شبكة الإلحاد العربيُ  

العودة   شبكة الإلحاد العربيُ > ملتقيات الفنون و الآداب > ساحة الكتب

إضافة رد
 
أدوات الموضوع اسلوب عرض الموضوع
قديم 09-10-2017, 08:07 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [1]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي عبد المجيد الهواس: الليالي البيضاء (قصص)

عبد المجيد الهواس: الليالي البيضاء (قصص)


حتويات الكتــاب


العنقاء


حلم الجدار الأول


زر الليلة المتبقية


ظلال

الليالي البيضاء

الأطفال يحبون قوس قزح

يوم آخر


العتمـة

أمسية شعرية

رجل لم يكن يحلم

صراصير وأكفان


حالات طائر حجري ويستيقظ


غيوم صغيرة



:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
قديم 09-10-2017, 08:08 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [2]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

العنقــاء
اقتباس:
وقفت عند المحطة حين وقفوا أمامي.. أشهروا السلاح في وجهي إذ مشيت ...

- ماذا ستربحون من قتلي!

- سنربح موتك.

ويقتلونني ويموتون، ثم حين أسير في جنازاتهم يرسلون من سيعيد قتلي... وكلما تكرر المشهد زدت يقينا في الحياة.

رسمت فراشة في كفي، فثقبوا الكف خشية أن يكون ملغوما، وحين نظرت في عيونهم بغضب... انفقأت تلك العيون المتحجرة وخرجت منها آلات صغيرة بعدسات تصوير. لمحوا الفراشة تطير، فثقبوا الكف الأخرى.

تاه القطار بسرعة ضوئية نحو المحطة القادمة. حين ركبت، ضحكت منهم كيف تخلفوا عن ركوبه ببعد لحظة، لكني حين نزلت وجدتهم بانتظاري. قالوا « إلى أين أنت ذاهب؟» قلت « إلى الوطن». وأطلقوا الرصاص مرارا، وأسقطوني... وانتصب.



:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
قديم 09-10-2017, 08:09 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [3]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

حلم الجدار الأول

اقتباس:
لم يكن «س» قادرا على مواجهة صخب الصراخ المتوثب في ذهنه، منذ اللحظة الأولى التي ارتمى فيها على كرسي المقهى الذابل على الرصيف. فقد كان اكتظاظ الشارع يفلق الرأس بالوجع، وعلى الجدار المقابل للرصيف كان "س" منذ أكثر من عشر سنين قد رسم علامة صغيرة أشبه بجسد عار بلا ملامح واضحة. كان الجدار لا يزال نقيا ومغريا بالاقتحام، ولم يكن قطعة الفحم قادرة على إطفاء شهوته في تبني جسد أنثوي على الجدار. صار على مر الليالي الحالمة يغرس السواد القاتم في فحمة ذهنه التي ظلت صامدة حتى هذه اللحظة.

كانت العلامة القديمة ممكنة البزوغ من بين الأجساد التي تذهب وتجيء. وتخيل في لحظة ما أن بصره صار عاجزا عن اختراق هذه الأجسام المتحركة للتركيز على علامته الصغيرة التي اختنقت وسط خربشات عديدة لآلاف الأيادي التي اشتهت بياض الجدار بعده، وراحت تكتب علاماتها المتنافرة.

أرخى رأسه على حافة الطاولة التي احتضنت قدح قهوته الساخنة، وترك قطعة السكر تنزلق ببطء داخل مشروبه الفحمي، ثم لاحظ وهو يضع قطعة سكر ثانية على شفة الكأس كيف امتصت القطعة الصغيرة البيضاء قطرة السائل الذي امتد في جسدها الإسفنجي يرسم دون هدف نفس العلامة الصغيرة التي تكورت في جسد أنثاه الصامدة في قبل الجدار.

عشر سنين مضت الآن، ولم يكن «س» لحظة الرحيل الأول قد ترك لهذه البلدة الغيرة غير خطوط فحمية عالقة على جدار. بيد أنه كان قد حمل في داخله كل اشتباكات المدينة كقصة مصورة رسمها طفل صغير بألوان مائية صامتة، كان حين يقلب تلك الصفحات المصورة تتهشم في ذهنه مراياها، وتبدو له البلدة من خلف التذكر لحظة انفجار طبيعي لغيمة جميلة اقتحمتها سكاكين زوبعة رملية. ثم كان ينسى كل الانكسارات التي طوحت به في البعد ويتعلم في صمت رسم أنثاه المليحة التي تضيء البياض.

حين سافر «س»، لم يكن بعد قد تعلم تلك اللغة المستفزة الناضجة التي كان يسميها "السقوط"، لكنه راح يتعلم بساطة الاغتراب أمام سلطة تشكيلات الفحم على الجدار. كان في ظرف سنة من التنقل بين سكن وآخر قد وجد غرفة صغيرة وبسيطة تطل شرفتها على شارع طويل يتمدد في البعد كطريق غابوي تنتظم فيه الأشجار. كان يرى لظلال الشجر على جدران البنايات امتدادات عميقة لغابته التي رسمها في قصته المصورة. في الأصل لم تكن الأشجار موجودة. يذكر فقط تفاصيل جذوع مجتثة في شارع بلدته، وتقابل رصيف المقهى المهترئ مع جدار حلمه الأول.

كانت شرفته الصغيرة على منحه كل تلك الأسلحة الكافية للدفاع عن أنثاه... يجلس فيها حالما تحت مطر الليل. وتبرز قبالته في الأسفل، قليلا ما بين الشجر، واجهة متجر زجاجية تكشف حمامات رخامية معروضة للبيع. ينهض نم جلسته كل ليلة، ويثب إلى الشارع حين يخلو تماما من الحركة، ويقفز إلى زجاجات المتجر التي تكشف له عن ذلك الحوض الرخامي المستدير الذي يقف على جنبيه عمودان إغريقيان لا متناهيان حين يلتصقان في السقف بمرآة. تنقل ثلاثة أدراج صغيرة نظره من الحوض إلى البلاطة الرخامية الصافية، ثم تمتد البلاطة عميقة في مرآة جانبية. في عمق هذا البياض الثلجي – حين تختمر في ذهنه نكهة القهوة العبقة – يضع فنجانا أبيض، ويبدو سائل القهوة في الفنجان نقطة سوداء، تتحول حين يغرز النظر فيها ثقبا أسود قاتل الإغراء يتوسط مساحة البيضاء اللامتناهية. ثم يتدفق رشاش الماء بشلال فوضوي يغرق الحوض بموسيقاه الفاتنة. يخترق «س» الزجاج، ويكون لحظتها قد تخلص من كل أغطيته. ثم يتربع أمام فنجان قهوته مقابلا حوض الماء الفائر. يغرس أصبعه الفنجان، ويخط على البلاطة في انحسار غامض علامته الفحمية السوداء.

تدق طبول إفريقية في عمقه، فينهض مخمورا برقصة بدائية تتحول ببطء إلى انجذاب لا مرئي نحو جسد أنثاه، فيندمج فيه بكل انتصاراته البيضاء، ويسقط في نهاية الشهور مجنونا بحوض الماء.

كان الحلم رغم بساطته معرضا لكل المضايقات الخانقة، إذ في صباح ما استيقظ «س» على غير عادته من حلم مزعج ارقه طوال الليل، فتح البوابة الزجاجية للشرفة الضيقة، وأطل بعينين نصف نائميتن. كانت الألوان داكنة، وأصوات بعض الأقدام تعبر الرصيف، فترتفع خشخشات الأوراق الخريفية إلى مسمعه. كان الفصل الداكن يصعد إليه، وأطل من بين ثنايا الشجر على واجهة متجر الحمامات البيضاء، فتبينت له حركة ظلال مفاجئة بالداخل، وأصوات ارتطامات بسيطة. ثم تدفق في مسمعه صوت الشلال المائي متقطعا وصاعقا وبسرعة مذهلة ارتدى قيمصه وبنطاله ونزل الأدراج إلى الشاعر ليرقب المشهد عن قرب. كانت أدوات البناء الحديدية تشتغل في اقتلاع قطع الرخام البيضاء. وحبال مربوطة تشد العمودين الإغريقيين وترفعان الحوض. الرجل الضخم الذي لاح له في انعكاسات المرايا متعددا وناشزا، كان يشير على العمال بأن يحترسوا من أن تنشرخ مرآت أو أن تنخدش قطعة رخام. وأحس بعنف هذا الاعتداء الذي لم يترقبه. كان رغبته قوية في أن يتدخل، لكنه كان خارج الحلبة، وكان زجاج الواجهة يبدو سميكا جدا وقد فقد كل تلك الشفافية التي كانت تتيح له ذلك الانتقال المقدس عبرها. أنت العلامة في داخله، وانفجر صوت الجسد الخفي بالصرخة الجريحة، واعتلى الطعم جرفه. بيد أن رجلين أنيقين لحاله بالداخل.. يأتي الصوت منهما خافتا ومعدنيا. عنيفا أيضا وهما يشرفان على عملية نقل قطع الرخام إلى الخارج.

ثم في لحظة ما انتبها إلى قطعة رخامية في الوسط.. لاحت مثيرة تلك العلامة المرئية الشفافة، ناضجة السواد وفاقعة، أمسك بها عامل وراح الرجلان ينظران إليها عن قرب... صوت صاحب المتجر خرج صاخبا وأكثر معدنية : «غيروا هذه القطعة..» وكان العامل يحاول أن يمرر يده فوق القطعة عمل العلامة مجرد لطخة سوداء يمكن محوها، لكنها بدت راسخة في عمق البياض. وكان وببساطة يضعها جانبا ويتبع الرجلين إلى الداخل، تخيل «س» حديثهما عن الرخام ومحلات الاستيراد، وربما دار الحديث عن الرخامة ذات الجلطة السوداء. لكن وحده العامل كان قد نظر إلى الرخامة بصفة غريب، وكانت عيناه تبتسمان لسحر ما كان يجذبه خفية إلى معالم الأنثى الراقدة في البياض قبل أي يضع الرخامة جانبا ويلحق بالرجلين.

