البُستان التطوريّ {7}: تطور الحُمُّص والعدس
يمتلك هذا الموضوع الجديد من سلسلة " البُستان التطوريّ " شيئاً مُختلفاً عمّا حدث في المواضيع السابقة والمنشورة حتى الآن، فلأوّل مرّة سنتناول الحديث حول نوعين لا نوع واحد، بذات الوقت. وهذا يحصل لسببين:
السبب الأوّل: لم تكن التغيرات التي مرّ بها كلا النوعين شديدة كالتغيرات التي رأيناها في نباتات سابقة.
السبب الثاني: يشكلان نوعان مُتعارضان بشكل لبق فيما بينهما.
يمكن ان نُضيف سبب ثالث: فقد حان الوقت للتكلُّم عن القطّانيّات { الحبوب التي تُطبخ كالعدس والحمّص والفول واللوبياء .. قاموس المورد اسباني عربي }!
العدس والحمّص، اضافة للفاصولياء، الصويا، البازلاء، الفول وغيرها: تشكّل نباتات تنتمي الى عائلة القرنيّات Leguminosas، وهي مجموعة ناجحة تشغل الترتيب الثالث في عدد انواعها بين كاسيات البذور angiospermas { النباتات الزهريّة }، وتأتي بالضبط خلف السحلبيات orquídeas { فصيلة نباتيّة من وحيدات الفلقة منبتها الاقاليم الحارة .. قاموس المورد اسباني عربي } و المُركّبات compuestas { فصيلة نباتية من ذوات الفلقتين وحيدة القُعالة سفليّة الاسدية تُعتبر من اكبر الفصائل النباتية .. قاموس المورد اسباني عربي }. ليس صدفة ان نعثر على 20000 نوع تقريباً حتى الآن ضمن 700 جنس. من الامور المثيرة أنّ قطانياتنا المُدجّنة قد سارت في خطّ شبيه بخطّ بقولياتنا { قمح، شعير، ذرة وأرز } خلال عملية تدجينها، ما يجعلها مفيدة لنا انطلاقاً من وجهة نظر اصول نباتيّة وتطوريّة.
الى اليسار حفنة من العدس،الى اليمين حفنة من الحمّص
تمتلك مجموعة القرنيات اسماء كثيرة، فهي تسمى قطانيات واصلها اللاتيني «lĕgūmen» عبارة عن مصطلح معناه " الذي لا يتغيّر بمرور الزمن ". ايضا تكون معروفة تحت اسم fabáceas القادم من المصطلح اللاتيني «faba»، وهي كلمة ما تزال مُستخدمة لليوم في شمال الجزيرة الايبرية للدلالة على الفاصولياء، مع انّه بالاصل قد أُطلِقَتْ كلمة «faba» الرومانيّة على الفول.
كما تسمى باسماء اخرى، احدها يأتي من المُصطلح اللاتيني «papilio» اي { الفراشة } وذلك بفضل شكل ازهارها الجميلة. تتكوّن تلك الازهار من 5 بتلات pétalos متموضعه بصيغة خاصة، اثنتان منها ملتحمتان جزئياً، حيث تغطيان اعضاء التكاثر بالزهرة وتشكلان ما يشبه القاعده quilla، بتلتان اخريتان حرّتان محيطتان بتلك القاعده هما جناحان alas، وبتلة اخيرة ذات حجم كبير تموج خلف البتلات الاخرى وتسمى الراية estandarte. بالتفافها حول القاعده، يكون لدينا اعضاء التذكير " الأسدية " androceo والتي تُحيط بدورها مجموعة اعضاء التأنيث في الزهرة، يتكوّن الجهاز الذكري من عشرةgineceo ± أسدية، والتي يمكن ان تكون كلها حرّة، كلها مُلتحمة فيما بينها أو كلها مُلتحمة ما عدا واحدة منها.
