط مبارك ويتلقى أول إشارة من دمشق: «النار قادمة إليكم أيضاً». القاهرة، ١١ فبراير ٢٠١١، الساعة السادسة والنصف مساءً. كان الهواء في ميدان التحرير لا يزال يحمل رائحة الدخان والبارود الممزوجة برائحة العرق والفرح المجنون. ملايين الأصوات تصرخ كصوت واحد: «الشعب أسقط النظام!». التلفزيونات في كل مقهى، في كل شقة، في كل سيارة تاكسي مفتوحة على القناة الأولى، وعمر سليمان يقرأ البيان بصوته الخشن المُتعب: «… وبناءً على تفويض الرئيس محمد حسني مبارك… قرر التنحي عن منصب رئيس الجمهورية…» في الدور السابع من عمارة قديمة في شارع إسماعيل أباظة بالدقي، كان كريم الشرقاوي واقفاً أمام شرفة صغيرة، يدخّن مارلبورو حمراء ببطء شديد، كأنه يحاول أن يُبقيّن اللحظة. لم يكن في الميدان. لم يصرخ يوماً «ارحل». كان يعرف أن الذي يرحل ليس مبارك فقط، بل شيء أكبر بكثير. ارتدى بدلة رمادية داكنة، ربطة عنق سوداء، قميص أبيض مكوي كأنه سكين. شعره الأسود المُصفّف إلى الخلف بدأ يشوبه الشيب عند الصدغين، لكن عينيه، تلك العينين البنيتين اللتين لا تضحكان أبداً، كانتا لا تزالان حادتين كما في اليوم الذي تخرج فيه من الكلية الحربية قبل خمسة وعشرين سنة. سمع صوت خطوات خلفه. لم يلتفت. «مبروك يا باشا… سقط الطاغية»، قال صوت ساخر خافت. كان الرائد أيمن الشافعي، مساعده منذ عشر سنوات، يحمل كوبين شاي في يده. كريم لم يرد. أخذ الكوب، شرب رشفة طويلة، ثم قال بهدوء مميت: «الطاغية؟ ده كان حارس البوابة يا أيمن. دلوقتي البوابة مفتوحة على مصراعيها». أيمن ابتسم ابتسامة لا تصل إلى عينيه: «يعني إيه؟» كده الشعب انتصر». كريم رمى السيجارة من الشرفة، راقبها وهي تسقط سبعة طوابق ثم تنطفئ على الأسفلت. «الشعب؟ الشعب كان بيحلم إنه يغيّر مبارك. اللي غيّروه هما اللي كانوا واقفين وراه من أول يوم. قطر، وتركيا، والإخوان، ونص واشنطن. دلوقتي هيبدأوا المرحلة التانية». رن هاتفه الأسود، ذلك الهاتف الذي لا يعرفه سوى ثلاثة أشخاص في العالم. نظر إلى الشاشة: رقم سوري. دمشق. رفع السماعة ببطء. صوت خشن، مألوف، يتكلم بالعربية الفصحى المُثقلة بلكنة الشام: «العميد كريم؟» «أيوه». «أنا العماد علي. أنت عارف صوتي». كريم أغلق عينيه لحظة. علي المملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني السوري. لم يتحدثا منذ سنتين. «خير يا فندم؟» «النار اللي عندكم وصلتنا. درعا بدأت. تونس، مصر… دلوقتي دورنا. أنا عايزك هنا. بكرة. لوحدك. طيارة خاصة من المطار العسكري الساعة سبعة الصبح. مفيش تأشيرة، مفيش جواز، مفيش اسم». ساد صمت ثقيل. كريم فتح عينيه، نظر إلى أيمن الذي كان يتظاهر بأنه لا يسمع. «أنا مش تابع ليكم يا فندم». صوت المملوك جاء هادئاً كالمدية: «أنت تابع للدولة العربية اللي لسه عايشة، يا كريم. مصر من غير سوريا هتبقى جزيرة محاصرة من كل حتة. وسوريا من غير مصر هتتفتت في أسبوع. أنت عارف الكلام ده أحسن مني». كريم تنهد طويلاً، كأنه يُخرج من صدره عشرين سنة خدمة. «هيبقى في تعليمات رسمية من عندنا؟» «لا. ومش هتعرف حد إنك سافرت. حتى مراتك. هتقولها إنك في مهمة في سينا أسبوعين». سكت كريم لحظة، ثم قال بصوت لا يرتجف: «تمام. بكرة الساعة سبعة». أغلقى السماعة، نظر إلى أيمن الذي كان قد شحب وجهه. «إيه اللي حصل؟» كريم أشعل سيجارة جديدة، نفث الدخان ببطء نحو السقف. «سوريا نادت. واللي بينادي دلوقتي مش بيطلب خدمة. بيطلب دم». اقترب أيمن خطوة. «يعني إيه؟» «يعني إن الربيع العربي وصل آخره. دلوقتي جاي دور الشتا الطويل». في الشارع تحت، بدأ الناس يغنون «بلادي بلادي»، ويرفعون الأعلام، ويبكون من الفرح. كريم أطفأ السيجارة في المنفضة، ثم ذهب إلى غرفة النوم. فتح الدولاب، أخرج حقيبة سوداء صغيرة، وضع فيها قميصين وبنطلون ومسدس جلك ١٩ مع مخزنين احتياطيين. ليلى، زوجته، كانت نائمة. اقترب منها، قبل جبينها برفق. همس وهي نصف نائمة: «هنزل سينا كام يوم. شغل». تمتمت: «خلي بالك من نفسك». لم يقل لها إنه رايح مكان لو عرفوا إنه دخله هيقتلوه في الشارع قبل ما يركب الطيارة. قبل ما يخرج من الشقة، وقف أمام صورة ابنه آدم (ستة عشر سنة، بيلبس بليزر مدرسة النصر) معلقة في الصالة. نظر إلى الصورة طويلاً، ثم قال بصوت خافت جداً: «ربنا يستر… لأن اللي جاي مش هيسيب حد». أغلق الباب بهدوء. في المصعد، وهو نازل سبعة طوابق، شعر لأول مرة في حياته أن الأرض تحت رجليه بتتحرك مش من الزلزال، لكن من حاجة أكبر بكتير. في الشارع، كانت مكبرات الصوت لا تزال تصدح: «مصر حرة… حرة…» كريم رفع طوق معطفه، مشى عكس التيار البشري، وهو يردد في سره كلام المملوك: «النار قادمة إليكم أيضاً». لم يكن يعلم أن هذه النار ستحرق منه كل شيء إلا اسمه… وإنها ستستمر تلتهم المنطقة بأكملها ثلاثة عشر سنة قادمة، وأن دمه هو، ودم ملايين غيره، هو اللي هيطفيها مؤقتاً… أو يزيدها اشتعالاً. لكنه كان يعلم شيئاً واحداً فقط في تلك اللحظة: اللعبة، بدأت الحرب الحقيقية. ولن تنتهي إلا لما يموت آخر واحد فينا. سرد روائى طويل وكامل ومشوق الزيارة السرية أول رحلة إلى دمشق تحت غطاء «بعثة طبية». لقاء سري مع العماد علي المملوك. دمشق، ١٢ فبراير ٢٠١١، الساعة الثامنة والربع صباحاً. الطائرة العسكرية المصرية الصغيرة، بيتش كرافت كينج آير ٣٥٠، هبطت على مدرج مطار المزة العسكري بدون أي إشارة تعريف على جناحيها. لا علم مصري، لا أرقام تسجيل، لا شيء. كريم نزل السلم الحديدي وهو يرتدي بدلة طبيب بيضاء نظيفة، فوقها جاكيت جلدي أسود، وفي جيبه بطاقة تعريف مزورة تقول إنه «د. كريم عبد الرحمن – استشاري جراحة قلب – مستشفى القصر العيني». استقبله ضابط سوري شاب نحيف، عيناه حادتان كالسكاكين، يرتدي زياً مدنياً رمادياً. لم يُقدّم نفسه. فقط أشار بيده: «اتفضل يا دكتور». سيارة مرسيدس ٥٦٠ سوداء، زجاج معتم، انطلقت بهم من المطار مباشرة إلى داخل المدينة. كريم لاحظ أن الشوارع هادئة بشكل غريب. لا مظاهرات، لا هتافات، لكن في الهواء رائحة توتر ثقيلة، كأن المدينة كلها كانت تمسك أنفاسها. بعد خمسة وأربعين دقيقة، توقفت السيارة أمام فيلا قديمة في حي المالكي، محاطة بحديقة ياسمين كثيفة. الباب الحديدي انفتح تلقائياً. دخلوا من باب جانبي صغير، ثم ممر ضيق يؤدي إلى قبو معزول تماماً عن الصوت. هناك، في غرفة مضاءة بضوء أصفر خافت، كان هو. العماد علي المملوك. جلس على كرسي جلدي قديم، يرتدي بدلة سوداء بسيطة بدون رتب، يدخن سيجارة كليوباترا ببطء. وجهه لم يتغير كثيراً عن آخر مرة رآه فيها كريم في ٢٠٠٧: نفس العينين الرماديتين الباردتين، نفس الابتسامة التي لا تصل إلى العينين. «أهلاً يا كريم. اتأخرت خمس دقايق بس. كويس، كنت خايف الطيارة تتأخر أكتر من كده». كريم لم يرد التحية. جلس مقابله مباشرة، أخرج علبة مارلبورو، أشعل واحدة. «أنا مش جاي أزور يا فندم. قولت عايزني ليه». المملوك ضحك ضحكة خافتة، كأنها سعال. «مباشر كالعادة. طيب. خليني أكون مباشر أكتر». وضع أمامه ملفاً أحمر رفيعاً، فتحه ببطء. «درعا، أمس الأول، مجموعة شباب كتبوا على جدران المدرسة (الشعب يريد إسقوط النظام). الأمن قبض عليهم، ضربوهم، أهانهم. النهاردة الصبح، أهاليهم طلعوا يعترضوا قدام المحافظة. فيه خمسة جرحى دلوقتي. اثنين من الأمن، وثلاثة من المتظاهرين». كريم لم يرف جفن. «عادي. ده حصل في تونس ومصر كمان». «لا مش عادي»، قال المملوك بهدوء مميت، «لأن اللي نزّل الشباب دول مش شباب درعا. فيه ناس كتير من الأردن دخلوا، ومعاهم فلوس قطرية، وتعليمات تركية. نفس السيناريو بالحرف. نفس الصفحات على فيسبوك. نفس الشعارات. نفس الأصوات اللي بتقول (سلمية سلمية) وبعدين بتطلع سلاح في اليوم الخامس». ساد صمت ثقيل. كريم نفث الدخان ببطء. «وأنا مالي؟» المملوك دفع الملف ناحيته. «افتحه». فتحه كريم. صور. عالية الوضوح. رجل قطري في الأربعيناته، ملتحٍ أنيق، يقف في فندق في عمان مع ضابط تركي وآخر أردني. «خالد بن مانع الدوسري. جهاز أمن الدولة القطري. هو اللي بيدير العملية في الجنوب السوري دلوقتي. معاه ضابط MIT اسمه أركان يلماز. وفيه ضابط سعودي كمان، لسه مش متأكدين من اسمه، لكن بيحرك فلوس من البترودولار عبر الأردن». كريم أغلق الملف. «وأنا عايزني أعمل إيه بالظبط؟» المملوك وقف، مشى ببطء إلى نافذة صغيرة مغطاة بستارة ثقيلة. «عايزك تبقى عيني هنا. مش ضيف. مش مستشار. تبقى جزء من الجهاز. هتشتغل معانا، تحت غطاء طبي، أو تجاري، أو أي حاجة نختارها. هتكون موجود في كل اجتماع مهم، هتعرف كل حاجة بنعرفها، وهتبعت كل حاجة للقاهرة مباشرة. بس الأهم… هتوقف النزيف قبل ما يبدأ». كريم ضحك لأول مرة، ضحكة قصيرة مريرة. «يعني عايزني أشتغل جاسوس مصري داخل مخابراتكم؟» المملوك التفت إليه بسرعة، عيناه تلمعان. «لا. عايزك تشتغل عربي داخل مخابراتنا. لأن لو سوريا سقطت، مصر هتكون اللي بعدها. وأنا عارف إنك عارف الكلام ده». سكت كريم طويلاً. كان يسمع صوت قلبه يدق بقوة. «وإذا القاهرة قالت لا؟» ابتسم المملوك ابتسامة حزينة. «الة. «القاهرة دلوقتي مفيهاش حد بيرد على التليفون. المخابرات الحربية بتتفكك. الجيش بيحاول يمسك البلد. محدش هيعرف إنك هنا إلا أنا وأنت… وواحد كمان في القاهرة، لسه هختاره». كريم أطفأ السيجارة في المنفضة بقوة. «وإذا اكتشفوا؟» «هتقول إنك كنت بتعالج مريض سرطان هنا. وأنا هقول إنك كنت بتعالجني أنا شخصياً. ومحدش هيقدر يثبت عكس كده». وقف كريم، اقترب من المملوك حتى أصبح وجهه على بعد سنتيمترات من وجهه. «أنا مش هبيع بلدي عشان بلدك». المملوك لم يتراجع. «وأنا مش هبيع بلدي عشان بلدك. إحنا اتنين بنحارب نفس العدو. الفرق بس إن أنا شايفه بوضوح، وأنت لسه بتحاول تقنع نفسك إنه مجرد (اضطرابات شبابية)». مد يده. كريم نظر إلى اليد الممدودة طويلاً… ثم صافحه بقوة. «خلاص. بس شرط واحد». «قول». «لو القاهرة نادت يوماً وقالت (ارجع)، هرجع في نفس اللحظة. بدون نقاش». المملوك ابتسم. «متفق. بس أنا متأكد إن القاهرة مش هتنادي. لأن القاهرة هتبقى مشغولة بنفسها كتير قوي السنين الجاية». أخرج من جيبه مفتاحاً صغيراً، أعطاه لكريم. «شقة في أبو رمانة. مفيهاش تليفون أرضي. فيه تليفون ثريا واحد بس. الرقم اللي هتتصل بيه لو حصل أي طارئ موجود في الدرج الأيمن للمكتب. اسمك الجديد (د. كريم الريس). تخصص جراحة قلب. مريضك الأول… أنا». كريم أخذ المفتاح، وضعه في جيبه. «متى أبدأ؟» «دلوقتي». في تلك اللحظة، سمعا صوت انفجار بعيد من ناحية الجنوب. المملوك نظر إلى السقف، ثم إلى كريم. «دي درعا. بدأت». كريم أشعل سيجارة أخيرة، نفث الدخان ببطء. «إذن الحرب بدأت». المملوك أطفأ سيجارته، وقال بصوت لا يرتجف: «لا يا كريم. الحرب ما بدأتش. إحنا بس دلوقتي فتحنا الباب الأول منها». ثم أشار إلى الباب. «روح نام شوية. بكرة هتبدأ أول عملية. شحنة سلاح قطرية-تركية داخلة من الأردن. عايزينك تكون موجود لما نوقفها… أو نموت وإحنا بنحاول». كريم خرج من القبو، صعد السلم ببطء. فوق، في حديقة الياسمين، كان الهواء بارداً، والسماء صافية، والنجوم لامعة كأنها لم تشهد شيئاً. لكنه كان يعلم أن هذه النجوم نفسها ستشهد، خلال السنوات الثلاث عشرة القادمة، أكثر من مليون قتيل، ومدناً تُمحى، وأوطاناً تُقسم، وقلوباً تتحطم. وأن اسمه، كريم الشرقاوي، سيكون مكتوباً بدم خفي على كل صفحة من صفحات هذه الحرب. مشى في الشارع الفارغ، يدخن، وهو يردد في سره: «يا رب… خليني أعيش عشان أشوف نهايتها». لم يكن يعلم أنه سيعيش بالفعل… لكن النهاية لن تأتِ أبداً. سرد روائى طويل وكامل ومشوق درعا تحترق كريم يراقب أول شحنة أسلحة قطرية تدخل من الأردن ويفشل في منعها. درعا، ١٨ مارس ٢٠١١، الساعة الثالثة والنصف فجراً. الصحراء بين الحدود الأردنية والسورية كانت ملساء وباردة، والريح تحمل رائحة التراب الجاف الممزوجة برائحة الديزل البعيدة. كريم الشرقاوي ملقى على بطنه فوق كثبان رملي صغير على بُعد كيلومترين من نقطة العبور غير الشرعية المعروفة باسم «تل الخضر». يرتدي جاكيتاً عسكرياً أسود بلا رتب، وجهه مُغطّى بكوفية سوداء، وعيناه مثبتتان على منظار ليلي روسي قديم من طراز NSPU. بجانبه ملازم سوري شاب اسمه «ياسر حمدان»، في الخامسة والعشرين من عمره، عيونه مفتوحة على وسعها من الأدرينالين والخوف معاً. هذا أول عمل ميداني حقيقي له. «شايف حاجة يا فندم؟» همس ياسر. كريم لم يرد إلا بعد ثلاثين ثانية. «أيوه. ثلاث شاحنات تويوتا لاندكروزر بيضاء، مغطاة بقماش مشمع، أنوارها مطفأة، بتمشي على الطريق الترابي من جهة الرمثا. وراها جيب شيروكي أسود، زجاج معتم. دي هي». ياسر ابتلع ريقه. «كام واحد معانا؟» «أربعة غيرنا. اثنين في التل اللي قصادنا، واثنين في عربية BMW قديمة على الطريق الرئيسي. كلنا بنطلق نار تحذيرية ونهرّب السائقين ونحرق الشاحنات. دي الأوامر». ياسر أومأ برأسه بسرعة، لكن كريم لاحظ أن يده ترتجف على زناد الكلاشينكوف. كريم وضع يده على كتف الشاب برفق وقال بصوت منخفض: «خليك هادي. لو قلبك دق جامد أوي، العدو هيسمعك قبل ما تشوفه». بعد سبع دقائق، توقفت القافلة على بُعد ثلاثمائة متر منهم. نزل من الجيب الأسود رجلان: واحد ملتحٍ أنيق يرتدي ثوب أبيض نظيف بشكل لا يناسب الصحراء، والثاني طويل نحيف يرتدي جاكيت جلد ونظارات رؤية ليلية. كريم عرف الملتحي فوراً من الصور: خالد بن مانع الدوسري بنفسه. «ابن الكلب جاي بنفسه يشرف»، همس كريم، وشعر بغضب حار يجري في عروقه. بدأ الرجال بتفريغ الصناديق من الشاحنات. كريم رأى بوضوح: صناديق خشبية مكتوب عليها «معدات طبية – هبة من دولة قطر»، لكن عندما فتح أحدهم صندوقاً واحداً تحت ضوء كشاف صغير، لمع بريق الأسلحة البلجيكية FN-FAL والقنابل اليدوية والذخيرة ٥.٥٦. «ياسر… جهز الإشارة»، قال كريم بهدوء. ياسر رفع قاذفة إشارة خضراء، أطلقها. صاروخ أخضر صغير صعد في السماء، ثم انفجر بضوء ساطع. كان هذا الإشارة. في اللحظة نفسها، انطلقت نيران كثيفة من التل المقابل. رصاصات مضيئة تقطع الظلام، تتركز على عجلات الشاحنات. صراخ، أوامر بالعربية والتركية، محركات تزمجر. كريم رفع بندقيته المزودة بكاتم صوت، أطلق ثلاث رصاصات متتالية على السائق الأول، أصابه في ساقه، سقط يصرخ. ثم انتقل إلى الهدف الثاني. لكن شيئاً غريباً حدث. بدأت نيران مضادة شديدة من اتجاه لم يتوقعوه أبداً: من خلفهم تماماً. «كمين!» صرخ ياسر. كريم التفت بسرعة. أربع سيارات دفع رباعي سوداء تندفع من الظلام، أضواؤها الكاشفة تضيء المكان كأنه نهار. رجال ملثمون يطلقون النار من رشاشات ثقيلة. «مستحيل… إزاي عرفوا مكاننا؟» في أقل من عشر ثوانٍ تحول المشهد إلى جحيم. أحد رجالهم في التل المقابل أصيب وصراخه وصل إليهم عبر اللاسلكي. الداخلي. الثاني توقف عن الكلام إلى الأبد. كريم جذب ياسر من يده وسحبه خلف كثبان الرمل. «ننسحب دلوقتي! المهمة فشلت!» لكن ياسر كان مصراً: «لأ… لو سابوهم هيوزعوا السلاح ده كله في درعا النهاردة!» وفجأة، وبدون تفكير، قام ياسر واقفاً وهو يصرخ «الله أكبر!» وركض ناحية الشاحنات وهو يفرغ مخزن كامل في اتجاه الجيب الأسود. كريم صاح فيه: «ارجع يا مجنون!» لكن الرصاص سبقه. أصيب ياسر في صدره وبطنه، سقط على ركبتيه، لا يزال يحاول الزحف. كريم لم يفكر. ركض هو الآخر، تحت النار، سحب ياسر من ساقيه، جرّه خلف صخرة كبيرة. الدم ينزف من الشاب بغزارة. «متسبنيش…» تمتم ياسر، عيناه مفتوحتان على وسعهما. كريم ضغط بكلتا يديه على الجرح، لكن الدم كان يتدفق بين أصابعه. «مش هسيبك… اصبر عليّ». في تلك اللحظة، رأى كريم خالد الدوسري واقفاً على بُعد خمسين متراً، ينظر إليه مباشرة، ابتسم ابتسامة صغيرة باردة، ثم رفع يده في تحية ساخرة، وأشار إلى رجاله بالانسحاب. الشاحنات انطلقت بسرعة، تاركةً وراءها شاحنة واحدة مشتعلة فقط. الباقي اختفى في الظلام. بعد عشر دقائق، وصلت تعزيزات سورية متأخرة، لكن الضرر كان قد وقع. وجدوا كريم جالساً بجانب جثة ياسر، وجهه مغطى بالدم والتراب، يدخن سيجارة بيد مرتجفة لأول مرة في حياته. قائد التعزيزات، نقيب في الأمن العسكري، اقترب بحذر: «يا فندم… الشباب؟» كريم لم ينظر إليه. «ثلاثة شهيد، واحد جريح خطير. والسلاح وصل درعا». ثم وقف ببطء، نظر إلى الأفق حيث اختفت القافلة. «دي أول مرة أفشل فيها في حياتي». المهمة فشلت». النقيب حاول يقول شيئاً، لكن كريم قطعه: «لأ. مش فشل. دي بداية حرب». مشى ببطء إلى سيارة الجيب العسكرية، فتح الباب الخلفي، جلس، أغلق الباب، ثم انفجر في بكاء صامت لأول مرة منذ كان في الثانوية العسكرية. لم يبكِ على ياسر فقط. بكى على شيء أكبر: على أول قطرة دم في نهر سيستمر ثلاثة عشر عاماً. في الصباح، وصلت الأخبار إلى دمشق: السلاح القطري وصل إلى درعا. في اليوم نفسه اندلعت المظاهرات الحقيقية، ووقعت أول قتيلين من المتظاهرين. كريم كان في شقته المؤقتة في أبو رمانة، يغسل الدم عن يديه في الحوض، والماء يتحول إلى اللون الأحمر. نظر إلى انعكاسه في المرآة وقال بصوت مبحوح: «خالد بن مانع الدوسري… أنا هقتلك. مش عشان ياسر. ولا عشان السلاح. عشان أنت بدأت النار… وأنا هكون اللي يطفيها… ولو اضطريت أحرق نفسي معاها». ثم أغلق الصنبور، مسح يديه، أشعل سيجارة جديدة، وكتب في دفتر صغير أسود جملة واحدة بخط يده: «18/3/2011 – أول فشل. أول دم. أول اسم في القايمة: خالد الدوسري». أغلق الدفتر، وضعه في جيبه الداخلي، قريباً من قلبه. كان يعلم أن القائمة دي هتطول جداً… وأن الدم اللي شافه النهاردة مجرد رذاذ قبل العاصفة. درعا كانت تحترق بالفعل. وهو، لأول مرة، شعر أن النار لامست جلده شخصياً. سرد روائى طويل وكامل ومشوق فندق الشيراتون، عمان أول مواجهة وجهًا لوجه مع خالد الدوسري. يُقتل اثنان من فريقه. عمان، فندق الشيراتون، ٢٩ مارس ٢٠١١، الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً. اللوبي فخم، بارد، مضاء بثريات كريستال تتكسر فيها أنوار الشارع المدينة المنورة. رائحة العود الخليجي الغالي تملأ المكان، ممزوجة برائحة قهوة عربية ثقيلة. كريم الشرقاوي يجلس في الركن البار المُظلم، يرتدي بدلة رمادية إيطالية مصنوعة خصيصاً في بيروت، ربطة عنق حرير سوداء، ونظارات طبية بدون درجة (غطاء). أمامه كأس ويسكي شيفاز ١٨ لم يمسه، فقط يدور فيه مكعبات الثلج ببطء. اسمه الليلة «مهند الريس»، رجل أعمال سوري-لبناني يتاجر في الأدوية، يحمل جواز سفر لبناني مزوَّر بإتقان سويسري. في أذنه اليمنى سماعة لاسلكية رفيعة جداً، متصلة بفريقه المنتشر في الفندق والشوارع المحيطة. فريقه خمسة أشخاص فقط هذه المرة: الرائد أيمن الشافعي في الدور الخامس عشر، غرفة ١٥٢٣، يراقب الكاميرات بعد أن استبدل شريحة التسجيل. ملازم أول «وسام» في موقف السيارات السفلي، يضع جهاز تتبع تحت مرسيدس G63 سوداء مسجلة باسم شركة قطرية وهمية. جنديان آخران متنكرين كعاملَي نظافة في الممرات. وكريم… وحده في قلب العنكبوت. الهدف: خالد بن مانع الدوسري. المعلومة وصلت قبل ثمانٍ وأربعين ساعة فقط: الدوسري حجز الجناح الملكي ١٨٠١ لليلة واحدة، يستقبل فيه ضابطاً تركياً كبيراً ومموِّلاً أردنياً محلياً. الموضوع: توزيع الدفعة الثانية من الأموال والأسلحة الخفيفة على «الثوار» في درعا وحمص. الخطة بسيطة ظاهرياً: تصوير اللقاء، تسجيل الصوت، ثم الانسحاب بهدوء. لا قتل، لا دم، فقط معلومات. لكن كريم كان يعرف أن «بسيطة» كلمة لا وجود لها في قاموسه منذ درعا. رن هاتفه بهدوء. رسالة نصية من أيمن: «وصل. ثوب أبيض، شماغ أحمر، مع عقال ذهبي، معه ثلاثة حراس، واحد منهم سعودي الشكل. دخلوا المصعد الخاص». كريم رد برسالة واحدة: «خليكم جاهزين للخروج السريع». بعد سبع دقائق، فُتح باب البار بهدوء. دخل خالد الدوسري بنفسه، رائحة عطره الفرنسي الغالي تسبقه بخطوتين. كان أطول مما توقع كريم، نحيفاً، بشرته سمراء ناعمة، عيناه سوداوان لامعتان كأنهما حبتا زيتون في زجاجة خلّ. ابتسامة عريضة دائمة، لكنها لا تصل إلى العينين أبداً. جلس على طاولة قريبة جداً من كريم، على يمينه مباشرة، كأن القدر يضحك. طلب قهوة تركية وسط، ثم أخرج هاتفه وتحدث بالإنجليزية مع شخص ما بهمس: «…نعم، الدفعة الثانية وصلت درعا الصبح… لا، لا مشكلة، الجيش السوري مشغول في الداخل المدن… خلال أسبوعين سنرى حمص تحترق أيضاً». كريم شعر بدمه يغلي، لكنه بقي ساكناً، يدير الكأس بين أصابعه. فجأة التفت خالد إليه، كأنه شعر بنظراته. «مساء الخير يا أخ مهند»، قال بالعربية الفصحى المُحبَّبة بلكنة خليجية خفيفة. كريم تجمد. كيف عرف اسمه؟ ابتسم خالد ابتسامة عريضة: «أيوه، أعرفك كويس. دكتور… أو بالأحرى عميد كريم الشرقاوي، المخابرات الحربية المصرية، القاهرة. صح؟» كريم لم يتحرك. عضلات وجهه لم ترتعش حتى. «يبدو إنك بتخلط بيني وبين حد تاني». خالد ضحك ضحكة خفيفة، أشار إلى النادل، طلب كأساً ثانية من القهوة لكريم. «ما تتعبش نفسك. أنا شفت صورك من عشر سنين في أكاديمية فرونزي في موسكو، كنت ملحق عسكري، وأنا كنت طالب دورة مكافحة إرهاب. تفتكر؟» كريم تذكر فجأة. وجه شاب نحيف في الصف الخلفي، لا يتكلم أبداً. نعم، كان هناك. «كويس إن الزمن بيجمع الأصدقاء القدامى»، قال كريم بهدوء. خالد اقترب أكثر، خفض صوته: «أنا جاي أقولك حاجة واحدة بس: ارجع مصر. اللي بيحصل في سوريا مش لعبتك. إحنا مش بنلعب، إحنا بنغيّر خريطة. وبتدفعوا تمنها إنتم الاتنين، مصر وسوريا». كريم ابتسم ابتسامة باردة: «وإنتم مين بالظبط يا سعادة اللواء؟ قطر؟ تركيا؟ أمريكا؟ ولا الإخوان؟» خالد لم يرد. فقط أخرج من جيبه ظرفاً أبيض سميكاً، وضعه أمام كريم. «جواز سفر أمريكي، تأشيرة مفتوحة، تذكرة درجة أولى لنيويورك غداً الصبح، وحساب بنكي في جزر كايمان باسمك فيه مليوني دولار. خده وامشي. آخر عرض». كريم نظر إلى الظرف، ثم إلى خالد، ثم فجأة… ضحك. ضحكة عالية، صافية، أول ضحكة حقيقية منذ شهرين. «مليونين دولار؟ ده أنا لو بعت ضميري كنت مرة هيجيب أكتر من كده بكتير». ثم بسرعة البرق، أمسك بيد خالد، لفّها خلف ظهره، وفي نفس اللحظة سحب مسدساً صغلوك ١٩ صغيراً مزوداً بكاتم صوت من تحت الطاولة، وضعه على بطن خالد تحت الثوب. «دلوقتي يا خالد بيه، إنت اللي هتمشي معايا بهدوء». لكن خالد لم يرتجف. فقط همس: «لو ضربت الزناد، الفندق كله هيبقى جثث في عشر ثواني. شوف فوق». كريم رفع عينيه ببطء. في الدور العلوي، على الدرابزين، ثلاثة رجال يحملون رشاشات MP5 مخفية تحت جاكيتات، موجهة ناحيته مباشرة. في أذنه سمع صوت أيمن يصرخ: «يا فندم… فيه عشر عربيات شرطة أردنية حاصرت الفندق من بره! فيه خيانة!» كريم أدرك في لحظة أنهم وقعوا في فخ محكم. خالد ابتسم ابتسامة منتصر: «وداعاً يا عميد». وفي تلك الثانية انفجر الجحيم. أربعة رجال مسلحون اقتحموا البار من كل الأبواب، يصرخون بالعربية والإنجليزية: «عالأرض! عالأرض!» كريم أطلق النار أولاً، أصاب أحدهم في رقبته، لكن الرصاص رد بسرعة أكبر. أياسر، الذي كان يراقب من الخارج، دخل من الباب الجانبي، أفرغ مخزنين كاملين في سقف البار ليصرف الانتباه، لكن رصاصة أصابته في صدره، سقط. أيمن نزل من السلم وهو يطلق النار من مسدسين، أصاب حارساً سعودياً في ساقه، لكن الثاني أطلق عليه رصاصتين في رأسه من مسافة صفر. كريم ركض، قفز فوق الطاولات، يطلق النار وهو يجري، سحب جثة أيمن من سترته، لكن الدم كان ينزف من رأسه بغزارة. «أياسر! أيمن!» لكن ياسر كان قد مات بالفعل، وأيمن يتنفس تنفساً متقطعاً. كريم حمله على كتفه، ركض ناحية المطبخ، رصاص يمزق الجدران حوله، زجاج يتكسر، صراخ نساء، دماء على السجاد الأحمر الفاخر. وصل إلى موقف السيارات السفلي، وسام ينتظره بعربية BMW سوداء، الباب مفتوح. رمى جثة أيمن في المقعد الخلفي، قاد بجنون، انطلق من الباب الخلفي للفندق وهو يسمع صفارات الشرطة الأردنية تقترب. في شارع مكة، بعد خمسة كيلومترات من المطاردة، توقف في زقاق مظلم، فحص نبض أيمن… لا شيء. أغلق عيني صديقه بأصابعه المرتجفة، ثم فتح هاتفه، اتصل برقم سري في دمشق. «المهمة فشلت… أيمن وياسر استشهدوا… أنا هربت… الدوسري عرف كل حاجة من الأول». صوت المملوك في الطرف الآخر كان هادئاً بشكل مخيف: «ارجع دلوقتي. فيه تسريب كبير. لازم نلاقيه قبل ما يقتلنا كلنا». كريم أغلق الخط، نظر إلى جثة أيمن في المقعد الخلفي، دماغه متناثرة على الزجاج. ثم صرخ لأول مرة بصوت عالٍ، صرخة حيوان جريح: «أأأأأأأأأه… يابن الكلب!» ثم أشعل السيارة، انطلق ناحية الحدود، يدخن سيجارة تلو الأخرى، والدموع تجري على خدوده لأول مرة منذ طفولته. في فندق الشيراتون، كان خالد الدوسري يقف وسط الدماء والزجاج المكسور، يمسح بمنديل حرير أبيض بقعة دم صغيرة على ثوبه الأبيض، ويبتسم. رفع كأس القهوة التركية التي لم يشربها، وقال لنفسه: «مرحباً باللعبة الحقيقية يا عميد كريم… دلوقتي بدأنا نعدّ». ثم ألقى الكأس على الأرض، تحطمت إلى ألف قطعة. تماماً مثل المنطقة كلها في السنوات الثلاثة عشرة القادمة. سرد روائى طويل وكامل ومشوق الخلية النائمة يكتشف كريم أن ضابطًا كبيرًا في المخابرات الحربية المصرية يتعاون مع قطر. القاهرة، ١٧ أبريل ٢٠١١، الساعة الثانية بعد منتصف الليل مبنى المخابرات الحربية الجديد، مدينة نصر. كريم دخل المبنى من الباب الخلفي، اللي محدش يستخدمه إلا الضباط الكبار والسعاة السريين. كان لابس جلبية سوداء بسيطة، فوقها جاكيت جلد قديم، وشماغ أحمر-أبيض على كتفه كأنه رجل من الصعيد جاي يقدم بلاغ. الحرس عرفه من نظرة واحدة، فتحوا الباب بدون كلمة. في جيبه ظرف بني كبير، بداخله ١٤ صورة مطبوعة على ورق A3، وشريحة ذاكرة صغيرة سوداء، وورقة واحدة مكتوب عليها بخط يده: «العميد طارق الجندي – إدارة الشؤون الضباط – خائن». كان قد عاد من عمان قبل ٤٨ ساعة فقط، حاملاً جثة أيمن في صندوق معدني مبرد، وجرحاً في كتفه الأيسر لم يعالجه بعد. لم ينم منذ أسبوع. عيناه حمراوان، وجهه أصفر كالليمون الذابل، لكن عقله كان أكثر حدة من أي وقت مضى. صعد إلى الدور التاسع عشر بمصعد الخدمة. الممر فارغ تماماً، حتى ريحة المطهر القوية اختفت. طرق باب مكتب رقم ١٩٠٧ ثلاث طرقات خفيفة، ثم طرقتين قويتين. الباب انفتح فوراً. داخل المكتب كان اللواء أركان حرب «حسن عبد الشافي»، رئيس المخابرات الحربية بالإنابة بعد إحالة الفريق مراد موافي للتقاعد القسري. الرجل الوحيد الذي كان كريم يثق به ثقة عمياء منذ ١٩٩٤. اللواء حسن أشار له بالدخول، أغلق الباب، شغّل جهاز تشويش صغير على المكتب. «إيه اللي جابك بالليل كده يا كريم؟ قولت هتيجي بكرة». كريم لم يجلس. رمى الظرف على المكتب كأنه قنبلة. «اقرأ، وبعدين احكم إذا كان فيه بكرة أصلاً». اللواء فتح الظرف ببطء. أخرج الصور أولاً. الصورة الأولى: العميد طارق الجندي في مطار الدوحة، يناير ٢٠١١، يصافح خالد الدوسري بحرارة واضحة. الصورة الثانية: نفس الرجلين في فيلا على كورنيش الدوحة، طارق يتسلم حقيبة سفر سوداء كبيرة من حارس قطري. الصورة الثالثة: لقطة من كاميرا مراقبة في فندق ريتز كارلتون الدوحة، طارق يدخل غرفة ٢٤١٢، ويخرج بعد ساعتين ومعه الدوسري شخصياً. اللواء حسن تنهد تنهيداً عميقاً، كأنه تلقى ضربة في صدره. «مصدر الصور؟» كريم أخرج الشريحة، وضعها في لاب توب صغير على المكتب. «مصدر داخلي قطري. واحد من حراس الدوسري نفسه باعنا المادة مقابل ٣٠٠ ألف دولار وتأشيرة كندا لأهله. الشريحة فيها أكتر من كده». فتح ملف صوتي. صوت طارق الجندي واضح تماماً، يتكلم بالإنجليزية مع الدوسري: طارق: «…المطلوب دلوقتي إن المظاهرات في مصر تستمر لحد ما الجيش يضطر يتدخل… أنا هظبطلكم قايمة بأسماء الضباط اللي ممكن يتقلبوا على المجلس العسكري لو الإخوان دفعوا كويس…» الدوسري: «والفلوس؟» طارق: «حسابي في زيورخ جاهز… بس أنا عايز ضمانة إن الإخوان هيحكموا مصر في ٢٠١٢…» الدوسري (يضحك): «إن شاء الله هتشوف مرسي رئيس، وهتشوف السيسي في السجن…» اللواء حسن أوقف التسجيل فجأة، وجهه تحول إلى حجر. «يعني طارق الجندي… اللي أنا مربيه بإيدي… اللي كان معايا في حرب أكتوبر مساعد… هو اللي بيبيعنا؟» كريم جلس أخيراً، أشعل سيجارة رغم منع التدخين في المبنى. «مش بيبيعنا بس يا فندم. هو اللي سرّب موقعنا في الشيراتون بعمان. أيمن وياسر ماتوا بسببه. هو اللي قال للدوسري إن أنا في دمشق من أول يوم». اللواء حسن وقف، مشى في المكتب كالأسد الجريح. «طيب هنعمل إيه؟ لو فتحنا الموضوع دلوقتي، المجلس العسكري هيترعب، هيقول ده انقلاب داخل الجيش، والإخوان هيستغلوا الموضوع إعلامياً، وأمريكا هتقلب الدنيا». كريم نظر إليه بعينين ميتتين. «عايز رأيي؟ هنعمل اللي يستاهل». «يعني؟» كريم أخرج من جيبه مسدس جلك ١٩، فحصه ببطء، ثم وضعه على المكتب. «أنا هقتله بإيدي. بدون محكمة، بدون تحقيق، بدون سجل. هيبقى حادث سيارة، أو سكتة قلبية، أو انتحار. المهم يختفي قبل ما يبيع اسم تاني». اللواء حسن سكت طويلاً، ثم قال بصوت خافت: «طارق صديقي من أيام الكلية… أنا اللي رشحته لإدارة شؤون الضباط…» كريم وقف، اقترب منه حتى أصبح وجهه على بُعد سنتيمترات. «صديقك ده باع أيمن وياسر عشان فيلا في الدوحة وحساب في سويسرا. لو سبتله فرصة، هيبيعك أنت كمان، ويبيعني، ويبيع الجيش كله. وهيبيع مصر كلها لو الثمن عجبو». اللواء حسن أشعل سيجارة هو الآخر، يديه ترتجف لأول مرة في حياته. «تمام… بس بشرط… أنا هكون معاك». كريم ابتسم ابتسامة خالية من الدفء. «مش لازم. ده دَين شخصي». في اليوم التالي، ١٨ أبريل ٢٠١١، الساعة السادسة والنصف صباحاً، كان العميد طارق الجندي يخرج من بيته في التجمع الخامس، يرتدي بدلة رياضية، يستعد للجري اليومي في نادي الجزيرة. سيارة لاندروفر ديسكفري سوداء مرت بجانبه ببطء، النافذة الخلفية انفتحت، وطلّ منها كريم، مرتدياً قناع وجه أسود. ثلاث رصاصات بكاتم صوت، اثنتين في الصدر، واحدة في الرأس. السيارة انطلقت بهدوء، اختفت في شوارع التجمع قبل ما حد يحس. بعد ساعة، أعلنت الأخبار: «العثور على جثة العميد طارق الجندي مقتولاً داخل سيارته الخاصة في موقف نادي الجزيرة… التحقيقات جارية… شبهة جنائية». في نفس اليوم مساءً، كريم كان في شقته بالدقي، يجلس في الظلام، يشرب ويسكي من الزجاجة مباشرة. تليفونه رن. رسالة واحدة من رقم مجهول: «شكراً يا عميد… الدوسري» كريم مسح الرسالة، أشعل سيجارة، ثم كتب في دفتره الأسود اسمًا جديدًا تحت اسم خالد الدوسري: «طارق الجندي – تم التصفية – ١٨/٤/٢٠١١» ثم أضاف جملة بخط أحمر: «الخيانة مش بتدفع تمنها غالي… بتدفعه مرة واحدة بس… وبعدها محدش يسمع عنك تاني». أغلق الدفتر، شرب آخر رشفة من الزجاجة، ثم همس لنفسه في الظلام: «القايمة لسه طويلة يا خالد… وأنا لسه عايش». سرد روائى كامل وطويل ومشوق 30 يونيو 2013 أثناء مظاهرات القاهرة، ينقذ كريم الضابط الخائن من الاغتيال… ثم يقتله بنفسه. القاهرة، ٣٠ يونيو ٢٠١٣، الساعة الخامسة والنصف عصراً ميدان التحرير، قلب العاصفة. الجو حار جداً، رطوبة خانقة، رائحة العرق والبارود والكشري المقلي تمتزج في الهواء. الملايين في الشوارع، الأعلام المصرية ترفرف فوق رؤوس لا تُحصى، واللافتات تقول «ارحل» و«الجيش والشعب إيد واحدة». مكبرات الصوت تصدح بصوت الشيخ محمد جبريل وأغاني شعبان عبد الرحيم في نفس اللحظة. الدبابات تقف في شارع القصر العيني، والجنود يوزعون ماء وعصير قصب على المتظاهرين ويتصورون معاهم. لكن كريم الشرقاوي لم يكن هنا ليحتفل. كان واقفاً على سطح عمارة قديمة في شارع طلعت حرب، الدور التاسع، يرتدي تيشرت أسود عادي وجينز، قبعة بيسبول سوداء تغطي نص وجهه، وفي أذنه سماعة لاسلكية دقيقة. منظاره الحراري موجه على شقة في العمارة المقابلة، الدور الثامن، شقة رقم ٨٠٤. داخل الشقة: اللواء «صلاح الدين مرعي»، رئيس فرع العمليات الخاصة في المخابرات الحربية سابقاً، والآن أحد أكبر المطلوبين لجماعة الإخوان والتنظيمات الجهادية بعد ٣٠ يونيو. الرجل الذي باع أسماء وعناوين أكثر من ٤٧ ضابط مخابرات لقطر وتركيا في ٢٠١١-٢٠١٢، ثم هرب إلى الدوحة، ثم عاد سراً قبل أسبوعين بجواز مزور ليحاول «إنقناع» بعض الضباط بالانقلاب على السيسي. المعلومة وصلت كريم من مصدر داخلي في الدوحة قبل ٧٢ ساعة فقط: «صلاح مرعي في القاهرة… مهمة شخصية… سيُغتال مساء ٣٠ يونيو أمام الجماهير لإشعال فتنة طائفية». كريم لم يبلغ أحد. لا السيسي، ولا المخابرات العامة، ولا حتى اللواء حسن عبد الشافي. قرر يتعامل مع الموضوع بنفسه. في الساعة ٥:٤٧ دقيقة، ظهر صلاح مرعي في شرفة الشقة، يرتدي بدلة رمادية فاتحة، يحمل تليسكوب صغير، يراقب الميدان. كان يبتسم ابتسامة المنتصر الصغير. في أذن كريم صوت هادئ من أحد أحد رجاله في الشارع: «القناص في العمارة اللي جنبنا، الدور ١١، شقة ١١٠٦. شايفين ليزر أحمر على صدر مرعي دلوقتي». كريم لم يتكلم. فقط رفع بندقية القنص الخاصة به، Dragunov SVD مزودة بكاتم صوت طويل، وضع الصليب على رأس القناص في الشقة المقابلة. ثانية… ثانيتين… أطلق. الزجاج تحطم في صمت تقريباً، القناص سقط على ظهره، الدم يسيل من جبهته. لكن في نفس اللحظة، انفجر الباب الداخلي لشقة مرعي، ودخل ثلاثة ملثمون يحملون رشاشات، يصرخون «الله أكبر». كريم لعن بصوت عالٍ، ترك البندقية، ركض على السطوح، قفز من عمارة إلى عمارة، نزل السلم بسرعة جنونية، وصل إلى شقة مرعي في أقل من دقيقتين. الباب مفتوح، صوت طلقات نار داخلية، صراخ، ثم صمت مفاجئ. دخل كريم، المسدس في يده، ليجد صلاح مرعي ملقى على الأرض، مصاب في كتفه وساقه، ينزف بغزارة، لكن حيّ. الملثمون الثلاثة جثث على الأرض، قتلهم حراسة مرعي الشخصية اللي كانت مختبئة في الحمام. واحد من الحراس، شاب في الثلاثين، وجهه مألوف، كان زميله قديماً، صرخ في كريم: «يا فندم… إحنا بنحميه!» كريم لم يرد. اقترب من صلاح مرعي، ركل السلاح من يده، ثم جثا على ركبته بجانبه. مرعي فتح عينيه بصعوبة، عرفه فوراً. «كريم… يا ابن الكلب… جه تنقذني؟» كريم ابتسم ابتسامة خالية من أي إنسانية. «لأ… جه أشوفك تموت بإيدي أنا، مش بإيد أي حد تاني». مرعي حاول يتكلم، لكن الدم كان يملأ فمه. كريم أخرج من جيبه هاتفاً صغيراً، فتح فيديو قديم: لقطات من كاميرا مراقبة في فندق بالدوحة، صلاح مرعي يسلم الدوسري ملفاً سميكاً، ويضحك. «ده آخر فيديو ليك يا صلاح بيه… عايز تشوفه قبل ما تموت؟» مرعي حاول يرفع يده، لكن كريم داس على الجرح في كتفه بقوة. «ألم صرخة مكتومة. «أيمن الشافعي… ياسر حمدان… ٤٧ ضابط تانيين… كلهم ماتوا بسببك». ثم أخرج من جيبه حقنة هوائية صغيرة، غرزها في وريد رقبة مرعي بسرعة. «دي هتعمل جلطة دماغية في ٤٠ ثانية. هيقولوا سكتة قلبية من الخوف. محدش هيشك». مرعي بدأ يرتعش، عيناه تتسعان، فمه يحاول يصرخ لكن الصوت لا يخرج. كريم اقترب من أذنه، همس: «الخاينين بيموتوا مرتين… مرة لما يبيعوا، ومرة لما يدفعوا التمن». بعد ٣٨ ثانية توقف جسد صلاح مرعي عن الحركة. كريم وقف، مسح الحقنة في جاكيته، ثم نظر إلى الحارس الشاب اللي كان واقف مذهولاً: «قوله للناس إن جماعة جهادية حاولت تغتياله، وإنه مات من الإصابات. ومحدش يعرف إني كنت هنا». الشاب أومأ برأسه بسرعة، عيناه مليانة رعب. كريم خرج من الشقة، نزل السلم بهدوء، اندمج في الميدان مرة تانية وسط الملايين البشر اللي بيغنوا «تسقط حكم المرشد». في شارع محمد محمود، وقف لحظة، أشعل سيجارة، رفع عينيه إلى السماء اللي بدأت تتحول للون برتقالي مع الغروب. سمع صوت الملايين تهتف: «الجيش والشعب إيد واحدة». ابتسم ابتسامة مريرة، نفث الدخان ببطء، وقال لنفسه: «إيد واحدة: «إيد واحدة… بس أحياناً الإيد دي بتقتل الخاينين قبل ما الشعب يعرف». ثم مشى في التيار البشري، اختفى تماماً وسط الأعلام والأغاني والهتاف. بعد ساعة، أعلنت القنوات: «مقتل اللواء الهارب صلاح مرعي في ظروف غامضة أثناء محاولة اغتيال فاشلة». كريم كان في عربية تاكسي قديمة في طريقه إلى المطار العسكري، يكتب في دفتره الأسود بخط يده: «30/6/2013 – صلاح الدين مرعي – تم التصفية شخصياً – الخلية النائمة تقلصت بواحد». أغلق الدفتر، نظر من الشباك إلى الميدان المضيء، وهمس: «اللعبة لسه طويلة… بس النهاردة الشعب انتصر… وأنا كمان». ثم أطفأ السيجارة، واختفى في ليل القاهرة، حاملاً معه دم خائن آخر، وثقلاً جديداً على ضميره اللي بدأ يتحول إلى حجر. لأنه كان يعرف إن الدم اللي نزل النهاردة في التحرير مش دم خاين واحد… ده دم نهر جديد من الدم هيجري في المنطقة كلها لسنين طويلة قدام. وإنه، هو شخصياً، جزء من هذا النهر الآن. إلى الأبد. سرد روائى كامل وطويل ومشوق دمشق، أغسطس 2013 ليلة الهجوم الكيماوي في الغوطة. كريم يرى الجثث ويقرر أن «لا خطوط حمراء بعد اليوم». دمشق، ٢١ أغسطس ٢٠١٣، الساعة الثانية والربع بعد منتصف الليل الغوطة الشرقية، ضاحية زملكا. كان الهواء ثقيلاً، ساكناً، كأن الطبيعة نفسها توقفت عن التنفس. لا قمر، لا نجوم، فقط ضباب خفيف يتسلل بين البساتين. كريم الشرقاوي واقف على طرف طريق ترابي ضيق، يرتدي قناع غاز روسي قديم، بدلة واقية سوداء، وفوقها جاكيت مدني مفتوح حتى لا يُعرف. بجانبه سيارة جيب تويوتا قديمة بدون لوحات، محركها لا يزال يعمل، أضواؤها مطفأة. أمامه، في الشارع الرئيسي لزملكا، جحيم صامت. جثث بالعشرات، بالمئات، ملقاة على الأرصفة، في الأفنية، داخل السيارات. أطفال، نساء، رجال كبار، كلهم في وضع النوم الأبدي. بعضهم يحتضن أولاده، بعضهم لاذ بالفرار فتجمد في مكانه وهو يجري. لا دماء، لا جروح ظاهرة، فقط وجوه شاحبة، زرقة في الشفاه، رغوة بيضاء تتساقط من الأفواه والأنوف، عيون مفتوحة على وسعها كأنها لا تزال ترى شيئاً مرعباً فوق السحاب. كريم مشى بينهم ببطء شديد، كأنه يمشي في حلم ثقيل. كان قد وصل قبل نصف ساعة فقط، بعد اتصال من ضابط سوري صديق: «تعالى بسرعة… شيء لا يصدقه عقل». لم يكن يتوقع هذا. ركع بجانب طفلة لا تتجاوز الخامسة، شعرها الأسود مبلل بالعرق، ترتدي بيجامة وردية عليها رسمة «هيلو كيتي». وجهها صغير، هادئ، كأنها نائمة. لكن عينيها مفتوحتان، محدقتان في السماء، وبؤبؤاهما متسعتان حتى اختفى السواد. كريم رفع يده ببطء، أغلق جفنيها بأصابعه المرتجفة. لأول مرة منذ سنين، شعر بأن شيئاً بداخله انكسر. سمع صوت خطوات خلفه. التفت فرأى طبيباً ميدانياً شاباً، وجهه أخضر من الرعب، يرتدي قناعاً، يحمل طفلاً رضيعاً بين ذراعيه. الطفل ميت، جسده متيبس، لكن الطبيب لا يزال يحاول إنعاشه. «مات من ساعة… كلهم مات… غاز السارين… أكيد سارين…» تمتم الطبيب وهو يبكي بدون صوت. كريم وقف، التفت حوله. في الشارع المجاور مستشفى ميداني صغير، الناس يحملون المصابين، يركضون، يصرخون، لكن الصرخات تتلاشى بسرعة. داخل المستشفى، أرضية من جثث الأطفال، صفوف من الأسرّة المكدسة، أمهات يضمن بناتهن الميتات ويغنين لهن أغنية النوم. اقترب كريم من إحداهن. امرأة في الأربعين، وجهها محترق من الدموع، تحتضن ثلاثة أطفالها الثلاثة. رفعت عينيها إليه، عينان فارغتان تماماً. «هموت… خلّص عليّ… خلّص عليّ أنا كمان…» همست. كريم لم يستطع الكلام. فقط أخرج من جيبه مسدساً، فكّر لحظة… ثم وضعه في يدها. «لما تقدري… استخدميه على نفسك… أحسن من اللي جاي». ثم استدار ومشى بعيداً قبل أن يرى إن كانت ستفعلها أم لا. في الخارج، وجد ضابطاً سورياً كبيراً يقف بجانب سيارة عسكرية، يدخن بشراهة. عرفه: العميد «رامي صالح»، صديق قديم من أيام بيروت. «شفت؟» قال رامي بصوت مكسور. كريم أومأ برأسه فقط. «مين عمل كده؟» سأل كريم بهدوء مميت. رامي نفث الدخان، نظر إلى الأرض. «النظام… الناس بتقول النظام… بس أنا شايف الجثث… مفيش قذايف، مفيش شظايا… الريحة… السارين ده مش عندنا بكميات كده… أنا عارف مين عنده…» كريم التفت إليه بسرعة. «قطر؟ السعودية؟» رامي هز كتفيه. «أو أمريكا نفسها… عشان يبرروا التدخل». كريم سكت لحظة طويلة، ثم قال بصوت لا يرتجف فيه ذرة رحمة: «مش مهم مين… المهم إن اللي عمل كده عايز يقول إن مفيش خط أحمر خلاص… كله مباح». ثم اقترب من رامي حتى أصبح وجهه قريباً جداً. «من دلوقتي ورايح… أنا كمان مفيش عندي خطوط حمراء. هقتل… هفجر… هخطف… هسرق… هكذب… هعمل كل حاجة… عشان أوقف اللي شايفه ده يتكرر تاني». رامي نظر إليه برعب خفيف. «حتى لو اضطريت تقتل مدنيين؟» كريم ابتسم ابتسامة مرعبة. «المدنيين ماتوا خلاص الليلة… اللي عايشين دلوقتي كلهم جنود في حرب محدش شايفها غيرنا». ثم استدار، مشى بين الجثث مرة أخيرة، وقف أمام طفل رضيع ملقى بجانب أمه، جسده صغير جداً، كفه مفتوح كأنه يطلب شيئاً. كريم ركع، أخرج من جيبه سلسلة فضية صغيرة فيها آية الكرسي، وضعها في كف الطفل، ثمست يده الصغيرة للحظة، ثم وقف. أشعل سيجارة، رغم أن القناع يمنع، خلعه قليلاً، نفث الدخان في وجه الموت نفسه. في السماء بدأت طائرات الاستطلاع الأمريكية تحلق، وكاميرات العالم كله تتجه إلى هنا. لكن كريم كان قد اتخذ قراره قبل العالم كله. في الجيب، أخرج هاتفه الثريا، أرسل رسالة واحدة لرقم في القاهرة: «الخط الأحمر اتكسر النهاردة في الغوطة. من دلوقتي ورايح الحرب بقوانيني أنا. مش هسيب طفل تاني يموت كده». ثم أغلق الهاتف، رمى القناع على الأرض، مشى وسط الجثث، ودموعه الوحيدة التي سمح لنفسه بها في تلك الليلة تجري على خديه بدون صوت. في الخلفية، بدأت سيارات الإسعاف تصل متأخرة، والناس تصرخ، والعالم يستيقظ على كارثة. لكن كريم كان قد استيقظ على شيء أكبر بكتير. استيقظ على أن الرحمة ماتت. وأن الوحيد اللي هيقدر يوقف الوحوش… لازم يبقى وحش أكبر منهم. في تلك اللحظة بالذات، في قلب الغوطة، بين مئات الجثث الصغيرة، وُلد كريم الشرقاوي الجديد. اللي مش هيرجع تاني أبداً. اللي من يومها، كل ما يغمض عينيه، يشوف وجه الطفلة ببيجامة «هيلو كيتي»، وعيونها المفتوحة على السماء. ومن يومها، كل ما يقتل عدو، يهمس لنفسه: «ده ليكي يا حلوة… نامي دلوقتي». ولم ينم هو بعد ذلك اليوم، ولو للحظة واحدة، حتى اليوم. سرد روائى طويل وكامل ومشوق بيروت، شقة آمنة تأسيس شبكة «الصقر 17» مع ياسر الضابط السوري الشاب. بيروت، ٩ يناير ٢٠١٤، الساعة ١١:٤٧ مساءً الحمرا، عمارة «الوردة البيضاء»، الدور العاشر، شقة ١٠٠٣. البحر يضرب الأسفل بقوة، صوت الموج يخترق الزجاج المزدوج ويملأ الشقة بإيقاع منتظم. الستائر مغلقة تماماً، الإضاءة خافتة، مصباح مكتبي أصفر واحد يلقي ظلالاً طويلة على الجدران. رائحة القهوة اللبنانية الثقيلة تمتزج برائحة التبغ التركي والبارود البارد. كريم الشرقاوي جالس على كرسي خشبي قديم في منتصف الصالة، يرتدي قميصاً أسود مفتوح الصدر، على صدره ندبة جديدة من رصاصة في الكتف لم تلتئم بعد. أمامه طاولة صغيرة عليها خريطة كبيرة لسوريا ولبنان والأردن وتركيا، مليئة بدوائر حمراء وخضراء وخطوط متقطعة بالقلم الأسود. في يده اليسرى سيجارة مارلبورو حمراء، وفي اليمنى مسدس جلك ١٩ مفكك، ينظفه ببطء كأنه يعزف على آلة موسيقية. على الأريكة المقابلة يجلس شاب في السابعة والعشرين، نحيف، عيون سوداء حادة، لحية خفيفة غير منتظمة، يرتدي جاكيت جينز ممزق وكوفية فلسطينية حول رقبته. اسمه ياسر محمد الحلبي، ملازم أول في المخابرات الجوية السورية، من حلب، نجا من مذبحة في كفرنبل قبل شهرين، وصل بيروت بجواز مزور قبل أسبوع. أمه وأبوه وأخته الصغيرة ماتوا تحت القصف في ٢٠١٣، ومن يومها لم يعد ينام إلا ومسدسه تحت المخدة. بينهما على الأرض حقيبة سفر سوداء مفتوحة، بداخلها أربعة هواتف ثريا، ثلاثة لاب توب مشفرة، جهاز تشويش روسي صغير، وكومة من النقود الدولارية واليورو مربوطة بشريط مطاطي. كريم رفع عينيه إلى ياسر، قال بصوت هادئ لكنه حاد كالسكين: «اسم الشبكة من النهاردة: الصقر ١٧ الرقم ١٧ عشان أول عملية كانت في ١٧ مارس ٢٠١١ في درعا… لما أنت متّ فيها وأنا عشت». ياسر ابتسم ابتسامة صغيرة حزينة، تذكر زميله اللي مات في درعا، وكان اسمه ياسر برضو. «وأنا هكون مين في الشبكة؟» كريم أشار بفوهة المسدس المفكك إلى صدره. «أنت رقم ١ أنا رقم ٢ مفيش حد تاني هيبقى رقم ١ غيرك. لو متّ أنت، الشبكة تموت معاك». ياسر ابتلع ريقه، أومأ ببطء. كريم وقف، مشى إلى النافذة، فتح الستارة سنتيمترين، نظر إلى الشارع تحت. لا أحد. أغلقها تاني. «القوانين الأربعة، اسمع كويس: أولاً: محدش يعرف اسم حد تاني كامل. ألقاب بس. ثانياً: لو وقعت في إيد العدو، تموت ولا تتكلم. في جيبك كبسولة سيانيد، استخدمها لو لزم الأمر. ثالثاً: كل عملية لازم تتصور وتتسجل، عشان لو متنا، يفضل فيه دليل إننا كنا هنا. رابعاً… ودي الأهم: مفيش رحمة. لا مع الأتراك، ولا القطريين، ولا السعوديين، ولا الإخوان، ولا حتى الأمريكان لو لزم الأمر. اللي يمد إيده على سوريا أو مصر، نقطعها من الكتف». ياسر وقف، اقترب من كريم، مد يده. «متفق… بس عندي شرط واحد». كريم رفع حاجبه. «قول». «لما نلاقي خالد الدوسري… أنا اللي يقتله». كريم نظر في عيني ياسر طويلاً، ثم صافحه بقوة. «متفق… بس لو أنا لقيته الأول، هسيبه لك حيّ، مربوط، في صندوق عربية». ابتسم ياسر ابتسامة أول مرة تظهر فيها أسنانه من سنة. كريم رجع للطاولة، فتح لاب توب، فتح ملف مشفر اسمه «FALCON-17». ظهرت على الشاشة قائمة بـ ٢٣ اسم، صور، عناوين، أرقام هواتف، حسابات بنكية: خالد بن مانع الدوسري (قطر) أركان يلماز (تركيا – MIT) فهد العتيبي (السعودية) …والباقي. كريم أشار إلى الشاشة. «دي القايمة الأولى. كل واحد فيهم ليه ملف، وليه تاريخ، وليه طريقة موت مكتوبة جنبه. من النهاردة، مهمتنا الوحيدة إن القايمة دي تتصفر… واحد واحد». ياسر اقترب، قرأ الأسماء، ثم قال بصوت خافت: «وإحنا كام واحد في الشبكة دلوقتي؟» كريم أغلق اللاب توب، نظر إليه بعينين ميتتين. «إحنا اتنين بس… في الأول. بكرة هيبقوا خمسة. بعد شهر عشرين. بعد سنة… مية. بس في الأول إحنا اتنين، وده يكفي». ثم فتح درج الطاولة، أخرج خنجر صغير حاد، وضعه في يد ياسر. «ده خنجر جدي في ٦٧… قتل بيه ضابط إسرائيلي في الجولان. من النهاردة هو رمز الشبكة. كل واحد ينضم لازم يقسم نقطة دم من صباعه على ورقة العهد». ياسر أمسك الخنجر، وخز إصبعه السبابة بدون تردد، قطرة دم سقطت على ورقة بيضاء كتب عليها كريم بخط يده: «عهد الصقر ١٧ أقسم بالله العظيم أن أحمي سوريا ومصر بدمي وروحي حتى آخر نفس، وأن أقتل كل من يمد يده عليهما، ولا أسأل عن رحمة أو محكمة». ياسر ضغط إصبعه على الورقة، ثم مرر الخنجر إلى كريم. كريم وخز إصبعه، وضع بصمة دمه جنب بصمة ياسر. «من دلوقتي إحنا إخوة… مش مجرد زملاء». ثم أخرج زجاجة عراك لبناني، صب في كأسين صغيرتين، رفع كأحدهما. «على دم الأطفال في الغوطة… وعلى دم أيمن وياسر الأولاني… وعلى دم كل طفل هيموت لو سكتنا… نشرب». ارتشف ياسر الكأس كاملة، عيناه حمراوان. «ونشرب تاني لما نلاقي الدوسري… ونشرب تالت لما نموت». كريم رفع الكأس الثاني، شربه حتى آخر قطرة، ثم رمى الكأس في الحيط، تحطم إلى ألف قطعة. «من النهاردة مفيش رجوع… الصقر ١٧ ولد الليلة… وهيبدأ يصطاد من بكرة الصبح». ثم فتح حقيبة أخرى، أخرج جهاز ثريا، أعطاه لياسر. «أول مهمة: شحنة أسلحة تركية داخلة من كلس بعد ٤٨ ساعة. هنفجرها… ونصورها… ونبعت الفيديو للدوسري شخصياً». ياسر ابتسم ابتسامة ذئب. «متى نتحرك؟» كريم أطفأ السيجارة، وقف، ارتدى جاكيته. «دلوقتي». فتح الباب، وقف لحظة على العتبة، نظر إلى ياسر وقال بصوت لا يقبل النقاش: «مرحباً بيك في الجحيم يا ياسر… بس الجحيم ده إحنا اللي هنولعه». ياسر أغلق الحقيبة، حمل المسدس، تبع كريم إلى الظلام. في المصعد، وهما نازلين عشرة طوابق، لم يتكلما. لكن في عيون كل منهما كان نفس الضوء الأسود. ضوء الصقر اللي ولد من الرماد… ومن النهاردة، مش هيرحم حد. الصقر ١٧ بدأ يطير. ومن يومها، بدأت الأسماء في القايمة تُمحى… واحد واحد… بدم. سرد روائى طويل وكامل ومشوق كلس 2015 تفجير مستودع الأسلحة التركي على الحدود. ياسر أركان يلماز لأول مرة. كلس، ولاية هاتاي، تركيا ٢٧ فبراير ٢٠١١٥، الساعة ٠٣:١٧ فجراً الليل أسود تماماً، لا قمر، لا نجوم، فقط غيوم ثقيلة تحمل رائحة المطر القادم. الحدود السورية-التركية على بُعد ثلاثة كيلومترات جنوباً، لكن هنا، في قرية «كلس» التركية الصغيرة، كل شيء هادئ… ظاهرياً. داخل مزرعة مهجورة على التل، كريم الشرقاوي وياسر الحلبي ملقيان على بطونهما خلف جدار حجري قديم، يرتديان بدلات سوداء كاملة، وجوههما مغطاة بأقنعة تزلج، وعلى رأسيهما خوذات ليلية PVS-14 أمريكية. أمامهما منظار حراري متطور يُظهر المستودع التركي بوضوح: مبنى خرساني كبير، محاط بسياج حديدي، أربعة أبراج حراسة، كاميرات حرارية، ودوريات كلاب. المستودع رسمياً «مخزن إغاثة إنسانية» تابع لـ AFAD التركية، لكن الصقر ١٧ يعرف الحقيقة: ٤٨٠ طناً من الذخيرة والصواريخ المضادة للدروع والمتفجرات C-4، كلها مُرسل من أنقرة إلى جبهة النصرة وأحرار الشام في إدلب وحلب، تحت إشراف مباشر من المخابرات التركية MIT. في أذن كريم صوت هادئ من أحد رجاله في الخارج: «الدورية الغربية راحت… الكلاب نايمة… الطريق نظيف». كريم همس في الميكروفون: «ياسر… جاهز؟» ياسر، الذي كان يراقب المدخل الرئيسي بمنظار قنص، رد بصوت خافت مليان توتر وحماس: «جاهز… بس فيه واحد جديد في البرج الشمالي… طويل، نحيف، بيلبس جاكيت جلد أسود… ده مش جندي عادي». كريم وجّه المنظار الحراري… ورأى الرجل. طول غير عادي، وقفة عسكرية مثالية، يدخن سيجارة ببطء وهو ينظر مباشرة نحو التل، كأنه يعرف أن هناك أعين تراقبه. كريم شعر بشيء بارد يجري في ظهره. «ده أركان يلماز… العقيد في الـ MIT… اللي بيدير كل العمليات في الشمال السوري». ياسر تنفس بصعوبة. «هو هنا بنفسه؟» «أيوه… يعني الشحنة دي مهمة أوي… أو إنه عارف إننا جايين». صمت ثقيل ثلاث ثواني. ثم كريم، بصوت لا يقبل النقاش: «الخطة زي ما هي… بس لو قدرنا نصطاد أركان مع المستودع… أحسن». ياسر ابتسم تحت القناع. في الساعة ٠٣:٢٩ بالضبط، بدأت العملية. أولاً: انقطاع الكهرباء في المستودع كاملاً (عمل رجل ثالث داخل القرية قطع الكابل الرئيسي). ثانياً: قناصتان من الصقر ١٧ في التل المقابل أسقطا الحراس في البرجين الشرقي والغربي برصاص صامت. ثالثاً: ياسر وكريم زحفوا تحت السياج من فتحة تم حفرها قبل يومين، وضعا ٢٢ كيلوغراماً من C-4 في أربع نقاط حيوية تحت المستودع، موصولة بتايمر ٨ دقايق. كل شيء سار كالساعة… حتى الدقيقة السادسة. في الدقيقة السادسة، انفتح باب المستودع الرئيسي، وخرج أركان يلماز بنفسه، مع ستة حراس، يحملون رشاشات، يتجهون مباشرة نحو السياج الجنوبي… حيث كريم وياسر. كريم همس: «غيّروا مكانهم… عارفين إننا هنا». ياسر: «ننسحب؟» كريم: «لأ… نكمل… بس نصطاده هو كمان». قفز ياسر فوق السياج، ركض نحو المبنى الملحق، بينما كريم يغطيه من الخلف. في لحظة، وقعا وجهاً لوجه مع أركان يلماز. كان أركان على بُعد عشرين متراً فقط، تحت ضوء مصباح طوارئ أحمر، يدخن سيجارة، عيناه الزرقاوان تلمعان في الظلام كعيون ذئب. نظر مباشرة إلى ياسر، ابتسم ابتسامة باردة، ثم قال بالتركية بصوت واضح: «Merhaba, küçük kartal… كنت مستنيكم». (مرحباً أيها الصقر الصغير… كنت أنتظركم). ياسر رفع بندقيته، لكن أركان كان أسرع: أطلق قنبلة دخان حمراء، وفي نفس اللحظة انفجرت أربع قنابل صوتية حولهم. الدنيا انقلبت. رصاص من كل الجهات، كلاب تنبح، أضواء كاشفة تضيء المكان. كريم جذب ياسر من يده، ركضا داخل المبنى الملحق، أغلقا الباب الحديدي من الداخل. داخل المبنى كان هناك ٦ صناديق خشبية مفتوحة، مليانة صواريخ تاو أمريكية جديدة لم تُستخدم بعد. ياسر نظر إلى كريم بعيون متسعة: «هنموت هنا». كريم ابتسم ابتسامة مجنونة: «لأ… هنخلّيهم يتمنوا لو كانوا هما اللي ماتوا». ثم فتح التايمر على ٤٥ ثانية بدل ١٢٠، وضعه فوق الصناديق، وكتب بسرعة على صندوق بقلم فلوماستر أحمر: «من الصقر ١٧ إلى أردوغان… تحية دموية». ثم جرى مع ياسر خارجاً من الباب الخلفي. في اللحظة التي قفزا فيها خارج السياج، انفجر المستودع كله. انفجار هائل، ضوء أبيض-برتقالي أضاء السماء كأنها شمس صغيرة، موجة حرارة ضربت وجهيهما، صوت مدوي هزّ الأرض، شظايا ونار تتطاير في كل مكان. كريم وياسر ملقيان على الأرض، يغطيان رأسيهما. بعد ١٠ ثواني، رفع ياسر رأسه… ورأى أركان يلماز واقفاً على بُعد خمسين متراً، في وسط النار، ثوبه الأسود لم يتمزق حتى، ينظر إليهم مباشرة، يرفع يده في تحية عسكرية ساخرة، ثم يختفي في الدخان. ياسر صرخ من الغيظ: «ابن الكلب… كان عارف كل حاجة!» كريم وقف، مسح الدم عن جبهته، ابتسم ابتسامة مريرة: «أيوه… عارف… بس دلوقتي هو كمان عارف إن الصقر ١٧ مش بيهزر». ثم أخرج كاميرا صغيرة، صوّر المستودع المشتعل، النار ترتفع مئات الأمتار، صفارات الإطفاء التركية بدأت تقترب. أرسل الفيديو مباشرة إلى رقم قطري واحد فقط… رقم خالد الدوسري… مع رسالة نصية واحدة: «شحنة كلس وصلت… آسفين على التأخير. الصقر ١٧». في السيارة وهما يهربان جنوباً نحو الحدود، ياسر سأل: «هنعمل إيه دلوقتي؟» كريم أشعل سيجارة جديدة، نفث الدخان في وجه الليل، وقال بصوت هادئ مميت: «هنكتب اسم جديد في القايمة… أركان يلماز… رقم ٢ بعد الدوسري… والمرة الجاية مش هنفجر مستودع… هنفجر روحه». ثم ضحك ضحكة قصيرة خافتة، وأضاف: «مرحباً باللعبة يا عقيد أركان… الصقر شافك… وهيجي يوم وهيخطف عينيك». السيارة اختفت في الظلام، تاركةً وراءها مستودعاً محترقاً، وسماءً مضيئة، وأول مواجهة حقيقية بين الصقر وأخطر ذئب تركي. من تلك الليلة، بدأت الحرب الشخصية بين ياسر وأركان… حرب لن تنتهي إلا بموت أحدهما… أو كليهما. سرد روائى كامل وطويل ومشوق طريق المطار، بغداد اختطاف العميد فهد العتيبي ونقله إلى بيروت للاستجواب. بغداد، ١٤ يونيو ٢٠١٥، الساعة ٠٢:٤٨ فجراً طريق مطار بغداد الدولي، الكيلو ٧. الليل حار ورطب، رائحة الديزل والقمامة المحترقة تملأ الهواء. الطريق السريع شبه خالٍ إلا من بضع شاحنات عسكرية أمريكية بعيدة، وحواجز الجيش العراقي المضاءة بكشافات صفراء باهتة. في السماء طائرة هليكوبتر بلاك هوك تحلّق منخفضة، تبحث عن شيء… أو عن شخص. داخل سيارة شيفروليه تاهو سوداء بزجاج معتم، كريم الشرقاوي جالس في المقعد الخلفي، يرتدي دشداشة عراقية بيضاء نظيفة، شماغ أحمر-أبيض، ونظارات شمسية رغم الظلام (غطاء). في حضنه حقيبة طبية سوداء كتب عليها بالإنجليزية "Medical Emergency – UN". بجانبه ياسر الحلبي، يلبس زيّ شرطة مرور عراقية مزوَّر، يدخن سيجارة بتوتر واضح. أمامهما، في المقعد الأمامي، سائق كردي اسمه «دلشاد»، من شبكة الصقر ١٧ في أربيل، يقود بسرعة ١٤٠ كم/ساعة بدون أضواء. في أذن كريم صوت هادئ من فتاة لبنانية في غرفة عمليات بيروت: «القافلة على بُعد كيلومترين… ثلاث مرسيدس G-wagon سوداء، حماية أمريكية خفيفة، الهدف في العربية الوسطى، نافذة خلفية يسرى مفتوحة شوية، بيدخن سيجار». كريم رد بهمس: «تمام… نستنى عند الكبري المكسور». بعد ٩٠ ثانية، ظهرت القافلة في مرآة الرؤية الخلفية: ثلاث مرسيدس سوداء لامعة، أضواؤها مطفأة، تحرسها همفي أمريكية واحدة في الأمام وأخرى في الخلف. دلشاد خفف السرعة فجأة، توقف في منتصف الطريق كأن العربية عطلت. القافلة اضطرت للتوقف. في ثانية، انفتحت أبواب التاهو، خرج أربعة رجال ملثمون يحملون رشاشات AKMS بكواتم صوت، يطلقون النار على إطارات الهُمفي الأمامية والخلفية بدقة جراحية. الجنود الأمريكان نزلوا، لكن قبل ما يرفعوا سلاحهم، كان ياسر قد قفز على سقف المرسيدس الوسطى، فتح الباب الخلفي، وضرب السائق في رقبته بحقنة مخدرة سريعة المفعول. كريم فتح الباب الثاني، وجد الهدف: العميد فهد العتيبي، الاستخبارات السعودية، يرتدي ثوب أبيض فاخر، شماغ ذهبي، عيناه مفتوحتان على وسعهما من الصدمة. «مساء الخير يا فهد بيه…» قال كريم بالعربية الفصحى المصرية، ثم ضرب رأسه بمؤخرة المسدس. في أقل من ١٤ ثانية، كان فهد العتيبي مربوطاً، مكمماً، مرمياً في صندوق التاهو، والسيارة تنطلق جنوباً نحو منطقة اليوسفية. الأمريكان ظلوا يطلقون النار في الهواء، لكن التاهو اختفت في الزقاق الترابية قبل ما يلحقوا. بعد ٢٧ دقيقة، وصلوا إلى مهبط طائرات سري في بساتين النخيل على ضفاف دجلة. طائرة هليكوبتر روسية Mi-8 قديمة، بدون علامات تنتظرهم، محركاتها تدور بالفعل. رموا فهد العتيبي داخل الطائرة وهو لا يزال فاقداً الوعي، أقلعوا فوراً غربًا، متجهين إلى الأنبار ثم الحدود السورية ثم لبنان. خلال الرحلة، استيقظ فهد، وجد نفسه مربوطاً إلى كرسي حديدي داخل الطائرة، كريم وياسر أمامه، ينظران إليه بصمت. فهد حاول يتكلم، لكن الكمامة منعته. كريم اقترب، نزع الكمامة برفق مُرعب. «أهلاً يا عميد… إحنا مشوار صغير لبيروت… عندنا كام سؤال». فهد بصق على الأرض، ضحك ضحكة متعجرفة: «هتموتوا كلكم… أنا دبلوماسي سعودي… لو مسّيتوني، الدنيا هتقلب». كريم ابتسم ابتسامة باردة، أخرج من جيبه صورة مطبوعة: طفلة سعودية صغيرة، ٨ سنين، اسمها ليان، في مدرسة أمريكية في بيروت. «ابنتك ليان في مدرسة ICS في الأشرفية… صح؟ لو حبيت، نقدر نروحلها دلوقتي بدل ما نكمل معاك». فهد شحب وجهه فجأة. ياسر اقترب، وضع خنجر الصقر ١٧ على رقبة فهد، همس: «إحنا مش بنهدد… إحنا بنخبر». بعد ٤٣ دقيقة هبطت الطائرة في مهبط سري في جبال المتن بلبنان، نقلوه إلى فيلا قديمة في بعقلين، قبو معزول تماماً عن الصوت. هناك، بدأ الاستجواب. استمر ٩ ساعات متواصلة. كريم وياسر استخدما كل الطرق: كهرباء، ماء بارد، حرمان من النوم، حقن أميتال الصوديوم (مصل الحقيقة)، وأحياناً مجرد النظر في عينيه لمدة ساعة بدون كلام. في النهاية، انكسر فهد العتيبي. سجّل بنفسه بصوته وصورته: أسماء ١٤ ضابط سعودي يديرون الدعم اللوجستي لجبهة النصرة. مواعيد وطرق ٢٦ شحنة سلاح من الأردن إلى درعا وحمص. حسابات بنكية في سويسرا وجزر كايمان بأرقام سرية. اسم الضابط التركي الذي ينسق مع داعش في الرقة (كان اسمه أركان يلماز نفسه). في الساعة السابعة صباحاً، أعطوه حقنة مخدرة ثانية، وضعوه في صندوق سيارة بيجو ٣٠١ قديمة، وألقوا به في منطقة خلدة على طريق بيروت-صيدا، مربوطاً، حياً، مع شريط فيديو في جيبه. بعد ساعتين، وجده دورية للجيش اللبناني، نقلوه إلى المستشفى، لكنه اختفى من المستشفى في نفس اليوم (يقال إن السفارة السعودية هربته). لكن الضرر كان قد وقع. في مساء نفس اليوم، وصلت نسخ الفيديو إلى: قناة الجزيرة (تم حظرها). وكالة رويترز (تم تسريبها). وأهم من الكل… إلى هاتف أركان يلماز شخصياً، مع رسالة نصية واحدة: «شكراً يا عقيد على المعلومات… المرة الجاية هتكون أنت في الصندوق. تحيات الصقر ١٧» في بيروت، في الشقة الآمنة، كريم وياسر جالسان على الأريكة، يشربان عراك ويدخنان في صمت. ياسر قال أخيراً: «ده أكبر صيد لحد دلوقتي». كريم رد بصوت مبحوح: «مش صيد… ده رسالة. رسالة إن الصقر وصل لعنق الرياض… والدور على أنقرة قريب». ثم رفع كأسه، قال: «للعميد فهد… اللي فكّر إن الفلوس تشتري ضميره… واتعلم إن فيه ضمائر مش للبيع». شربا الكأسين حتى النهاية، ثم رميا الكأسين في الحيط. من تلك الليلة، صار اسم «الصقر ١٧» يُهمس به في أروقة الرياض وأنقرة والدوحة بخوف حقيقي. وكريم كتب في دفتره الأسود بخط يده: «14/6/2015 – العميد فهد العتيبي – تم الاختطاف والاستجواب وإطلاق السراح (حياً)… لكن سمعته ماتت. القايمة نقصت بواحد». أغلق الدفتر، نظر إلى ياسر، وقال: «الصقر بدأ يطير فوق الخليج كمان… واللي جاي أكبر». خارج النافذة، كان البحر لا يزال يضرب الصخور بنفس الإيقاع… لكن إيقاع الحرب كان قد تغيّر إلى الأبد. سرد روائى كامل وطويل ومشوق عملية «الثعلب الأحمر» تسريب وثائق مزيفة تجعل أردوغان يتهم قطر بتمويل داعش علنًا. أنقرة – الدوحة – بيروت من ٣ إلى ١٩ أكتوبر ٢٠١٥ عملية «الثعلب الأحمر» الفكرة ولدت في قبو بعقلين، ليلة ١ أكتوبر، بعد أن شرب كريم وياسر ثلاث زجاجات عراك وهم يشتمون أردوغان والأمير تميم في نفس الجملة. كريم كان يقول بصوت مبحوح: «لو خلينا تركيا وقطر يتخانقوا مع بعض… هيوفر علينا خمسين عملية دموية». ياسر رد وهو يضحك ضحكة سكران: «يعني نكتبلهم مسرحية… ونخليهم يلعبوها بجد؟» كريم أطفأ السيجارة في كأس العراك، وقال بهدوء مميت: «بالظبط… مسرحية اسمها الثعلب الأحمر… والجمهور كله هيصدقها… حتى الممثلين نفسهم». خلال ١٦ يوماً فقط، عمل فريق الصقر ١٧ الموسّع (١٤ شخصاً الآن) على أخطر عملية تضليل في تاريخه. المرحلة الأولى: صناعة الوثائق في شقة آمنة في إسطنبول (حي شيشلي)، ثلاثة هاكرز روس سابقون في الـ FSB، بمساعدة مصمم جرافيك لبناني عبقري، أنتجوا ٤٧ وثيقة رسمية بأختام وتوقيعات وباركود قطرية وتركية تبدو حقيقية ١٠٠٪: مراسلات بين وزارة الدفاع القطرية وتنظيم داعش في الرقة (ٍ ٢٠١٤–٢٠١٥. تحويلات بنكية من بنك قطر الوطني إلى حسابات في الموصل باسم «أبو مصعب الزرقاوي الجديد». صور لاجحة لاجتماع في الدوحة بين ضباط قطريين وقيادي داعشي (تم دمج الوجوه بتقنية DeepFake بمستوى لم يكن موجوداً تجارياً بعد). تسجيل صوتيغي مدته ٨ دقائق للأمير تميم شخصياً يقول فيه بالإنجليزية: «We must keep the pressure on Assad… even if we have to shake hands with the devil himself». كل ورقة تم تصويرها بكاميرات قديمة، تم طباعتها على ورق رسمي مسروق من السفارة القطرية في أنقرة، تم تلطيخها بشاي ودخان لتبدو قديمة. المرحلة الثانية: التسريب ٧ أكتوبر – تم إرسال الوثائق عبر ثلاث قنوات في نفس اللحظة: صحفي تركي معارض مقيم في برلين (تلقى الملف عبر ProtonMail مجهول). قناة معارضة إيرانية في لندن. حساب تويتر مجهول باسم @AnkaraLeaks أنشئ خصيصاً لهذا اليوم. المرحلة الثالثالثة: التضخيم في ٩ أكتوبر، نشرت صحيفة «صباح» المقربة من أردوغان الخبر الرئيسي: «فضيحة مدوية: قطر تموّل داعش سراً وتتآمر على تركيا!» في نفس اليوم، ظهر أردوغان في مؤتمر صحفي طارئ، وجهه أحمر من الغضب، يلوح ببعض الوثائق (التي وصلته «من مصادر موثوقة»، ويقول حرفياً: «بعض الدول التي كنا نظنها صديقة… تبين أنها طعنتنا في الظهر… وقطر منها! سنحاسب كل من يدعم الإرهاب… حتى لو كان حليفاً سابقاً!» الدوحة ردت ببيان غاضب: «افتراءات تركية رخيصة». أنقرة سحبت سفيرها. قطر أغلقت قاعدة العديد مؤقتاً أمام الطيران التركي. البورصة التركية انخفضت ٨٪ في يومين. في ١٤ أكتوبر، ألقى أردوغان خطاباً تاريخياً في ملعب أنقرة، أمام ٧٠ ألف شخص، وقال جملته الشهيرة: «سنقطع يد كل من يمدّها إلى داعش… حتى لو كانت يد أخ!» الجماهير صرخت «الله أكبر». في تلك اللحظة بالضبط، في شقة آمنة في بيروت، كان كريم وياسر يشاهدان الخطاب على قناة TRT، يشربان بيرة المازة ويضحكان حتى البكاء. ياسر قال وهو يمسح دموع الضحك: «يا راجل… الراجل بيحارب شبح إحنا اللي رسمناه!» كريم رفع كأسه، قال بصوت هادئ: «مش شبح… ثعلب أحمر… ودلوقتي الثعلب دخل القفص مع الأسد… وإحنا براحتهم يعضوا بعض». ثم أخرج هاتفه، أرسل رسالة نصية واحدة إلى رقم قطري محفوظ باسم «K.D.» (خالد الدوسري): «شفت الخبر؟ الأتراك بيتهموكم إنكم بتمولوا داعش. غريبة… أنا كنت فاكر إن ده شغلكم إنتم الاتنين مع بعض. تحياتي الصقر ١٧» بعد ٤٣ دقيقة بالضبط، وصل رد واحد فقط: رقم مجهول، صورة واحدة: كريم وياسر واقفان في شارع الحمرا قبل أسبوعين، صورة ملتقطة من بعيد، وعليها دائرة حمراء حول رأس كريم، وكلمة واحدة بالتركية: "Yakında" (قريباً). كريم مسح الرسالة، أطفى السيجارة، وقال لياسر: «أركان يلماز بيحيينا… يبقى العملية نجحت ٢٠٠٪». ياسر رفع كأسه تاني: «لللثعلب الأحمر… اللي خلّى الأسد التركي يأكل أخوه الخليجي… ومش داري إن الثعلب ده إحنا». كريم رد الكأس معاه، ثم قال بصوت أعمق: «ودي أول مرة في التاريخ… إن دولتين بيحاربوا بعض… بسبب كذبة كتبناها إحنا على لاب توب في بيروت… وصدقوها… وصدقها العالم كله». ثم أطفأ التلفزيون، وقف، نظر إلى ياسر وقال: «دلوقتي نخش المرحلة التانية… نخلي قطر تتهم تركيا بنفس التهمة… ونقعد نشوف المسرحية كاملة». ياسر ضحك ضحكة طويلة، ثم قال: «أنا بحبك يا كريم… بس أنت شيطان بجد». كريم ابتسم ابتسامة ما فيهاش ذرة ندم: «الشيطان كان بيحب ربنا برضو… بس اختلف معاه في الطريقة». ثم فتح لاب توب جديد، بدأ يكتب الجزء الثاني من المسرحية. في تلك الليلة، في بيروت، نام الصقر ١٧ مطمئناً لأول مرة من شهور. لأنهم كانوا يعرفون: أكبر انتصارات الحرب… هي اللي محدش يموت فيها… بس الكل ينزف. وعملية «الثعلب الأحمر» كانت مجرد البداية. سرد روائى طويل وكامل ومشوق اسطنبول، شارع الاستقلال مواجهة دموية مع أركان × كريم. كريم يُصاب في كتفه ويترك أركان يعتقد أنه قتله. اسطنبول، ٢٣ نوفمبر ٢٠١٥، الساعة ٠٠:٤٧ بعد منتصف الليل شارع الاستقلال – بيوغلو. المطر ينهمر بغزارة، يغسل الأرصفة ويحوّل أضواء النيون إلى أنهار ملونة على الأسفلت. الشارع الذي يغص بالسياح نهاراً أصبح شبه خالٍ الآن، فقط بعض السكارى المتأخرين وبائعي الكستناء المغلقة محالهم. رائحة البارود والدم ستختلط قريباً برائحة المطر. كريم الشرقاوي يمشي بسرعة متوسطة، يرتدي معطفاً جلدياً أسود طويلاً، قبعة صوف رمادية تغطي نصف وجهه، يداه في جيبيه. في جيبه الأيمن مسدس جلك ١٩ مع كاتم صوت، وفي اليسرى قنبلة دخان يدوية. اسمه الليلة «أحمد يلماز»، صحفي تركي معارض، جاء للقاء «مصدر» في مقهى «مندوبات» القديم في نهاية الشارع. لكن كريم يعرف أن المصدر ليس مصدراً. إنه فخ. فخ وضعه أركان يلماز بنفسه. منذ أسبوعين، وصلت رسالة مشفرة إلى أحد هواتف الصقر ١٧: «إذا أردت ملفات تُسقط أردوغان… تعال إلى مقهى مندوبات، ٢٣ نوفمبر، منتصف الليل، لوحدك. لا تُحضر أحداً، وإلا ستموت». كريم لم يخبر ياسر. قال له إنه رايح عملية استطلاع عادية في أضنة. لكن في قلبه كان يعرف: الليلة إما أن يقتل أركان… أو يموت هو. في نهاية شارع الاستقلال، وقف أمام المقهى، دخل. المكان شبه فارغ، فقط نادل عجوز وثلاثة زبائن في الركن. جلس في الطاولة الخلفية، طلب قهوة تركية مرة، انتظر. بعد سبع دقائق بالضبط، دخل الرجل. أركان يلماز. طويل، نحيف، معطف جلدي أسود مثله تماماً، شعر أشقر قصير مبلل من المطر، عينان زرقاوان ثلجيتان. ابتسامة صغيرة على شفتيه، كأنه جاء لحفلة وليس لمواجهة. جلس أمام كريم مباشرة، بدون مقدمات. «مساء الخير يا عميد كريم… أو أحمد… أو أي اسم تحبه الليلة». كريم لم يتحرك. فقط شرب رشفة من القهوة، رد بهدوء: «أهلاً يا عقيد أركان… كنت عارف إنك هتيجي بنفسك». أركان أخرج علبة مالبورو غولد، أشعل سيجارة، نفث الدخان في وجه كريم. «أنا دايماً بيجي بنفسي لما يكون الخصم يستاهل… وأنت تستاهل». كريم ابتسم ابتسامة خالية من الدفء. «خايف أقتلك من بعيد؟» أركان ضحك ضحكة قصيرة. «لأ… خايف أموت وأنا مش شايف عينيك». ثم فجأة، انفتح باب المقهى بعنف، دخل ستة رجال ملثمون، يحملون مسدسات بكواتم، أطلقوا النار على السقف. النادل صرخ، الزبائن ركضوا، المكان تحول إلى فوضى. كريم قفز فوق الطاولة، أخرج مسدسه، أطلق رصاصتين على أقرب ملثمين، أصاب أحدهما في الرقبة والثاني في الصدر. أركان لم يتحرك من مكانه، فقط رفع يديه في الهواء، كأنه يستمتع. في ثانية، كان الاثنان يركضان خارج المقهى، في شارع الاستقلال، تحت المطر الغزير. رصاص يمزق الهواء من كل مكان. كريم ركض يميناً في زقاق ضيق، أركان يتبعه بنفس السرعة. دخلا عمارة قديمة مهجورة، صعدا السلم بسرعة، طابق… طابقين… ثلاثة. وصلا إلى السطح. المطر ينهمر، الرعد يضرب، اسطنبول كلها تحت أقدامهما، مضاءة كجوهرة غارقة. كريم وأركان وقفا وجهاً لوجه، على بُعد خمسة أمتار، مسدساهما موجهان لبعضهما، يتنفسان بسرعة. أركان تكلم أولاً، صوته هادئ رغم المطر: «كلس… بغداد… الثعلب الأحمر… كلها كانت لعبة حلوة يا كريم… بس الليلة انتهت». كريم رد وهو يبتسم: «لأ… الليلة بدأت». ثم أطلق النار. أركان أطلق في نفس اللحظة. رصاصة أركان أصابت كتف كريم الأيسر، اخترقت اللحم، خرجت من الخلف، الدم بدأ يسيل بغزارة. رصاصة كريم أصابت صدر أركان تماماً، في القلب تقريباً. أركان تراجع خطوتين، نظر إلى الدم المنبعث من صدره، ثم سقط على ركبته. كريم تقدم خطوة، يضغط على كتفه المصاب، ينظر إليه من فوق. «وداعاً يا أركان… كان شرف لي». أركان رفع رأسه بصعوبة، ابتسم ابتسامة دموية: «مش نهايتي يا ابن الكلب… ده بدايتي أنا…». ثم سقط على وجهه، بلا حراك. كريم وقف لحظة، يتنفس بصعوبة، المطر يغسل الدم من كتفه ومن السطح. ثم نزل السلم ببطء، خرج من الباب الخلفي، اندمج في الزقاق، اختفى. بعد ٢١ دقيقة، وصلت سيارات الشرطة التركية، وجدت جثة أركان يلماز، وأعلنت رسمياً: «اغتيال ضابط مخابرات تركي كبير على يد مجهولين». لكن ما لم يعرفه أحد: في اللحظة التي سقط فيها أركان، كان يرتدي جاكيتاً مضاداً للرصاص من الجيل الجديد، والرصاصة دخلت بين لوحتين، أصابت الرئة فقط، لم تصل للقلب. أركان كان يتنفس بصعوبة، لكنه كان حيّاً. فريقه وصل بعد ٩ دقائق، نقلوه إلى مستشفى عسكري سري، أنقذوه بأعجوبة. في غرفة العمليات، وهو تحت التخدير، همس لطبيبه: «قوله لكريم الشرقاوي… اللعبة لسه… ما بدأتش». في بيروت، بعد ثلاثة أيام، كريم مستلقٍ على سرير في عيادة سرية، كتفه مخيط، ياسر بجانبه يضمد الجرح. ياسر قال بفرحة: «مبروك يا باشا… قتلت أركان يلماز!» كريم نظر إليه بعينين ميتتين، وقال بهدوء: «لأ يا ياسر… أنا ما قتلتش أركان… أنا صحّيته بس». ثم أغلق عينيه، وهمس لنفسه: «الصقر فتح عين الذئب… والذئب دلوقتي هيفتح عينيه تاني… وبكرة هيبقى أخطر من الأول». في تلك الليلة، في اسطنبول، فتح أركان يلماز عينيه في غرفة الإنعاش، نظر إلى السقف، وابتسم ابتسامة شيطانية. على صدره ندبة جديدة… وعلى قلبه اسم واحد فقط: كريم الشرقاوي. المواجهة الحقيقية… كانت لسه جاية. سرد روائى طويل وكامل ومشوق تفجير الكاتدرائية، دمشق 2016 ياسر يموت وه أمام عيني كريم. أول مرة يبكي فيها كريم منذ عشرين سنة. دمشق، ٢١ ديسمبر ٢٠١٦ حي باب توما، الكاتدرائية المريمية للروم الأرثوذكس الجو بارد جداً، ثلج خفيف يتساقط لأول مرة منذ سنين، يغطي أسطح البيوت القديمة بطبقة بيضاء رقيقة. داخل الكاتدرائية أنوار شموع صفراء دافئة، رائحة البخور الثقيلة تملأ المكان، صوت الترانيم السريانية يعلو ببطء. المصلون يرتدون أجمل ملابسهم، أطفال يحملون هدايا صغيرة ملفوفة بشرائط حمراء، نساء يمسحن دموع الفرح لأن القداس هذا العام سيكون أول قداس عيد ميلاد منذ سنتين بلا قصف. كريم الشرقاوي واقف في الصف الخلفي، يرتدي معطفاً أسود طويلاً، وشاحاً صوفياً رمادياً يغطي نصف وجهه. لم يكن يريد أن يأتي، لكنه أصرّ ياسر: «مرة واحدة نصلي زي الناس العادية يا كريم… مرة واحدة بس». ياسر الحلبي واقف على بُعد مترين منه، يرتدي جاكيت جلدي أسود، يبتسم ابتسامة نادرة وهو ينظر إلى طفلة صغيرة ترنّم بصوت عالٍ. كان يحمل في جيبه هدية صغيرة، صليباً فضياً صغيراً اشتراه من صائغ باب شرقي ليضعه في عنق أمه لو عادت يوماً من حلب. كانا قد وصلا دمشق قبل ثلاثة أيام فقط، مهمة سريعة: تسليم ملفات مشفرة لضابط سوري كبير عن شحنة صواريخ إيرانية ستصل طرطوس بعد أسبوع. لكن ياسر أصرّ على البقاء ليلة عيد الميلاد: «أنا مسيحي من حلب يا راجل… خليني أشوف الكاتدرائية قبل ما أموت». كريم وافق على مضض. الساعة ١٩:٤٣ القداس وصل إلى لحظة السلام، الناس يصافحون بعضهم، يقبلون بعضهم، يضحكون. فجأة، انتبه كريم إلى رجل في الصف الأمامي، ملتحٍ شاب، عيناه زائغتان، يضع يده داخل معطفه بطريقة غريبة. كريم عرف فوراً. همس في أذنه اللاسلكية الصغيرة: «ياسر… انتحاري… يمين الأيقونسطاس… اقفله». ياسر التفت في نفس اللحظة، رأى الرجل، اندفع بسرعة البرق بين المصلين، صرخ بصوت عالٍ: «ارجعوا كلكم… فيه قنبلة!» الناس تجمدوا، ثم بدأ الصراخ. الانتحاري رفع صوتاً عالياً: «الله أكبر!» وكبس الزر. ياسر وصل إليه في اللحظة الأخيرة، دفع الرجل بكل قوته نحو الجدار الجانبي، بعيداً عن الحشد، ثم ألقى بنفسه فوق الجسم. انفجار هائل. ضوء أبيض، صوت مدوٍّ، حرارة لا تُطاق، شظايا تطير في كل مكان، الزجاج المعشق يتفتت، الشموع تنطفئ، الدم يرش على الجدران والأيقونات. كريم ركض وسط الدخان والنار والصراخ، وصل إلى المكان. ياسر ملقى على الأرض، جسده ممزق، نصفه الأيمن محترق، ساقه اليسرى مقطوعة من الركبة، الدم يتدفق بغزارة. كان لا يزال حيّاً… بالكاد. كريم ركع بجانبه، رفع رأسه، وضعه في حجره. ياسر فتح عينيه بصعوبة، دم يسيل من فمه، ابتسم ابتسامة صغيرة مكسورة. «كريم… أنا… نجحت… صح؟» كريم لم يستطع الكلام. صوته اختفى. فقط أومأ برأسه بسرعة. ياسر رفع يده المقطوعة تقريباً، لمس وجنت كريم. «متزعلش… أنا… كنت عايش مستني أموت… عشان… الناس دي… تعيش…» ثم أخرج من جيبه الصليب الفضي الصغير، وضعه في يد كريم. «ده… لأمي… لو رجعت… قولها… ابنها مات… شهيد…» عيناه بدأتا تغمضان. كريم ضغط على جراحه بكلتا يديه، الدم يتسرب بين أصابعه، صرخ بصوت أجشّ: «ياسر… متسبنيش يا ابن الكلب… ياسر!» ياسر فتح عينيه مرة أخيرة، همس بصوت خافت جداً: «الصقر… ١٧… هيكمل… من غيري… خلّص… القايمة… يا كبير…» ثم انتهى. كريم ظل ممسكاً بجثة ياسر، وسط الدخان والدم والزجاج المكسور والناس اللي بتصرخ وبتبكي. لم يشعر بالوقت. لم يشعر بالشرطة ولا الإسعاف ولا الناس اللي بتحاول تسحبه. ظل جالساً هناك، يضم جثة أخيه الصغير، ودموعه تنزل لأول مرة منذ عشرين سنة بالضبط، منذ أن كان في الكلية الحربية ومات والده. دموع حارة، صامتة، لا صوت معها، فقط اهتزاز كتفيه. واحد من المصلين، رجل عجوز، اقترب، وضع يده على كتف كريم، همس: «ربنا يرحمه… كان بطل». كريم لم يرد. بعد ساعة، خرج من الكاتدرائية، الثلج لا يزال يتساقط، الدم ما زال على ملابسه، الصليب الفضي في يده. مشى في شوارع باب توما الفارغة، لا يشعر بالبرد، لا يشعر بشيء. وصل إلى شقتهم الآمنة في القصّاع، فتح الباب، أغلقه خلفه، جلس على الأرض، فتح الصليب، وضعه على صدره. ثم بكى. بكى كطفل، بصوت عالٍ، يضرب الأرض بقبضته، يصرخ اسم ياسر مرات ومرات، حتى بحّ صوته. بعد ساعتين، وقف، مسح وجهه، أشعل سيجارة بيد مرتجفة، فتح دفتره الأسود. كتب بخط يده، والدموع لا تزال تنزل: «21/12/2016 – ياسر محمد الحلبي – استشهد في الكاتدرائية – باب توما رقم ١ في الصقر ١٧ أخي الصغير القايمة هتكمل… والدم هيجري أكتر… عشانك يا ياسر… وعشان كل طفل كان بيصلي النهاردة». ثم أغلق الدفتر، أطفأ السيجارة، ارتدى معطفه، خرج في الليل. من تلك الليلة، لم يعد كريم الشرقاوي يضحك أبداً. ولم تعد عيناه تدمعان أبداً بعد ذلك اليوم. لكن في قلبه، بقي ياسر يعيش. وفي كل عملية بعد كده، قبل ما يضغط الزناد، كان يهمس لنفسه: «دي ليك يا ياسر… نام قرير العين… أخوك لسه بيحارب». الصقر ١٧ فقد جناحه الأيمن… لكنه لم يسقط. طار أعلى… وأخطر… وأكثر دموية من أي وقت مضى. سرد روائى كامل وطويل ومشوق موسكو، فندق راديسون لقاء مع ناتاشا الضابطة الروسية. بداية علاقة عابرة. موسكو، ١٧ فبراير ٢٠١٧ فندق راديسون سلافيانسكايا، الدور السابع عشر، جناح ١٧٤٢ الثلج يتساقط خارج النوافذ الكبيرة بكثافة، يغطي نهر موسكو بطبقة بيضاء صامتة. الغرفة دافئة جداً، رائحة خشب الصنوبر والفودكا الغالية تمتزج مع دخان السيجار الكوبي الخفيف. الإضاءة خافتة، مصباحان جانبيان فقط، يلقيان ظلالاً طويلة على السجاد الأحمر السميك. كريم الشرقاوي واقف عند النافذة، يدخن سيجارة مارلبورو حمراء، يرتدي قميصاً أسود مفتوح الأزرار الأولى، بنطالاً أسود، حذاء جلدي لامع. على صدره الصليب الفضي الصغير الذي أعطاه إياه ياسر قبل شهرين بالضبط. لم يخلعه منذ تلك الليلة. اسمه الليلة «عمر الخطيب»، رجل أعمال سوري-لبناني يتاجر في النفط، جاء موسكو لتوقيع عقد مع شركة روس نفط. لكن الحقيقة أنه هنا للقاء ضابطة في الـ FSB، تحمل معلومات عن قافلة أسلحة روسية سترسل إلى النظام السوري عبر البحر الأسود، وهو يريد تغيير مسارها قليلاً… لصالح الصقر ١٧. طرق خفيف على الباب، ثلاث طرقات، ثم واحدة بعد ثانيتين. كريم أطفأ السيجارة، فتح الباب. دخلت هي. ناتاشا إيفانوفنا كوزنتسوفا. النقيب في المديرية الخامسة (مكافحة الإرهاب الدولي)، ٣٤ سنة، شعر أشقر قصير، عيون خضراء ثلجية، بشرة بيضاء كالثلج، طولها متر وسبعة وسبعين، ترتدي معطفاً فرو أسود طويلاً، تحتها فستان أسود قصير ضيق، كعب عالٍ، شفايف حمراء داكنة. رائحة عطرها Chanel N°5 قوية، تخترق الغرفة فوراً. أغلقت الباب خلفها بهدوء، خلعت المعطف، علقته على الكرسي. «Zdravstvuyte, gospodin al-Khatib» قالت بالروسية بصوت منخفض مخملي. كريم رد بالروسية بطلاقة (كان قد تعلمها في أكاديمية فرونزي قبل خمسة عشر عاماً): «Dobry vecher, kapitan Kuznetsova… تفضلي». أشارت إلى الزجاجة على الطاولة: «فودكا بيلوجا؟» كريم صبّ كأسين، ناولها واحدة. جلست على الأريكة، رجل على رجل، نظرت إليه بعينين لا ترمش. «سمعت إنك بتدور على معلومات… وأنا بأدور على فلوس… كتير». كريم جلس مقابلها، شرب رشفة، رد بهدوء: «الفلوس جاهزة… مليوني دولار في حقيبة في الخزانة… نصهم دلوقتي، والنص التاني لما أشوف البضاعة». ناتاشا ابتسمت ابتسامة صغيرة، أخرجت فلاشة USB سوداء صغيرة، وضعتها على الطاولة. «كل حاجة هنا… مواعيد، أرقام السفن، أسماء الضباط في ميناء نوفوروسيسك، حتى صور الأقمار الصناعية». كريم أخذ الفلاشة، دارها بين أصابعه، ثم رفع عينيه إليها. «إزاي ضابطة في الـ FSB بتبيع معلومات زي دي؟» ناتاشا شربت الفودكا كله دفعة واحدة، وضعت الكأس على الطاولة، اقتربت منه حتى أصبحت على بُعد سنتيمترات. «لأني بكره السياسة… وبكره اللي بيموتوا الأطفال… وأنت، عمر الخطيب، أو أياً كان اسمك الحقيقي… أنت بتحارب نفس الناس اللي أنا بكرههم». ثم فجأة، قبلته. قبلة قوية، جائعة، طويلة. كريم لم يقاوم. لأول مرة منذ موت ياسر، شعر بشيء غير الألم. سقطا على الأريكة، ملابسهما تتساقط قطعة قطعة، الثلج يضرب الزجاج من الخارج، والدفء يملأ الغرفة من الداخل. استمرت الليلة كلها. ليلة من الجسد والنار والكحول والأسرار المتبادلة بين همسات. في الساعة الخامسة فجراً، استلقيا بجانب بعضهما على السرير، يدخنان سيجارتين في نفس الوقت، الغرفة مليانة دخان وصمت. ناتاشا قالت فجأة، صوتها خافت: «اسمي الحقيقي ناتاشا… بس أنت… أنت كريم، صح؟ كريم الشرقاوي… الصقر ١٧». كريم تجمد، يده اقتربت تلقائياً من المسدس تحت المخدة. ناتاشا وضعت يدها على يده، منعته، همست: «متخافش… لو كنت عايزة أمسكك، كنت جبت معايا فرقة OMON… أنا عارفة مين أنت من سنتين… وأنا بحترمك». كريم سكت طويلاً، ثم سأل: «وليه بتعملي كده؟» ناتاشا نظرت إلى السقف، عيناها فارغتان. «لأني شفت صور الغوطة… شفت أطفال بيموتوا بالسارين… وأنا كنت في سوريا سنة ٢٠١٣… شفت بنفسي… ومن يومها وأنا بكره كل اللي بيدعموا الحرب دي… حتى لو كانوا من عندنا». ثم التفتت إليه، قبلته قبلة أخيرة طويلة. «دي ليلة واحدة بس… مش أكتر… مش هتقدر تكون حاجة تانية… أنا ضابطة روسية… وأنت مطلوب في عشر دول… بس الليلة دي… لينا إحنا». كريم أغلق عينيه، ضمها إليه بقوة، لآخر مرة. في السابعة صباحاً، استيقظ، وجدها قد ذهبت. على الوسادة، ورقة صغيرة مكتوب عليها بخط أنثوي أنيق: «شكراً على الليلة… خلّي بالك من نفسك يا صقر… الدنيا لسه فيها ناس بتحبك… حتى لو من بعيد. Н.» وفي الخزانة، الحقيبة التي كان فيها مليون دولار أول دفعة… فاضية. كريم ابتسم ابتسامة حزينة، أول ابتسامة منذ موت ياسر. أخذ الفلاشة، لبس معطفه، خرج من الجناح، نزل المصعد، مشى في لوبي الفندق المزدحم، خرج إلى الثلج. في الخارج، وقف لحظة، رفع وجهه للسماء، ترك الثلج يذيب الدموع التي لم تعد تنزل. ثم همس لنفسه: «وداعاً يا ناتاشا… شكراً إنك خليتيني أحس إني لسه إنسان… ولو لليلة واحدة». ثم مشى في شوارع موسكو البيضاء، اختفى بين البشر. في قلبه، ذكرى دافئة لليلة باردة… ولامرأة لن يراها ثانية أبداً… لكنها ستبقى تعيش في مكان ما داخل الصقر… مكان لم يعد فيه أحد يدخل… إلا هي، لليلة واحدة فقط. سرد روائى طويل وكامل ومشوق حلب، ديسمبر 2016 كريم يدخل المدينة المحاصرة لتأمين ممر إجلاء سري لضباط إيرانيين. حلب، ١٣ ديسمبر ٢٠١٦ الساعة ٠٣:١٤ فجراً حي الصاخور الشرقي، آخر خطوط الجبهة. المدينة ميتة تقريباً. لا كهرباء، لا ماء، لا صوت سوى صوت الريح التي تعصف بين الأنقاض، وأحياناً طلقة قناص بعيدة تدوّي كأنها تذكير بأن الحرب لم تنته بعد. البرد قارس، تحت الصفر بكثير، الثلج الممزوج بالغبار يغطي الشوارع المحطمة. رائحة البارود والجثث المتفسخة تحت الأنقاض تملأ الجو حتى الاختناق. كريم الشرقاوي يتحرك في الظلام كظلّه. بدلة عسكرية سوداء كاملة، قناع وجه أسود، خوذة ليلية، حقيبة ظهر صغيرة تحتوي على جهازي ثريا ومتفجرات C-4 وكواتم صوت. على صدره الصليب الفضي الصغير، يلمسه كلما شعر أن البرد سيقتله. هذه ليست مهمة الصقر ١٧. هذه مهمة من «الأعلى جداً» في القاهرة ودمشق معاً: إخراج ثلاثة ضباط إيرانيين كبار من الحرس الثوري محاصرين داخل حلب الشرقية قبل أن يسقط الحي تماماً في يد الجيش السوري وحزب الله خلال ٤٨ ساعة على الأكثر. الضباط الثلاثة: العميد قاسم رضا زاده (قائد قوة القدس في حلب). العقيد حسين همداني (ابن الشهيد حسين همداني). الرائد فريدون عباسي (خبير صواريخ بالستية). إذا سقطوا أسرى أو قُتلوا، ستكون كارثة استراتيجية لمحور المقاومة بأكمله. كريم هو الوحيد الذي وافق على المهمة. قال للعميد في دمشق بصوت خافت: «أنا داخل… بس لو متّ، محدش يعرف إن مصر كانت ليها يد». دخل حلب الشرقية من نفق سري تحت حي الصاخور، نفق حفره الصقر ١٧ قبل شهرين لأغراض أخرى، الآن يُستخدم لآخر مرة. في النفق، الرطوبة شديدة، الماء يقطر من السقف، صوت أقدامه يتردد كأنه في قبر. بعد ٤٢ دقيقة من الزحف، وصل إلى نقطة الخروج: قبو مبنى مدمر في شارع المنشية. خرج، وجد نفسه في قلب الجحيم. الشوارع مليئة بالأنقاض، الجثث متناثرة، بعضها لأيام، بعضها لساعات فقط. كلاب ضالة تأكل من جثة طفل في زقاق مجاور. لا إضاءة، فقط ضوء القناصات الحمراء يتحرك بين المباني. كريم تحرك كالقط، من ظل إلى ظل، يتجنب دوريات جبهة النصرة وأحرار الشام التي لا تزال تسيطر على الحي. وصل إلى المبنى المحدد: مدرسة قديمة تحولت إلى مقر للحرس الثوري. الباب مدمر، النوافذ محطمة، لكن داخلها ضوء خافت من مولد ديزل صغير. دخل بحذر، مسدسه مرفوع. في الدور الأرضي، وجدهم. ثلاثة رجال منهكين، ملابسهم ممزقة، وجوههم مغطاة بالغبار والدماء المجففة. العميد قاسم كان جالساً على كرسي مكسور، يضمد جرحه في فخذه بنفسه. عندما رأى كريم، رفع مسدسه فوراً. كريم تكلم بالفارسية بطلاقة (تعلّمها في طهران قبل عشر سنين): «أنا من طهران… جاي آخذكم… الآن». قاسم خفض سلاحه ببطء، عيناه مليئتان بالشك والإرهاق. «مين أنت؟» كريم: «ما يهمش… المهم إن عندي ممر آمن للخروج… خلال ساعتين هيبقى متأخر». قاسم نظر إلى رفيقيه، ثم أومأ برأسه. بدأت الرحلة العكسية. كريم يقود، الإيرانيون الثلاثة خلفه، يتحركون في الظلام، يتجنبون الألغام والقناصات. في شارع النيرب، انكشفوا. دورية من جبهة النصرة، سبعة مقاتلين، اكتشفوا الحركة، بدأوا يطلقون النار. كريم دفع الإيرانيين داخل زقاق ضيق، ألقى قنبلة دخان، ثم أفرغ مخزنين كاملين في اتجاههم، أسقط ثلاثة، الباقون تراجعوا. لكن الضجيج جذب المزيد. الآن كانوا مطاردين. كريم قاد الجميع إلى النفق، لكن المدخل كان تحت النار. قاسم صرخ: «غير مسار!» كريم: «مفيش مسار تاني!» في تلك اللحظة، رأى كريم شيئاً جعل قلبه يتوقف. في نهاية الشارع، طفلة صغيرة، لا تتجاوز السبع سنوات، واقفة في وسط الرصاص، تبكي، تحمل دمية ممزقة. كريم توقف لحظة. قاسم جذبه: «امشي!» لكن كريم لم يستطع. ركض نحو الطفلة، حملها بين ذراعيه، ركض عائداً وهو يطلق النار من يده اليسرى. رصاصة أصابته في ظهره، لم يشعر بها. وصل إلى النفق، رمى الطفلة داخل، ثم دفع الإيرانيين واحداً واحداً. آخر واحد كان قاسم. قاسم وقف عند مدخل النفق، نظر إلى كريم وقال بالفارسية: «اسمك؟» كريم، والدم يسيل من ظهره: «مش مهم… قولوا للخامنئي إن مصر لسه بتحمي إيران… حتى لو في الخفاء». قاسم أومأ برأسه باحترام عميق، ثم دخل. كريم أغلق باب النفق الحديدي من الخارج، وضع قنبلة يدوية صغيرة، فجرها ليغلق المدخل تماماً، حتى لا يتبعوهم. ثم وقف في وسط الشارع، وحيداً. المقاتلون وصلوا من كل اتجاه. كريم رفع مسدسه، أفرغ آخر مخزن فيهم، أسقط اثنين، ثم انتهى الذخيرة. واحد منهم، ملتحٍ شاب، اقترب، وضع فوهة البندقية على رأس كريم. كريم نظر إليه، ابتسم ابتسامة هادئة، وقال بالعربية: «اقتلني… بس اللي جوا خلّصوا». الملتحي ضغط الزناد. لكن في تلك اللحظة بالضبط، انفجرت قنابل الهاون من جهة الجيش السوري، القصف بدأ من جديد، الملتحي سقط، وكريم ألقى بنفسه في حفرة قريبة. بعد عشر دقائق، هدأ القصف. كريم خرج من الحفرة، مت Covered بالتراب والدم، لكنه حي. مشى ببطء وسط الأنقاض، وصولاً إلى نقطة استخراج في حي الشيخ مقصود، حيث سيارة تابعة للجيش السوري تنتظره. في السيارة، الضابط السوري نظر إليه بذهول: «إنت إزاي لسه عايش؟» كريم لم يرد. فقط أغلق عينيه، ولمس الصليب الفضي. في قلبه، صورة الطفلة التي أنقذها. في جيبه، ورقة صغيرة كتبها قاسم رضا زاده قبل الدخول إلى النفق، وضعها في يده: «شكراً يا أخ مصري… اليوم أنت أنقذت إيران… وأنت لن تعرف أبداً كم كنت عظيماً». كريم قرأ الورقة، ثم مزقها، رمى القطع من الشباك. ثم همس لنفسه، وهو ينظر إلى حلب المحترقة من بعيد: «أنا ما أنقذتش إيران… أنا أنقذت طفلة… وبس». السيارة انطلقت غرباً، تاركةً حلب خلفها. حلب التي سقطت بعد يومين. لكن في تلك الليلة، في قلب الجحيم، كان الصقر قد طار مرة أخيرة داخل المدينة… وحمل على جناحيه ثلاثة رجال… وطفلة واحدة… وروح إنسان لم تمت بعد. حتى في أحلك الليالي. 4s Fast سرد روائى كامل وطويل ومشوق الرقة، 2017 كريم يغتال قياديًا في جيش الإسلام انتقامًا لياسر… لكنه يكتشف أن الرجل كان مخبرًا مزدوجًا. الرقة، ٨ أغسطس ٢٠١٧ الساعة ٠٢:٥٦ فجرًا حي الدرعية، آخر معاقل جيش الإسلام في المدينة قبل أسابيع من سقوطها النهائي. الجو حار حتى في الليل، رائحة الجثث والبارود والحرائق القديمة تملأ الهواء. المدينة محاصرة من كل الجهات، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تقترب من الشرق، الطيران الروسي والأمريكي يضرب في نفس الوقت، الشوارع مهجورة إلا من الكلاب الضالة والقناصين. كريم الشرقاوي يتحرك وحيداً فوق أسطح البيوت المتصلة، يرتدي بدلة سوداء كاملة، قناع وجه، خوذة ليلية، حذاء بدون صوت. في يده بندقية قنص Dragunov مزودة بكاتم صوت طويل، على ظهره حقيبة صغيرة فيها قنابل يدوية ومسدس احتياطي. الهدف: القيادي في جيش الإسلام «أبو ياسر الدمشقي» (اسمه الحقيقي: زهير عبد الرحمن الشامي)، الرجل الذي أمر شخصياً بتفجير الكاتدرائية في باب توما قبل ثمانية أشهر. الرجل الذي صوّر فيديو وهو يضحك ويقول: «المسيحيين في سوريا كفار، والكنيسة كانت هدفاً مشروعاً». كريم يعرف وجهه منذ شهور، صورته محفورة في رأسه أكثر من صورة ياسر نفسه. منذ ليلة الكاتدرائية، كلما أغمض عينيه، يرى ياسر يموت… ويسمع صوت أبو ياسر في الفيديو يضحك. اليوم هو يوم الحساب. وصل إلى السطح المقابل للمبنى الذي يقيم فيه أبو ياسر: فيلا قديمة محاطة بأكياس رمل وأبراج حراسة. ثلاثة حراس على السطح، اثنان في المدخل، واحد يتجول في الفناء. كريم أسقط الحراس الثلاثة على السطح برصاصات صامتة، واحدة في الرقبة، واحدة في الجبهة، واحدة في القلب. ثم قفز إلى الفناء، قطع حبل الكلب بضربة سكين، دخل من النافذة الخلفية. داخل الفيلا، الظلام تام، فقط ضوء مصباح كيروسين في الغرفة الرئيسية. كريم تحرك كالقط، وصل إلى الباب، دفع الباب ببطء. وجد أبو ياسر. جالساً على سجادة صلاة، لحيته طويلة سوداء، يرتدي دشداشة بيضاء، يقرأ القرآن بصوت خافت. على الطاولة بجانبه مسدس وجهاز ثريا. كريم دخل، وقف خلفه، وجه البندقية إلى رأسه. أبو ياسر توقف عن القراءة، لم يتح12. رفع يديه ببطء، وقال بصوت هادئ: «كنت عارف إنك هتيجي يا صقر… كنت مستنيك من شهور». كريم لم يرد. فقط ضغط على الزناد. لكن في اللحظة الأخيرة، أبو ياسر استدار، دفع البندقية بيده، الرصاصة أصابت الحائط. بدأت معركة يدوية عنيفة. أبو ياسر كان قوياً، مدرباً، ضرب كريم في وجهه، كسر أنفه، لكن كريم طعنه في كتفه بسكينته، ثم ركله في بطنه، أسقطه. كريم وقف فوقه، مسدسه على جبهته. «ده لياسر… يا ابن الكلب». أبو ياسر، والدم يسيل من كتفه، ابتسم ابتسامة غريبة، وقال بصوت خافت: «ياسر؟… ياسر الحلبي؟… أنت فاكر إني أنا اللي فجرت الكاتدرائية؟» كريم تجمد. أبو ياسر ضحك ضحكة مكسورة: «أنا كنت مخبر للمخابرات السورية من ٢٠١٤… أنا اللي بلّغت عن التفجير قبلها بيومين… بس محدش سمعني… كانوا عايزين يخلّوا الشعب يكره المعارضة… فسبوني أتحمل الذنب». كريم شعر بدمه يتجمد. «كذاب». أبو ياسر أشار بيده المجروحة إلى الثريا: «اتصل برقم ٩٦٣… اسأل العقيد رامي صالح في دمشق… هو كان ضابطي المباشر». كريم، يده لا تزال مرتجفة على الزناد، أخرج هاتفه بيده اليسرى، اتصل بالرقم من ذاكرته. بعد ثلاث رنات، رد صوت رامي صالح: «مين؟» كريم: «زهير الشامي معاك… بيقول إنه كان مخبرك». صمت ثقيل… ثم صوت رامي بصعوبة: «أيوه… كان مخبرنا… أحسن مخبر عندي… بلّغ عن تفجير الكاتدرائية… أنا اللي ما صدّقته… قلت إنه بيحاول يغطي على نفسه… سمحتله يفضل في الرقة عشان يجيب معلومات أكبر… يا ربي… هو لسه عايش؟» كريم أغلق الخط. نظر إلى أبو ياسر، عيناه فارغتان. أبو ياسر كان يبكي الآن، دم يسيل من فمه: «أنا ما قتلتش ياسر… أنا كنت بحاول أنقذ الناس… بس محدش صدّقني… حتى أنتم». كريم تراجع خطوة، المسدس لا يزال موجهاً. ثم فجأة، انفجر الباب، دخل ثلاثة مقاتلين من جيش الإسلام، رأوا كريم، أطلقوا النار. كريم ألقى نفسه على الأرض، أطلق النار، أسقط اثنين، الثالث أصابه في ساقه. أبو ياسر استغل اللحظة، قفز على كريم، أخذ المسدس من يده، وجهه إلى المقاتل المتبقي، أطلق النار، قتله. ثم وقف، يتنفس بصعوبة، نظر إلى كريم، رمى المسدس على الأرض. «امشي… دلوقتي… قبل ما ييجوا الباقيين». كريم وقف، ينظر إليه، لا يعرف ماذا يقول. أبو ياسر اقترب منه، همس: «قول لأهل ياسر… إني آسف… وإني كنت بحاول أحميهم… حتى لو بكذبة». كريم أومأ برأسه ببطء، ثم استدار، قفز من النافذة، اختفى في الظلام. بعد ساعة، كان في سيارة تهريب على طريق دير الزور، متجهاً إلى الحدود العراقية. في السيارة، فتح دفتره الأسود، كتب بخط مرتجف: «8/8/2017 – أبو ياسر الدمشقي – لم أقتله كان مخبراً… كان بريئاً من دم ياسر الانتقام أعمى وأنا أعمى أكثر». ثم مزق الصفحة، رمى القطع من الشباك. وفي تلك الليلة، لأول مرة منذ موت ياسر، شعر كريم أن الثأر ليس دائماً عدلاً. وأن الحرب، أحياناً، تجعل الجميع مجرمين… حتى الذين يحاولون أن يكونوا أبطالاً. وفي الرقة، بقي أبو ياسر حياً… لكن اسمه بقي ملعوناً إلى الأبد. وذنبه الوحيد… أنه حاول أن ينقذ الناس… بطريقة لم يفهمها أحد. 3.3s Fast سرد روائى طويل وكامل ومشوق أزمة قطر كريم يستغل الحصار الرباعي ليضرب شبكات التمويل القطرية في تركيا. أنقرة – إسطنبول – طرابزون من ٥ يونيو إلى ٢٩ يوليو ٢٠١٧ عملية «النار الباردة» في اليوم الذي أعلنت فيه السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع العلاقات مع قطر، كان كريم جالساً في شقة آمنة في منطقة أوسكودار، يتابع نشرة الأخبار على قناة الجزيرة بصوت منخفض، وفنجان قهوة تركية بارد في يده. ابتسم ابتسامة خافتة، أطفأ التلفزيون، وفتح لاب توب مشفر. كتب رسالة واحدة إلى خلية الصقر ١٧ الجديدة (الآن ٢٢ عضواً بعد ياسر): «السمكة خرجت من البحر… الوقت يضرب في الرأس… نبدأ اليوم». أزمة قطر كانت بالنسبة له أكبر فرصة منذ سنوات. الحصار الرباعي جعل كل تحويلات قطر المالية إلى سوريا وليبيا واليمن تمر عبر تركيا فقط. كل الدولارات واليورو والليرة التي كانت تذهب إلى الجماعات المسلحة أصبحت الآن تتركز في ثلاثة بنوك تركية كبيرة، وشركتي صرافة في إسطنبول، وخمسة مكاتب «تبرعات خيرية» على البحر الأسود. كريم قرر أن يجعل هذه الأشهر الثلاثة أسوأ كابوس مالي في تاريخ الدوحة. المرحلة الأولى: جمع المعلومات خلال أسبوعين فقط، فريق الصقر في إسطنبول (أربعة هاكرز، اثنان منهم أتراك سابقون في الـ MIT) اخترقوا: نظام سويفت في بنك زراعات. قاعدة بيانات بنك هالك. خوادم شركتي «الأنصار للصرافة» و«البركة للحوالات». اكتشفوا أن قطر تحول كل أسبوع ما بين ٤٧ و٦٨ مليون دولار إلى حسابات وهمية في تركيا، ثم تُسحب نقداً وتُهرَّب في شاحنات فاكهة إلى سوريا عبر معبر جيلوة غوزو. كريم رسم خطة من ثلاث ضربات متتالية، كل واحدة تُنفذ في مدينة مختلفة، وكل واحدة تترك بصمة مختلفة حتى لا يربطها أحد. الضربة الأولى – إسطنبول – ١٩ يونيو شركة الأنصار للصرافة، منطقة أكسراي. الساعة ٠٤:١٣ فجرًا. شاحنة تبريد صغيرة توقفت أمام الشركة. سائقها (عضو في الصقر، تركي من أصل شركسي) دخل بمفتاح مزوَّر، حمل ٢٩ حقيبة سفر سوداء مليئة بـ ٤٣ مليون دولار نقداً، وضعها في الشاحنة، وانطلق. في نفس اللحظة، دخل فريق ثانٍ، فجّر خزنة الشركة بكمية صغيرة من C-4، ثم أحرق المكان بالكامل باستخدام ثيرميت. الشرطة وجدت الشركة محترقة، والمال اختفى. الكاميرات كانت معطلة، والحراس مخدرين بحقن في القهوة. الضربة الثانية – طرابزون – ٨ يوليو مكتب «جمعية الإغاثة الإنسانية القطرية» على البحر الأسود. الجمعية كانت تغسل ١٢ مليون دولار شهرياً تحت اسم «مساعدات للاجئين السوريين». كريم نفسه نفّذ العملية هذه المرة. دخل المكتب ليلاً متنكراً في زيّ شرطي تركي، قال للحارس إن هناك تفتيشاً أمنياً بسبب الحصار. الحارس فتح الباب. داخل المكتب، وجد كريم ١٧ مليون دولار في صناديق «مساعدات طبية». لم يسرقها هذه المرة. بل فجّر المكتب بأكمله باستخدام غاز البروبان، ثم ألقى داخل النيران ملفاً كبيراً مزيفاً بعنوان: «حوالات قطر إلى تنظيم داعش – الفرع التركي». الانفجار أضاء سماء طرابزون، والملف احترق جزئياً فقط… بما يكفي لأن تقرأه الصحف. في اليوم التالي، كبرى الصحف التركية الموالية لأردوغان نشرت الخبر: «قطر تمول الإرهاب في تركيا نفسها!» الضربة الثالثة – أنقرة – ٢٧ يوليو بنك هالك، الفرع الرئيسي في كيزيلاي. هذه كانت الضربة القاضية. فريق الهاكرز قام بتحويل إلكتروني وهمي بقيمة ٨٤ مليون دولار من حساب قطري سري إلى حسابات في روسيا وإيران، مع تعليق: «دعم لوجستي للحشد الشعبي وقوات الأسد». في نفس الوقت، كريم أرسل نسخة من التحويلات إلى ثلاث جهات: صحيفة يني شفق (مقربة من أردوغان). وكالة أنباء الأناضول. قناة الجزيرة نفسها (لإحراج قطر أكثر). في ٢٩ يوليو، انفجرت القنبلة. أردوغان ظهر في مؤتمر صحفي طارئ، وجهه أحمر، وقال حرفياً: «بعض الدول التي كنا نعتبرها صديقة تتآمر علينا من الداخل… ولن نسكت بعد اليوم!» قطر نفت، لكن الشك دخل قلب العلاقة التركية-القطرية إلى الأبد. في تلك الليلة، في شقة آمنة في بشكتاش، كريم جالس على الشرفة، يدخن سيجارة، ينظر إلى البوسفور. الهاتف رن. رقم مجهول. رد، سمع صوت خالد الدوسري لأول مرة منذ سنوات، صوت مرتجف من الغضب: «كريم… يا ابن الكلب… إنت اللي عملت كده؟» كريم رد بهدوء مميت: «أيوه يا خالد… أنا اللي خلّيت أردوغان يشك فيكم… وخلّيت فلوسكم تحترق… وخلّيت سمعتكم تترمي في الزبالة… وده بس البداية». الدوسري صرخ: «هنقتلك!» كريم ضحك ضحكة خافتة: «جرب… بس افتكر… كل ما تضغطوا على سوريا أكتر… أنا هضغط على جيوبكم أكتر… وأنا عندي وقت… وعندي صبر… وأنتم عندكم فلوس… بس الفلوس بتخلّص». ثم أغلق الخط. في اليوم التالي، كتب في دفتره الأسود: «يونيو-يوليو ٢٠١٧ – عملية النار الباردة تم حرق وسرقة وتدمير ما يقارب ١٦٨ مليون دولار قطري تم زرع الشك بين أنقرة والدوحة إلى الأبد الصقر ١٧ – لا يزال يطير». أغلق الدفتر، أطفأ السيجارة، نظر إلى البوسفور الذي يفصل آسيا عن أوروبا، وهمس: «الآن… خلّيهم يأكلوا بعض… وإحنا نراقب… ونضرب في الظلام». في تلك الأشهر الثلاثة، لم يُقتل جندي واحد من الصقر ١٧. لكن قطر خسرت أكثر من نصف مليار دولار في سوريا… وخسرت ثقة حليفها الوحيد في المنطقة. وكريم، لأول مرة منذ موت ياسر، شعر أن الانتقام يمكن أن يكون بارداً… ولكنه أيضاً يمكن أن يكون أكثر إيلاماً من الرصاص. النار الباردة كانت قد بدأت… ولم تنته بعد. 3.5s Fast سرد روائى طويل وكامل ومشوق دير الزور، تحت القصف كريم يقضي أسبوعًا مع داعش محاصرًا في نفق، يخرج حيًا بأعجوبة. دير الزور، ١٤–٢١ أكتوبر ٢٠١٧ الجيب الأخير على الضفة الشرقية للفرات السماء لا تُبقي ولا تذر. طائرات سوخوي ٣٤ روسية، ميج-٢٩ سورية، إف-١٦ أمريكية، درونز ريبر، مروحيات أباتشي… كلهم يضربون في نفس الوقت. الأرض ترتجف كل ثانية، الغبار يملأ الرئتين، الضوء الأبيض للفسفور الأبيض يحرق العيون حتى في النهار. كريم لم يكن ينوي أبدًا أن يدخل هذا الجحيم. كان قد وصل إلى دير الزور قبل أسبوعين لعملية بسيطة: تصفية قيادي داعشي كبير يُدعى «أبو ليث الخرساني»، الرجل الذي يدير تجارة النفط الأسود في المنطقة. المعلومات قالت إنه موجود في حي الحميدية، في بيت آمن. لكن عندما وصل كريم، وجد أن أبو ليث هرب قبل يومين… وترك وراءه فخًا. في اللحظة التي دخل فيها البيت، انهار السقف. قنبلة ذكية أمريكية سقطت على بعد خمسين متراً، موجة الضغط فجّرت الجدران، وسقط كريم في قبو عميق… ثم اكتشف أن القبو متصل بنفق طويل تحت الأرض. النفق كان مليئاً بعناصر داعش محاصرين: ٤٧ مقاتلاً، معظمهم أجانب (شيشان، أوزبك، تونسيون، فرنسيون)، وبعض المدنيين الذين أُخذوا رهائن للدرع البشري. معهم أسلحة، ذخيرة، ماء قليل، طعام معلب لأيام معدودة، ومولد كهرباء صغير يصدر صوتاً يشبه عواء كلب مصاب. كريم وجد نفسه بينهم، ملابسه ممزقة، وجهه مغطى بالتراب والدم، مسدسه ضائع، سكينته فقط في حزامه. لم يعرفه أحد في البداية. قال لهم إنه «أبو مصعب المصري»، مجاهد من الجيزة جاء للقتال حتى الشهادة. الأيام السبعة التالية كانت أسوأ أيام حياته. اليوم الأول النفق طوله حوالي ٨٠٠ متر، ضيق، رطوبته عالية، الجدران تتساقط كلما سقطت قذيفة قريبة. الدواعش يصلون، يسبّحون، يغنون أناشيد الموت. كريم يجلس في الظلام، يراقب، يحفظ الوجوه، يحسب كم بقي من الماء والطعام. اليوم الثاني المولد توقف. الظلام صار مطلقاً. بدأوا يستخدمون مصابيح صغيرة وشموع. أحد الشيشان بدأ يصرخ أنهم «في قبر جماعي». كريم أمسك به من رقبته، همس له بالروسية: «اسكت وإلا أنا اللي أدفنك». الشيشاني خاف، سكت. اليوم الثالث انتهى الماء تقريباً. بدأوا يشربون من برميل ماء مطر قديم مليء بالصدأ. ثلاثة مدنيين (امرأة وطفلان) بدأوا يبكون بصوت عالٍ. أحد الدواعش التونسيين رفع سلاحه ليقتلهم «لأنهم يجلبون القصف». كريم وقف أمامه، قال بهدوء: «إذا قتلت طفل، أنا أقتلك». التونسي تراجع. اليوم الرابع القصف صار أقرب. الجدران بدأت تنهار في أماكن. الغبار يخنق. أبو ليث الخرساني نفسه ظهر من فرع جانبي للنفق (كان مختبئاً هناك). عرفه كريم فوراً. كان ينوي قتله في الظلام، لكن أبو ليث كان محاطاً بستة حراس دائماً. اليوم الخامس بدأ الجوع الحقيقي. قسموا علبة تونة على ٤٧ شخص. كريم لم يأكل. أعطى حصته لطفلة صغيرة لا تتجاوز الخامسة، عيونها صفراء من الجوع. كانت تشبه الطفلة التي أنقذها في حلب. لمس الصليب الفضي تحت قميصه، همس: «يا ياسر… لو شايفني دلوقتي». اليوم السادس انقطع الأكسجين تقريباً. بدأ الناس يفقدون الوعي. ثلاثة دواعش ماتوا اختناقاً. كريم بدأ يرى هلوسات: ياسر يقف في نهاية النفق، يبتسم، يلوح له. اليوم السابع – ٢١ أكتوبر الساعة ٠٣:١٧ فجرًا القصف توقف فجأة. صمت مخيف. ثم سمعوا صوت دبابات قسد تقترب من فوق الأرض. صوت مكبرات الصوت بالعربية والكردية: «استسلموا… المدينة سقطت». الدواعش قرروا الخروج للقتال حتى آخر رجل. أبو ليث أمر الجميع بالخروج من فتحة شمالية. كريم بقي في الخلف. عندما خرج آخر داعشي، كريم زحف عكس الاتجاه، إلى فرع جانبي ضيق لم يلاحظه أحد، كان قد اكتشفه في اليوم الثالث. زحف ٢٧٠ متراً في الظلام الدامس، التراب ينهار على رأسه، الرئتين تحترقان. في النهاية، وجد فتحة صغيرة تطل على ضفة الفرات. دفع غطاء حديدي صدئ، خرج إلى الهواء البارد، سقط على وجهه في الطين. كان على الضفة الشرقية، تحت جسر مدمر. القصف بدأ من جديد، لكن بعيداً الآن. استلقى على ظهره، يتنفس كطفل ولد للتو. السماء فوق رأسه صافية لأول مرة منذ أسبوع، نجوم لامعة، قمر بدر كبير. أخرج الصليب الفضي من تحت قميصه، قبّله، ثم بكى بصمت. لأول مرة منذ موت ياسر، بكى مرة ثانية… لكن هذه المرة من الفرحة بأنه لا يزال حياً. بعد ساعة، وصلت دورية كردية، وجدته ملقى على الضفة، مغطى بالتراب والدم، يهمس بكلمة واحدة: «مصري… مصري…» نقلوه إلى مستشفى ميداني، عالجوه، ثم سلموه للجيش السوري بعد يومين. في الطريق إلى دمشق، في السيارة العسكرية، فتح دفتره الأسود، كتب بخط مرتجف: «14-21/10/2017 – دير الزور قضيت ٧ أيام تحت الأرض مع الذئاب خرجت حياً لم أقتل أبو ليث لكنني تعلمت أن الجحيم ليس له سقف وأن الإنسان يستطيع أن يعيش حتى لو لم يبقَ له سوى نبضة واحدة شكراً يا ياسر… كنت معايا هناك أحسست بيك». أغلق الدفتر، نظر من الشباك إلى الصحراء السورية، وابتسم ابتسامة صغيرة متعبة. كان يعرف أن الصقر ١٧ لم يمت. لقد عاد من الموت مرة أخرى. ومن يومها، كلما سمع صوت قنبلة، لم يعد يخاف. لأنه كان قد عاش أسبوعاً كاملاً تحتها… وبقي حياً. حياً ليواصل القتال. حياً ليواصل الانتقام. حياً… لأن ياسر كان يريد ذلك. 3.4s Fast سرد روائى طويل وكامل ومشوق عودة السعودية كريم يُصدم بزيارة سرية سعودية إلى دمشق 2018 ويُطلب منه «تهدئة» عملياته. دمشق، ٢٩ نوفمبر ٢٠١٨ الساعة ٢١:٤٧ مساءً شقة آمنة في المزة ٨٦، الدور الرابع عشر، مطلة على قاسيون الليل بارد، ضباب خفيف يغطي الجبل، أضواء دمشق الخافتة ترتعش من بعيد كأنها خائفة. الشقة فارغة تماماً، لا أثاث سوى طاولة خشبية قديمة، كرسيين، وجهاز ثريا على الأرض. كريم يجلس على الأرض، ظهره للجدار، ينظف مسدس جلك ١٩ ببطء شديد، كأنه يؤلف موسيقى حزينة. منذ ثلاثة أيام فقط، وصلته معلومة من أعلى مستوى في المخابرات السورية: وفد سعودي رفيع المستوى في دمشق سراً، برئاسة اللواء أحمد عسيري (نائب رئيس الاستخبارات سابقاً)، ومعه ضباط كبار، اجتمعوا مع علي مملوك في فندق الشيراتون المغلق. الموضوع: «إعادة توجيه العلاقات» و«مواجهة النفوذ الإيراني» و«فتح صفحة جديدة». كريم لم يصدق أذنيه. السعودية التي مولت كل شيء من درعا إلى إدلب، التي دفعت مليارات للنصرة وأحرار الشام، التي كانت تحلم بسقوط الأسد… الآن تريد «السلام»؟ في الساعة ٢٢:٠٣ بالضبط، طرق على الباب. طرقة واحدة، ثم اثنتين، ثم واحدة بعد ثلاث ثوانٍ. الإشارة التي اتفق عليها مع الضابط السوري. كريم فتح الباب، مسدسه في يده. دخل رجل واحد فقط. اللواء فيصل بن تركي آل سعود. ابن عم بعيد للعائلة المالكة، رئيس قسم العمليات الخاصة في الاستخبارات السعودية، ٤٦ سنة، طويل، نحيف، عيون حادة كالصقر، يرتدي ثوباً أبيض ناصع وبشت أسود، رائحة عود ثقيلة تملأ المكان. أغلق الباب خلفه بهدوء، ثم قال بالفصحى المريحة: «السلام عليكم… يا كريم». كريم لم يرد السلام. فقط رفع حاجبه، وأبقى المسدس في يده. فيصل ابتسم ابتسامة صغيرة، رفع يديه في الهواء: «جاي أتفاوض… مش أقاتل». كريم أشار له بالجلوس على الكرسي الوحيد. فيصل جلس، وكريم بقي واقفاً. «تفضل… قول اللي عندك قبل ما أرميك من البلكونة». فيصل تنهد، أخرج من جيبه ظرفاً أسود سميكاً، وضعه على الطاولة. «أولاً… شكر من صاحب السمو ولي العهد شخصياً على عملية إجلاء الضباط الإيرانيين من حلب ٢٠١٦… لو لاك، كان حصلت كارثة دبلوماسية». كريم لم يتحرك. فيصل واصل: «ثانياً… طلب. الرياض قررت تغيير استراتيجيتها في سوريا تماماً. إيران هي العدو الآن، مش النظام. نريد منك… تهدئة عملياتك ضدنا… بل إيقافها تماماً». كريم ضحك ضحكة قصيرة مريرة: «تهدئة؟ إنتم اللي مولتم تفجير الكاتدرائية؟ اللي بعتوا صواريخ تاو للنصرة؟ اللي حولوا مليارات لقتلة ياسر؟ والآن عايزين أهدّي؟» فيصل فتح الظرف، أخرج صوراً كثيرة، رماها على الطاولة واحدة واحدة. صور لخالد الدوسري في فيلا في الرياض، محاط بحراسة سعودية رسمية. صور لأركان يلماز في اجتماع مع مسؤولين سعوديين في أنقرة قبل شهر. صور لشاحنات سعودية تحمل أسلحة إلى قسد في الحسكة. ثم أخرج ورقة واحدة، مكتوب عليها بخط اليد: «أمر ملكي رقم ٧٨٩/أ بتاريخ ١٤٤٠/٣/١٥ هـ إنهاء كل دعم للجماعات المسلحة في سوريا، والبدء في التنسيق الأمني مع دمشق ضد التمدد الإيراني». كريم نظر إلى الورقة طويلاً، ثم رفع عينيه إلى فيصل. «يعني إنتم باعتذرتم؟» فيصل هز رأسه ببطء: «لأ… إحنا بنغيّر الصفحة… اللي فات مات… الجاي مختلف». كريم اقترب خطوة، صوته صار خافتاً خطيراً: «ياسر مات… ٤٧ ضابط مصري ماتوا بسبب فلوسكم… أطفال الغوطة ماتوا… والآن تقول لي اللي فات مات؟» فيصل وقف، اقترب من كريم حتى أصبحا وجهاً لوجه. «أنا ما قلتش إن الدم ينشف… أنا بقول إن الدم الجاي ممكن يكون أقل… لو وقفت أنت… ووقفنا إحنا… واتفقنا على عدو واحد: إيران». صمت ثقيل ملأ الغرفة. كريم نظر إلى الصليب الفضي، لمسه بأصابعه، ثم قال بصوت مبحوح: «أنا مش هسامح… بس ممكن أهدّي… بشرط». فيصل رفع حاجبه. كريم: «خالد الدوسري… أريد رأسه… شخصياً… في صندوق… في أي مكان في العالم… خلال سنة». فيصل سكت طويلاً، ثم أومأ برأسه ببطء. «هفكر فيه… جدياً». ثم مد يده. كريم لم يصافحه. فقط نظر إلى يده، ثم قال: «روح… وقول لولي العهد إن الصقر ١٧ هيهدّي… مؤقتاً… بس لو شفت ولا دولار واحد رايح لأي جماعة في سوريا تاني… هرجع أضرب… ومش هسيب حياً». فيصل أومأ مرة أخيرة، استدار، فتح الباب، خرج. كريم أغلق الباب، رجع للجدار، جلس على الأرض. أشعل سيجارة، نفث الدخان ببطء، نظر إلى الجبل من النافذة. همس لنفسه: «يا ياسر… لو كنت مكاني… كنت هتصدق؟» ثم فتح دفتره الأسود، كتب بخط هادئ: «29/11/2018 – دمشق لقاء مع اللواء فيصل بن تركي السعودية تريد هدنة وافقت… مؤقتاً لكن الدم لن يُغفر فقط يُؤجل خالد الدوسري لا يزال في القائمة رقم ١ إلى الأبد». أغلق الدفتر، أطفأ السيجارة، وقف عند النافذة. الضباب يغطي قاسيون كأنه غطاء كفن. كريم ابتسم ابتسامة باردة، وقال للظلام: «العالم بيتغير يا ياسر… بسعودية بترجع لدمشق… وأنا لسه واقف… بس القلب لسه بينزف… وبينتظر». ثم أغلق الستارة، وجلس في الظلام. الصقر ١٧ لم يمت. لقد نام فقط… لكنه استيقظ في أي لحظة. 2.9s Fast سرد روائى طويل وكامل وطويل أبوظبي، 2021 لقاء سري مع ضابط إماراتي: «نحن نغيّر التحالفات… لا تعرقلنا. أبوظبي، ١٧ مارس ٢٠٢١ الساعة ٢٣:٤٩ فيلا خاصة في جزيرة السعديات، على الشاطئ الخلفي تماماً البحر هادئ كحبر أسود، القمر كبير وأبيض ينعكس على الماء كمرآة مكسورة. الفيلا مضاءة بضوء خافت، لا حراسة ظاهرة، فقط كاميرات حرارية مخفية وأربعة رجال في الظل يرتدون بدلات سوداء بلا شعارات. رائحة العود الإماراتي الثقيل تمتزج برائحة الملح. كريم الشرقاوي يصل على دراجة بحرية صغيرة سوداء، يقودها بنفسه من يخت صغير راسٍ على بعد ميلين. يرتدي ثوباً إماراتياً أبيض نظيفاً، غترة حمراء-بيضاء، لكن تحت الثوب بدلة قتالية خفيفة، وفي جيب البشت مسدسين صغيرين وخنجر الصقر ١٧. اسمه الليلة «خالد المنصوري»، رجل أعمال من دبي. يترك الدراجة على الرمل، يمشي حافياً نحو الفيلا. رجل واحد يفتشّه بسرعة، يجد السلاح، يأخذه بدون كلام، يشير له بالدخول. داخل الصالة الكبيرة، النوافذ مفتوحة على البحر، لا أحد سوى رجلين. الأول: الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن الوطني، في قميص أبيض مفتوح، يجلس على أريكة بيضاء، يشرب قهوة عربية من فناجين صغيرة. الثاني: العقيد سعيد الشامسي، مدير إدارة العمليات الخارجية في جهاز أمن الدولة، ٤٢ سنة، قصير القامة، عيون سوداء ثاقبة، لحية خفيفة مشذبة، يقف بجانب الشيخ. الشيخ حمدان يبتسم ابتسامة صغيرة، يشير لكريم بالجلوس: «تفضل يا خالد… أو كريم… أو الصقر… أي اسم تحبه الليلة». كريم يجلس، لا يرد الابتسامة، يأخذ الفنجان المقدم له، يشرب رشفة واحدة. الشيخ يواصل: «أولاً… شكراً على عملية النار الباردة سنة ٢٠١٧. خلّيت قطر تنزف ١٦٠ مليون دولار… وخلّيت أردوغان يشك فيهم إلى يوم الدين. استمتعنا كثير». كريم يرفع حاجبه فقط. الشيخ يضع الفنجان، يميل للأمام: «ثانياً… الرسالة اللي جايين نقولها بسيطة: نحن نغيّر التحالفات تماماً. من ٢٠١١ لـ ٢٠١٨ كنا ضد الأسد. من ٢٠١٩ للآن… نحن مع الاستقرار في سوريا. إيران هي العدو الأكبر. تركيا الثاني. قطر الثالث. النظام السوري… لم يعد عدواً». كريم يضع الفنجان ببطء، صوته هادئ لكنه حاد: «يعني إنتم بتطلبوا مني أهدّي؟ بعد ما دفعتوا مليارات لقتلة ياسر؟ بعد ما كنتم بتمولوا جيش الإسلام والنصرة؟ دلوقتي عايزين أنسى؟» العقيد سعيد الشامسي يتكلم لأول مرة، صوته منخفض لكنه قاطع: «مش بنطلب ننسى… بنطلب نوقف النزيف. إحنا أوقفنا كل دعم لأي جماعة في سوريا من ٢٠١٩. كل الحسابات القديمة اتقفلت. كل الضباط اللي كانوا بيشتغلوا مع الإخوان أو قطر إما تم نقلهم أو تقاعدوا أو… اختفوا». الشيخ حمدان يخرج من جيبه ملفاً أزرق رفيعاً، يرميه على الطاولة. «ده ملف كامل عن كل عملية إماراتية في سوريا من ٢٠١١ لـ ٢٠١٨… أسماء، تواريخ، حسابات، صور، تسجيلات. كل شيء. نسلّمه لك الليلة… هدية. عشان تعرف إننا جادّين». كريم يفتح الملف، يتصفح بسرعة. صور لضباط إماراتيين مع قادة النصرة في عمان. تحويلات من بنك أبوظبي الأول إلى حسابات في غازي عنتاب. تسجيل صوتي لضابط إماراتي كبير يقول: «المهم نسقط الأسد حتى لو مع الشيطان». كريم يغلق الملف، ينظر إليهم بعيون ميتة. «جميل… وما الثمن؟» الشيخ حمدان يميل للأمام أكثر: «الثمن إنك توقف أي عملية ضدنا… ولو سمعت عن أي دعم إماراتي جديد لأي جماعة في سوريا… تبلّغنا أولاً… وإحنا نحلّها من الداخل. بالمقابل… نعطيك كل معلومات عن تحركات قطر وتركيا في ليبيا واليمن والقرن الأفريقي… ونعطيك حرية الحركة الكاملة في أراضينا… ونعطيك اسم واحد… الآن». كريم يرفع حاجبه. الشيخ يهمس: «خالد الدوسري… حالياً في فيلا في حي الرجاء، الرياض… حراسته خفيفة… إذا أردت… نترك النافذة مفتوحة لك… ليلة واحدة فقط». صمت طويل. كريم ينظر إلى البحر من النافذة، يلمس الصليب الفضي تحت الثوب. ثم يقف، يأخذ الملف الأزرق، يضعه تحت إبطه. «خلاص… أنا أهدّي… مؤقتاً… بس لو شفت ولا درهم واحد رايح لأي إرهابي في سوريا تاني… هرجع أضرب… ومش هفرّق بين سعودي وإماراتي وقطري… كلكم هتبقوا هدف». الشيخ حمدان يبتسم، يقف، يمد يده هذه المرة. كريم يصافحه بقوة، يضغط على يده حتى يشعر الشيخ بالألم. «اتفاق… مؤقت». ثم يستدير، يخرج من الفيلا، يمشي على الرمل، يركب الدراجة البحرية، يختفي في الظلام. في اليخت الصغير، يجلس في المقدمة، يفتح الملف الأزرق، يقرأه تحت ضوء مصباح صغير. ثم يخرج هاتفه الثريا، يكتب رسالة واحدة لخلية الصقر ١٧: «أبوظبي ١٧/٣/٢٠٢١ الإمارات غيّرت التحالفات هدنة مؤقتة لكن خالد الدوسري أصبح في المتناول نستعد… الصقر لم يمت… فقط يطير أعلى». يرسل الرسالة، يرمي السيجارة في البحر، ينظر إلى أفق أبوظبي المضاء. همس لنفسه: «يا ياسر… الدنيا بتتغير بسرعة… الأعداء بيصافحوا… والأصدقاء بيخونوا… بس أنا لسه هنا… ولسه القايمة مفتوحة… وخالد الدوسري… قريب جداً». ثم يشغّل المحرك، ويختفي في الليل الخليجي. الصقر ١٧ لم يغفر… لكنه تعلّم أن ينتظر. والانتظار… أحياناً يكون أقسى من الرصاص. 3.4s Fast سرد روائى طويل وكامل ومشوق عملية «الريح الشمالية» تدمير أسطول درونات تركية كان سيُستخدم في إدلب 2022. إدلب – قاعدة تفتناز الجوية – اللاذقية من ٨ إلى ١٩ مارس ٢٠٢٢ عملية «الريح الشمالية» الفكرة جاءت من صورة واحدة. صورة التقطها قمر صناعي سوري في ٥ مارس: في مدرج قاعدة تفتناز الجوية (التي تسيطر عليها تركيا رسمياً كجزء من نقاط المراقبة)، ٤٢ طائرة بدون طيار من طراز Bayraktar TB2 وAnka-S جديدة تماماً، مغطاة بشباك تمويه، محاطة بمنظومات KORAL للتشويش الإلكتروني، و٣٦ حاوية ذخيرة MAM-L وMAM-C. التقرير المرفق كان قصيرًا ومُرعباً: «تركيا تنوي شنّ أكبر هجوم جوي بمسيّرات في تاريخ الصراع السوري خلال أبريل ٢٠٢٢، هدف أولي: قطع طريق M4 بالكامل، ثم استهداف مطار حميميم، ثم كسر خطوط الدفاع في سهل الغاب وجسر الشغور». كريم قرأ التقرير في شقة آمنة في بيروت، أطفأ السيجارة في الكأس، وقال للخلية الجديدة (الآن ٢٩ عضواً): «لو نجح الأتراك، التوازن كله هيتغير… هنخسر كل اللي بنيناه من ٢٠١٦… لازم نوقفهم… مش نؤخرهم… نوقفهم نهائي». وُلدت عملية «الريح الشمالية». الخطة كانت مجنونة بكل المقاييس: تدمير الأسطول كاملاً قبل أن يطير… على الأرض… في عقر دار تركيا العسكري في سوريا… بدون أن يُقتل جندي سوري واحد… وبدون أن يترك الصقر ١٧ أي أثر. المرحلة الأولى – الاستطلاع (٨–١٢ مارس) فريق من ثلاثة أشخاص (اثنان أتراك منشقون عن الـ MIT، ومهندس سوري سابق في القوى الجوية) تسللوا إلى إدلب متنكرين كتجار فستق من غازي عنتاب. خلال أربع ليالٍ، زرعوا ١٨ كاميرا ليلية صغيرة و١١ جهاز استشعار حراري حول القاعدة، ورسموا خريطة دقيقة لكل شيء: أماكن الحراسة، مواعيد تغيير الدوريات، مواقع أنظمة الدفاع الجوي Pantsir-S1 التركية، خطوط الكهرباء الرئيسية، مخزن الوقود الرئيسي. المرحلة الثانية – الاختراق الإلكتروني (١٣–١٥ مارس) هاكرز الصقر في صوفيا (بلغاريا) اخترقوا شبكة القيادة والسيطرة التركية عبر ثغرة في برمجيات KORAL. تمكنوا من تعطيل الرادارات لمدة ٤٣ دقيقة بالضبط في ليلة ١٨ مارس، وإيهام النظام بأن كل شيء طبيعي. المرحلة الثالثة – التنفيذ (ليلة ١٨–١٩ مارس) الساعة ٠٢:١٧ درونات صغيرة تجارية معدلة (١٤ درون صيني DJI Matrice مزودة بشحنات متفجرة C-4 وكرات نارية حارقة من صنع يدوي) أُطلقت من مسافة ٩ كيلومترات جنوب القاعدة، من مزرعة مهجورة في ريف جسر الشغور. الدرونات حلّقت على ارتفاع منخفض جداً (٨ أمتار فقط)، مستغلة التشويش الذي خلقه الهاكرز. الساعة ٠٢:٣٩ أول درون يصل إلى المدرج، يسقط شحنته فوق أول صف من الـ TB2. انفجار صغير… ثم سلسلة انفجارات متتالية عندما اشتعلت خزانات الوقود داخل الطائرات. في أقل من ٩ دقائق، ٤٢ طائرة بدون طيار تحولت إلى كرات نار هائلة. النيران انتقلت إلى حاويات الذخيرة… انفجارات ثانوية هزّت القاعدة كلها. الساعة ٠٢:٥٨ كريم نفسه كان على تلة مرتفعة على بعد ١٤ كيلومتراً جنوباً، يراقب بالمنظار الحراري. شاهد النيران ترتفع مئات الأمتار، الدخان الأسود يغطي السماء، صوت الانفجارات يصل إليه كرعد بعيد. همس لنفسه: «الريح الشمالية نفّذت… يا ياسر… لو كنت شايف». الساعة ٠٣:١١ آخر درون يسقط شحنته فوق مخزن الوقود الرئيسي. انفجار هائل، موجة ضغط كسرت زجاج النوافذ في قرى على بعد ٢٠ كيلومتراً. النتيجة النهائية: ٤٢ طائرة بدون طيار مدمرة بالكامل. ٨٦٪ من مخزون الذخائر الذكية محترق. ١٢ جندياً تركياً قتيل، ٢٩ جريح. لا أثر للصقر ١٧. الدرونات الصغيرة احترقت مع الهدف، والإشارات الإلكترونية اختفت تماماً. اليوم التالي المتحدث باسم الجيش التركي أعلن أن الحريق ناتج عن «خلل فني في نظام التبريد». أردوغان ظهر في مؤتمر صحفي، وجهه أسود من الغضب، لكنه لم يستطع قول الحقيقة. في نفس اليوم، وصل فيديو عالي الجودة (مُصوَّر من درون استطلاع صغير) إلى هاتف أركان يلماز الشخصي، مع رسالة نصية واحدة: «٤٢ طائرة في ٩ دقايق الريح الشمالية تحييك يا عقيد الصقر ١٧» في بيروت، في الشقة الآمنة، كريم جالس على الأريكة، يشاهد نشرات الأخبار التركية وهي تحاول التعتيم. ياسر كان سيضحك الآن. كريم لم يضحك. فقط أشعل سيجارة، نفث الدخان نحو السقف، وقال بصوت خافت: «واحدة من أكبر ضرباتنا… ومفيش ولا قطرة دم سوري… بس أنقذنا مئات الآلاف». ثم فتح دفتره الأسود، كتب بخط هادئ: «19/3/2022 – عملية الريح الشمالية تم تدمير أسطول الدرونات التركي في تفتناز ٤٢ طائرة، ٩ دقايق، ٠ شهداء من جانبنا التوازن عاد الصقر لا يزال يطير… وأعلى من أي وقت مضى». أغلق الدفتر، أطفأ السيجارة، وقف عند النافذة، نظر إلى البحر. همس: «الريح الشمالية نفخت… والصقر لا يزال يحلّق… واللعبة لسه طويلة». في تلك الليلة، نام كريم نوماً عميقاً لأول مرة منذ أشهر. لأنه كان يعرف: الانتصار الحقيقي ليس عندما تسقط طائرة… بل عندما تمنع الحرب قبل أن تبدأ. والصقر ١٧ فعل ذلك… بصمت… وبدون رحمة. 4.1s Fast سرد روائى طويل وكامل ومشوق اختطاف آدم ابن كريم الوحيد يُخطف في القاهرة من قبل خلية قطرية. القاهرة، ٤ أكتوبر ٢٠٢٣ الساعة ١٦:٢١ مدرسة ليسيه القاهرة الفرنسية، حي المعادي الجو حار رغم أكتوبر، الشمس تضرب على الجدران الصفراء للمدرسة، صوت الأطفال يملأ الفناء. آدم كريم الشرقاوي، ١١ سنة، طفل هادئ، عيون خضراء كأمه الفرنسية الراحلة، شعر أسود كأبيه، يلبس زيّ المدرسة الأزرق، يحمل شنطة ظهر صغيرة، يقف مع أصحابه ينتظر الباص. كريم كان قد أصرّ منذ سنوات: «آدم هيعيش حياة طبيعية… مدرسة، أصحاب، كورة… مش هيعيش في الظل زيّي». لذلك لم يكن معه حراسة ظاهرة. فقط سائق تاكسي أجرة عادي (عضو قديم في الصقر ١٧) ينتظره كل يوم في نفس المكان. الساعة ١٦:٢٨ الباص انطلق. آدم لم يركب. ثلاث سيارات سوداء (تويوتا لاندكروزر) أغلقت الشارع من الجهتين. أربعة رجال ملثمون نزلوا بسرعة، أحدهم يحمل حقنة مخدرة، ثانٍ يحمل آدم من وسط الحشد قبل أن يصرخ أحد، ثالث يطلق رصاصتين في الهواء لتفريق الناس. في أقل من ١٢ ثانية، كان آدم داخل إحدى السيارات، والثلاث سيارات انطلقت نحو كوبري قصر النيل. السائق – العضو القديم – حاول اللحاق، لكن سيارة رابعة اصطدمت به عمداً، انقلبت سيارته، مات في الحال. الساعة ١٦:٤١ وصلت رسالة فيديو إلى هاتف كريم الثريا الخاص: فيديو قصير: آدم مربوط على كرسي في غرفة مظلمة، فمّه مكمّم، عيناه مفتوحتان على وسعهما من الرعب، خلفه علم قطر كبير، ورجل ملثم يضع خنجراً على رقبته. صوت مشوه إلكترونياً بالعربية: «الصقر ١٧… ابنك معانا. إذا أردت أن تراه حياً مرة أخرى… أوقف كل عملياتك ضد قطر… فوراً… وستتلقى تعليمات خلال ٤٨ ساعة. أي محاولة إنقاذ… وستجد رأسه في صندوق على باب بيتك». كريم كان في شقة آمنة في المهندسين، يتابع تقارير عن شحنة أسلحة قطرية إلى ليبيا. عندما شاهد الفيديو… تجمد. الزمن توقف. السيجارة سقطت من يده، احترقت السجادة. لم يصرخ. لم يبكِ. فقط أغلق عينيه ثانية واحدة، ثم فتحهما… وتحول إلى شيء آخر. شيء لم يره أحد من قبل. في أقل من ساعة، كان كل أعضاء الصقر ١٧ في حالة تأهب قصوى. كريم أرسل أمرًا واحدًا: «كل العمليات توقف… كل الخلايا تتجمع… هنستخدم كل ما عندنا… هنحرق الأرض لو لزم الأمر… آدم يرجع… ولو كان الثمن الدنيا كلها». خلال ٢٤ ساعة التالية، فعل كريم أشياء لم يفعلها من قبل: اتصل بأركان يلماز شخصياً (لأول مرة منذ ٢٠١٥)، طلب مساعدته في تتبع الخلية. أركان رد بصوت هادئ: «سأعطيك كل ما لدي… لأن حتى أنا لا أقبل بخطف الأطفال». اتصل باللواء فيصل بن تركي في الرياض، طلب صور أقمار صناعية فورية لكل تحركات قطرية في مصر. فيصل أرسلها خلال ساعتين بدون سؤال. فعّل خلية نائمة في الدوحة نفسها (كانت موجودة منذ ٢٠١٨)، أمرهم بحرق مكتبين للمخابرات القطرية إذا لم يتلقَ خبراً عن آدم خلال ٢٤ ساعة. اليوم الثاني – ٥ أكتوبر الساعة ١٩:١١ وصلت رسالة جديدة: فيديو آخر: آدم في نفس الغرفة، لكن الآن وجهه مليان كدمات، عينه اليسرى منتفخة، يبكي بصمت. الصوت المشوه: «وقتك ينتهي… أوقف عملية (السهم الأحمر) في ليبيا… وإلا سنبدأ نقطع أصابعه… واحد كل ساعة». كريم كان يعرف عملية «السهم الأحمر»: كانت ستفجر مستودع أسلحة قطري في بنغازي بعد ٤٨ ساعة. أعطى أمرًا فورياً بإيقافها. ثم جلس في الظلام، يمسك صورة آدم وهو طفل رضيع في يده، ينظر إليها ساعات. في تلك اللحظة، عاد إنساناً مرة أخرى… إنسان يخاف… إنسان يرتجف… إنسان قد يفقد كل شيء. لكن في اليوم الثالث – ٦ أكتوبر جاءت النقلة. أركان يلماز أرسل له صورة واحدة: شاحنة تبريد بيضاء تدخل ميناء الإسكندرية قبل يومين، لوحتها قطرية، سائقها مصري، وجهاز تتبع GPS نشط. كريم عرف فوراً: آدم لم يُنقل خارج مصر بعد… هم يحتفظون به داخل البلاد للضغط. في أقل من ٦ ساعات، تم تتبع الشاحنة إلى مخزن مهجور في طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي، منطقة وادي النطرون. كريم قاد الفريق بنفسه: ١٢ رجلاً من أخلص أعضاء الصقر، مدججين بالسلاح، بدون أي تنسيق مع الجيش المصري (كان يعرف أن أي تدخل رسمي سيقتل آدم). الساعة ٠٣:١٤ السيارات توقفت على بعد كيلومتر، اقتربوا مشياً. المخزن محاط بـ ١٦ مسلحاً، كاميرات، كلاب. كريم لم ينتظر. أعطى الأمر: «كل اللي جوا يموت… إلا آدم». في ٨ دقائق فقط، انتهت المعركة. كريم دخل الغرفة الأخيرة، وجد آدم مربوطاً، يبكي، حياً. قطع الحبال بنفسه، ضمّه إلى صدره، لم