لهث «س» خلف الزجاج، ولم يحمله هذيانه على الصراخ علنا أو انتزاع رخامته من وسط الأنقاض المتبقية.. وقف دون هدف، ثم تحرك بانكسار إلى شرفته. وكان يرى في منتصف النهار نفس العامل يحمل تحت إبطه قطعة الرخام ويقطع الطريق في فرح وزهو ويمضي...

مر النهار خريفيا تماما... الأشجار اختنقت في الشارع الذي التهمته البنايات من الجانبين.. كان مشهد المتجر يبدو من العلو الشرفة خرابة قاتمة بحلقت فيها عينا «س» حتى انشرختا، ونهض ينتفض عند قدوم الليل ليخترق الطرقات التي تفرعت عن الشارع إلى أمكنة لم يرتدها من قبل. استيقظ في عمقه حلم الجدار الأول. نقاء البياض وحزن البلدة الصغيرة التي استأصلته... الرحيل الشهواني عبر بياضات المدن المطاردة، الجدارات الشاهقة الصغيرة وقطع الفحم والأصابع المرتجفة التي تضغط الألوان.. ثم لحظة الرقص المقدس في صفاء الرخام... عري الجسد والقهوة السوداء القاتمة.

بدت له الطرقات مقفرة وناشزة، وانهزم في داخله الكائن الموحد، فقفز على أول سيارة أجرة مرت بقربه لتحمله إلى أبعد مرقص ليلي يوجد بالمدينة.

انزلقت عشر سنين الآن.. العلامة السوداء، المنتبهة للبياض، الزاحفة في الصدر، الهاربة، تنام تستيقظ وتطير... وجه «س» المختل الفصيح، الغامض المتماسك تضيع منه الأشياء.

يتذكر الجير الأبيض حين كان يدفن العلامات، الجدارات المتمردة التي كانت تغتال فيها نشوات الصرخة الملونة بطلاء ينشد أمن المدن ونقاءها. التعبيرات البسيطة تقتل أو تعتقل، لكن الأيدي الصغيرة الطفلة لا تموت فيها الشهوة.

كانت الضوضاء ترتفع قليلا عند مدخل المرقص... نزل «س» على وجوه نساء قليلات يتأبطن أذرع الرجال. بعض الضحكات المتداخلة بموسيقى متلاشية تصدر من الداخل. استقر على مقعد جانبي، ولم يبد نشوانا من زجاجات الجعة الأولى، ولم تراوده فكره الانضمام إلى حلبة الرقص. كان يجيل النظر بين الوجوه المستديرة باحتراس شديد، عيناه مشرقتان غائرتان ومفتوحتان.. يجلس على حافة الكرسي في وضع غير مربح. أو ربما كانت الوضعية جد مريحة: جلسة المتأهب الواثب، تخترقه إيقاعات الطبول التي كانت تقود بضع آلات وترية ثم كانت ذوب كل الأنغام الوترية وتتقلص ليصهل في عمقه إيقاع الطبول ونكهة الجعة الباردة.

لم يألف «س» إلا بصعوبة كبيرة المشهد الدائري في حلبة الرقص، واستأنس في غماره بالشرب، وراح يطلب مزيدا من الجعة ومن القلق حتى صار كل شيء يلعب في ذهنه. العلامة السوداء التي حاول أن يعلقها على بعض الفساتين البيض المهتزة فوق أجساد تتراقص في الحلبة لم تكن فاحمة بالقدر الكافي كلي تلتصق ببياض ما، وكانت العلامة ترتسم من جديد، بشكلها بقوة أمام عينيه ويلاحق جسدا أبيض ليرسمها عليه، تهتز العلامة، تسقط في داخله ويحتسي الشراب، تهتز أيضا ثم تسقط.

كان مستعدا للبكاء وللإفلاس، ولم تراوده فكرة الرقص أو التحول من جلسته المتوثبة إلى موائد النساء. الحر كان رهيبا وجبين ينزف باستمرار. فكر إن لم تكن هناك مكيفات هواء، ثم رأى الرخامة البيضاء تنزف بالعرق، والآلات الحديدية تقتلعها ورشاش الماء يسكب رذاذا ساخنا ومالحا تطلع منه روائح كبريتية عنيفة. لكن يدا باردة حطت على عنقه. انتفض فجأة واستدار. لاحت له ابتسامة هادئة من وجه أنثى بدت خجولة وممتقعة، ما أن نظرت إليه حتى اعتذرت وهي ترد يدها إليها، نظر في عينيها ودعاها للجلوس. استجابت للدعوة رغم أن الاضطراب جعل صوتها باهتا وهي تحاول أن تشرح له الموقف.

كانت المسألة بسيطة جدا. إن جلسة المتوثب كانت موهمة، وكانت ككل ليلة تنتظره في نفس المكان. يجلس أيضا هكذا، على طريقة «س» المتوثبة.

في العمق كانت الجلسة استرخاء لا شعوريا واندفاعا نحو الرؤى المجنونة التي تلهب الروح. عيناه هو الآخر كانتا تبرقان بالنظر اللامركز على شيء محدد توحيان بالغياب وبالنظر العميق نحو الداخل. الغياب انتباه إلى ملامح أخرى. كان لا ينتبه إليها وهي تطلع من الأمام، فتأتيه من الخلف وتضع يدها المثلجة على عنقه، يقوم إليها ويتركها تثب أمامه على المقعد المقابل. لكنه تغيب الآن، وجلس «س» على نفس الطاولة وبنفس الطريقة. كان عليها أن تبوح له أو لـ «س»: «إنني لست هو » ونظرت إليه نظرة المكتشف: «لقد بدوت لي كما لو كنت هو...!» واسترخى "س" في مقعده، وبدا كمن يود أن يغير جلده، لكنه أحس بقلق من الوضعية الجديدة. عاد لكي يثب: «إنني لا أعرفه، ولكني لا أومن بالشبه...» كانت تبتسم وترد بحركة رشيقة خصلات شعرها الساقطة فوق نصف الجبين إلى الخلف: «لا يهم الشبه، لكن كأننا كنا على موعد، أو أننا تصادفنا ... كما كنت معه، أشعر معك الآن بنفس الإحساسات الجميلة التي تبعثها في نظراته». كل شيء كان يرتبط عنده النظر، والنظر التائه في الداخل والعميق... السهر مع العلامة السوداء ومراقصتها ببدائية ثم تعميقها في البياض. النظر إلى البلاطة، والخمار الأسود الذي يلهث داخله الجسد، ويرتمي في الامتداد. نقطة العين السوداء بدت له تلتهم بياض عينيها، والرموش اسودت أيضا. إن العلامة السوداء كانت ترتدي خمارها فلا تكشف عن الملامح المتبقية. ربما كان الخمار يخفي داخله جسدا من مرمر، يتحرك يهتز ويرتمي في المساحة الثلجية اللامتناهية؟

ثم بدأ يعاكسها في العمق: «إن مشروب الجعة يزيد من حدة العطش والحر هنا قاتل...» أجابته وهو يمسك معصمها برفق: «إن مطرا رطبا وشهيا يسقط بالخارج. دخلت هنا أبحث عنك، أو... كنت أبحث عنه لنسير قليلا تحت المطر...» كان «س» يعشق الأنثى التي تستحم بالمطر، لكنه لم يكن يؤمن بالتشابه، فأنثاه كان شيئا آخر، مجنونة غامضة وعاشقة صعبة، تحلم بكل المستحيلات المدركة، وتنضج في ليل الرقصة البدائية على الرخام الثلجي تحت نوافير الماء البارد.

احترست منه واحترس منها، لكنها تكومت إلى جنبه وتمسكت بذراعه السكرانة. قالت له: «إنك تتمايل أكثر من اللازم...!» وأجاب دون انجذاب: «لقد سرقوا مني العلامة السواد. وهذا سبب مقنع للتلاشي... إن غرفتي على بعد كذا.. ربما نأخذ سيارة أجرة...». كانت أنفاسها محمومة على عنقه، وكانت تلوذ بالصمت حين تستجيب لدعوة الرغبة الغامضة.

و«س» اخترق الليل معها وراحا معا في الأزقة المظلمة يتقاطعان الكلام ويختلسان المطر. كان فستانها الأبيض المبلل يكشف أمام الأضواء القليلة المتنافرة جسدها النحيل المرتجف. وكانت تحتمي به أكثر فيسقط رأسها على كتفه وتسأل : «أية علامة سرقت منه؟؟». «شيء لا يمكن الحديث عنه .. زنجية كانت هي، أو جسدا مرمريا يتنكر تحت خمار أسود... جمرة تلتهب بين الأصابع. أضعها على البياض فتصير فيه كالوشم.. دوائر.. خطوط تتقاطع، تقف وتنحني. صوت مبهم وحشي داكن يقف كالرمح يخترق ويستمر في الدم..» ثم يضحك «س» وترتفع ضحكته في الظلام.. تبتل الضحكة ويرتجف جسدها من جديد تحت ذراعه، ترتجف الأزقة أيضا والشارع الطويل، ثم يقفان تحت الأدراج ويصعدان معا إلى فوق. تنزلق قدماه على الأدراج مع انزلاق الماء من حواشي حذائه الذي امتلأ بماء المطر.. وطيق كعب حذائها، تنزلق قدماه على الأدراج مع انزلاق الماء من حواشي حذائه الذي امتلأ بماء المطر.. ويطق كعب حذائها، تنزلق قدم أخرى ويبدو ليل الادراج اسودا فاحما ينتهي عند مدخل الغرفة.

