هناك واحدة من المغالطات المنطقيّة المنتشرة عند البشر،و هي حين
نجد شخصا صادقا و صريحا فإنّنا نعتقد أنّه يملك و يقول الحقيقة
و بهذه الطريقة يعتقد الطفل في الأحكام التي يأمره بها والديه و بهذه
الطريقة يعتقد المسيحيون في الأحكام التي تأمرهم بها الكنيسة
فريدريك نيتشة/ إنساني..إنساني جدّا/1878
النبيّ المخلوع:
هناك شخصيّة مرتبطة بشخصيّة يسوع منذ البداية و هي شخصيّة يوحنّا المعمدان، ندّ يسوع و ليس بينهما في العمر سوى بضعة شهور.
يوحنّا المعمدان، شخصيّة تاريخيّة مؤكّدة، ذكرها يوسفيوس فلافيوس في كتابه تاريخ اليهود ’’1’’ و روى لنا قصّة موته التي تختلف عن رواية الأناجيل، و طبعا [عن قصّة وفاته] فنحن نصدّق فلافيوس الذي اختارته روما مؤرّخا رسميّا لها بسبب جديّته ودقّته، و قد اتّبع يوحنّا اليهود و اعتبروه نبيّا و كان يقوم بالتعميد.[كما تذكر الأناجيل أيضا]
و الراجح أنّ يوحنّا المعمدان [اسمه يحي في القرآن] كان من الأسينيّين، حيث نرى بعض الإشارات المتفرّقة عنه في الأناجيل التي تجعلنا نستنتج ’’أسينيّته’’، [لوقا 1، 80:أمّا الصبي فكان ينمو ويتقوى بالروح وكان في الصحراء الى يوم ظهوره لاسرائيل]و قد كانت اليهوديّة في ذلك الوقت منقسمة إلى ثلاثة مذاهب كبرى:
1-الفريسيّون: و تعني ’’المنشقّون’’ [ظهروا تقريبا سنة 150 قبل الميلاد ] و هم يعتقدون بوجوب تطبيق التوراة و تطبيق السنّة الشفويّة أيضا، [يشبهون تقريبا المذهب السنّي في الإسلام] و يؤمنون بالبعث و الحساب و الملائكة، و يسمّيهم يسوع - حسب الإنجيل- ’’المنافقون’’ : هكذا انتم ايضا تَبدون في الظاهر للناس ابرارا ولكنكم في دواخلكم مشحونون رياء واثما. [متّى 23، 28] و قد كانوا يطبّقون التعاليم التوراتيّة و السنّة بحذافيرها، حدّ التطرّف.
2-الصدوقيون: و تعني [على الأرجح]’’أبناء صادق’’ [ظهروا تقريبا بدايات القرن الثاني قبل الميلاد] و هم يعتقدون بوجوب تطبيق التوراة فقط و يرفضون التعاليم الشفويّة، و بالتالي فهم لا يؤمنون بالبعث و الحساب لأنّها غير موجودة في التوراة، و يرون أنّ الله يحاسب الإنسان في حياته و ليس بعد موته، و قد ذكرهم يوسفيوس فلافيوس [تاريخ اليهود، 13، 297 ] و على الراجح أنّ هذا المذهب هو الذي كان موجودا في يثرب، حيث نرى القرآن يدخل في جدال معهم حول البعث، إذ يقولون: وكانوا يقولون ائذا متنا وكنا ترابا وعظاما ائنا لمبعوثون ؟ [الواقعة، 47] و إن ذهب المفسّرون إلى أنّ الآيات التي تتحدّث عن منكري البعث تشير إلى مشركي مكّة، فإنّي استبعد هذا الأمر، حيث لا نملك دليلا على إنكار أهل مكّة للبعث، بينما من الراجح جدّا أن يكون القرآن يناظر هؤلاء الصدوقيّين.