جدول اساسي لزهرة القرنيّات.كمثال لدينا نوع البازلّاء Pisum sativum L
يُعرف العدس المُدجّن الذي نتناوله في العالم الآكاديمي تحت اسم:
Lens culinaris ssp culinaris Meiken
انه نبات صغير ذو مظهر شجيريّ، يبلغ طول ساقه من 20 الى 30 سنتمتر. يمتلك دورة حياة سنوية، يمكن ان يشهد نموّ سريع، حيث يبلغ سنّ النضوج خلال فترة تمتد من 75 الى 100 يوم فقط. تُعطي ازهاره البيضاء الصغيرة بعروقها الزرقاء الاصل لظهور بذرة أو بذرتين رقيقتين بشكل عدسة. تكون تلك البذور غنيّة بالبروتين، الاملاح المعدنية { صوديوم، بوتاسيوم، حديد وزنك } وفيتامينات { بترتيب اهميتها: ب، ث، آ، ي و ك } وهي غذاء لا يُستغنى عنه. اضافة لانّه وبفضل احتوائها المُرتفع من الاحماض الامينية كالليسين lisina والتربتوفان triptófano، اذا تمّ جمعها بالقمح او بالأرز فإنها تُكمل احتياجاتنا الى الحموض الامينية الاساسيّة. { في منطقة شرق المتوسط يوجد أكلتان شهيرتان تُصنعان من البرغل والعدس، والارز والعدس، واسمهما الشعبي " مُجدّرة " وهما اهمّ تعبير عن صحيّة غذاء اهالي تلك المنطقة .. ودون علمهم بهذا طبعاً .. فينيق }.
يوجد اهتمام بالغ بزراعة العدس. فهو يُزرع بأكثر من 40 بلد، وقد بلغ الانتاج العالمي منه 3.8 مليون طن سنويا بين العامين 2004 و2006 { بحسب معطيات منظمة الفاو 2008 } وبمساحة مزروعه بلغت 4 ملايين هكتار. أهم ثلاث مُنتجين للعدس: الهند، كندا وتركيا، بينما اوروبا كاملة لا تُنتج بالكاد 1% من الانتاج العالمي من العدس.
نموذج من العدس Lens culinaris culinaris Medik
يشكّل العدس جنس نباتيّ قليل التنوّع حيث يتواجد، يكون مزوّداً في 7 ازواج من الكروموزومات (2n = 14، يتوزّع حول البحر المتوسط. الانواع البريّة التي تنمو في شبه الجزيرة الايبرية، هي: Lens nigricans { متوفرة نسبياً } و Lens lamottei { موجودة في قطاع المتوسط }، بينما في جزيرة مايوركا { جزر الباليار } نجد نوع Lens ervoides. Lens culinaris، النوع المزروع المُتاصِّل في المتوسط الشرقيّ.
تنوعات الجنس البرّي Lens وتوزعه الجغرافي في العالم
هنا يحضر سؤال حيويّ انطلاقاً من وجهة نظر تاريخيّة: ما هو السلف البريّ لعدسنا المزروع؟
كان اول شخص انطلق في البحث عن إجابة، هو عالمة النبات الروسيّة Elena Ivanovna Barulina، طالبة وزميلة ولاحقاً زوجة عالم النبات والوراثة الروسي Nikolái Ivánovich Vavílov. كانت تتركّز ابحاث العالم Nikolái Ivánovich Vavílov حول معرفة اصل وتطور نباتاتنا المزروعه.
تأسيساً على ميزات تشريحية، اقترحت العالمة Elena في العام 1930 بأنّ السلف البرّي للعدس Lens culinaris، هو المعروف تحت اسم Lens orientalis { اليوم معروف باسم Lens culinaris ssp. Orientalis } ذو اصل شرق متوسطيّ. وللآن كثير من الباحثين متفقين مع هذا الطرح. فلقد أثبتت دراسات البروفيسور Ladizinsky { سنتكلم عنه عند حديثنا عن الحمّص } بأنّه تمّ تهجين نوع L. culinaris مع نوع L. orientalis دون وجود اي مشكلة { بعكس ما حدث مع كل انواع الجنس Lens }. حديثاً، تمّ تأكيد هذا الطرح وبشكل متكرر بواسطة علم الاحياء الجزيئيّ biología molecular.
كيف تكون تلك النبتة؟ بخلاف النباتات الاخرى التي درسناها بهذه السلسلة، يكون نوع Lens culinaris ssp. Orientalis متطابق تقريباً مع نسخته المزروعة. يكون اقلّ حجماً فقط بعدد الوريقات في الورقة، في مساحة تلك الوريقات تغطي " شعيرات " اوراقها وسوقها، نادراً ما تُعطي ازهار بيضاء، تكون بذوها صغيرة جداً { حيث تكون الميزة الوحيدة التي تفرقها عن نسختها المزروعه في الطبقات الاثرية } ..الخ.