حين ينظر «تنحصر أمامم عينيه مساحة البياض، وكان المطر قد ألصق الثوب بالجسد.. وصار البياض جسدا.. الجسد نحيل يرتجف.. البياض يرتجف والعلامة السوداء تتحرك في الخفاء. وكان يتركها ترتمي على السرير، ثم تنهض بعد ثوان لتشغل شريط تسجيل، فتنطلق موسيقى الأرغن، وتقف أمام باب الشرفة تنظر إلى الظلام المنحسر في الخارج والممتد عميقا نحو كوة المتجر الذي لا يظهر في الظلام، ثم تستدير نحوه، وكان «س» قد نزع حذاءه، وخلع قميصه المبتل. تمتد ذارعيها إليه، أو تخيل «س» أن ذراعين خفيتين انطلقتا من نفس الجسد، ومد ذراعيه إليها خفيتين ايضا من دون أن يتحرك. كانت الوقفة ذهولا منتصبا دون كلام. وحده «باخ» كان يعزف.. وتعانقا في الوسط، ولم يكن جسدها مبتلا.. كان ثلجيا كالضوء متشكلا من رأسها حتى قدميها بكشل العلامة السوداء يهتز في داخله، يتلوى ويتمايل متحركا بالرقصة البدائية الطقوسية. ارتفع صوتها في العمق. ارتفع إلى داخله، حركه بعنف.. سرت رعشة الضوء فيه.. هستيرية كانت الصرخة. كانت اللحظة بلا زمن. نظرت إليه وابتسمت متسائلة : «هل سنقف هكذا؟ ألا تمنحني رداء أغير به هذا الفستان المبتل؟».

صعدت العلامة إلى فوق واختفت، أو ارتدت إلى عمق بصره، وانتبه إليها : «آة!.. أجل ..؟» ومديده إلى خزانة خشب مهتزئة وأخرج منها منامة زرقاء، كورها في يده وقذفها بها، وفتلقفتها في حضنها وضحكت وكورتها من جديد وقذفته بها، وضحك هو الآخر وتبادلا القذف.

لم يستطع «س» احتساء قهوته .. أحس بأن شرب القهوة اعتداء ما على السواد، لكن الأجساد كانت قد تقلصت في الشارع، فبدا الجدار بدائي الصور.. العلامة السوداء ترقد بداخله إلى الأبد، تتحرك وتخزه.. ينظر ويتلاشى النظر .. ينصت للذاكرة المتعبة ولا يستطيع تذكر التفاصيل. كانت الانثى هزيلة في منامته الرزقاء. ضمها إليه فانسحقت في داخله كرحيق الجعة.. صرخت أيضا. ضعط بعنف أكثر. «إنك سكران تكاد تقتلني..» أرخاها من بين ذراعيه فارتعدت وتراجعت إلى الخلف. كان زجاج الشرفة يعكس خرائب المتجر.. بينما انثنت هي على ركبتيها أمام الخرائب وانكمشت في داخلها الشهوة. صرخ «س» تحدث بصوت مبحوح ضعيف. بدالها وجهه متقعا فاترا حزينا، وصوته الغامض عن العلامة السوداء المقتولة مجروحا.. ثم بكى.. !.

صار الشارع خاليا، والمصابيح بدأت تلوح ببعض الأشعة الفاترة. امرأة تمر، تحرك أمامه الجدار ثم تختفي، أو يعبر رجل ما الطريق، ينظر إلى الجدار باشمئزاز ويمضي. البلدة الصغيرة صارت الآن تكبر وتصغر فيها لبيضات.. لكن في ذلك الصباح، صام وترك المرأة نائمة نصف عارية، حزم حقيبته الصغيرة واستجاب للنداء الغامض للسفر.

المدينة/ عشر سنين الآن!. لكن المطر بدأت في التساقط الكئيب. انتفض الرجال الباقون من على رصيف المقهى. ورأى هو الأنثى تتلوى في الفراش، نحيلة وخائبة. رمى عليها الغطاء ونخرج. اشتدت حدة المطر، والنادل في الخلف يرقب «س» الذي تحول إلى قط مبتل عائم يجلس أو يكاد يثب. هب إليه وربت على كتفه. انتفض «س» في اندهاش. فابتسم له النادل برفق : «إن المطر عنيف هنا.. والمكان دافئ بالداخل..» تحرك «س» بثقل وجلس خلف الزجاج يرقب الجدار حتى سقط الظلام.



:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
قديم 09-10-2017, 08:13 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [4]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

زر الليلة المتبقية


اقتباس:
وقف أمام وجهة مرتعدا، ولاحت له في عمق المرآة سيوفه المعلقة على الجدار مشتبكة خلف ظهره.. قاتمة الحديد، مرتعبة السكون. تلمس وجه يعيد اكتشاف خطوطه الوحشية، لكن التجاعيد انتشرت متشابكة كالندوب، كل ندب حكاية، كل حكاية التجاعيد انتشرت متشابكة كالندوب، كل ندب حكاية، كل حياة كانت تؤجل طرف السيوف، كل سيف خلفه كان يبدو منغرسا بعمق في ظهره، فتطلع صرخته حادة حتى تنشرخ المرآة، ويطلع صوتها مسترسلا بنشوة الحكي، حتى يطلع الصباح فتنام.

استدار إلى مرقدها، فلاحت له صافية الملامح.. تتحرك داخل ملامحها خيالات الأحلام الضوئية التي تهزم كل ليلة شظية رغبته الجامحة للدم. بصق في المرآة التي رسمت من جديد انشطارات وجهه. وخرج يبحث عن الهواء قبل أن يختنق.

و

ارتعدت "ليلى" في فراشها، فاهتز جسدها بعنف، ثم ارتخت نم جديد. كان لسانها يتحرك بخدر في حلقها. جاف هو صوت الهذيان الذي تطلقه. لم نستطع فهم ما تقلوه، ولم نعرف حتى الآن أي تفصيل دقيق عن الحادث. إن قبضتها متشنجة تضغط بعنف قوي على شيء صغير في كفها، لكننا لم نعرف بالضبط ما هو؟..

خرجنا ملسوعين نم غرفة المستشفى، وانتشرنا في أحيائنا الداكنة. كان البعض لا يزال يقف حول البقعة السوداء التي سقطت فيها ليلى، بقعة الدم لازالت طرية، وفي جسدها كان النزيف حادا ما بين الساقين. متورمة أعضاؤها الصغيرة، متورم دمها.

تناظرنا جماعات كبيرة، سرت ريبة الشك بيننا. كنا نتناظر بحذر. من فعل ذلك؟ من كان يجرأ أن يغتصب "ليلى"؟. لقد كانت أحياؤنا آمنة رغم ما كنا ننعت به.. كتلة بنايات موبوءة.. مجانين وصعاليك..! لكن ليلى حين دخلت علينا، وسكنت –كما نحن – في غرفة صغيرة ضيقة في طابق أرضي لبنانية متساقطة؛ أحست بلا معنى تلك الزيارات المتكررة لدوريات الشرطة والتي ما أن يحدث حادث بسيط في المدينة حتى تتصيدنا.

كانت هواء رطبا يخترق زحمة ليلنا الداكن، وضوء فرح صغير ينير كآبتنا المزمنة، ولهذا كانت آمنة.. تخرج صباحا، وتعود إلى ليلنا المتأخر متعبة.. حتى الليلة الماضية، سمعنا الصرخة، وركلنا بواباتنا إلى الخارج!! كان الفاعل قد فر، وكانت ليلى ساقطة.

ت

قال الوزير: مولاي شهريار. إن سيوفك صارت تصدأ.ووجهك راح يشحب. شهرزاد تمتلك لعنة الحكي، وخيالها لا ينضب. ماذا لو يطول الليل ولا يطلع عليها صباح، فتظل تحكي ولا يطلع عليها صباح؟..

قال شهريار: إننا لا نتحكم في الليل والنهار، وسيفي لن يطال رقبة شهرزاد مادامت تسترسل في الحكي حتى منار الفجر.

قال الوزير : لو يسمح لي مولاي، فسأبشره بالحل : لقد صار بإمكاننا الآن أن نتحكم في مسار الليل والنهار منذ أن عقدنا معاهدة التعاون مع حكام الأرض البعيدة. إنهم يستطيعون أن يصنعوا لنا كرة معدنية ضخمة تفوق حجم الشمس، ولهم خبراء يستطيعون تعليب الشمس داخلها. وهكذا نستطيع دخول ليل طويل لا تستطيع شهرزاد مقاومته. ولحظتها ستظل تحكي حتى تخر قواها وتهار.. إن سيافيك يا مولاي طال استياؤهم وراحوا يشتاقون سماع أوامرك بضرب الأعناق.

طرب شهريار وابتسم، لكنه بادر وزيره: كيف أستطيع مقاومة النوم إذن، في الليلة التي سينتهي فيها أجل شهرزاد؟!

قال الوزير : مولاي شهريار.. إن أصدقاءنا في الأرض البعيدة يصنعون منشطات وأقراص تمنع عنك النوم لمدة طويلة، وتضاعف قوتك ونشاطك، وهم مستعدون لتزويدنا بها. إنهم ينتظرون فقط أوامرك لتنفيذ كل ما تطلبه.

صفق شهريار وجلجلت ضحكته. ثم أعطى لوزيره أوامر البدء في التنفيذ.