3-الأسينيّون: و يمكن أن نسمّيهم تجاوزا ’’المعتزلة’’ [ظهروا في بدايات القرن 2 قبل الميلاد] حيث اعتزلوا الحياة الإجتماعيّة في فلسطين، و عاشوا في الصحراء عند قمران قرب البحر الميّت، و كانوا يطبّقون تعاليم التوراة بدقّة، و لهم جانب روحيّ متطوّر، و منهم يوحنّا العمدان [يحي] و قد ذكرهم فيلون الإسكندري، و بلين القديم، و يوسفيوس فلافيوس، و على الأغلب أنّهم كانوا يسمّون أيضا في زمن يسوع: ’’النصارى’’ أو ’’النصرانيّين’’ Nazarenes
-----------------------------------------------------------------
أفتح قوسا عن ’’النصارى’’:
المسيحيّون هم غير النصارى، رغم أنّ التسمية الإسلاميّة الحاليّة - اعتمادا على القرآن- تسمّي جميع المسيحيّين ’’النصارى’’، و النصارى مذكورون عند بلين القديم [في كتابه الخامس، التاريخ الطبيعي] و يشير إلى وجودهم سنة 50 قبل الميلاد في نواحي سوريا، كما أنّ Epiphane في القرن 4 ميلادي يشير إلى وجود النصارى قبل مجيء المسيحيّة، و يشير أيضا قائلا في كتابه ضدّ الهرطقات: المسيحيّون كانوا معروفين جميعا باسم النصارى، حيث يذكر التلمود المسيحيّين دائما بالنصارى ’’2’’
لكن فيما بعد تمّ فصل التسمية بين ’’المسيحيّين’’ [الذين بدؤوا عهدا جديدا] و بين ’’النصارى’’ [الذين ظلّوا محافظين على التعاليم اليهوديّة] ، و قد صار هذا الفصل واضحا و معروفا، كما نرى في نقش كارتر الفارسي الذي يعود إلى القرن الثالث ميلادي: أنا، كارتر، (...) طردت مذاهب أهرمان و الشياطين من المملكة، و قضيت على اليهود و البوذيّين و البراهمة و النصارى و المسيحيّين والمندائيّين و الزنادقة [الزنادقة=المانويّين] ’’3’’ [أهميّة هذا النقش تكمن في ذكره للديانات أو المذاهب المتواجدة وقتها]
من الواضح أنّ القرآن استعمل التسمية التلموديّة للمسيحيّين: ’’النصارى’’
أغلق القوس
------------------------------------------------------
و يوجد مذهب رابع يسمّى ’’الثائرون’’ و هو حركة سياسيّة أكثر منها دينيّة، و سنتعرّض له لاحقا لأنّ له علاقة وطيدة بيسوع.
إذن فإنّ يوحنّا المعمدان كان من الأسينيّين النصارى [النصارى من الجذر العبريّ: نذر أو حرس أو راقب]و كان يوحنّا يقوم بتعميد كلّ اليهود: حينئذ خرج اليه اورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالاردن. واعتمدوا منه في الاردن معترفين بخطاياهم [متّى3، 5-6] و قد جاء يسوع أيضا إلى يوحنّا ليقوم بتعميده: حينئذ جاء يسوع من الجليل الى الاردن الى يوحنا ليعتمد منه [متّى3، 13] و هذه مشكلة، فكيف ليسوع المسيح ابن الله، المولود من عذراء، الموجود منذ الأزل، أن يذهب ليتعمّد عند يوحنّا و يتخلّص من خطاياه؟ و هل للمسيح خطايا؟
لذلك قام كتبة الإنجيل بتقزيم يوحنّا المعمدان و تقويله كلاما يأنف من قوله، و يصبح يوحنّا ليس أهلا حتّى لحمل حذاء يسوع: انا اعمدكم بماء للتوبة.ولكن الذي يأتي بعدي هو اقوى مني الذي لست اهلا ان احمل حذاءه... [متّى3، 11] و يجعلونه يقول أيضا حين جاء يسوع يطلب التعميد: ولكن يوحنا منعه قائلا انا محتاج ان اعتمد منك وانت تأتي اليّ. [متّى3، 14] أي أنّ يوحنّا طلب من يسوع أن يقوم بتعميده و ليس العكس، و هذا الأمر أسقطهم في التناقض، فمن ناحية يقولون أنّ يوحنّا شهد ليسوع: فجاءوا الى يوحنا وقالوا له يا معلّم هو ذا الذي كان معك في عبر الاردن الذي انت قد شهدت له هو يعمد والجميع يأتون اليه.[يو3، 26] و أنّ يوحنّا لا شيء أمام يسوع، و أنّه اعترف به، و من ناحية أخرى يقولون: أمّا يوحنا فلمّا سمع في السجن باعمال المسيح ارسل اثنين من تلاميذه. وقال له انت هو الآتي أم ننتظر آخر.[متّى11، 2-3] فيوحنّا لم يكن يعرف من هو يسوع حتّى أنّه أرسل إليه بعض تلاميذه، فكيف شهد ليسوع من قبل، بل و أراد أن يعتمد هو نفسه بيد يسوع؟