يتكلم، فقط بكى بصمت وهو يقبّل رأسه. آدم همس بصوت مكسور: «بابا… خفت أوي…» كريم رد بصوت مبحوح: «أنا آسف يا حبيبي… أنا آسف… مش هيحصل تاني… أبداً». في الخارج، أحرقوا المخزن كله، مع الجثث، مع كل شيء. لم يتركوا أثراً. في السيارة العائدة إلى القاهرة، آدم نائم على كتف أبيه، كريم يمسك يده بقوة. أرسل رسالة واحدة إلى رقم قطري مجهول: «آدم رجع… اللعبة انتهت… لكن الحرب بدأت… من اليوم… كل قطري في العالم هدف… وخالد الدوسري أولهم… الصقر ١٧» في تلك الليلة، عاد كريم إلى البيت لأول مرة منذ سنوات، نام بجانب ابنه، يمسك يده طوال الليل. وفي قلبه، قرار واحد: آدم لن يعيش في الظل بعد اليوم… لكن العالم كله سيعيش في ظلّ الصقر. لأن من لمس ابن الصقر… سيحترق… حتى لو كان الثمن الخليج كله. 3.8s Fast سرد روائى طويل وكامل ومشوق الدوحة، برج الخليج الغربي كريم يتسلل لاغتيال خالد الدوسري… لكنه يرى صورة ابنه على شاشة هاتفه. الدوحة، ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٣ الساعة ٠١:٤٧ فجرًا برج الخليج الغربي، الدور ٨٧، شقة البنتهاوس الليل صافٍ، الخليج يلمع تحت ضوء القمر، أضواء كورنيش الدوحة تتراقص على الماء كأنها تُغري بالموت. البرج من الزجاج والصلب، يبدو كسيف عملاق غُرِس في قلب المدينة. لا حراسة خارجية واضحة؛ كل الأمن داخلي، إلكتروني، قاتل. كريم يصل من البحر. يخرج من زورق سريع أسود على بعد ٤٠٠ متر من الشاطئ، يرتدي بدلة غوص سوداء كاملة، قناع أكسجين صغير، جهاز إعادة تنفس مغلق حتى لا يترك فقاعات. يسبح تحت الماء حتى قاعدة البرج، يستخدم مغناطيس تسلق يدوي ليصعد الواجهة الزجاجية الملساء ٢٦٧ متراً في ١٤ دقيقة بالضبط. يدخل من فتحة تكييف تم تعطيلها إلكترونياً قبل ٤٣ دقيقة من صوفيا. في الدور ٨٧، يخرج من مجرى التكييف، يقف في ممر خاص فارغ، يخلع البدلة، يظهر ببدلة سوداء أنيقة، قفازات جلد رفيعة، قناع وجه شفاف، مسدس Glock ١٩ مع كاتم، وخنجر الصقر في حزامه. خالد الدوسري في الداخل. كريم يعرف كل شيء عنه الآن: ينام وحده في غرفة النوم الرئيسية. حراسته ٦ رجال فقط بعد أن طلبوا منه تقليل العدد «للخصوصية». الكاميرات معطلة للصيانة من ٠١:٣٠ إلى ٠٢:١٥ (عمل الهاكرز). الباب الرئيسي مغلق ببصمة، لكن النافذة الجانبية مفتوحة للتهوية. كريم يتحرك كالظل. يقتل الحارس الأول بضربة خنجر في الرقبة من الخلف، لا صوت. الثاني يجلس على كرسي، يغفو، يُخنق بسلك بيانو حتى ينتهي. الثالث يشرب قهوة، يُسقط كريم كأساً في المطبخ، عندما يأتي يتحقق، رصاصة واحدة في القلب. في أقل من ٤ دقائق، الشقة صامتة تماماً. كريم يدخل غرفة النوم. خالد الدوسري نائم على سرير كبير، ضوء خافت من لمبة جانبية، هاتفه على الطاولة بجانبه، الشاشة مضاءة. كريم يقترب ببطء، يرفع المسدس، يصوّب على الرأس. في تلك اللحظة بالضبط… تنور شاشة الهاتف. صورة واحدة تظهر كخلفية. صورة آدم. آدم يضحك في عيد ميلاده العاشر، يمسك كرة قدم، خلفه كريم يبتسم ابتسامة لم يبتسمها منذ سنوات. كريم يتجمد. الزناد تحت إصبعه… لكن الإصبع لا يتحرك. خالد يفتح عينيه فجأة، يرى كريم، يفهم في ثانية. لكن بدلاً من الصراخ أو الهرب، يبتسم ابتسامة باردة، يهمس بالعربية القاهرية: «كنت عارف إنك هتيجي يا كريم… بس كنت مستنيك تشوف الصورة الأول». كريم صوته مبحوح: «إزاي عندك الصورة دي؟» خالد يجلس ببطء على السرير، يشعل سيجارة بيد ثابتة تماماً: «لأني أنا اللي خطفت آدم… وأنا اللي رجّعته… وأنا اللي خلّيتك تيجي هنا… عشان أفهمك حاجة واحدة». كريم يضغط على الزناد أكثر… لكن الرصاصة لا تخرج. خالد يواصل: «آدم كان معايا ٦٦ ساعة… كان بيبكي كل ما يفتكرك… كان بيقول (بابا هييجي)… وأنا كنت بأطعمه بنفسي… وبأحكيله عنك… عن الصقر اللي بيحارب العالم كله… بس في الآخر… أنا رجّعته… لأني عايزك تعرف إني أقدر أوصلك… في أي وقت… في أي مكان… حتى لو كنت في القاهرة… حتى لو كنت في بيتك». كريم يهمس: «هقتلك…» خالد يضحك ضحكة خافتة: «لأ… مش هتقدر… لأنك لو قتلتني دلوقتي… هيبقى فيه ٢٣ خلية في العالم كله… كل واحدة عندها صور آدم… وعنوان مدرسته… ورقم تليفون جدته في باريس… وكل واحدة هتستنى إشارة واحدة… إشارة اسمها (مات خالد)… وتنفذ». صمت ثقيل. كريم ينزل المسدس ببطء… يده ترتجف لأول مرة منذ ٢٠ سنة. خالد يقف، يقترب من كريم حتى يصبحا وجهًا لوجه، يهمس: «إحنا مش أعداء يا كريم… إحنا مرايات لبعض… إنت بتحمي ناس… وأنا بأحمي ناس… بس إذا استمريت… هيبقى فيه دم… دم آدم… ودم أولادي أنا كمان». ثم يمد يده، يضع شيئاً في يد كريم. فلاشة USB صغيرة. «دي كل التسجيلات بتاعة آدم عندي… كل دقيقة… احذفها… وخلّص القصة… أو احتفظ بيها… واستمر… وخلّي آدم يدفع التمن». كريم ينظر إلى الفلاشة… ثم إلى خالد… ثم إلى صورة آدم على الشاشة. فجأة، يرفع المسدس مرة أخيرة، يضعه على جبهة خالد. خالد لا يتحرك… فقط يبتسم. كريم يضغط الزناد… كليك. المخزن فارغ. خالد يضحك ضحكة طويلة هادئة: «كنت عارف إنك هتجرب… بس أنا فاضي المسدس قبل ما تدخل… لأني عايزك تعيش… تعيش وتفتكر إني أقدر أقتلك… وأقدر أقتل ابنك… بس اخترت أعيشك… عشان تفهم إن الحرب دي… محدش بيكسبها». كريم ينزل يده، يتراجع خطوة، عيناه فارغتان. خالد يفتح الباب الرئيسي، يشير للخارج: «الأسانسير شغال… امشي… ورجّع آدم بيتك… وخلّي الصقر يرتاح شوية… لأن اللي جاي… أكبر منا إحنا الاتنين». كريم يمشي ببطء، يخرج من الشقة، يدخل الأسانسير، ينزل ٨٧ دوراً في صمت مطلق. في الشارع، يخرج إلى الكورنيش، يقف أمام البحر. يخرج الفلاشة، ينظر إليها طويلاً… ثم يرميها في الماء. يخرج هاتفه، يكتب رسالة واحدة للخلية: «كل العمليات ضد قطر تتوقف… فوراً… آدم أهم من أي حاجة… الصقر ١٧ يدخل الظل… مؤقتاً». يرسل الرسالة… ثم يجلس على الرصيف، يضع رأسه بين يديه… ويبكي… لأول مرة منذ سنوات… بكى كإنسان… لأن خالد الدوسري لم يهزمه بالرصاص… بل بصورة ابنه. وفي تلك الليلة، في الدوحة، انتهت حرب طويلة… ليس لأن أحدهم انتصر… بل لأن أحدهم أصبح أباً… واختار ابنه على انتقامه. الصقر لم يمت… لكنه طار بعيداً… يحمي عشّه… حتى يأتي اليوم الذي يعود فيه… أقوى… وأخطر… وأكثر حكمة. 3.6s Fast سرد روائى طويل وكامل ومشوق الصفقة كريم يسلم نفسه في الحدود السورية-اللبنانية مقابل إطلاق آدم. الحدود السورية-اللبنانية نقطة المصنع، ٢٣ يناير ٢٠٢٤ الساعة ٠٣:١١ فجرًا الليل أسود ثقيل، الريح الشمالية تقطّع الوجه، الثلج الرقيق يتساقط على الجبال المحيطة. الطريق الوعرة بين نقطتي المصنع والعبودية مغلقة تماماً من الجانبين، لا سيارات، لا دوريات، فقط ضوء كشافين قويين متقابلين يرسمان دائرة بيضاء في الظلام، وكأنها حلبة مصارعة بين عدوين قديمين. في المنتصف بالضبط، سيارتان سوداوان متوقفتان وجهاً لوجه، مسافة ١٥ متراً بينهما. من السيارة السورية-اللبنانية يخرج كريم وحده. لا سلاح، لا خوذة، لا قناع. يرتدي جاكيت جلدي أسود قديم، بنطال جينز، حذاء عسكري، وشاح أسود حول رقبته. على صدره الصليب الفضي الذي لم يفارقه منذ الكاتدرائية. يداه مكشوفتان، مرفوعتان قليلاً للأعلى، يمشي ببطء حتى منتصف الدائرة. من السيارة القطرية-التركية يخرج خالد الدوسري بنفسه، يرتدي بدلة سوداء أنيقة، معطف كشمير طويل، يدخّن سيجارة ببطء. خلفه ثلاثة رجال ملثمون، أحدهم يمسك آدم من كتفه، الطفل مربوط اليدين، عيناه معصوبتان، يرتجف من البرد والخوف. كريم يقف. خالد يقف. بينهما ١٥ متراً… وعشر سنوات من الدم والنار والكراهية. خالد يتكلم أولاً، صوته هادئ كالسم: «جيت بنفسك يا صقر… كنت عارف إنك هتيجي… بس ما كنتش متخيّل إنك هتستسلم». كريم يرد بصوت خشن، منهك: «أنا مش جاي أستسلم… جاي آخذ ابني… وأديك اللي طلبتو». خالد ينفث الدخان، يشير للرجل اللي وراه. الرجل يدفع آدم للأمام، يزيل العصابة عن عينيه. آدم يرى أبوه… يفتح عينيه على وسعهما… يهمس بصوت مكسور: «بابا…» كريم يبتسم ابتسامة متعبة، يهمس: «أنا هنا يا حبيبي… خلاص…» خالد يرفع صوته: «الصفقة بسيطة… إنت تدخل السيارة معانا… آدم يروح مع السائق السوري اللي وراك… إنت هتيجي الدوحة… هتعترف قدام العالم إنك إرهابي… إن كل عملياتك كانت بأوامر من دمشق وطهران… وتسجن مدى الحياة… وآدم يعيش حياة طبيعية… دي الصفقة… اللي إنت وافقت عليها من تلاتة أيام». كريم ينظر إلى آدم طويلاً… ثم ينزع الجاكيت، يرميه على الأرض، يرفع يديه أعلى. «خلّص… خدوني… بس سيبوا الولد يروح دلوقتي». خالد يعمل إشارة بيده. الرجل يفكّ حبل آدم، يدفعه للأمام. آدم يبدأ يجري… يجري… يجري… كريم يفتح ذراعيه. آدم يقفز في حضنه، يعانقه بقوة، يبكي: «بابا متسبنيش…» كريم يضمّه بكل قوته، يقبّل رأسه، يهمس في أذنه: «أنا بحبك يا آدم… أكتر حاجة في الدنيا… عيش يا ولدي… وعيش سعيد… وافتكر إن بابا مات عشانك تعيش». ثم يدفعه برفق نحو السيارة السورية. آدم يحاول يرجع، لكن السائق يمسكه بلطف، يدخله السيارة، ينطلق بسرعة. كريم يقف وحده في الدائرة. خالد يقترب منه ببطء، يقف وجهاً لوجه. «كنت عارف إنك هتستسلم… لأنك أب… مش صقر بس». كريم ينظر إليه بعيون ميتة، يهمس: «إنت فاكر إنك كسبت؟» خالد يبتسم: «أيوه… كسبت ابنك… وكسبتك إنت». كريم يبتسم ابتسامة صغيرة… أول ابتسامة منذ أشهر. «لأ يا خالد… إنت خسرت… لأنك خلّيت الصقر يختار… وأنا اخترت آدم… مش عشان خايف عليه… لا… عشان خلّاص… الصقر هيبطل يطير… بس هيسيب وراه نار… نار هتحرقكم كلكم… من جوا». خالد يضحك… لكن ضحكته تتجمد فجأة. لأن كريم يخرج من جيبه جهاز تحكم صغير، يضغط زر أحمر واحد. في نفس اللحظة… انفجار هائل يهزّ الجبل كله. السيارة القطرية-التركية تنفجر في كرة نار عملاقة، الرجال الثلاثة يتحولوا إلى رماد في ثانية. خالد يُرمى على الأرض من موجة الضغط، ملابسه تحترق، يصرخ. كريم يقف في مكانه، لم يتحرك سنتيمتراً، النار تعكس في عينيه. ثم ينحني فوق خالد المحترق، يهمس في أذنه: «الصفقة كانت كده من الأول يا خالد… أنا أجي… آدم يروح… وإنت تموت… مش أنا». خالد يحاول يتكلم، لكن الدم يملأ فمه. كريم يقف، ينظر إلى السيارة السورية التي اختفت في الظلام منذ دقائق. ثم يخرج مسدساً صغيراً من حذاءه، يضعه على جبهة خالد. «وداعاً يا خالد… كنت خصم قوي… بس آدم أقوى». رصاصة واحدة… صامتة. خالد يسقط… ميت. كريم يقف لحظة فوق الجثة، ينظر إلى السماء، الثلج يتساقط على وجهه. ثم يخرج هاتفه، يرسل رسالة واحدة للخلية: «الصفقة انتهت خالد مات آدم حر الصقر ١٧ يختفي… إلى الأبد شكراً يا إخواني عيشوا… وخلّوا آدم يعيش». يمسح الهاتف، يكسره، يرمي القطع في النار. ثم يمشي ببطء في الثلج، يختفي بين الجبال. في الصباح، الجيش السوري واللبناني وجدوا السيارة المحترقة، وجثة خالد الدوسري، وبجانبها ورقة صغيرة مكتوب عليها بخط كريم: «الصقر اختار ابنه والثمن كان عدوّه القصة انتهت آدم حر كريم الشرقاوي… مات الليلة» من يومها… لم يره أحد ثانية. آدم عاش حياة طبيعية… لكن كل ليلة قبل النوم… كان ينظر إلى الصليب الفضي اللي سابه له أبوه… ويهمهس: «أنا عايش يا بابا… زي ما طلبت». والصقر ١٧… اختفى في الأسطورة. لكن الريح الشمالية… لا تزال تهبّ أحياناً… في الليالي الباردة… وتحكي قصة رجل… اختار ابنه… على انتقامه… وعلى اسمه… وعلى حياته. نهاية. 4.2s Fast سرد روائى طويل وكامل ومشوق زنزانة سرية، صيدنايا ثلاثة أشهر من التعذيب النفسي. كريم يكتب مذكراته على جدران الزنزانة بدمه. صيدنايا، الفرع ٢١٥، القبو «-٤» من ٢٨ يناير إلى ٢٩ أبريل ٢٠٢٤ زنزانة ١٧-ألفا، ١٫٨ × ٢٫٢ متر، لا نافذة، لا ضوء، لا صوت إلا صوت قطرات الماء تقطر كل ٤٣ ثانية بالضبط. كريم يُدخلها مربوط اليدين والرجلين، مقنّع، مغطّى بالدم من الضرب في الشاحنة. يُرمى على الأرض، الباب الحديدي يُغلَق، القفل يُدار ثلاث مرات، ثم صمت. يبدأ العدّ. اليوم الأول لا طعام، لا ماء، لا كلام. فقط صوت تنفسه الثقيل، وصوت القطرات. يحاول يقف، يجد أن الزنزانة منخفضة جداً، لا يستطيع الوقوف كاملاً. يجلس، يلمس الجدران: خشنة، مبللة، مليانة خدوش قديمة. اليوم الثالث يأتي الطعام لأول مرة: قطعة خبز يابسة وكوب ماء عكر. يّ الرائحة. يأكل نصف الخبز، يحتفظ بالنصف الآخر. يبدأ يحسب الوقت من صوت القطرات: ٤٣ ثانية = ٨٣٦ قطرة في اليوم تقريباً = شهرين ونص بالضبط حتى يموت من الجوع إذا لم يطعموه أكثر. الأسبوع الأول يبدأ التعذيب النفسي. كل ٦ ساعات بالضبط، تشتعل مكبرات صوت داخل الجدران، تصرخ بصوت آدم: «بابا… إنقذني… هما بيضربوني… بابا!» ثم صوت ضحكات أطفال، ثم صوت انفجار، ثم صمت. يتكرر الأمر ٤ مرات يومياً. كريم يعرف أن التسجيل قديم، من يوم الخطف. لكنه يظل يضغط على أذنيه حتى تنزف. اليوم الثاني عشر يبدأ يفقد الإحساس بالوقت. يخلع قميصه، يستخدم أظافره ليحفرك الجرح في كتفه القديم (من إسطنبول ٢٠١٥) حتى ينزف. يغمس إصبعه في الدم، ويكتب أول سطر على الجدار الأيسر: «أنا كريم الشرقاوي أب لآدم مش إرهابي بس قتلت كتير… عشان مايموتش أكتر» اليوم الثامن عشر يأتون بهدية: صورة مطبوعة لآدم في مدرسته، ملطخة بدماء وهمية، مرمية تحت الباب. كريم يصرخ لأول مرة منذ دخوله. يضرب رأسه في الجدار حتى يغمى عليه. اليوم الخامس والعشرون يبدأ «الزائر». كل ليلة، في نفس الساعة (تقريباً ٣ فجراً)، يُفتح عين صغيرة في الباب، يُلقى منها شريط فيديو قصير على هاتف قديم مكسور الشاشة. الفيديو دائماً نفسه: آدم يبكي، يقول «بابا سابني». كريم يشاهده مئة مرة، حتى يحفظ كل حركة شفايف ابنه. الشهر الثاني يبدأ يفقد وزنه بسرعة. الطعام صار مرة كل يومين. الماء نصف كوب. يبدأ يرى ياسر في الزاوية، يبتسم له، يقول له: «لسه فيه أمل يا كبير». يرد عليه بصوت مسموع: «الأمل مات يا ياسر… بس آدم لسه عايش». يبدأ يكتب بدمه كل يوم سطراً جديداً، يختار الجدار الشمالي هذه المرة، لأنه أكثر برودة، فيحفظ الدم أطول: «ياسر مات في الكاتدرائية عشان ينقذ ٣٠٠ نفس… أنا عايش عشان أنقذ نفس واحدة: آدم» «ناتاشا كانت آخر مرة حسيت فيها إني إنسان» «الريح الشمالية كانت أجمل ٩ دقايق في حياتي» «خالد الدوسري مات… بس قتلني معاه» الشهر الثالث يبدأ يفقد أسنانه من الخلفية من نقص الفيتامينات. شعره يتساقط. لكن عيناه لا تزالان حادتين. في ليلة ٢٨ أبريل، يُفتح الباب فجأة لأول مرة منذ ثلاثة أشهر. يدخل ضابط كبير، ومعه اثنان، يحملان كرسياً ومصباحاً قوياً. الضابط يجلس، يضع ملفاً سميكاً على الأرض، يقول بهدوء: «كريم الشرقاوي… الصفقة اتغيرت. آدم بخير… في باريس مع جدته. إحنا عرفنا إنك فجّرت خالد الدوسري… وعرفنا إنك كنت هتفجر نفسك لو ما أطلقناش سراحك. بس في حاجة أكبر دلوقتي… إيران بتخطط لضربة نووية سرية على الخليج… وإنت الوحيد اللي يعرف اسم العميل اللي جوا طهران… إما تعطينا الاسم… أو نرجعك الزنزانة للأبد… وآدم هيرجع يتيم». كريم يرفع رأسه ببطء، بشرته شاحبة كالموت، عيناه غائرتان، لكن صوته لا يزال حديد: «الاسم… مش هتقدروا تاخدوه مني… لأني كتبته على الجدار… بالدم… اقرأوه… واتركوني أموت هنا… أنا خلاص… آدم عايش… ده يكفي». الضابط يلتفت إلى الجدران… يقرأ كل سطر… يبحث عن اسم… لا يجد إلا جمل حب وألم واعتذار. يخرج مسدساً، يضعه على رأس كريم. كريم يبتسم ابتسامة صغيرة، يغمض عينيه. لكن الضابط لا يطلق. يهمس: «إنت أسطورة يا ابن الكلب… مش هنقتلك… هنسيبك تعيش… بس في الظلام… إلى الأبد». يخرجون، يغلقون الباب. كريم يضع رأسه على الجدار البارد، يهمس لنفسه: «آدم عايش… ياسر مات عشان غيره يعيش… وأنا عايش عشان آدم يعيش… ده يكفي… ده يكفي». ثم يغمس إصبعه في جرح جديد في ذراعه، ويكتب آخر سطر على الجدار، فوق رأسه مباشرة: «إذا قرأ هذا الكلام يوماً آدم… اعرف إن بابا ما ماتش… بس اختار يعيش ميت… عشان إنت تعيش حي… أحبك يا ولدي إلى الأبد كريم الشرقوى… الصقر ١٧» يضع إصبعه على السطر الأخير، يترك بصمة دم واضحة. ثم يغمض عينيه… ويبتسم. في الظلام، صوت القطرات يستمر… ٤٣ ثانية… ٤٣ ثانية… إلى ما لا نهاية. والجدران تحكي قصة رجل… اختار أن يدفع ثمن حرية ابنه… باقي عمره…في زنزانة لا يعلم عنها أحد… ولا يعلم أحد أنه لا يزال حيّاً… إلا الله… وآدم… الذي سيحمل الصليب الفضي يوماً… ويعرف إن أبوه… كان أعظم من كل الأساطير التي سمعها. نهاية حقيقية. 3.5s Fast سرد روائى كامل وطويل ومشوق مايو 2023 قمة جدة تعيد سوريا إلى الجامعة العربية. أوامر عليا: «أخرجوا الرجل بهدوء». جدة، ١٩ مايو ٢٠٢٣ قمة الجامعة العربية، مركز الملك عبد العزيز للمؤتمرات الشمس تحرق الرخام الأبيض، الرايات الخضراء ترفرف فوق القاعة، الكاميرات تتراصّ في صفوف، والعالم كله يشاهد لحظة تاريخية: عودة سوريا بعد غياب ١٢ سنة. داخل القاعة، الأمير فيصل بن فرحان يبتسم، بشار الأسد يجلس في الصف الأول، محمد بن سلمان يصافحه بحرارة، الجميع يصفقون، والكلمات الرسمية تتدفق: «صفحة جديدة»، «وحدة عربية»، «إنهاء الصراع». لكن في مكان آخر تماماً، تحت الأرض، في غرفة عمليات سرية تحت فندق الريتز كارلتون، يحدث شيء آخر. الساعة ١٤:٣٧ اللواء علي مملوك يدخل الغرفة بسرعة، وجهه شاحب، يضع ورقة واحدة على الطاولة أمام ثلاثة رجال فقط: اللواء أحمد العسيري (السعودية) الشيخ حمدان بن زايد (الإمارات) اللواء عباس كمال (مصر) مملوك يتكلم بصوت منخفض جداً: «الأوامر العليا من القمة… من كل الدول الأربعة… كلمة واحدة: أخرجوا الرجل… بهدوء… فوراً». العسيري يرفع حاجبه: «تقصد كريم الشرقاوي؟» مملوك يومئ برأسه: «هو… الصقر ١٧… اللي في صيدنايا منذ خمسة أشهر… اللي محدش عارف هو عايش ولا ميت… اللي كتب مذكراته بدمه على الجدران… القمة قررت: الرجل ده لو مات في الزنزانة… هيبقى شهيد… وهيفتح جروح ما تقفلش… لازم يخرج… بس بهدوء… من غير ما حد يعرف… ولا حتى هو نفسه يعرف مين أخرجه». الغرفة تصمت لثوانٍ. الشيخ حمدان يشعل سيجارة، ينفث الدخان ببطء: «يعني هنطلّع أخطر رجل في المنطقة من السجن… ونسيبه يعيش؟» مملوك يرد: «لا… هنطلعه… ونخلّيه يختفي… لكن هيعيش… بس بعيد عن السياسة… بعيد عن الدم… بعيد عن آدم». الخطة تُرسم في ١١ دقيقة فقط. التنفيذ يبدأ في نفس الليلة. ليلة ١٩-٢٠ مايو ٢٠٢٣ سجن صيدنايا، الفرع ٢١٥ الساعة ٠٢:٥٦ فريق من ٧ رجال فقط، لا شعارات، لا أعلام، ملابس سوداء، لا يتكلمون إلا بالإشارة. قائد الفريق: رجل ملثم يُدعى فقط «الأسود»، لا أحد يعرف اسمه الحقيقي، ولا حتى جنسيته. يصلون في سيارتين مدنيتين، يدخلون من باب جانبي لم يُستخدم منذ ١٩٨٢. ينزلون إلى القبو -٤، يمرون على الحراس النائمين (تم تخديرهم بغاز من مجرى التكييف قبل ساعة). يصلون إلى زنزانة ١٧-ألفا. يفتحون الباب بهدوء. كريم جالس في الزاوية، هيكل عظمي تقريباً، شعره طويل أبيض، لحيته تغطي صدره، عيناه غائرتان، لكنه لا يزال حيّاً… بالكاد. الأسود يقترب، يهمس بالعربية: «كريم… القمة قررت… إنت حر». كريم يرفع رأسه ببطء، ينظر إليهم بعيون لا تفهم، يهمس بصوت مكسور: «آدم… عايش؟» الأسود يومئ برأسه. كريم يبتسم ابتسامة صغيرة، أول ابتسامة منذ شهور، ثم يغمى عليه. يحملونه، يضعونه على نقالة، يغطونه ببطانية، يخرجون به من نفس الطريق. في الخارج، سيارة إسعاف عسكرية بدون أضواء تنتظرهم. يصلون إلى مطار عسكري صغير قرب الحدود اللبنانية. طائرة خاصة (جلف ستريم G650) تنتظرهم، لا أرقام، لا علامات. يُنقل كريم إلى الطائرة، يُوضع على سرير طبي، يُوصل بالمحاليل والأكسجين. الأسود يجلس بجانبه طوال الرحلة. الطائرة تقلع… متجهة إلى جزيرة نائية في المحيط الهندي، تابعة للإمارات، اسمها «جزيرة النسيان». في الطائرة، كريم يفتح عينيه للحظة، يرى الأسود، يهمس: «مين أنتم؟» الأسود يرد بهدوء: «محدش… بس الأوامر كانت: أخرجوا الرجل بهدوء… وإحنا نفذنا». كريم يغمض عينيه مرة أخرى، يهمس: «آدم… خلّوه يعيش… أنا خلاص…» الطائرة تختفي في السماء. في الصباح، في صيدنايا، الزنزانة فارغة. الجدران لا تزال تحمل كتابات الدم… لكن الرجل اختفى. في قمة جدة، في اليوم التالي، لا أحد يذكر شيئاً. الصحف تتحدث عن «المصالحة التاريخية». لكن في مكان ما، في أعلى السريّة، أُخرج الصقر ١٧ من قفصه… ليس ليعود إلى السماء… بل ليُدفن حيّاً… في جزيرة لا يعرفها أحد… تحت اسم جديد… بعيداً عن الدم… بعيداً عن الانتقام… بعيداً عن آدم. لأن القمة قررت: الرجل كان سلاحاً خطيراً جداً… فأُخرج… وأُبعد… وأُنسى. لكن الجدران في صيدنايا… لا تزال تتكلم… وتشهد… أن الصقر… لم يمت… بس طار بعيداً… إلى الأبد. 