ش

"زرقميص" هذا ما لفظت به ليلى في هذيانها..! أعطى الضابط أوامره للعسكري وقال : «هيا اتوني بهم جميعا أولئك الأوباش. صار مقدورنا الآن أن نعرف الفاعل».. كان "هو" ذلك الشيء في قبضة ليلى.. قبضتها المجنونة. صرخة نافرة هزمت الليل وأخرجتنا.. زر قميصه الدموي.. لم تطلق سراحه، لازال الزر في قبضتها. وقفنا عند فراشها، وكان صوتها مشلولا، عيناها الداكنتان كانتا تنظران إليها دون اتهام. وكنا ننظر إلى قبضتها المنغلقة بعنف، ودون ما انتباه كنا نشد قبضاتنا أيضا.. نعتصر معها ألمنا ونحتضن ليلى.

العسكري الذي كان خلف بوابة الغرفة الداكنة في المستشفى ظل طوال الوقت يهمس لزميلة : «إنها لا تستحق كل هذا الاهتمام. فلماذا يصر الضابط على أن نقف هنا؟!» ضحك الآخر ساخرا وقال : «إنها لا تستحق .. لكنها خطة أمنية، يجب تنظيف المدين لهذا السبب من قطاع الطرق والمتشردين..» وكنا نخترق برزخيهما ونخرج، فيصمتان وتظل ليلى تحت أعينهما. نازفة دمها. ممتشقة تلك القبضة العنيفة الملتوية.. لكن من فعل ذلك؟ لا أحد منا كان يجرأ.. من ذا الذي يجرأ؟!! هو وحده كان يجرأ..!!

هـ

وانطلق صوت شهرزاد يحكي، وشهريار يقرفص، يشرب ويبتلع الأقراص.. الليل ليل، وهذا الليل الطويل نحاس وزنك وحديد.. سيفه مشحوذ ومراياه مكسرة.. «هيا اصعدوا» وصعدنا ككل مرة داخل علبة الزنك. كنا نعرف هذا، ولهذا كانت ليلى تصمت وتضغط على قبضتها. كان كل واحد منا يتحسس أزرار قميصه.. كانت بعض الأزرار ضائعة.. «زر من في يدك يا ليلى؟؟».«تحسر كوايا أبناء الزنا» وتحركنا وتكتلنا وازدحمنا، واشتدت الحرارة حول الكرة المعدنية وصارت تحمر، لاح لنا قرص الكرة المحمر من خلف سياج النافدة الخلفي لسيارة الأمن التي انطلقت بموسيقاها المعدنية تمخر عباب الطريق المتعرج نحو تلك القلعة التحتية المدفونة في باطن الأرض.

ر

عينيها – ليلى – غرفتها الصغيرة، خطواتها التي كانت تعبر بيننا وتخترق حينا الملسوع. ونحن؟ ماذا كنا؟.. ابتسامتها الخارقة تقصي التعب اليومي. كانت لغرفتها نافذة تفتحها كوة صغيرة تهتز داخلها الستائر الشفافة. في عمق الليل كان ضوء الغرفة الداكنة وردي، ثم شاي لنا! وليلى كانت تفعل هذا، وتقوم في صباحها الباكر، ثم في الليل تأتي متعبة من شغلها اليومي لكي تقوى أيضا على الابتسام.

عيناها الآن تغوران في دمها صامتة.. وشهرزاد تحكي ليلته الأخيرة.. يقرفص يشرب يبتلع الأقراص. وعيناها تطلان عبر هذا السياج وتسرج كفها عبر فوهة الزنزانة القاتمة محملا بكل أزرار العالم، فيتعرى وجهه الساقط.

ي

يصرخ: «واحدا واحدا..» وندخل ممر المحكمة، يجتث العسكري من كل قميص زرا. يجتث الحاكم من كل واحد دمه. لكن دم شهرزاد كان متمردا.. أقراصه المضادة.. شهريار يترنح، وخلف ستائر الليل الطويل كانت الشمس تصهر كرة الحديد.

ا

كان الوزير من خلف الستائر يراقب وجه شهرزاد يخبث، فتطلع أنفاسه متوترة مسترسلة ومتقطعة. يلهث من خلف الليلة المعتمرة بالموت. وجه شهريار يتابع الحكاية التي راحت ترسم في عمق وجهه تجعيدة جديدة، ندبا ينتشر، يعبر مساحة وجهه الملتهبة بسحر الحكاية وعيني شهرزاد المقاومة، ينتشر الندب ما بين الحاجبين، يستمر عابرا جفنيه التي تسرب إليهما مفعول أقراص حكام الأرض البعيدة..

ارتفع صوت شهرزاد يشج خلايا الوزير خلف الستائر. ثم صعد من صوتها وجه «هاملت» ممتقعا بالغضب حين أحس بجسد «بولونيوس» يتلصص من خلف الستائر في مقابلته الأخيرة مع أمه. امتشق سيفه وسدده عبر الستائر مخترقا لعنة "بولونيوس".

شهق الوزير، رفع رأسه إلى كوة في الأعلى. رأى الكرة الفولاذية تتقد، أحس بغثيان اللحظة المظلمة، وتداعي جسده للسقوط.

ر

ها قد وقفت ليلى. انتقل الجرح من بين ساقيها إلى أعلى. نظرت في عيوننا التي استقرت بين طرقات المحكمة. وجلس الحاكم العسكري قاضيا والتأمت حوله أجساد الهيئة المتقاضية.

كانت قبضة ليلى ما تزال متشنجة. قلنا لها في صمت: «أطلقي سراح كفك، ودعي الزر يسقط لتنتهي هذه المهزلة».

كانت التلاوة البلاغية الرهيبة للادعاء تضع أعناقنا تحت المقصلة.. «هيا يا ليلى.. اطلقي سراح القبضة ودعينا نتخلص من زعانف الترقب!».

وضعوا على طاولة صغيرة أزرارنا، لكن ليلى نظرت في عيني القاضي وتقدمت ونظرت تجحظ وخطت أيضا تتأمل بدلته الداكنة المتوحشة بالشارات الملونة، وأزرارها الفضية الملتمعة. اشتدت حرارة الفولاذ. سرت فيه شروخ لافحة، وارتعدت تلك السيوف المشتبكة خلف الظهر.

كانت شهرزاد تقاوم وتحكي. ندب الحكاية اخترق الوجه، لاح فيه ضوء اللفحة المتهبة.. طرقات جديدة .. انفجر المعدن شظايا وتفجر شعاع الشمس يخترق كل الازدحامات المظلمة. فتحت ليلى كفها. وتطاولت أعناقها إلى الزر .. فضيا ملتمعا كان ..!! انتصب الجميع وامتدت أعناقهم إلى القطعة الفولاذية الصغيرة. لكن ليلى تقدمت نحو القاضي خطوة أخرى حتى كادت تصطدم به، وأطلقت للمرة الأولى صوتها: «هذا الرز ينقص بدلتك يا سيدي».



:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
قديم 09-10-2017, 08:15 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [5]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

ظــلال

اقتباس:
البرق كشف عن جسد امرأة كانت تنام على الرصيف أو ربما كانت ميتة. تلتف في معطف أسود إلتمع كفرو ناعم حين ارتوى بزخات المطر العنيف. كانت مصابيح المدينة مطفأة.. الليل.. وكعب حذائها الأحمر كان يبرز صفيحة زنك قديمة. كل الظلال المرتسمة على الحائط في الخلف أوحت بغابة سوداء تهتز أشجارها فتصدر من داخلها أصوات عقبان ونسور. تتكاثف عيونها بين الأغصان وتلتمع في ذهول جائع.

يمر الرجل الأول.. أو هكذا أوحى الظلام.. يقف على الجسد مشتت النظر بين الجهات.. يقلبه، ثم يرفع اليد التي تسقط للتو، يرفعها فيلتمع في أصبع صغير خاتم أصفر.. يستله.. عصيا. وبمدية يجتث الاصبع ويمضي بخطوات أسرع في الظلام. تخفق في الغابة أجنحة ثم تحط على قرقعة حذاء يخترق الرصيفن وتظهر امرأة عجوز. أذهلها الجسد الساقط، حامت حوله مرات فأغراها احمرار الحذاء. انتزعته وأخفته تحت ملاءتها الداكنة مهرولة بخطى عرجاء مولية من نفس الطريق. في أفق الطريق. سكران الخطأ كان الرجل الثاني. تعثر في الجسد، سقط عليه وقام. دوي بصيحة هزت كل ظلال الغابة فارتعدت أعشاش مخيفة في الظلام. وكان انكسار البيض عند قدم الجدار مصدر فزع رهيب. تلكأ ببعض الكلام وعرى الجسد النائم من معطفه الأسود القديم. طوح به في الخلف وتهيأ لكشف الشهوة الجامحة.

وناعما كان الجسد في الظلام، يرقد مدمى من كل الجهات. بدا للحظة يهتز ينبض مقتول، وكإسفنجة مملوءة بالدم، ارتفع بين مناقير العقبان والنسور التي خفقت بأجنحتها مدوية بنواح حزين. ما أن صدع البرق ثانية حتى أبان عن رصيف طويل وجدار.



:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
قديم 09-10-2017, 08:16 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [6]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

الليالي البيضـاء
اقتباس:
في تلك الليلة، لم أعرف أية رغبة قذفت بي إلى الخارج، فقد كان الخريف قد استوطن المدينة وأسقط على ليلها مطرا حادا وباردا كمقعد إسمنت فيمخفر شرطة.. ترك المطر على الإسفلت المحفر دوائر ماء بدت مع انعكاس ضوء المصابيح مختلفة كبقع نفط. لم تحبل المدينة في يوم ما بزيت كهذا. لكنني حين امتددت بين سواد الأزقة شعرت كأن الذي في بطنها عبوة ستنسف عما قريب.. تخيلت الشظايا على مر الطرقات، ونتف لحم محروق لم تنضج إلا للموت. لكن البنايات المهترئة لم تكن توحي بغير ذلك.. هذه الشظايا المتنافرة التي تلد الجوع والفقر والعطش. سرت محمولا هكذا، بغية التخيل القلق انشد العتمات المتلبدة في استدارات الطرقات واتسلق حبال ذاكرتي التي كانت تنشد الأمن ذات يوم عبر الرحيل. بعيدا،، بعيدا أكثر.

وقف الجمركي يتأمل تأشيرة الخروج في جواز السفر. قلب الصفحات يقرأ الاسم ويعيد ذلك. نظر في الصورة وفي وجهي يلحظ الفارق. صحيح أنني لم أحلق ذقني منذ يومين. وأني حين نظرت في عدسة المصور رسمت ابتسامة صافية رزقت بها في تلك اللحظة، لكن الجمركي لم يقتنع أني سأخرج سائحا، لأن لا شيء في كان يدل على ذلك، فتش حقيبتي جيدا فوجد أقلام حبر ودفاتر. بعض أواني فخار صغيرة طقطقت في الحقيبة فقال: «هكذا إذن تهربون خير البلد!». حين فكرت أنني سأسقط من فكي كما شته، جرجرني نحو مكتب زجاجي صغير. كتب اسمي في جهاز كمبيوتر.. نظر في شاشته لحظات، ثم ضغط على الكماشة فصعقت، لأن نقطة حمراء ارتسمت في الجهاز وقال: «ممنوع عليك الخروج».

ابتلت قدماي ببقع الزيت، واشتعل الفتيل الأحمر الذي في داخلي. التهبت لأن البرد كان لا يقاوم. لم ينطفئ، صعد دخانه إلى الدماغ. ظل الفتيل مشتعلا. أحمد كان قد سبقني بخطوتين. مر من قبضة الجمركي. ثم حكى لي وهو يتلمس تكور نهدي أوروبا أن الصدر ضامر. رسائل أحمد كانت المد والجزر والطوفان. نهر غامض الانسياب. جارف حتى الموت. قال لي: كل الكلاب حريصة على الفتك بالغرباء. قلت لأحمد: ما أعنف أن تغترب في وطنك. قال: ما أعنف أن يتضاعف موتك وأنت تلعق الغربتين قلت: هو اختيار. قال: هو انهيار.. قلت وقال واستطال اللسان نحو البلعوم واكتمل الاختناق..

عاد سيف المطر الحاد. نصل الكآبة احتد.. كانت الطرقات تتلوى وبعض العجلات تلسع الطريق.. دوريات الشرطة مستمرة في استنفارها الليلي، والمقعد الإسمنتي يتشرب البرودة في انتظار القادمين.

قادم هو الظل كي يتستر تحت الجسد.. انزويت تحت قرميد أحمر، أو هكذا بدا لي لونه المعتم.. احتميت في عرائي انبش الليل والطرقات.. كأني أعري عنه التراب لأنتشل جثتي.. تسربت الحماقة إلى جسدي، فجلست على الرصيف المبتل اللزج كما كان حسين بفعل. فرغت مني الكتابة واللغة، ولم أستطع أن أكتب له سطرين في سجنه. كنت أعلم أنه كان في أقصى العزلة، وأنه كان يجلس على الرصيف ليعد أصابعه. كم كان عدد الأصابع؟ لماذا لم أستطع أن أكتب له تلك الرسالة؟ قال لي: احترس من قراءة الجرائد في قارعة الطريق. ولم أقل شيئا، فقد كان يخرج عند متنصف دجنبر ليشتري جريدة، فاعتقل كسمكة دخلت صناديق معلبة، كتب عليها بكرافيزم جميل: «طري».

لم تكن أحلامنا طرية، فقد شاخت كما تلك القصص الصغيرة التي كتبناها وظلت طي الدفاتر في انتظار أن تعتقل. وخز الدماغ عنيفا هذه المرة، حلو نزيفه كقصة حب مجوسية.. دعقني الرصيف ووجه حسين. فقمت أسير، فلا زالت تسكن الدم رغبة الانتشار.. تهت من جديد كي أنسف هذا التذكر.

هي تلك الليلة، كنت إلى جانبي. احتسينا حساءنا واتكأ بعضنا على بعض دون أن نتداعب. يحز في نفسي ذلك، فليلنا لم يكن دعابة. مسحت بيدي على بطنك أتلمس تكوره الجميل. لحظة عشق لذيذ كانت اللمسة، سبحت فوقها عتمات الوطن السوداء. فقلت لنفسي أن الوقت لن يرحم طفلا جيء»… اخنقيه قبل أن يخنقه شيء أكبر. ولهذا خرجت مقذوفا بتلك الرغبة. رغبة التضاد الكبيرة.. يجيء أولا يجيء؟ سيجيء الطفل إلى الوطن.. قلت لي: ستخرج إلى الحان؟ قلت لك: لن أشرب. برقت عيناك من ارتعاب عيني. فرأيت شفتيك الجميلتين تناهضان رغبتي. قلت لك: أعدك الا أشرب. واحتد بي العطش. قلت لي وأنت توصدين الباب خلفي ألا أتأخر. ابتسمت لك هكذا رغم غصة العطش المرير. سيف المطر حاد. برد صقيعي قاطع أحسست بوجهي ينتفخ. تلمسته فكان جمرة.

أتذكر جيدا.. في ذلك الليل الآخر. كانت نجوم صغيرة تضيء عند الجبل، تشتعل ثم تومض، وتشتعل من جديد. لا قمر كان يضيء.. غيرها تلك الأنجم التي كانت ترشد العربات المصفحة المتربصة عند سفح الجبل، مدججة بالعساكر والعصي والهراوات. نلتم على بعضنا، نلتف، نتدفأ، ندخن سجائرنا التي وحدها تضيء في ليل التسكع المرير. ثم نطل على العربات كيف تعجز عن مطاردة هذه النجوم الصغيرة. في الصباح ننزل الجبل بكل احتراس، لأن الوطن يوجب كل ذلك.

فكرت أن أعود، فقد انطفأت في رغبة المسير أكثر.. بقع الزيت تكاد تشتعل. جنونية تلك الرغبة التي دفعتني أن أقفز فوقها.. تلك البرك السوداء. ركضت أقلص من انتظارك. أعترف. كنت حريصا على أن أعود بكل السرعة الممكنة. . قلت لنفسي أنني سأقبلك بعنف وأحضنك ملتصقا بانتفاخ بطنك الجميل. قلت لنفسي، سأبرر لك كيف صار جسد مبتلا هذه الليلة: مرت تلك السيارة تطأ البركة السوداء. فارتمى على الماء العكر. لم ألعنها لأنني كنت حريصا على أن أظل مسحورا برغبتي في معانقتك.

أعترف لك الآن.. لقد مرت السيارة فعلا، دورية شرطة كانت. داست بركة سوداء عند قدمي فارتمى علي شلال الماء العكر. كدت أشتمها لكني تراجعت عن ذلك، لأن السيارة انتبهت إلى فتراجعت إلى الخلف حتى توقفت أمامي. ركبت، لأن الشرطي الذي فتح لي باب السيارة الخلفي شرح لي أن دعوته لي بالركوب شكل من أشكال الاعتذار.



:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
قديم 09-10-2017, 08:17 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [7]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

الأطفال يحبون قوس قزح

اقتباس:
لن أتوجع، سأترك هذا الألم صامتا، لن أدعه يصعد إلى العينين كي لا تلمحوه، ولن يصعد إلى الحلق، سيظل صامتا يمتص صراخه ولهيبه كي ترعبكم هذه المقاومة.

صباحا تكبر الانتفاخات في الجلد وتتسع الأورام، أخرج الآهة حلما مثلجا.. تنتعش الجروح في الجسد نم فعل الصقيع الجامد. انظر إلى جلدي الذي تتضخم مسامه. يتسع فيها الارتعاش وتكبر الأفواه. تخرج ضحكاتها. تسمعون تلك السخرية اللاذعة من مسام الجلد وتطلبون جلده من جديد. في الظهيرة يترك الجلد ألمه صامتا، لا يتكلم كي لا يفرز رعبه. فيطلع من أعينكم رعب قاتل. تموتون به كسم العقارب.

مساء تطالبون من جديد بدم هذا الجسد الذي أدخلكم فسيح جهنمه فيقهركم كابوسا في المنام إذ يظل يحلم بالوطن.

في الليل رأيتك هادئة، تتكئين على جدار الغربة الوردي، فيرستم ظلك عليه كالبنفسج. كان المغني يقول شعرا جميلا عن الحب، فيرتسم شفافا في عينيك المغمضتين.. نشوانة كانت تلك الاهتزازات الخفيفة في جسدك. وكنت أجلس على كرسي الخشب الأبنوس. أنظر إلى ظلك الرائع وابتسم للمغني.

في الليل كنت هادئة ترقصين، ثم وتر الجسد أحلامه، فبدا الرقص قويا، وكان المغني يقول شعرا طريا في الوطن، وكنت أجلس على كرسي الخشب الأبنوس. انظر إلى ظلك يقفز على الجدران ويرسم فيها الحدائق.