العكس هو الذي حدث، فيسوع كان من تلاميذ يوحنّا الأسينيّ النصرانيّ، لذلك تمّت تسمية يسوع بالنصرانيّ أيضا من طرف اليهود، لأنّه يتبع مذهب يوحنّا، بل أنّ يسوع يكرّر كلام أستاذه، فيوحنّا يقول: توبوا لانه قد اقترب ملكوت السموات [متّى3، 2] فيقول يسوع أيضا في وقت لاحق: توبوا لانه قد اقترب ملكوت السموات [متّى4، 17] و يوحنّا يقول: فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار. [متّى3، 10] فيقول يسوع أيضا في وقت لاحق: كل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار [متّى7، 19] فيسوع كان من تلاميذ يوحنّا، و الذي لم يعترف به أنّه المسيح، لأنّ المسيح يجب أن يقدّمه النبيّ و يعلن عنه بأمر من الله، كما أعلن النبيّ صامويل عن داود الملك المسيح، و الملك داود المسيح هو: قال لي انت ابني.انا اليوم ولدتك اسألني فاعطيك الامم ميراثا لك واقاصي الارض ملكا لك.[مزمور2، 7] فالمسيح هو الذي سيعيد عرش و ملك داود و إسرائيل، و النبيّ في عصر يسوع هو يوحنّا، لكنّه لم يعلن عن يسوع، بل تساءل فقط، ممّا دفع يسوع إلى أن يشهد بنفسه على نفسه بأنّه المسيح [و هذا خارج التقاليد اليهوديّة] حيث قال: ثم كلمهم يسوع ايضا قائلا انا هو نور العالم.من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة. [يو8، 12] فأجابه اليهود قائلين: فقال له الفريسيون انت تشهد لنفسك شهادتك ليست حقّا [يو8، 13]
يوحنّا المعمدان تخلّى عن يسوع، لم يشهد له، لم يعلن أنّه المسيح، و من الممكن أنّ آخر كلمات قالها يسوع على الصليب: إيلي، إيلي، لم تركتني؟ يقصد إيليا أي يوحنّا المعمدان حيث أنّ بعض الحاضرين قالوا: ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا ايلي ايلي لما شبقتني اي الهي الهي لماذا تركتني. فقوم من الواقفين هناك لما سمعوا قالوا انه ينادي ايليا [متّى27، 46-47] و قد كتبها متّى هكذا: ηλι حيث ترجمها حرفيّا من الآراميّة [و هو الأمر الذي فهمه الحاضرون أنّه يتحدّث عن إيليا حين صرخ يسوع] أمّا إيليا النبيّ فهو يكتبه هكذا: ηλιας بصيغته اليونانيّة: إلياس:
متّى 11، 14: και ει θελετε δεξασθαι αυτος εστιν ηλιας ο μελλων ερχεσθαι
و في هذه الآية فيوحنّا هو نفسه إيليا بشهادة يسوع، حيث أنّ ترجمتها إلى العربيّة : وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو ايليا المزمع أن ياتي.
لقد اعترف يسوع بيوحنّا على أنّه إيليا، و أنّه النبيّ، لكنّ يوحنّا لم يعترف بيسوع على أنّه المسيح و الملك الذي سيعيد عرش إسرائيل، و كأنّي بالحزن بقي في قلبه، فكانت تلك آخر كلمات قالها قبل موته: يوحنّا، لماذا تركتني؟
و عند هذه النقطة، فلكي يقول يسوع هذا الكلام، و يعتبر نفسه المسيح، لا بدّ أن يكون من نسل داود حقيقة و ليس معنويّا كما تشير الأناجيل، و إلاّ ما جرؤ يسوع كيهوديّ على قولها، و هنا سنبحث عن رجل في تلك الفترة من نسل داود كان له 12 صاحبا و طالب بالملك، و تمّ صلبه، و هذا الشخص ذكرتْه المصادر التاريخيّة، و هو الذي سنتعرّض إليه في الفصل القادم.
يتبع......................
1-[ Antiquités judaïques, XVIII, V, 116-119]
2- [ Gerard Mordillat/Jesus contre Jesus/ص 25 /Seuil/باريس/2008 ]
3- Mani et la tradition manicheene/francois decret/ص 25/باريس/2005