اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مُنْشقّ
وأظن أن قيمة النص تكمن في وظيفة الاستثارة التي يضطلع بها (وأظن أن هذا يتفق مع علم الأعصاب )
جميل، أنا نفسي طرحت هذا السؤال بكثير من الجدّيّة، و ناقشته من بعض الزملاء في المقاهي بكثير من الشغف، و لم أقف على جواب يشبه جوابك. حينما سألت أحد الأصدقاء عن قيمة النصّ في غياب معنى قائم مستقلّ، أجابني بسؤال آخر هو كالتالي: و ما هي القيمة التي من المفترض أن يملكها النصّ؟ رادّا على سؤالي الاستنكاريّ بسؤال حقيقيّ مفاده، و ما هي القيمة التي حسبتَها منوطة بالنصّ؟
عطفا على ما ذكرت. أعتقد بأنّ جوابك فيه نفي لنظريّتك السابقة، فمجرّد القول بأنّ للنصّ وظيفة تحفيزيّة، أو استثاريّة، هو اعتراف بأنّ النصّ يحمل في ذاته معنى ما عامّا، و إنْ كان هذا المعنى ضبابيّا و يختلف في تفاصيله من شخص إلى آخر، إلّا أنّ هناك معنًى ما عامّا. و هذا هو مربط الفرس، فالنصّ لا يمكن أن يكون إلّا حاملا معنى في ذاته و إلّا أصبح لجوؤنا إلى النصّ حتّى باعتباره وثيقة قابلة لتعدّد القراءَات أمرًا عديم المعنى و الهدف. ، بل أمرًا نافلا و لا يعدو أن يكون استعراضا للقدرات التأويليّة التي نستطيع الاستغناء عنها بالإقرار المباشر.
مجدّدا أعود فأطرح معك السؤال نفسه، أيّة قيمة للنصّ في ظلّ غياب معنى يستقلّ به هذا النصّ؟
لنأخذ مثالا بسيطا، أوّلَ كلمة '' أُنزلت '' على محمّد، أعني هنا [ اقرأْ ]. إنّ التعامل مع هذا النصّ بصيغة مجرّدة بدون أيّ خلفيّة معرفيّة بظروف هذه النصّ قد يجعلنا نحتمل عدّة تأويلات، و نريد عدّة هيرمينوطيقات، فقد تعني كلمة [ اقرأْ! ] مجرّدة القراءة بالمعنى الحرفيّ أي التفلظّ بالحروف المكتوبة، و قد تعني قراءةً تأويليّة لرواية، و قد تعني تأمّلا في لوحة فنّيّة كمن يقول '' قراءة في حذاء فان غوخ ''. هنا تتعدّد المعاني التي يأخذها النصّ [ اقرأْ! ]، لكنّنا لا نتعامل دائما مع نصوص مجرّدة من أي ظرفيّة تاريخيّة و نصّيّة. هنا يدخل علم التداوليات pragmatics، و هو أحد فروع اللسانيات، بمنجهه الموضوعيّ الصارم من أجل القضاء على أيّة ضبابيّة في تأويل مصطلح اقرأ، ليطرح أدواتٍ تحليليّةً من قبيل السياق الفيزيائيّ physical context و السياق النصّيّ linguistic context، فالسياق الفيزيائيّ في مثالنا يخبرنا بأنّ محمّدا كان في غار وحيدا يتأمّل ( على فرض صحّة القصّة )، و لم يكن لا في متحف اللوفر و لا في مقهى أدبيّ، و أنّ هذا الرجل محمّدًا كان يسمع صوتًا في رأسه يطالبه بالقراءة، هنا اقتربنا من تحديد معنى كلمة '' اقرأ '' باستعاتنا بالسياق الفيزيائيّ، لكنّه لا زال معنى قابلا للتأويل، لتتدخّل أداة تحليليّة أخرى هي السياق النصّيّ، و كما هو بيّن من لفظ الكلمة، فالنصّ الذي بعد كلمة [ اقرأْ ] هو المقصود هنا، فتأتي آية [ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق ]، لنقطع دابر الشكّ باليقين، و نعرف أنّ المقصود هنا هو قراءة الوحي المنزّل على محمّد كما هو متوهَّم إلى آخر القصّة. فعن طريق علم التداوليات، و هو علم استحضار كافّة الشروط النصّيّة و الفيزيائيّة و إن أمكن حتّى النفسيّة المحيطة بالكاتب و النص إبّان عمليّة الكتابة. بهذه الطريقة، نقضي على أيّة محاولة لتأويل النصّ تأويلا تعسّفيّا، و نقضي على أوهام الكثيرين من النّاس الذين يحاولون تجميل القرءَان من باب القول بأنّ القرءَان دعانا إلى القراءة و الاطّلاع في أوّل كلمة أنزلت، لأنّ الظرف و السياق يخبرنا بأنّ المقصود هو محمّد لا أمّة محمدّ، و أن المطلوب هو قراءة الوحي المنزّل لا القراءة عموما.
طبعا نحن لا نضمن دائما الإحاطة بالشروط الموضوعيّة و الذاتيّة للكاتب و التي أدّت إلى إنتاج النصّ، و هذا نقاش آخر طبعا، و هنا تدخل نظريّة التلقّي و يفتح باب التأويل. لكن إذا علم الظرف و السياق، فالتأويل يعدّ ظلما للّغة البشريّة، و ظلما للكاتب، و ظلما للنصّ.
تحيّاتي!
|
حقا نحن لسنا أمام اشكال سهل الحل !
لا شك أنه لا ينبغي أن نبخس النص حقه (وهذا ما يظهر كمطلب لاشعوري في سؤالك الاستنكاري الذي تصرخ به البداهة)
لكن هنالك صعوبتان تمنعانني من الانخراط معك لحد الآن في القول بوجود معنى يحمله النص باستقلالية عن الأفهام
أولاهما أن ذلك سيجعلني أقول كما قال كانت بوجود أشياء في ذاتها الأمر الذي ليس شئيا آخر سوى صياغة حديثة لعالم المثل الأفلاطوني القديم(وهو الأمر الذي صار نكرا بعد كانت وسمي بأنه أكبر كذبة في تاريخ الفلسفة) , أي القول بوجود طاولة لا يدركها عقلنا وطاولة يدركها عقلنا (نراها ونلمسها ونكون بخصوصها أفكارا) ليست بالضرورة مطابقة للطاولة الحقيقية (الطاولة في ذاتها)
في حالتنا الطاولة هي المعنى الذي يدور حوله النقاش (هل يوجد المعنى الذي يدور في رأسي حول النص فقط أم معنى في رأسي ومعنى في النص باستقلالية عني قد لا يطابق المعنى الذي في رأسي عن النص )
وثانيهما أنه اذا فرضنا أن النص يحمل في ذاته معنى باستقلال عن كل الأفهام (لا ينبغي أن يرتبط حتى بفهم من ألفه) فان هذا هو ما سميته بالضبط موت المؤلف (لأن نصه صار حاملا لمعنى في ذاته غير مرتبط به هو نفسه ) , مع العلم أن النص انتاج ذاتي فكيف يستقل عن الذات وفهمها ؟
شكرا على الاهتمام !