مثال دقيق لنوع العدس Lens culinaris ssp. Orientalis
يكون اسمه العلميّ Cicer arietinum L، عبارة عن نمط شجيري لا يتجاوز ارتفاع نبتته النصف متر, وتكون ثماره عبارة عن حبّات او بذور، تُحاط كلّ حبّة واحدة بسنفة { السِنفة هي وعاء حبّ البقل كالفول والعدس والحمص وغيرهم .. قاموس المورد اسباني عربي }. تمتلك تلك البذور قيمة غذائيّة عالية، انها غنيّة بالبروتين، الالياف، املاح معدنية { نحاس، منغنيز، حديد وزنك } والفيتامينات { بترتيب الاهمية: ب، ث، آ، ي وك }. وكالعدس، انها مًكمّل ممتاز للبقوليات.
يشكّل Cicer arietinum النوع الوحيد المزروع من جنسه. عبارة عن نبات يُزرع في 49 بلد. يبلغ انتاجه العالمي حوالي 8.6 مليون طنّ سنوياً { وفق معطيات منظمة الفاو 2006 } وتتم زراعته على مساحة قدرها 11.2 مليون هكتار. اهم البلدان المنتجة له، هي: الهند، الباكستان وتركيا، فيما تحتل اسبانيا الترتيب الحادي عشر بين الدول المُنتجة له. بكل الاحوال، بالكاد يشكّل الانتاج الاوروبي له ما نسبته 1% من الانتاج العالمي.
نموذج من الحُمُّص Cicer arietinum L
ينضوي تحت الجنس Cicer 44 نوع { 9 ذو دورة حياة سنوية و35 ذات دورة حياة دائمة } وتنتشر في جنوب غرب آسيا. يوجد في اسبانيا نوع بري واحد فقط من هذا الجنس ويكون مستوطناً. النوع هو Cicer canariense A. Santos & G. P. Lewis، عبارة عن عشبة دائمة تعيش في اماكن رطبة على ارتفاعات 420 – 1535 متر عن سطح البحر. انه نوع مستوطن حصرياً في جزيرتي لاس بالماس وتينيرفي { ضمن جزر الكانارياس }، مصنّف بكونه " سريع العطب " وفق كاتالوك الانواع المهددة بالانقراض في جزر كانارياس، وبحسب القائمة الحمراء الصادرة العام 2008 حول الازهار الوعائيّة الاسبانيّة.
نموذج من الحمّص البرّي المُستوطن في كانارياس Cicer canariense الموجود حصرياً في جزيرتي Palma و Tenerife
سنتبع ذات الخطوات مع العدس. ما هو أصل الحمّص؟ يأتينا أول الاجوبة من طرف البروفيسور Gideon Ladizinsky من معهد علم وراثة النباتات في الجامعه العبرية في القدس المحتلة. حيث تركّزت ابحاثه حول التغيرات التطورية التي اصابت النبتات خلال عملية تدجينها، وليس مصادفة ان يكون مؤلّف كتاب Plant Evolution Under Domestication المنشور في العام 1998.
بحسب البروفيسور ودراسات لاحقة تابعت خطواته، يكون السلف البري للحمّص المزروع، عبارة عن نوع نادر من الحمص البري والمُكتشف من قبل البروفيسور ذاته والموجود في تركيا حصرياً. اسمه العلمي Cicer reticulatum Ladiz. وذات الامر يحصل مع العدس، في الشكل العام تكون شبيهة كثيرة مع نسختها المزروعه.
ينمو النوع Cicer reticulatum في اراضي كلسيّة على ارتفاع 600-1500 متر عن سطح البحر، مشكلاً لجماعات منتشرة مختلطة مع بقوليات اخرى باراضي جافة تستقبل سنويا ما معدله 350 – 830 مليمتر من الامطار.
تمّ اثبات أنّ النوعين C. reticulatum و C. arietinum خصيبين فيما بينهما، ما يعني، أننا فيما لو نقم بتهجينهما سنحصل على متحدّر خصب وقابل للحياة، في الواقع يشكّل C. reticulatum النوع الوحيد الذي يمكن تهجين حمصنا المزروع معه بنجاح. مع ذلك، لا يحدث هذا التهجين بصورة طبيعية اطلاقاً، والصيغ الهجينية { حتى متى كانت الصيغ المزروعه والبريّة قريبة جداّ مكانياً } لا يُعثر عليها.