أيقظني صوت المطر. كان الفراش الدافئ للحلم رطبا حانيا ومعطرا.. اهتزت الجدران المتعفنة بالرطوبة من حولي ورأيت في عمقها حباب المطر تنزل بتدفق عذب على التراب الذي تصعد للتو رائحته، كان السجانون يقفون على باب الحديد يدفنون رؤوسهم في المعاطف الزرقاء ويلعنون الماء.. كنت أراهم هكذا يحملقون في الأرض المبتلة بغضب، ويضربون بأحذيتهم الطين كما لو يضربوننا.. رميت اللحاف الرث عني، واستطعت أن أنتصب على قدمي.. لأول مرة منذ أن ركبت سيارتهم وأنا أتساقط بين أحذيتهم اللعينة كما لو كان جسدي قنينة بلاستيك يتقاذفها المارون على رصيفهم بغضب. سقطت القنينة أخيرا في بالوعة وتخلصت من الجزمات، ووقفت أخيرا لأرمم ما تبقى.

المطر الجميل يلون الشرفة. رأيتك تفتحين نافذتها وتمدين أصابعك إلى حبل الغسيل، تجمعين عنه القمصان البيضاء وتتلمسين أسفل البنطال الأزرق.. ظهرت في العمق عربات الترام تنسحب مع الأفق ويرتد صداها الرتيب إلى الغرفة، بحيث أنك كنت لا تزالين تمسكين بأسفل البنطال وتنظرين إلي محاولة رفع صوتك كي يقاوم صدى القار.. لم أسمع كلماتك، لكني فهمت من اهتزاز تلك الشفتين أن البنطال الأزرق لا زال رطبا وأنه اهترأ.. كنت تلمحين في عيني أنني لم أعد أرغب فيه.. صرت أحن إلى ألوان أكثر دفئا. نظرت إلى أسفل البناية فسمعت صوتك هذه المرة: «إنهم لا زالوا في الأسفل يتربصون ويلعنون المطر.» قلت لك: «هكذا إذن يتعذبون..!» وقفت أنظر في أشياء الغرفة الجميلة، وتلمست تلك الأوراق البيضاء التي رتبتها بعناية فوق الطاولة. وقلم الحبر ذلك.. معتق حبره الأسود. قلت لي: «ستكتب؟»، وأضفت بأسف: «لقد عبثوا بكل أوراقك. فتشوها جيدا وبصقوا.. أرغموني أن أقرأ لهم، ولم أقرأ لهم.. قرأت بنشوة أتلمس صوتك. وشتموا ولم يفهموا وبصقوا ومزقوها..»

كان الحديد يئن تحت قبضاتهم، يدفعون المزاليج الضخمة بعنف ويكتمونها بالأقفال. يبصق الحديد في قبضاتهم صدأه.. لم يكن صوته رهيبا .. صرخته تلك هي التي كانت مفزعة.. كل لحظة يبصق فيها صدأ يحملوه في أكفهم.. هذا الحديد لم يكن مرعبا! مرعوبا كان.. السجانون كانوا يسيرون في الممرات الضيقة ويبكون. أحذيتهم موشومة. أكفهم تسقط مثقلة بالصدأ.. المفاتيح مدلاة من الأحزمة.. يسيرون في الممرات الضيقة صباحا، يمشون فيها مساء.. ينظرون من تفحات الزنازين بتلك العيون الضيقة المتكلسة، ويظل الصدأ يأكل أكفهم..!

- ماذا تكتب؟

- قصصا.

- لمن؟

- للأطفال.

- كيف؟

- بالألوان.

- لماذا؟

- لأنهم يحبون قوس قزح.

أتسلق ذراعك ونحن ننزل السلم.. وأتذكر المرة الأولى التي خرجنا فيها إلى الشاطئ. كانت تيراسة المطعم تتقدم نحو البحر محمية بزجاج شفاف… الموائد البيضاء موشحة بشموعها الدافئة، وبلاطة الأرض مصقولة كمرآة.

جلسنا والبحر الهادئ عرس. أسمع صوتك: «هل سنجد عازفة الكمان هناك؟» وفتحت المظلة واختبأنا، يسير خلفنا الإثنان، يسيران بحزم وفرح إنجاز مهمة. فقد تعبا من الوقوف طيلة النهار تحت المطر.. وأشعر أن لهم الحق الآن في جولة هادئة قرب الشاطئ. ثم سيقفان عند بوابة المطعم وسيجلسان على الكونتوار، ويشربان جعتين وثلاثة وعشرين، وسيظلان ينظران إلينا بحزم، وسيبكيان..

رفت المظلة.. طارت.. نزل علينا المطر، ضحكنا وعدونا، وفي الخلف كانا يركضان بقرف وخوف.

ألا تحبون المطر؟؟…

ابتلت الضمادة في يدي.. كرة بيضاء هذه اليد، تسألني وهي تضغط بمندي عليها برفق كي يمتص منها الماء… الحساء لذيذ. لم أكن أدرك أن استعمال اليد اليسرى ممتع.. تنظر إلى ضمادتي وتسألني عن حال الأصابع. أقول أنها بخير وإنها ستعود لتكتب.. ولماذا تأخذ الضمادة شكل كرة؟ نرقص في حنو.. تمر بيننا عازفة الكمان توزع ابتساماتها الحلوة.. مضت السنين وعازفة الكمان يزداد حزن عينها اشتعالا.. تسير إلينا وتطرب..

كيف يبتسم الناس؟!

الأواني الفضية تحدث على المائدة قرقعة كقرقعة الحديد. لكنها لا تترك في اليد صدا.. تعجنني الآن كل تلك التفاصيل تتورط أعقاب السجائر في الجلد.. تصعد الصرخة إلى الجوف. لن أتوجع. هذا الألم يتفاقم أتركه دفينا. الحبال التي تشج الجلد والاسمنت البارد على الظهر. الماء العكر.. الوجوه الزرقاء.. كنت أضع اللفافة بين الشفتين وأمتص دخانها مغمض العينين كي لا ألحظ ذلك التوقد في اللفافة المرعبة.. سنبدأ… كل يوم كنا نبدأ .. هكذا يقولون: سين. جيم. سين.. جيم.. سين… سين… سين… اسحقوه. ويسعفني المطر. أنظر في الزجاج الشفاف.. يصعد البحر إلينا..

- هل تلحظين ذلك الضوء العميق في البعد؟

- قوارب صيد.

- قناديل..

- ربما مر عجوز "همنغواي" من هناك..!

- لازال خيط دم حوته الكبير يرقد في الماء المالح..

- وأسماك القرش تكرع الخمر على الكونتوار.

- هل نشرب الشاي؟

- في أقداح طينية.

علي أن أرتب أمورا كثيرا .. وأن أسافر بضعة أيام.. هل سيحق لي السفر الآن، سأسأل الاثنين إن كانا يرغبان في السفر ورائي.. سأسعد كتبة التقارير على فعل ذلك، وعلى إجراء التدابيرات اللازمة مسبقا.. أن يهيئوا حقائبهم.. خذوا الوقت الكافي لحلاقة ذقونكم، وسنركب بعد أيام إلى الجحيم.

يصعد ألم ما إلى ذراعي. سيختفي هذا الألم نهائيا. تنظر في عيني وتقول لي كيف سارت تشتاق لمداعبة تلك الأصابع.. أمد لها أصابع اليد الأخرى وتضحك. نضحك، نطفئ الضوء ونسمع بكاءهم في أسفل الشارع وصرخاتهم تلعن الرؤساء.

صباح الخير. الشمس تثقب بكارة السواد. انظر إلى وهي في المرآة الصافية. أراك الآن خلفي تمسدين شعري برفق.. يظهر وجهك الناعس كقرنفلة، وجسدك طري تحت المنامة. أحاول ما أمكن أن أخبرك بعدم جدوى مجيئك معي إلى المستشفى، واني لا أريد أن تري بقايا الجر في يدي. تتحدثين بخوف ولا توصدين من خلفي الباب، تظلين معلقة على دفتها، أرى في عينيك لهفة الأم على طفلها. تنبسين بكلمة: «أخاف عليك من الكلاب»، أقول لك: «انظري في عيونهم أولئك الجبناء والمحي مقدرا الرعب فيها…».

- ستخرج بعد أيام.. نرجو أن تكون قد فكرت جيدا.

- نعم فكرت..

- بم فكر؟

- فكرت فيكم

- نحن؟!!

- لقد تعبتم..

- إذن.. ستكتب من جيد!

- سأفكر من جديد.

القهوة جامدة في حلقي، انظر في بقايا أصابعي وأفكر فيك. لقد انتزعت الضمادة البيضاء.. حاد هذا الحزن.. جامد ومرعب.. ألمح كيف ستفزعين حين لن تجدي تلك الأصابع. وسيخرج صوتك جامدا : «كيف ستكتب الآن!!» سأقول لك: «باليد اليسرى…» وسأرى دموعك تسقط في دمي نافرة.

- ماذا ستكتب؟

- قصصا

- لمن؟

- للأطفال

- كيف…؟

- بالأبيض والأسود

- لماذا؟

- لأنهم يكرهون وجوهكم.

(وامتدت السكين الكبيرة كي تستأصل الحلم)



:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
قديم 09-10-2017, 08:18 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [8]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

يوم آخر

اقتباس:
في تلك اللحظة، لم أكن أعرف بالضبط هل كنت قد استيقظت فعلا. لأن الأشياء التي جرت كانت أقرب إلى الحلم منها إلى الحقيقة.. ولأني منذ زمن كنت قد فقدت كل الأحلام الجميلة، فصارت ليالي كوابيس. استطعت فيما بعد أن أخرج باستنتاجات كثيرة؛ هي أن الكوابيس أصدق من الأحلام مدام الحلم يشبه سلعة محرمة ممنوعة التداول.

