محمد يدعو عشيرته في مكة
توقعت لما كلفني فخامة الله شرف نقل الوحي لمحمد أن يأمره جل جلاله بالإعلان عن أمره، غير أن هذا هو ما لم يحدث. تصوروا أن الله الخالق بجلالة قدره يقوم هذه الأيام بمخاطبة مخلوق دقيق على ذرة غبار تسبح تائهة في سماء الله الواسعة ولا يعرف بهذا الحدث الجلل أحد سوى زوجته خديجة وصديقه المقرب أبي بكر مع قلة معدودين لا يجاوزون عدد أصابع أحدكم (أصابعي لا تصلح للتمثيل بها لأن عددها يقدر بعشرات الآلاف) كانوا يجتمعون في دار أبي الأرقم وهم دون الثلاثين. كان هذا بالنسبة إلي أمرا مخزيا فوق ما أطيق! وكنت كلما أردت أن أفتح الموضوع في إحدى مقابلاتي مع الله أسكتني بقوله "ليس الآن يا جبريل، ليس الآن"، حتى يئست أخيرا وظننت أن الله يريد أن يميت محمدا ودينه لما ينتشر أبعد من زوجته وحفنة أصدقائه. ثم إذا بالله يفاجئني بعد ثلاث سنوات بأن لحظة الإعلان قد حانت. وقد فهمت الأمر فيما بعد، ذلك أن صحابة محمد كانوا قليلي العدد فخاف الله عليه من بطش قريش كما صنع قوم عيسى به وصنع غيره من الأقوام، وآخر ما يود ربي العليم الخبير الرحيم هو تكرار أغلاطه الماضية دون أن يتعلم منها.
نزلت من فوري إلى محمد أطير عبر السماوات والمجرات حتى بلغت محمدا وهو يعتكف في غاره فقرأت عليه قول الله: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لله". وفي اليوم التالي نادى محمد قومه إلى مؤتمر عام فأقبلوا واجتمعوا وقالوا له: " ما لكَ يا محمد؟"، قال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟"، قالوا: "نعم أنت عندنا غير متهم وما جربنا عليك كذبا قط"، قال محمد: "فإني نذير لكم بين يديْ عذاب شديد، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة - حتى عدد الأفخاذ من قريش - إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله"، فقال عبد العزى بن عبد المطلب (والذي كني لاحقا بأبي لهب): "تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟"، فما كاد يقولها حتى تزلزلت الأكوان زلزلة عظيمة أحست بها الوحوش والجن وكل كائن إلا البشر ورحت ألعن الساعة التي بعثت بها إلى محمد، وتركت الملأ وطرت إلى السماوات قاصدا العرش. وهنالك رأيت الله يستشيط من الغضب في منظر مروع ما أذكر أني رأيت مثله من قبل قط، وكان يتمتم في عصبية وقد اكتسى بالحمرة من الغضب: "تبت يدا أبي لهب وتب.." إلى آخر السورة. بقيت مع الله عدة دقائق وأنا أحاول أن أهدئ من روعه وأخفف عنه وأؤكد له بأن ترليونات الكائنات التي خلقها أحق برعايته من أن يشغله عنها صعلوك حقير لا قيمة له كأبي لهب، ولكنه أمرني أن أتركه وأنزل الساعة فأوحي سورة أبي لهب إلى محمد، كما أصدر الله مرسوما إلهيا يقضي بتغيير اسم عبد العزى إلى أبي لهب. ولكم رغبت أن أثني الله عن فكرته لأني رأيت أن إفراد سورة خاصة لهذا الصعلوك التافه تخلد ذكره في كتاب الله الخالد المقدس يعطيه قيمة أكبر مما يستحق فعليا، ثم ألجمت نفسي لما أقنعتها أن الله محق في مشاعره تماما. ضع نفسك مكانه وتصور أنك خلقت كل هذا الكون الواسع المعجز المذهل وخلقت لهم جنة عرضها السماوات والأرض ثم أرسلت إليهم رسولا من عندك يدلهم على طريق هذه الجنة، ماذا سيكون موقفك إذا جاءتك حشرة حقيرة لا قيمة لها تتكبر على كل هذا التفضل وكل هاته النعم؟ ألم تكن لتستشيط غضبا إلى حد الجنون؟ لو كنت أنا نفسي مكان الله لجن جنوني من هذه الإهانة الصفيقة التي لا تحتمل، وكفى بالله حلما وصبرا أنه لم يمت أبا لهب من فوره وتركه هو وزوجته يعيشان ويؤذيان النبي حتى ماتا ميتة طبيعية وفي وقتهما المتوقع.