هذا يحصل لانّ كلا النوعين C. reticulatum كما C. arietinum، يشكلان نباتان ذوي تلقيح ذاتيّ بارز، اي انهما يخصبّان ذاتهما ويتم نشر غبار طلعهما عبر الرياح او الحشرات لاجل القاح ازهار اخرى. لهذا السبب يعتبر دارسي تلك النباتات، كما يمكننا رؤية هذا في المراجع، الحمص المزروع و " الحمص الشبكيّ " كنوعين مختلفين.
تفاصيل زهرة لنوع Cicer reticulatum Ladiz ، انها صورة من ضمن قليل من الصور التي امكنني العثور عليها لهذا النبات
متى بدأ تدجينه؟ كيف حدث ذلك؟ ليسا سؤالين سهلين. اول ما يمكن الاجابة عنه، هو أنّ التدجين قد مرّ بخطوات مختلفة بكلا النوعين. في جزء تبعاً لعدم انتظام توزعه الجغرافي، فمساحة توزع " العدس الشرقي " كبيرة، بينما يعيش " الحمص الشبكيّ " في تركيا ومناطق قليلة أخرى.
كما هو معتاد في هذه السلسلة، من جديد تقودنا آلة الزمن نحو منطقة الهلال الخصيب Creciente Fértil، هذا المكان الممتليء بالحياة منذ نهاية آخر الحقب الجليدية { منذ 11000 عام } من شرق المتوسط وصولاً الى مصر القديمة. ارض سابحة في النيل، نهر الاردن، دجلة والفرات، حيث عاشت نباتات سنوية وانتشرت بشكل متكرر. يُعتبر الهلال الخصيب مهد الحضارات في العالم القديم، والمكان الذي وُلِدَتْ فيه الزراعه. ونحن اليوم نتابع اسهامنا بتلك المغامرة.
خارطة الهلال الخصيب منذ ما قبل 13.000-11.000 عام
تظهر اوائل المؤشرات على استخدام العدس من خلال بذور متفحمة، جنبا إلى جنب مع حبيبات القمح والشعير البري، في طبقات العصر النيوليتي قبل السيراميكي في تل المرابط وتل ابو الحريري { الجمهورية السورية } وموقع Netiv Hagdud { فلسطين المحتلة } والتي تعود للفترة 9500-7200 عام قبل الآن. تمّ العثور على اكتشافات شبيهة في كهف Franchthi { اليونان } وفي Grotta dell’Uzzo { في صقليّة } حيث ينتمي العدس المعثور عليه بالتأكيد الى النوع المحليّ الوافر Lens nigricans.
اعتباراً من 7200 قبل الميلاد، يُصبح مألوفاً العثور على بذور متفحمة من العدس في اماكن عديدة من الهلال الخصيب. وبناء على صغر حجم تلك البذور { 2.5-3 مليمتر }، يكون مستحيلاً تحديد فيما لو كانت بريّة أو انها نتاج بدء زراعتها. فقط في وقت متأخّر، وفي طبقات العصر النيوليتي ما قبل السيراميكي في موقع يفتاح { شمال فلسطين المحتلة، يعود الى تاريخ 6800 قبل الميلاد } يبدأ العثور على بذور عدس " متلوثة " بنوع نباتيّ هو Galium tricornutum يصاحب بيومنا هذا النوع المزروع من العدس، ما يعني ان تلك الشعوب قد بدأت على الارجح بزراعة العدس منذ اكثر من 8000 عام، إثر ذلك التاريخ وبمرور 1000 عام تبدا زراعة القمح والشعير.