خرجت – إذن – في الصباح بعد أن أوصدت الباب خلفي. كانت كل رغبتي لحظة الاستيقاظ شرب فنجان قهوة ساخن. كان الزقاق الذي ارتميت فيه مقفرا تماما، فلا أحد كان في الخلف أو في الأمام. كل النوافذ موصدة والأبواب توحي بأنها لم تطرق منذ عام. الشمس كانت مضيئة، ولهذا سقط احتمال أن أكون قد خرجت في وقت مبكر. لا صوت يطلع من الأرض ولا صوت ينزل من السماء، لأني أنا أيضا لم أعد أطلق صوت رجاء أو انتظر هبوط نبوءة جديدة من السماء. كان كل الذي أراه متاهة. تخلصت من الزقاق وارتميت في شارع طويل.. الشارع الميت الطويل الذي بالأمس كان يختنق بازدحامات مقلقة، صار ارتماء أهوجا في صدر البنايات، ممتدا تطلع منه علامات مرور متعددة التحذيرات. ولأني كنت – رغم دهشتي الأولى – لا أزال مصرا على شرب قهوتي السوداء، فقد ارتميت في المدينة على أحد مقهى مفتوح الأبواب. أكثر من ذلك، لاشيء عاد يشغلني أكثر من شرب فنجان قهوة. بل صارت القهوة عندي في تلك اللحظة قضية.. صعدت إلى رأسي نكهتها وراحت تملأ خياشيمي رائحتها العبقة. دفعتني ذلك لأن أنقذف عبر الطرقات مهروسا بهذه الرغبة مجنونا بها. امتد في التعب ونزفت عرقي دون جدوى، فلا شيء عاد ممكنا وكل الغرائب محتملة.

صرت أضرب الأرض بقدمي، أركل الأبواب، أرفع صوتي بالشتائم، ألعن العالم والناس والمدن والتحذيرات وعلامات المرور والسلطات والإرهاب وهذا الحبس الفضفاض الإجباري العازل.

تردد صدى الصوت عبر الجدران عاد إلي.. اكتشفت روعة ذلك، فقد صرت أستطيع رفع صوتي دون احتمال أن تمتد يد إلي لتخنقني. وتحولت حالة الصراخ من إحساسي بالقهر إلى اكتشافي حرية فعل ذلك باطمئنان، فمضيت أصرخ، وتحول شكر الصراخ إلى غناء، وكبر حجم الصوت أكثر لأنه كان يترمي بين البنايات. يلطمها، يتخلل تجويفاتها، يعبر مرافقها ويعود إلي. أمضيت ساعات طوال أفجر ما اختنق في داخلي منذ ألف عام.. صار الصوت نشيدا، يتشكل عبر الصدى.. أرسم عبره هذا الانعتاق اللامنتظر، من سنوات القمع الطوال.. أصرخ "لا"، تعود "لا" إلي، أصرخها، تتعدد ثم تسقط بين يدي. خسرت المدينة ناسها وضوضاءها، وصرخت أنا، لكني أنا الذي خسر. صرت أرى بعد انطفاء شهوة الصراخ شكل الجحيم.. وهنت قواي وقلت أعود إلى بيتي أحتمي فيه من هذا السكون الناشز أو أنام. لكني أضعت الطريق وتحولت الطرقات متاهة. خسرت للمرة الثانية حين حلبي عطش عنيف ولم أجد نقطة ماء تعتق اللهفة.. تهت كالمجنون حتى سمعت صوتا قادما من بعيد كالخرير. يتصاعد ويتعاظم كالطوفان، لكني للحظة أيقنت أن الصوت رقع أقدم. عبر إلى فاختلط علي الخوف بفرح اكتشاف الناس من جديد. لكن لا صوت كان يطلع غير احتكاك الأحذية بالأسفلت وأنفاس محمومة تبدو كلهاث جياد قرصنتها الصحراء. ثم لاحت لي أولي الوجوه؛ عساكر كانت قادمة.. لم أستطع أن أعدها لأنها كانت تهب كالطوفان. لذت بجدار، ثم حاولت التراجع والهرب، وفي كل زاوية كنت أنفذ منها تطلع على آلاف العساكر.. شعرت بغثيان اللحظة الرهيبة ثم سقطت العق لسع الجزمات التي مرت خاطفة.

في تلك اللحظة، لم أكن أعرف بالضبط هل كنت قد استيقظت فعلا. لكن لكي توقنوا أنني لم أكن أحلم، تأملوا جيدا جروح أجسادكم المزمنة.



:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
قديم 09-10-2017, 08:19 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [9]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

العتمــة

اقتباس:
وقف خلف النافذة، وأحس برعشة الضوء على وجنتيه، ثم فتح دفتيها الزجاجيتين فلامسه النسيم. تنفس من عمق الصباح ومد يده إلى الخارج يلامس الشمس والهواء.

طرقت تلك اليد النحيفة باب الغرفة، ثم انفتحت دفته، رائحة القهوة تأتي دافئة.. نظرت إليه وابتسمت.. استدار ببطء وتقدم بخطوة يتلمس المقعد قرب الطاولة، بينما حطت قربه القدح وصبت له القهوة. همست بصوت دافئ:

- لقد بدأت تكتشف سر الحياة.. داعبت شعره برفق حتى صار طفلا رائعا وابتسم، رفع رأسه نحوها وسأل:

- كم مر من الوقت على مجيئي إلى هنا؟

- شهران ونصف. لقد أصبح مزاجك رائقا.. هل أضع لك السكر؟

- … لا. سأفعل ذلك بنفسي. وأمسك قطع السكر وبعض الارتجاف في يده. وضعها في القدح وحرك السكر بخجل، ثم رفع القدح إلى شفته يحضنه بين الكفين. كانت تقف وتنظر إليه؛ لحظة همت تسوي وضعية الأفرشة على السرير، ثم فاجأته بدندنة من صوتها الرقيق فارتجف في داخله النبض الميت واخضرت الشرايين.

تفتح له النافذة أصوات الخارج.. تتحول النافذة شاشته السحرية العميقة. تلج موسيقى العصافير صدره، فترسم الألوان في أسفل الشارع والضوء والأشجار.. لم يبصر الشارع من قبل بنفس الانبهار، تحرك نحو النافذة وقدح القهوة في يده.. وأطل برأسه كما لو كان ينظر في بئر عميقة. ثم تخلل صوته دندنتها:

- كيف حال الشوارع الآن؟

- صارت هادئة.

- والأخبار؟ … والجرائد..؟!

- كل شيء عاد إلى مجراه.

- والجثث..؟ والقتلى..؟!

- لقد توقفت دورة العنف، والأطفال بدأوا يلعبون في الحدائق. ثم ابتسم بارتياح واستدار نحوها:

- متى تنزعون العصابة عن عيني..؟

- قريبا .. بعض الاحتياطات واجبة.. يومان أو ثلاثة على الأكثر.

تنفس بعمق واستلقى في فراشة بارتياح. مررت يدها من جديد على شعره وابتسمت، ثم خرجت في هدوء تام، تاركة في صدره دندنتها الشجية.

كان إيقاع الحذاء يرن في صدره كل صباح. منذ أكثر من شهرين. مابين الصحو والإغماء يسمع تلك الطرقات الخافتة الحادة تصعد من أسفل الشارع إلى النافذة. يتردد صداها في الغرفة الصغيرة ويقتحمه.

كان رنين الحداء ينتشر في خلاياه المتعبة ويتسمر فيها الدبيب طيلة النهارات المظلمة. امرأة تمر أسفل البناية البيضاء. وحده هذا الصوت كان يحتل الشارع الطويل. لا خطوات كانت غبر خطواتها، منتظمة كانت. تصير عادية تلك الخطوات الصباحية التي تصعد إلى قلبه.

لم ينتبه متى وضعت العصابة على عينيه، أو كيف نقل إلى المستشفى. يتذكر فقط ذلك الاعتصام الطويل أمام البنايات المسيجة بالعساكر والبوليس. النداءات القوية، الصرخات العنيفة، الغضب الموتر كالقوس وأحلام الوطن المجهضة. حين سقطت الهراوة المدببة على وجهه، تلقف تجاعيده للتو وتلمس دمه وركض. انطفأ النظر، وكانت أقدامه ترتمي تفر منه تخترق الجدار المظلم الأحمر ترتعش العصافير تنتفض في خلاياه، يتشنج، تهم، تنطلق، ينزلق فيها الرصاص وينهار على وجهه.

الحذاء الذي راح يستيقظ على إيقاعه كان أول شارة للانتباه إلى الخارج من عالمه المظلم. كان الظلام في البدء مصحوبا بحالات الغثيان وهذيان الأرق وأورام الحلم المدمى، وكان إيقاع الحذاء عنيفا يرافق الكوابيس الساهرة في دمه. ثم صار الإيقاع صديقا ينتبه إليه يخبره بمحالات الهدوء والهيجان، بالهدنة والعنف- المرأة تركض فارة.. المرأة يتردد الخوف في خطواتها.. تلتفت إلى الخلف خشية المطاردة – يوما بعد يوم صارت الخطوات عادية وهادئة.. يتنفس في عمقه.. يهتف: «ها قد هدأت الأوضاع..!».