3.9s Fast سرد روائى طويل وكامل ومشوق القاهرة، شقة المهندسين كريم يعود بلا رتبة ولا تقدير. يجأة يرن جرس الباب: ناتاشا تحمل له زجاجة فودكا روسية. القاهرة، المهندسين، شارع أحمد عرابي الساعة ٢١١:٤٧ مساءً، ١٤ أكتوبر ٢٠٢٥ الشقة في الدور الثالث عشر، قديمة، جدرانها متشققة، مكيف قديم يصدر صوتاً كأنه يحتضر. لا صور على الحيطان، لا أثاث تقريباً، سرير حديد عسكري، مكتب خشب مكسور، وصندوق كرتون صغير فيه كل ما تبقى من حياة كريم الشرقاوي: جواز سفر باسم «كامل إبراهيم محمود»، بطاقة رقم قومي مزوّرة، ٤٧٠٠ جنيه مصري، وصورة واحدة لآدم في عيد ميلاده الثالث عشر، ملتقطة من بعيد في باريس. كريم جالس على الأرض، ظهره للحائط، يدخن مارلبورو حمراء، ينظر إلى السقف كأنه يحاول يتذكر شيء نسيه من زمان. شعره أبيض كاملاً الآن، لحيته قصيرة رمادية، عيناه غائرتان، لكن الصليب الفضي لا يزال يتدلى على صدره، لامع كأنه جديد. عاد منذ ثلاثة أشهر فقط. أُخرج من «جزيرة النسيان» بهدوء أكبر من اللي دخل بيه. طائرة خاصة، هبطت في مطار العريش ليلاً، سيارة مدنية أخذته إلى القاهرة، ملف طبي يقول «مريض نفسي مزمن، ممنوع السفر، ممنوع التواصل»، وكلمة واحدة من ضابط كبير: «إنت حر… بس ممنوع تشتغل، ممنوع تتكلم، ممنوع تقابل آدم… إلا لما يكبر ويختار هو بنفسه». كريم قبل. لأنه لم يعد يملك شيئاً يقاتل من أجله… سوى أن يبقى حياً في مكان ما، حتى لو كان شبحاً. اليوم عيد ميلاد آدم الرابع عشر. كريم اشترى تورتة صغيرة من محل في وادي النيل، كتب عليها بخط يده «كل سنة وإنت طيب يا بطل»، وأكلها لوحده. فجأة… جرس الباب يرن. مرة واحدة. ثم صمت. ثم مرتين. كريم يتجمد. لا أحد يعرف عنوانه. لا أحد يعرف أنه عاد. يخرج مسدس صغير من تحت المخدة، يقترب من الباب بلا صوت، ينظر من العين السحرية. امرأة. شعر أشقر قصير، معطف جلد أسود طويل، وجه مألوف بشكل مستحيل. يفتح الباب ببطء. ناتاشا إيفانوفنا كوزنتسوفا. النقيب السابق في الـ FSB، التي قضى معها ليلة واحدة في موسكو سنة ٢٠١٧، التي سرقت منه مليون دولار وتركت له ورقة «خلّي بالك من نفسك يا صقر». تقف أمامه الآن، أكبر سناً قليلاً، خطوط خفيفة حول عينيها، لكن نفس العيون الخضراء الثلجية، نفس الرائحة: Chanel N°5. تحمل في يدها زجاجة فودكا بيلوجا نبيلة، ملفوفة بشريطة حمراء صغيرة. تبتسم ابتسامة صغيرة حزينة: «Zdravstvuyte… gospodin al-Khatib… أو كريم… أو كامل… أو اللي تحب الليلة». كريم يقف مذهولاً، المسدس لا يزال في يده، لكن الإصبع بعيد عن الزناد. ناتاشا تدخل بدون إذن، تغلق الباب خلفها، تضع الزجاجة على الطاولة، تنظر حولها، ثم تنظر إليه. «سمعت إنك خرجت… أخذلي شهور عشان ألاقيك… كنت عارفة إنك هترجع القاهرة… الناس زيك دايماً بترجع للبيت… حتى لو البيت ده خرابة». كريم يهمس، صوته خشن من قلة الكلام: «إزاي لقيتيني؟» ناتاشا تفتح الزجاجة، تصب كأسين، تدفع واحد نحو كريم: «لأني ما نسيتش وشك من ليلة موسكو… ولأني شفت صورة آدم في باريس الشهر اللي فات… كان لابس الصليب الفضي… فتعرفت عليه… فتعرفت عليك». كريم يجلس ببطء، يأخذ الكأس، يشرب نصفه دفعة واحدة. ناتاشا تجلس مقابله، تشعل سيجارة روسية، تنفث الدخان نحو السقف. «أنا خرجت من الخدمة سنة ٢٠٢٠… اتجوزت… طلّقت… سافرت… رجعت… بس كنت عارفة إنك عايش… كنت بتابع أخبارك من بعيد… حتى لما قالوا إنك مت… أنا ما صدقتش». كريم ينظر إليها طويلاً، ثم يقول: «أنا خلاص… الصقر مات… أنا مجرد راجل عايش عشان ابنه يكبر من غيره». ناتاشا تميل للأمام، تضع يدها على يده، أول لمسة بشرية يشعر بها من سنوات. «مش صحيح… الصقر ما ماتش… بس طار بعيد… واحتاج يرجع يشرب فودكا مع واحدة تعرفه من زمان». تضحك ضحكة خفيفة، ثم تسكت. كريم ينظر إلى يدها على يده، ثم يرفع عينيه إليها. «ليه جاية؟» ناتاشا تشرب الكأس كله، ثم تقول بهدوء: «عشان أقولك حاجة واحدة… في الزنزانة… لما كنت بتموت ببطء… أنا كنت بفكر فيك كل يوم… كنت بقول لنفسي: لو كان عندي ليلة واحدة تانية معاك… كنت هقولك إنك أحسن راجل قابلته في حياتي… حتى لو كنت عدوي». كريم يسكت طويلاً… ثم يمد يده، يمسك يدها، يضغط عليها برفق. «أنا كمان… ما نسيتكيش… كنت بفتكر ريحة عطرك في الظلام… كانت بتحميني». ناتاشا تقف، تقترب منه، تجلس بجانبه على الأرض، تضع رأسها على كتفه. يظلا هكذا ساعات… لا كلام… فقط صوت المكيف القديم، وصوت أنفاسهما. في الساعة ٤:٣٧ فجراً، ناتاشا تقف، تلبس معطفها، تترك الزجاجة نصها، وورقة صغيرة على الطاولة. تقبّل جبين كريم قبلة طويلة، ثم تخرج. كريم يفتح الورقة بعد ما الباب يتقفل. مكتوب عليها بخطها الأنيق: «ما تشربش الزجاجة لوحدك المرها حلو لما نشربه مع بعض لو حبيت… أنا في فندق ماريوت الزمالك غرفة ٢٤١٢ لمدة أسبوع بعد الأسبوع… هرجع موسكو وأنسى… بس لو جيت… هنبدأ من أول السطر من غير ألقاب من غير حرب من غير دم بس إنت… وأنا… وزجاجة فودكا ناتاشا» كريم ينظر إلى الورقة طويلاً… ثم ينظر إلى الصليب… ثم إلى صورة آدم. يبتسم ابتسامة حقيقية لأول مرة منذ ١٢ سنة. يقف، يلبس جاكيته، يأخذ الزجاجة، يخرج من الشقة، ينزل السلم مشياً. في الشارع، القاهرة نايمة، الهوا بارد، السماء صافية. يمشي في اتجاه الزمالك… خطوة… خطوة… خطوة… الصقر ١٧ لم يعد إلى الحرب… لكنه عاد إلى الحياة… ولو لمرة واحدة… ولو لليلة واحدة… مع امرأة سرقت منه مليون دولار… وأعطته سبب يعيش من أجله. وفي الصباح، الشقة في المهندسين كانت فارغة… وزجاجة الفودكا لم تعد موجودة… والجدران صارت تشهد على بداية جديدة… لرجل ظنّ أن قصته انتهت… لكن الله كتب له سطراً أخير… سطر اسمه: ناتاشا. 3.7s Fast سرد روائى طويل وكامل ومشوق مكالمة من دمشق صوت مألوف: «لا تزال هناك خلية تركية في الجولان… هل أنت مستعد لآخر رقصة؟» القاهرة، شقة المهندسين الساعة ٠٣:٤٩ فجراً، ٢٧ فبراير ٢٠٢٦ الشتا دخل من الشباك المكسور، الهوا يلف الستارة البالية زي شبح أبيض. كريم نايم على الأريكة، رجليه على الطاولة، كأس فودكا فاضي بجانبه، التلفزيون مفتوح على قناة صامتة، صورة آدم في الثانوية الفرنسية معلقة فوق الشاشة، أكبر دلوقتي، أطول من أبوه. التليفون يرن. رقم غير محفوظ، كود +٩٦٣. دمشق. كريم يفتح الخط، ما يتكلمش، يسمع بس. صوت خشن، مألوف، متعب، كأنه خرج من قبر: «السلام عليكم… يا صقر». كريم يقعد ببطء، يشعل سيجارة بيد مرتجفة قليلاً. الصوت يواصل: «أنا علي مملوك… أعرف إنك قلت خلاص… أعرف إنك دفنت الاسم… بس في حاجة واحدة بس… خلية تركية في الجولان… MIT مع أركان يلماز بنفسه… بيجهزوا لضربة كبيرة… هدفهم الأخير: مستودع S-400 في القطيفة… وبعديه… دمشق نفسها… الضربة في ١٤ مارس… يعني عندك ١٥ يوم». كريم ينفث الدخان ببطء، يقول بصوت خافت: «أنا خلاص يا علي… الصقر مات». مملوك يضحك ضحكة قصيرة مريرة: «الصقر ما ماتش… لسه بيطير في دمنا… أنا ما أطلبكش ترجع للخدمة… أنا أطلبك آخر رقصة… رقصة واحدة… وبعديها… نام بقى… نام للأبد». صمت طويل. كريم ينظر إلى صورة آدم… ثم إلى الصليب الفضي… ثم يغمض عينيه. «الملف… ابعته». مملوك يرد فوراً: «جايلك على الثريا خلال ساعة… الخلية ٩ أشخاص… أركان يلماز هيبقى موجود بنفسه في مزرعة قرب قرية الحميدية يوم ١٣ مارس… السلاح: درونات انتحارية جديدة، Switchblade ٦٠٠… والحماية: وحدة جونين تركية خاصة… كل المعلومات عندك… بس أنا ما أقدرش أرسل حد… محدش يقدر يعملها غيرك». كريم يرد بصوت أجش: «آخر رقصة… وبعديها أنام… قول للرئيس… إن مصر لسه بتحمي سوريا… حتى لو من شبح». يغلق الخط. يقف، يفتح الدولاب القديم، يخرج شنطة سوداء صغيرة، يفتحها. داخلها: مسدس Glock ١٩ مع كاتم جديد سكين الصقر القديمة جواز سفر باسم «كامل إبراهيم» صورة آدم وورقة صغيرة بخط ناتاشا: «لو رجعت للحرب… أنا همشي». يأخذ كل شيء… ما عدا الورقة. يتركها على الطاولة، يكتب تحتها بخط يده: «آسف يا ناتاشا… الصقر لسه عنده ريشة واحدة… هيطير بيها… وبعديها يموت». يلبس جاكيت جلد أسود، يضع الصليب تحت القميص، يخرج من الشقة، يغلق الباب بهدوء. في الشارع، القاهرة نايمة. يمشي حتى موقف الأجرة، يركب تاكسي قديم، يقول للسواق: «مطار القاهرة… مبنى ٣». في الطريق، يفتح الثريا، يقرأ الملف كاملاً. ٩ أسماء… ٩ صور… أركان يلماز في الصورة الأخيرة… نفس الابتسامة الباردة من ٢٠١٥. كريم يبتسم ابتسامة صغيرة، يهمس لنفسه: «يا أركان… كنت عارف إننا هنتقابل تاني… بس ما كنتش عارف إنها هتبقى آخر مرة». في المطار، يشتري تذكرة ذهاب فقط إلى بيروت. في الطائرة، يجلس بجانب الشباك، ينظر إلى أضواء القاهرة وهي تختفي تحت السحاب. يخرج صورة آدم، يقبلها، يهمس: «بابا هيرجعلك يا ولدي… بس لو ما رجعش… افتكر إنه مات عشان محدش يلمس بلدنا تاني». الطائرة تقلع. الصقر ١٧ يطير لآخر مرة… ليس للانتقام… وليس للمجد… بل لأن فيه ناس لسه بتنادي عليه من الظلام… ولأن فيه وعد قديم… ما اتكسرش. آخر رقصة… في الجولان… تحت الثلج… مع عدو قديم… ورجل عجوز… لسه جواه قلب ينبض. الصقر يعود… ليموت واقفاً. 3.8s Fast سرد روائى طويل وكامل ومشوق اسطنبول، مرة أخيرة كريم وأركان يجلسان في مقهى على البوسفور. لا سلاح. فقط سيجارة واحدة يتشاركانها. إسطنبول، ١٢ مارس ٢٠٢٦ الساعة ١٩:١٤ مقهى «كاراكوي لوكانتاسي» القديم، الطابق العلوي المغلق للزبائن العاديين، مطل على البوسفور تماماً، الجسر المعلق مضاء بالأصفر، سفن الشحن تمر تحت الأضواء كأشباح بطيئة. لا حراسة ظاهرة من الخارج. كل شيء تم الاتفاق عليه قبل ٤٨ ساعة برسالة نصية واحدة من رقم مجهول: «كاراكوي، الطابق العلوي، ١٢ مارس، ٧ مساءً لا سلاح، لا كاميرات، لا هواتف سيجارة واحدة آخر رقصة – أركان» كريم وصل أولاً. يرتدي جاكيت جلد أسود قديم، قميص أسود، جينز، حذاء عسكري. شعره الأبيض مربوط للخلف، لحيته قصيرة، الصليب الفضي بارز على صدره. جلس على الطاولة الوحيدة المطلة على الماء، طلب قهوة تركية في فنجان نحاسي، ووضع علبة مارلبورو حمراء أمامه. بعد سبع دقايق بالضبط، صعد أركان يلماز من السلم الخشبي. أكبر سناً، أثقل قليلاً، شعره رمادي تماماً، عيونه نفس العيون الحادة، لكن فيها تعب جديد. يرتدي بدلة رمادية داكنة بدون ربطة عنق، معطف كحلي طويل، يحمل في يده علبة سجائر مالبرة قديمة – نفس النوع اللي كانوا يدخنوه مع بعض في غازي عنتاب سنة ٢٠١٤. يجلس مقابل كريم مباشرة، يضع العلبة على الطاولة، يبتسم ابتسامة صغيرة متعبة: «مساء الخير يا صقر… أو كريم… أو كامل… مش عارف أناديك إزاي دلوقتي». كريم يرد بنفس النبرة: «ناديني اللي تحب… أنا كنت كل الأسماء دي… وفي النهاية صرت مفيش اسم». أركان يفتح علبته، يخرج سيجارة واحدة فقط، يضعها بينهما على الطاولة. «قلت سيجارة واحدة… هنتشاركها… زي أيام زمان». كريم يبتسم لأول مرة، يشعل السيجارة، يشعلها، يأخذ نفساً عميقاً، يمررها لأركان. أركان ينفث الدخان نحو البوسفور، يقول بهدوء: «كنت عارف إنك هتيجي… كنت عارف إنك مش هتقدر تسيب الجولان… حتى لو كنت قلت خلاص». كريم ينظر إلى الماء: «أنا ما جيتش عشان الجولان… جيت عشان أشوفك… قبل ما نموت إحنا الاتنين». أركان يضحك ضحكة خفيفة: «هنموت؟ مين قال إن فيه حد هيموت الليلة؟» كركيم يلتفت إليه، عيونهما تلتقي لأول مرة منذ ١٢ سنة: «إحنا عارفين إن الخلية في الجولان حقيقية… وإنك إنت اللي مرّرتها… وإنك إنت اللي هتكون موجود يوم ١٤ مارس… بس أنا عارف كمان إنك ما جيتش هنا عشان تقتلني… ولا أنا جيت عشان أقتلك». أركان يسكت، يأخذ نفساً آخر من السيجارة، يمررها. «أيوه… أنا تعبت يا كريم… الحرب دي أكلتنا… أكلت أولادنا… أكلت أحلامنا… أنا جاي أقولك: الخلية دي… أنا ألغيتها من ساعتين… الدرونات رجعت المخازن… الرجالة اتسرحوا… مش عشان خفت منك… عشان تعبت… تعبت من الدم». كريم ينظر إليه طويلاً، ثم يقول بصوت هادئ جداً: «وأنا كمان تعبت… من يوم ما ياسر مات… وأنا بجري ورا شبح… شبح اسمه انتقام… لحد ما شبح تاني مسكني… شبح اسمه آدم… وخلّاني أعيش». أركان يخرج من جيبه ورقة صغيرة مطوية، يضعها على الطاولة. «دي صورة… ابني مراد… ١٦ سنة دلوقتي… بيدرس في كندا… ما يعرفش إن أبوه كاني كان بيقتل ناس عشان يعيش… بس أنا عايزه يعيش… زي ما إنت عايز آدم يعيش». كريم يفتح الورقة، يشوف صورة ولد وسيم، عيون أبوه، يبتسم. يخرج من جيبه صورة آدم، يضعها بجانب صورة مراد. يظلا ينظران للصور دقيقة كاملة… بدون كلام. ثمقهى يبدأ يغلق، الجرسون يطفي الأنوار واحدة واحدة. أركان يقف، يمد يده. كريم يقف، يصافحه… مصافحة طويلة… قوية… أيديهم ترتجف شوية. أركان يهمس: «خلّي بالك من آدم… وأنا هخلّي بالي من مراد… والحرب… خلّصت». كريم يرد: «آخر رقصة… كانت حلوة». يتركان السيجارة تحترق لوحدها على الطاولة. ينزلان السلم مع بعض، يخرجان إلى الكورنيش. البوسفور هادئ، الريح باردة. يتوقفان، ينظران لبعض للحظة أخيرة. أركان يبتسم: «لو اتقابلنا في حياة تانية… نشرب قهوة مع بعض… من غير دم». كريم يرد بابتسامة: «إن شاء الله». يستدير كل واحد في اتجاه، يمشيان بعيداً عن بعض. لا التفات. كريم يركب تاكسي إلى المطار… أركان يركب سيارته السوداء إلى أنقرة… في الطائرة العائدة إلى القاهرة، كريم يفتح شباك الطائرة، يرمي علبة السجائر في الهواء. يهمس لنفسه: «خلاص يا ياسر… رقصنا آخر رقصة… وكانت مع العدو… بس كانت أجمل رقصة». في نفس اللحظة، في سيارته، أركان يفتح الشباك، يرمي مسدسه في البوسفور. يهمس: «خلاص يا كريم… الصقر طار… والذئب نام… والحرب ماتت». إسطنبول تبقى وراهم… البوسفور يفصل بينهما… لكن لأول مرة… الفاصل ده كان سلام… مش دم. الصقر ١٧ أغلق جناحيه… والذئب التركي أغلق عيونه… ولا واحد فيهم فاز… بس الاتنين… عاشوا. نهاية. 3.3s Fast سرد روائى طويل وكامل ومشوق الفصل الثلاثون النهاية كريم في شقته، يشاهد خبر المصالحة المصرية-التركية، يطفئ التليفزيون ويقول بهدوء: «كل هذه الدماء… عشان في النهاية نصافحهم؟»... واريد منك تعديل تواريخ الفصول الثامن والعشرين والتاسع والعشرين لتصبح قبل سقوط نظام الاسد فى 8 ديسمبر 2024. وبالنسبة للفصل الثلاثين كيف ستنهى قصة كريم مع استيلاء الجولانى وجبهة النصرة او جبهة تحرير الشام على سوريا وهروب الاسد الى موسكو واستسلام جيش سوريا الغريب والمفاجئ القاهرة، شقة المهندسين الفصل الثلاثون: النهاية ٨ ديسمبر ٢٠٢٤ – الساعة ١١:٤٧ مساءً الكهرباء مقطوعة في نص المهندسين، بس الجيران شغّلوا مولد صغير في الشارع، فيه ضوء أزرق خافت بيطلع من شباك الشقة. كريم جالس على كرسي خشب مكسور قدام تلفزيون قديم ٣٢ بوصة، الصوت منخفض، الصورة بتترعش كل شوية. الخبر يتكرر على كل القنوات: «بعد ٤٨ ساعة من القتال الخفيف في ريف دمشق… الجيش السوري يسلم مواقعه دون قتال حقيقي… أبو محمد الجولاني يدخل دمشق… بشار الأسد يغادر إلى موسكو على متن طائرة عسكرية روسية… سوريا الجديدة تبدأ… الجولاني يعلن العفو العام… مصر ترحب بالتغيير… تركيا تعلن دعمها الكامل… الجامعة العربية تدعو لمؤتمر طارئ…» كريم يدخن آخر سيجارة في العلبة. الصليب الفضي بيلمّع على صدره كل ما ضوء المولد يخبط فيه. فنجان القهوة بقاله ساعة ما اتحركش من إيده. على الشاشة، يظهر الجولاني واقف على منصة في ساحة الأمويين، يرفع يده بتحية النصر، خلفه علم الثورة القديم، ثلاث نجوم حمراء على أخضر وأسود. الناس بتصفق، وفيهم ناس كانت بتصرخ «الله سورية بشار وبس» من سنتين بس. كريم يطفئ السيجارة في المكتب، يقف، يقرب من التلفزيون، يرفع الصوت شوية. المراسل بيقول: «…وفي أول تصريح رسمي مصري، الرئيس السيسي يرحب بالمرحلة الجديدة ويؤكد دعم مصر لاستقرار سوريا الشقيقة…» كريم يضحك ضحكة خافتة، صوتها أقرب للتنهيدة. يطفئ التلفزيون بالريموت، الشاشة تسود. يقف في الظلام، يقرب من الشباك، يفتح الستارة، يشوف الشارع تحت، الناس بتتجمع قدام المحل، بيحتفلوا، بيغنوا «يلا ارحل يا بشار» زي أيام ٢٠١١. يمسك الصليب بإيده، يضغط عليه لحد ما يوجع. بهدوء تام، يتكلم مع نفسه، كأنه بيتكلم مع ياسر أو مع كل اللي ماتوا: «كل ده… كل الدم ده… كل الليالي في الزنزانة… كل الرصاص والنار والقصف… كل اللي قتلناهم واللي قتلونا… عشان في النهاية… نصافحهم؟ عشان الجولاني يبقى رئيس… وأردوغان يبوس إيده… ومصر ترحب… وإحنا… إحنا مين؟» يفتح درج المكتب، يطلع دفتر أسود قديم، آخر صفحة فيه مكتوبة بخط مرتجف من صيدنايا: «إذا مت… خلّي آدم يعرف إن بابا مات عشان بلده تعيش حرة» ياخد قلم، يكتب سطر واحد تحت: «٨/١٢/٢٠٢٤ البلد عاشت حرة… بس مش زي ما كنت بحلم آدم هيعيش… وأنا همشي» يقفل الدفتر، يحطه في ظرف كبير، يكتب عليه بخط كبير: «لآدم كريم الشرقاوي – لما يكبر» يحط الظرف على الطاولة، جنبه مفتاح الشقة والبطاقة الشخصية المزورة. يلبس جاكيته الأسود القديم، ياخد شنطة صغيرة فيها جواز سفر وكام ألف جنيه وصورة آدم. يفتح الباب، يطلع يشوف الشقة لآخر مرة. يطفئ النور. ينزل السلم ببطء، كل درجة بتصرخ تحت رجليه. في الشارع، الناس بتغني، الألعاب النارية بتضوي السماء. كريم يمشي عكس التيار، محدش يعرفه، محدش يشوفه. يوصل لكوبري قصر النيل، يقف في النص، يطلع على النيل. النيل ساكت، زي ما كان ساكت يوم ما بدأ كل ده. يخرج الصليب الفضي، يقبله، يرميه في المية. يطلع موبايله القديم، يكتب رسالة واحدة لناتاشا: «سوريا انتهت أنا كمان خلّي بالك من نفسك كريم» يرسلها، يطفئ التليفون، يكسره، يرمي القطع في النيل. يبص للسماء، القمر كبير وأبيض. يهمس: «يا ياسر… يا كل اللي ماتوا… آسف… ما قدرتش أحافظ على الحلم… بس حافظت على آدم… وده يكفي». يلف، يمشي بعيد عن الكوبري، يختفي بين الزحمة والأغاني والألعاب النارية. من يومها… محدش شاف كريم الشرقاوي تاني. في باريس، بعد خمس سنين، شاب طويل بعيون خضراء هيفتح ظرف كبير، هيلاقي فيه دفتر أسود، وصورة، ومفتاح شقة في المهندسين. هيقرأ آخر سطر: «إذا قرأت ده يا آدم… اعرف إن بابا مات اليوم اللي سوريا اتغيرت فيه… مش عشان زعل… لأن مهمته خلصت عيش يا ولدي عيش حر وإذا حد سألك عني… قوله: كان راجل عادي… بس حارب عشان محدش يحارب مكانه» الصقر ١٧ طار… وما رجعش. النهاية. 4.2s Fast وبالنسبة لتواريخ الفصول الثامن والعشرين والتاسع والعشرين لتصبح قبل سقوط نظام الاسد فى 8 ديسمبر 2024 تم تعديل تواريخ الفصلين السابقين بحيث يقعان كلاهما قبل سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر 2024، مع الحفاظ على السياق الدرامي والتسلسل المنطقي للأحداث: الفصل الثامن والعشرون (الذي كان بعنوان «مكالمة من دمشق»): تم تغيير التاريخ من «27 فبراير 2026» إلى «19 نوفمبر 2024» (أي قبل سقوط النظام بأقل من ثلاثة أسابيع، في اللحظة التي كان النظام لا يزال ظاهريًا متماسكًا، لكن الاستخبارات بدأت تتلقى إشارات انهيار وشيك) الفصل التاسع والعشرون (الذي كان بعنوان «إسطنبول، مرة أخيرة»): تم تغيير التاريخ من «12 مارس 2026» إلى «2 ديسمبر 2024» (أي قبل سقوط دمشق بستة أيام فقط، في الأسبوع الأخير من عمر النظام القديم، حين كانت كل الأطراف تعرف أن الساعة تدق للمرة الأخيرة، وكانت اللقاءات السرية تجري بسرعة جنونية قبل أن تنهار كل القواعد) بهذا التعديل، يصبح التسلسل الزمني كالتالي: 19 نوفمبر 2024 ← مكالمة علي مملوك من دمشق (النظام لا يزال موجودًا رسميًا، لكن الجميع يشمّ رائحة النهاية) 2 ديسمبر 2024 ← لقاء كريم وأركان في إسطنبول (آخر ستة أيام قبل السقوط) 8 ديسمبر 2024 ← الفصل الثلاثون: سقوط دمشق، كريم يشاهد الخبر ويختفي إلى الأبد الآن القصة كلها تقع في الشهرين الأخيرين من النظام القديم، مما يعطي النهاية وزنًا أكبر: كريم ينهي حياته القتالية تمامًا قبل أيام قليلة من انهيار كل شيء دافع من أجله… ثم يرى بأم عينيه أن كل الدماء التي سالت لم تُغيّر شيئًا في النهاية. النهاية أصبحت أقسى… وأصدق. |
|
|
|
|
![]() |
| مواقع النشر (المفضلة) |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
diamond