ربما يكون صائباً اعتبار بداياته الألف السادس قبل الميلاد، حيث يتم العثور في طبقات موقع Tepe Sabz { إيران 5500-5000 قبل الميلاد } على بذور عدس بقطر قدره 4.2 مليمتر. وهو حجم يراه علماء النبات أكبر بكثير من النسخة البريّة، ما يعني ان تلك الثمار قد جرى تحصيلها من الانتقاء قبل ذات التاريخ بزمن غير قليل. بذات الحقبة نعثر على بذور في موقع Khirokitia { في قبرص }، وهو حضور يشكّل نتيجة لانتشار باكر لزراعه هذا النبات وصولا لاوروبا. بطول الالفية الثانية قبل الميلاد، امتدت زراعته الى افريقيا وآسيا. بمرور الزمن وتطور الحضارة، تحوّل العدس الى غذاء اساسي للطبقات الاكثر فقراً في اليونان القديمة { 455-387 قبل الميلاد }، بينما اكتسب في روما صفة " غذاء طقسيّ " اثناء حفلات الدفن.
الاماكن الرئيسية لانتشار زراعة العدس، فترة ما قبل الميلاد
أما بالنسبة للحمّص، فربما يعود تاريخ بدء زراعته الى 10000 عام قبل الآن. تُعتبر البذور الاكثر قدماً من الحمص المؤرّخة بالالف الثامن قبل الميلاد، وتنتمي تلك البذور الى طبقات موقع تل ابو الحريري وتل الكرخ { في الجمهورية العربية السورية حالياً }. حيث تُظهر تلك البذور شكلا متوسطاً بين النموذج البري والنموذج المزروع. نقطة اخرى بصالح تطبيقات زراعية خضعت لها تلك البذور، حيث انها رُصدت على بعد 260 كيلومتر عن نطاق توزعها الطبيعي. وكدليل مضاد، يؤكد بعض الباحثين بأنه ربما تكون الجماعات الحديثة بقايا توزّع طبيعي وانه كان اكثر انتشاراً في الحقب القديمة.
يُلاحظ الانتشار الواضح للحمّص بحدود الالف السابع – الألف السادس قبل الميلاد، حيث يظهر في طبقات العصر النيوليتي ما قبل السيراميكي بموقعي Jericó و Ramad مكان بعيد عن مركز اصله حيث يتم الحديث عن زراعته. ايضاً تمّ العثور على بذور محمصّة من نوع C. reticulatum في طبقات موقع تركي اسمه Çayönu { 7500-6800 عام قبل الميلاد } وموقع تركي آخر اسمه: Asikli Höyük { 6900-6500 عام قبل الميلاد }.
يبدأ توفّر هذا النبات بكثرة في طبقات الهلال الخصيب، ابتداءاً من العصر البرونزي الباكر { 3300-2200 عام قبل الميلاد } في فلسطين والاردن. تشكّل هذه بالنسبة لعلماء الآثار شاهد واضح على زراعة الحمّص، حيث تختلف بذورها عن بذور النوع الوحيد من الحمّص البري الموجود في ذات المنطقة وهو Cicer judaicum. بعد زراعته بزمن طويل، انتشر حتى بلغ جزيرة كريت ومصر، وفي عصر الحديد { 1000 قبل الميلاد } امتدت زراعته لتصل الى اثيوبيا وغرب آسيا.
الاماكن الرئيسية لزراعة وتوزع الحمّصاختصار بفترة قبل الميلاد
تطور العدس والحمّص وفق عملية التدجين
فيما لو يكن من الصعب معرفة زمن ذروة استخدام نبات ما، أو متى بدأت زراعته، فإنّ الاكثر تعقيداً هو معرفة اسباب اختيار هذه الانواع للزراعة. ودون الذهاب بعيداً، فكثير من البقول مثل Lens culinaris ssp. Orientalis تُبرز مساويء واضحة، منها:
أولاً: قليلة الانتاج. قام بعض الباحثين بحساب انتاج النبتة، ليصل الى: 1-45 بذرة وبمتوسط قدره 10 بذور للنبتة الواحدة. ما يعني انه لجني كيلو واحد من العدس، يجب قطاف 10000 شتلة تقريباً. وبناء على هذا الجهد المبذول بقطافه، يجب ان يشكّل العدس جزء صغير من النظام الغذائي لمجتمعات العصر النيوليتي ما قبل الزراعي، ولهذا السبب ربما، كان هذا النوع غير لافت للانتباه في الزراعة.
