الجزء الثاني :
ان الانسان الشرقي, بحكم قدره الطبيعي , يتواجد بمناطق تعرف ارتفاعا في درجة الحرارة وتنال كمية من الدفئ أكبر بكثير مقارنة مع العالم الغربي طيلة السنة , ولهذا فان النشاط الجنسي (الذي يرتبط بعدة عوامل منها حرارة الوسط) يكون عموما مرتفعا عند الانسان الشرقي مقارنة بالإنسان الغربي .
وهذا ما يفسر العدد الكبير المفرط لزوجات ملوك الشرق عبر التاريخ (حريم السلطان الفارسي أو العربي أو العثماني). الطاقة الجنسية الشرقية اذن طاقة مهولة. كان لا بد لهذه الاستثارة شبه الدائمة التي يعرفها الانسان الشرقي من أن تشبع أو تكبت , وقد كانت في وقت سبق تشبع بتعدد الزوجات و المملوكات من الحروب و الأسواق .
لكن مصادر الاشباع تلك انقطعت عن الانسان الشرقي المعاصر: لم تعد هنالك إمكانية (أو على الأقل صار من الصعب) للعبودية , كما و شكلت الصعوبات المادية المتضخمة باستمرار عائقا أمام تعدد الزوجات . وأذكر بأننا نتحدث هنا عن الانسان الشرقي المعاصر , لا ذاك الذي كان بالأمس , ولا زال اليوم, ينكح أربع زوجات في البادية ويخلف منهن 20 ولدا بلا أي حرج (هذا الأخير أيضا تأثر بمستجدات العصر ). الانسان الشرقي المعاصر , انسان المدينة لا القرية , انسان واع بضروريات العصر في مجتمعاتنا(التعليم , الصحة , الاجازة , الملبس والمأكل , المنتوجات التكنولوجية , الأنترنت ,...) و يضرب ألف حساب لدخله و حجم نفقاته , ويرغب في ضمان مستقبل آمن لأولاده . ثم ان هذا هو مربط فرسنا منذ البداية , أما قلنا أن الذي يهمنا هو مجتمعنا اليوم ؟ ذاك المجتمع الذي يضم أسرتي وأسرتك , ذاك المجتمع الذي , وان بلغ درجة من التعلم و الانفتاح على العالم , ظل يملك تلك الحساسية الجنسية المفرطة كخاصية مميزة .
مع جفاف منابع الاشباع لتلك الطاقة المهولة , اضطر الانسان الشرقي المعاصر الى كبت حجم مهم منها , واكتفى بزوجة واحدة في المتوسط , هي بعيدة كل البعد عن إرضاء تلك الطاقة الشرقية المهولة . هكذا صارت مساحة كبيرة من نفسية الانسان الشرقي المعاصر مكبوتة . لكن هذا العالم المكبوت , وبطبيعته , يقاوم الكبت , ويسعى جاهدا للصعود نحو الأفق من جديد , ويتحين الفرصة لتحقيق ذلك , وفي فرص كثيرة يتأتى له ذلك , عبر ما يسمى بالخيانة الزوجية (أو الزنا) التي تعرف معدلات كبيرة في مجتمعاتنا .
أما الذين ينجحون في الحفاظ على المنطقة مكبوتة , فذلك بفضل طوق الرقابة القوي الذي يحيطونه بها . ويتمثل هذا الطوق في عدم ترك أية فرصة لتلك المكبوتات بالصعود نحو الأفق , وبالتشدد في نظام الحماية الذاتي ذاك . وهذا النظام المفروض من طرف الأنا على الهو هو المسؤول عن تلك الحساسية الجنسية المفرطة.
ان الحديث عن الجنس , بالنسبة للإنسان الشرقي المعاصر ,هو بمثابة ايقاض لمكبوتات , بل ان كلمة "الجنس" نفسها تستثير فيه نزوات مكبوتة , فما بالك بالخوض في حديث أعمق بخصوصه . ان الحديث عن الجنس هو لمس لجرحه كما يقال , ذلك الجرح الذي يسعى جاهدا الى نسيانه . ولهذا تجده يضع الجنس في ذيل قائمة مواضيعه , بل وينفيه منها أصلا . وكلما دخلت معه في نقاش حوله وجدته يحاول جاهدا تبديل الموضوع , يعلو التوتر محياه , وتضطرب أنفاسه : ان إشارة الخطر اشتعلت داخله .
هكذا من الطبيعي أن لا نجد تلك الحساسية المفرطة عند الانسان الغربي لأن الجنس عنده , وبكل بساطة , ليس في نطاق المكبوتات. فبالإضافة الى طاقته الجنسية المتواضعة مقارنة مع الانسان الشرقي , لديه من المنابع ما يكفي للإشباع الكلي أو شبه الكلي لها (العلاقات الجنسية الحرة) . عند هذا الأخير , الجنس ليس جرحا منسيا أو متناسى .
لماذا لم يلجأ اذن الانسان الشرقي المعاصر الى حد الآن الى تحرير العلاقات الجنسية لاشباع تلك الطاقة المهولة ؟ لماذا ما يزال يرفض المثلية و الزنا ؟ ما الداعي الى استمرار الكبت ؟هذا هو السؤال المحوري. السؤال الذي ينبغي أن نجيب عنه بإيجاد دوافع نفسية بعيدة كل البعد عن الدين. وينبغي لهذه الدوافع , اذا ما وجدت , ولا شك أنها موجودة , أن تكون ميزة الانسان الشرقي المعاصر , ولا تتواجد عند الانسان الغربي المعاصر.
حقا ليس من السهل الإجابة إذا ما منعنا أنفسنا من الاستنجاد بالدين.
يتبع ...
|