لم يكن ليتردد عليه أحد في غرفته، وحدها الممرضة كانت تدخل عليه، تحمل له الأكل أو تغير له العصابة وتضع الأدوية. لم يكن يرى شيئا ولم يكن منتبها إليها… يوما بعد يوم راح يعرف أن للغرفة نافذة، وأن أسفل النافذة شارع، وأن امرأة ما في الصباح الباكر تعبر الطريق حتى يسود الصمت. صارت تعده الآن بان تمر، فينتظرها ويبدد صوت حذائها عنه الملل ولعنة الظلام. ثم راح يتخيلها.. ندية الملامح، ساحرة النظر، خفيفة الحركة. فتاة طيبة تحمل حقيبة يد أو كراسات عمل.. ينتظرها، يرتج داخله الصوت.. تأخرت هذه المرة.. حدث لها شيء ما.. ربما كانت الأوضاع مضطربة فتسللت من مكان آخر أو… صارت العصابة تطارده. يود انتزاعها فتخور عزيمته. ثم يسأل الممرضة إن كانت الحالة ستطول؟ هل يمكنها أن تفتح النافذة وتطل إلى الخارج وتحدثه عن المرأة حين تمر أسفل الشارع؟! كيف شكلها؟ ما لون عينيها؟؟.. لكن الممرضة كانت تنظر قليلا عبر النافذة وتقول: «لا أحد في أسفل الشارع.. ربما مرت قبل الآن.. حين ستشفى سترى بعينيك…»

لكنه الآن وقف خلف النافدة، وأحس برعشة الضوء على وجنتيه. الهواء المنعش يتسلل عبر المسامات، والعصافير الصغيرة ترف.. تصدح.. يتراءى له الضوء البنفسجي عبر العصابة.. يسمع الخطوات المرتلة، يطل، تتوقف الخطوات أسفل الشارع… إنها ترفع رأسها إليه. يفرج لها عن ابتسامة صافية، يلوح لها بيده، يمدها في العمق، يداعب جلده النسيم العطر. تملأ صدره نعومة الأنوثة فيها، ثم تتحرك الخطوات من جديد، يهتف لها: «بعد غد أراك» ويظل ينظر إليها من عمق العصابة المظلمة، يرشف القهوة يتلذذ، ويرى الشوارع هادئة والأطفال يلعبون في الحدائق المخضرة بالحلم والفراشات.

يسامره وجهها.. يطول السهر الدافئ، تتعانق صباحات أخرى وتطرق اليد النحيفة باب الغرفة من جديد.. يرسم ابتسامة مسبقة ويقف. ينطلق صوتها خفيفا نم وراء ظلمته:

- تعالى معي

- ستنزعون العصابة عن عيني؟

- أجل.. وينفرج صمته وترف في داخله الكلمات:

- إنها ستمر بعد قليل .. ربما سألحق لأراها..!

وتمسكه الممرضة من يده وتحمله خارج الغرفة.

كان معبر الممر إلى غرفة الفحص قصيرا.. أجلسته الممرضة على كرسي وربتت على كتفه منحنية عليه وهامسة:

- سأذهب من أجلك إلى النافذة وأراقبها حين تمر. ابتسم بشافية الفرح الغامض في صدره، ثم شعر بيدي الطبيب تمسكان برأسه وترفعانه قليلا إلى أعلى.. كان ملمسهما خشنا تلك اليدين، وتساءل في صمت إن كانت فعلا، أم أن إحساسه بالخوف هو الذي أوحى له بذلك … لكنه هتف «الضوء.. الضوء..!» وكانت العصابة تنزاح ببطء وتتقلص معها مساحة الخوف والظلام. مرر الطبيب يده أمام وجهه. كان يرى تلك اليد التي تتحرك، وعبرها يظهر وجه الطبيب باهتا وبلا تعابير. أدار وجهه في الغرفة. كان كل شيء فيها يبدو واضحا. الأدوات الحديدية الملتمعة، وبعض الأواني المجلوة البياض. سرير الفحص بأحزمة متسخة وبعض بقع دم جافة أو تكاد تكون طرية. ثم وجه الطبيب من جديد. وقف وابتسم بتصنع، بيد أنه كان متلهفا على موعده مع امرأة انتظرها طويلا قبل هذه اللحظة. هم يخرج ففاجأه صوت الطيبب:

- إنهم ينتظرونك عند الباب…

- من ؟!! … وانتفض صدره وهو يضغط على مقبض الباب ويفتحه.. كان أمامه رجلان شديدا النظرات.. أمسكاه من الجانبين فبدت قبضتهما عنيفة وصلبة. انتفض وسطهما دون جدوى، فقد راحا يجرانه بعنف. وطق كعب حذائها في أذنه وسمع الخطوات من جديد.. التفت إلى الخلف فلاحت له في البعد ممرضة تقف صامتة. سألها قبل أن يدخلوه في ممر آخر.

نظرت إليه بصمت ثم جاء صوتها جافا:

- لقد مضت …

ثم قذف به الرجلان نحو أدراج تنزل نحو دهليز مظلم عميق.



:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
قديم 09-10-2017, 08:20 PM Dadi غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [10]
Dadi
عضو برونزي
 

Dadi is on a distinguished road
افتراضي

أمسية شعرية
اقتباس:
انتصب المنبر الأخضر الداكن في زاوية القاعة كصخرة عتيقة نامت نصف الدهر في بركة ماء قديم. وأحاطت به الكراسي كخطوط البصمات، وعلى الجدران وضعت تلك الستائر السوداء التي أعطت للقاعة عمقا لا محدودا إلى أن اشتعلت الأضواء.. دخل الرجال واصطفوا في المقاعد الأمامية، بينما تسللت النساء إلى الكراسي الخلفية على الطريقة الإغريقية في مسرح قديم. كان الشعراء يخرجون من خلف الستائر واحدا واحدا ويحتلون مقاعدهم إلى جانب النساء في انتظار أن يعبروا إلى المنبر بالتناوب.

اشتعلت ضوضاء قليلة ثم انطفأت مع نزول الضوء الذي أعطى شاعرية للمكان. ثم سقط قرص ضوء على المنبر أنار وجه شاعر لم يلحظه أحد من قبل.. طلعت تصفيقات متنافرة ثم نزل الصمت كعزف موسيقى. بدا الشاعر مرتبك الوجه متعب الملامح. مرر يدا على جبينه وحنحن بصوت خجول، ثم رفع اليد ثانية بعيدا عن وجهه قليلا ليسقط ظلها على عينيه. حدق في القاعة دون أن تسقط اليد أو يرتفع الصوت. بدت اللحظة كمشهد قديم. قرص الضوء شمس حارقة واليد تحية للموت. تفصد الجبين عرقا وبدأ الشاعر يبكي.. حين تجلى له المدى صحراء.. قال أبياتا والقصيدة لحظة ميلاد.. لكن حين تمثل له الموت نادى على الناس أن يؤبنوه.. ارتفعت التصفيفات غامت القاعة. مر الشاعر إلى الخلف وتعاقب بعده الشعراء على نفس المنبر الأخضر الذي شحب كثيرا في الزاوية القصية.. تحول صخرة حقيقية وعتيقة استيقظت من عمق نهر قديم. مر الشاعر الأخير مكشوفا بقرض الضوء.. انتصب من خلف الصخرة نادى على عازف، فظهر في الزاوية المقابلة العازف يحمل الناي. كان هو نفسه الشاعر الأول.. مر من بين الصفوف ثم انزوى في عقم القاعة الخلفي. كانت الستائر السوداء التي أخفت جدران القاعة تنزاح ببطء وترتفع. ظهرت من خلفها مرايا كسرت شكل القاعة.. ارتفعت ضوضاء.. بدا الناس من حول الشاعر دوائر. ارتبط الشاعر في الوسط، تلفت من كل الجوانب؛ من حيث ما نظر كان الرجال يحيطون به، يرسمون حوله المتاهة. اضطربت القاعة.. بحث الناس عن وجوههم في المرايا، رأوها مغمورة بالفزع. الشاعر امتص خوفه وراح يرفع الصوت، لكن الرجال ظلوا مرعوبين من وجوههم.. انتفضوا كالدجاج المذبوح. بدت القاعة كالساحة الموبوءة.. ارتفعت زغاريد النساء، صوتهن الدائري يحيط الساحة والرجال.. قال الشاعر: القصيدة هذه الحرب.. لكن الناس بحثوا عن مسالك القاعة وانقذفوا إلى الخارج. لحقت بهم النساء بصوت ينوح وبالبكاء تحطمت الكراسي.. تحولت القاعة كالخرائب، وظل وحده الشاعر الأخير ساهما فيها ينظر في الأضواء ويسمع تلك الموسيقى التي ظلت تولد من ثنايا المكان. مرت لحظات، فدخل بعض الرجال بالأثواب الرثة وبدأوا يكنسون القاعة.



:: توقيعي :::
Your whole argument is >muh westrin valus

There's no God But ALLAH
رَدك جيدٌ؟ سأرد عليه.
  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
المجاني, الليدي, الهواس, البيضاء, غبي, قصص


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
التجزيئية في المجتمع العربي ـ نازك الملائكة كتاب مهم للتحميل المجاني غيورغي ساحة الكتب 0 03-03-2018 08:56 PM
كيف يمكن أيصال اجور الأيدي العاملة الى ما يقارب الصفر؟ جريثم اللحيان الساحة الاقتصاديّة 凸 37 01-03-2017 07:42 AM
الليدي غوديفا زوجة الحاكم الظالم ليو فريك! ابن دجلة الخير ساحة الشعر و الأدب المكتوب 0 03-14-2016 08:13 AM
رسالة عبد الله بن إسمعيل الهاشمي إلى عبد المسيح بن إسحق الكِنْدي يدعوه بها إلى الإسلا مُنْشقّ حول الإيمان والفكر الحُر ☮ 4 07-31-2015 01:59 PM
المجاهد الإلكتروني الذي خرب ويكيبيديا الإنجليزية Lucifer العلوم و الاختراعات و الاكتشافات العلمية 6 02-14-2015 09:43 PM