ثانياً: من الصعب تحقيق انتاجيّة متواصلة. حيث تعاني بذور النوع L. culinaris ssp. Orientalis من حالة " نوام "، وهي عبارة عن حقبة سُبات تمنع موت البذرة عبر تفادي انتاشها بفترة جفاف. يتحقق " النوام " بفضل غلاف كتيم يحمي البذرة. فيما لو يكن الغلاف ملغي، كذلك سيكون " النوام " ملغي. مع هذا، رغم فعالية هذا الغلاف، نجد ان 10 الى 15% فقط من البذور تصل لمرحلة الانتاش في العام التالي. وهذا يشكّل دمار من وجهة نظر زراعيّة، حيث يتحول كل الانتاج الى موسم الزراعة في العام التالي .. حيث سنحقق ذات الانتاج.
حقل مزروع بالعدس.فاليوم لا تُواجهنا مشاكل كثيرة.منطقة بريدا، سورية، الفترة 1998/1999
بفضل اعمال الدكتور Ladizinsky نعرف اليوم بلزوم جين واحد فقط لتحديد " النوام "، بالتالي تحقيق طفرات حادثية بهذا الجين، سيكون بامكانها الغاءه. يتفق بعض الباحثين بكفاية حدوث هذا تحت ظروف مائية { من 4 الى 7 اعوام ماطرة دون جفاف }، كي تسود النبتات " الغير نائمة " في الجماعة بفضل نموها السريع وايقاع تضاعفها العالي. سيطرة ستستمر حتى حقبة الجفاف التالية.
يعتبر عالم النبات Daniel Zohary بانه بمجرد تحقيق تلك الظاهرة، بدأت زراعة العدس وبسرعة، حيث سادت " الغير نائمة " في عمليات الزراعة. من جانبه Ladizinsky يبرهن بأنّ هذا لا يحلّ مشكلة انتقاء ذلك النوع والحفاظ اللاحق على زراعته المعطي وفق مردوده القليل. لهذا يؤكد بأنّ الغاء " النوم " قد حدث قبل تدجين العدس، بحسب زراعتها، بحقبة تمتد من 4 الى 6 اعوام دون جفاف، سيكون كافياً لتبلغ العدس " الغير نائمة " اكثر من 50% من العدس الكليّ. ليس فقط هذا، بل بالاخذ بعين الاعتبار للقدرة الضئيلة على نشر البذور، لن تشكّل نبتاته الكثيفة سهولة في الجني فقط، بل ستشكل حافز في الاهتمام المستقبلي بزراعته.
تغيّر جوهري آخر في البقوليات والقطّانيات المزروعه، هو تثبيت البذور الناضجة على النبات البالغ. فلقد رأينا ان هذا قد تحقّق في البقول من خلال السنابل غير الهشّة، والتي تحفظ البذور حتى وقت قطافها بدل ان تكون منثورة بواسطة الرياح أو الحيوانات. حصل شيء مشابه في القطّانيات. حيث تنفتح السنفات الناضجة ذاتيا محررة محتواها، انها منفتحة dehiscentes. بينما يكون الامر معاكس في بقولياتنا المزروعه، فالبذرة محتجزة في سنفة لا تنفتح عند نضجها، انها غير منفتحة indehiscentes. في العدس، يكون منفتحا dehiscencia ميزة مسيطرة امام الميزة غير المنفتحة indehiscencia، ورغم ذلك فإنّ الميزة الاخيرة تلك سائدة في عدسنا المزروع. ويمكن تفسير هذا بوصفه نتيجة انتقاء مفروض عبر التدجين. وفّرت ابحاث Ladizinsky في العام 1979 الجدول التالي، حيث نجد بعض الميزات المختلفة الاكثر اثارة بين النوعين البري والمزروع، على الصعيد الجيني الوراثي.
جدول يوضح توريث الميزات التشكلية في نوع العدس L. culinaris. Scp بقع في غلاف البذرة، Gh نمط النموّ، Gs لون epicótilo ، Pi سنفة منفتحه بحسب Ladizinsky في العام 1979
مع هذا، تبين دراسات حديثة بأنّ نتائج الجدول السابق تُعاني من نقص. تمّ التحقّق من الفروقات { بين العدس المزروع والعدس " الشرقي " } في 9 ميزات { ارتفاع العقدة الاولى nodo، عدد التفرعات حتى العقدة الاولى، العدد الاجمالي للتفرعات، ارتفاع النبات، زمن الازهرار، منفتحة، عدد البذور، وزن البذور وقطر البذرة } والمتوجبة على 23 QTL «Quantitative Trait Loci» التي كانت متبدلة. ما يعني، انهم قد اكتشفوا بأنّه على الاقلّ 23 مقطع من الحمض النووي DNA تكون مرتبطة بتحضير تلك الميزات التسع، قد خضعت للتعديل خلال آلاف الاعوام الاخيرة من التدجين.
نجد بالتالي انه لاجل كل فارق بين العدس " الشرقي " و العدس " المزروع "، يوجد { بالتأكيد } أكثر من جين واحد متعدّل. كمثال، راينا في الجدول السابق بأنّه اعطي تفريق ميزة الانفتاح dehiscente بنسبة 1:3 مع ذلك بحسب تلك الدراسة لا تكون النسب بكل هذه الدقة، بل تتغير بصيغة تبرز حضور 3 QTL { مثل الصويا نوع Glycine max } متدخلة حول الميزة، والتي يُفسر علماء الوراثة تأثيرها عبر جين رئيسي وجينان ذوي فعل ثانوي.
سؤال هام آخر يحضر هنا.. لماذا هناك بذور ذات لون اصفر .. ضارب الى الرمادي؟ من حيث المبدأ، هذه ميزة غير هامة كثيراً، في الواقع لاجل البرهان على هذه النقطة، سنفترض بان تلك الميزة غير هامة زراعيا ولا غذائياً. في حال كان الامر هكذا، لماذا يتم انتقاء تلك الميزة؟ لماذا تبرزها النباتات المدجنة؟
يكون هذا مناطاً ب " جينات لا تشكّل ذاتيات حرّة ". تشكّل الجينات تعاقبات من الحمض النووي DNA مندمجة في الكروموزومات { الصبغيات }. عند العثور على جينين بذات الكروموزوم، يمكن ان يوجدا فيزيائيا الواحد بجانب الآخر. لهذا تسمى بجينات مرتبطة، وحيث انهما سوياً، يورثان سوياً. لكن في جينوماتنا لا نمتلك زوج من الجينات فقط، بل اكثر بكثير منهما. عند وجود جينين في كرومزومين مختلفين، فاننا نتحدث عن جينومات غير مرتبطة حيث انهما منفصلان، يورثان منفصلان. حيث ان الميزات الشهيرة التي درسها ماندل في البازلاء تتقاسم الخيار الاخير ذاك.
هذا يفسّر لنا سبب كون ميزات محددة لا تمتلك اهمية زراعية، مثل: حضور أو غياب الشعرانيّة في السنفات { السنفة هي الغلاف المحيط بحبوب البقليات، كقرن الفول والبازلاء والحمص والعدس .. الخ }، لون الاوراق او عدد الوريقات بكل ورقة، تكون منتقاة. لن تكون تلك الميزات هامة، لكنها تصبح مترابطة ببعضها، وترتبط بشيء هام كالتنظيم الجيني لحجم النبات. بذات الصيغة، يرتبط لون سطح البذرة والوريقات بالاوراق بالجينات التي تحدد الإزهرار المبكر.
فرق بين الجينات المستقلة غير المرتبطةوجينات مرتبطة التي تورث سويا
لدينا اشياء يجب قولها بخصوص الحمّص نوع Cicer arietinum. مرّت كل النباتات خلال عملية تدجينها بظاهرة تسمى " عنق الزجاجة "، حيث يحصل خسارة كبيرة في التنوع الجيني بسبب اعطاء الاصل لاوائل النباتات المدجنة من خلال افراد قلائل باماكن محددة حصرياً. يعني حضور افراد قلائل امتلاك تمثيل صغير جداً للتنوع الجيني الاجمالي للنوع الحيّ. هذا النقص بالتنوع الجيني { وبجينات مفيدة بشكل فعّال } يمكن تخفيفه بجانب مع هجائن بين انواع مزروعة ذات اصل مختلف و/ أو مع هجائن مع انواع بريّة.
كان " عنق الزجاجة " أكثر وضوحاً في الحمّص. ففي المقام الاول، لان الجماعات الاصلية للسلف البري Cicer reticulatum قد كانت ضحايا لظاهرة " عنق الزجاجة ". في المقام الثاني، بينما قد تنعّم العدس وبقوليات اخرى { كالبازلاء } بمواطن تدجين عديدة، فإنّ الحمّص قد تمّ تدجينه باماكن قليلة في تركيا. في الواقع، يمتلك الحمّص المزروع تنوع جيني اقلّ من نظيره البري.
توزع جغرافي لانواع اسلاف لانواعنا المزروعه.في اليسار: الحمّص.في الوسط: الشعير.النجيلات البرية،القمح القاسي.في اليمين: العدسوالبازلاء
لماذا توجّب اختيار نوع الحمّص؟ يمتلك نوع Cicer reticulatum فائدة لا تمتلكها البقوليات الاخرى التي عاشت في الهلال الخصيب، فاضافة الى حجمه الاكبر، فهو يمتلك سنفات منغلقة indehiscentes تقوم بحفظ البذور حتى بعد بلوغها بزمن طويل. بحسب Ladizinsky، يحوله هذا الى مصدر حيوي للغذاء، وبناء عليه تصبح جاذبية زراعته اكبر.
نقطة اخرى يقدمها فريق بحثي بقيادة Shahal Abbo من معهد علوم النبات والوراثة الزراعية بالجامعه العبرية في القدس المحتلة، حيث اولى اهتمام خاص حول تاريخ الحمّص، وبحسب هذا الفريق: توجّب اختيار الحمّص بسبب قيمته الغذائية العالية. فالحمّص مصدر لحمضين امينيين اساسيين { triptófano و fenilalanina } يساهمان برفع مستوى الرضى والشبع، انها هدية بيولوجية تتمثل بنوال غذاء اساسي لاجل عمل جيد للدماغ. في الواقع، يكون حمصنا المزروع غني بشكل مضاعف بالحمض triptófano قياسا بالنوع البري. أليس دليلاً اضافيا على اهمية الفعل الانتقائي والغير واعي للقيم العليا للحموض الامينية الاساسية؟ بالتأكيد.
جدول يبين القيمة الغذائية اليومية من الحمص بالغرام للحصول على اللازم يوميا من الحمض triptófano وفق منظمة الفاو
يبرز " عنق الزجاجة " التالي الذي تعرّض له الحمّص، من خلال: رهان خطر قد غيّر دورة حياته. تمتلك كثير من نباتات المتوسط، وعلى وجه الخصوص نباتات الهلال الخصيب: دورة حياة يحصل فيها الانتاش بفصل الخريف وتنمو حتى نهايات الشتاء { حيث تستقبل 80% من الهطولات المطرية السنوية }، ويحصل الازهرار باوائل فصل الربيع وتصل الى البلوغ قبل وصول الصيف. يشكّل الحمّص المزروع استثناء بهذه القاعده، فهو يُزرع بنهاية الحقبة الماطرة وينمو خلال قيظ الصيف الشديد.
لا يكون هذا مجانيّ. ففي بعض مناطق فلسطين المحتلة للآن يُزرع الحمص في فصل الخريف، حيث يبلغ الانتاج 3 طن للهكتار، وهذا اكثر بكثير من 700 كغ للهكتار للنوع المزروع في الربيع. حسناً، لماذا كل تلك التضحية بهذه الكمية الزائدة من الانتاج اذاً؟ لماذا يتم اتباع هذه الاستراتيجية التنافسية؟ يكون السبب جوهري، فهناك نوع من الآفات الشديدة الخطر، نوع من الفطور المسماة Didymella rabiei. حيث تهاجم القسم الهوائي من النبات { بذور، سنفات، ازهار، اوراق وساق } مسببة مرض يسمى " داء كلب الحمّص "، حيث تتضمن عوارضه ظهور بُقع ومساحات منخورة. تكون مؤثراته فظيعة الى درجة تخريب كامل المزروعات منه. ولحسن الحظ ان هذه الآفات تكون ضعيفة ولديها معيقات للتاثير في فصل الربيع، وهذا بفضل الرطوبة البيئية المسيطرة.
تاثيرات الفطر Didymella rabiei على الحمّص
آثار الطفرات والتطوُّر. في الأعلى وإلى اليسار زهرة بيضاء متطفِّرة وإلى اليمين زهرة بريّة. في الأسفل وإلى اليسار بذور بريّة، في الوسط بذور متطفِّرة وفي اليمين بذور مزروعة
يتبع
