" نحن في حاجة إلى هذا الحوار، كوننا نشكل أعلى مرحلتين في الفكر الإنساني : الإيمان المختلف الذي أمثله أنا ، والإلحاد الذي تمثله الرئيسة ، وأكاد أجزم أن مستقبل العقل البشري يكمن في هذين المستويين من الفكر : إما الإيمان المختلف ، وإما الإلحاد !"
في كل مرة أحاول فيها الإنتحار أصادف ما لا يتوقعه عقل بشري ، إلا مرة واحدة قررت فيها أن أتوقف عن متابعة الكتابة في الرواية التي أتحدث فيها عن محاولة انتحاري وما سبقها .. توقفت عن متابعة الكتابة لأنني عدلت عن الإنتحار ولم أرغب في أن أكتب كذبا للناس وأقول لهم أنني انتحرت وأنا على قيد الحياة، خاصة إذا ما ذرفوا بعض الدموع علي وهم يقرأون تصويري الميلودرامي لإطلاق أول رصاصة على رأسي ولأتبعها بثانية وثالثة وهم يذرفون الدموع ياحرام دون أن يتنبهوا لإطلاقي ثلاث رصاصات على رأسي وكأني كنت أقتل فيلا لا أنتحر!
لكن أجمل المرات التي حاولت فيها الإنتحار هي التي عثرت فيها على قمقم سجن فيه جني من عهد الملك سليمان . أي من حوالي ثلاثة آلاف عام ، وأي جني كان ذاك، ملك ملوك ! كان ذلك في الصحراء الدمشقية منذ قرابة عشرين عاما .عثرت على القمقم في القبر الذي كنت أحفره لأنتحر وأدفن نفسي فيه ، وما أن فتحت القمقم حتى انبعث منه دخان هائل تجلى خلال لحظات عن جني عملاق يقف أمامي باستعداد ويهتف بنبرة عسكرية صارمة "ها! أمر مولاي العظيم لقمان محرر أرواح الجان ! عبدك المطيع ودرعك المنيع " شمنهور الجبار ملك ملوك الجن الحمر في سائر الأكوان والأمصار !" آظن أنني ( ليش الكذب ) تبولت على نفسي من هول الرعب! ولم يطمئني سوى معرفته لإسمي الرمزي أو شخصيتي المنفصمة "لقمان" الذي أتستر خلفه لأقول ما أريد في رواياتي كما يفعل الروائيون.. فإياكم أن تصدقوا أنني أتحدث عن إنسان آخر .أنا محمود شاهين بشحمه ولحمه ( ليش الكذب ) وإن كنت أدخلكم في عوالم شخصيتي الإنفصامية؟!
لم ينقذني ذاك الجني من الإنتحار فحسب بل وضع العالم كله بين يدي،من أجمل الحوريات إلى عروش من يرون أنهم آلهة . أظن أنني ملكت نصف الكون بعد أن أصلحت أحوال قارات وسحبت السلاح من كوكب الأرض وهدمت عروش بعض الملوك والآلهة المزيفين وتوجت ملكا على كافة طوائف الجن وتزوجت من الملكة الحورية نور السماء، وأصبح لدي قوى خارقة قادرة على هدم الكون كله لو أردت ! لكني فشلت في لقاء الله الذي أطمح في لقائه ، رغم أنني كنت أستشعر وجوده وحتى وقوفه إلى جانبي . وهذا ما كان يشكل هاجسا لي وهو ما دفعني إلى العدول عن الإنتحار والصعود برفقة الجن إلى السماء في محاولة يائسة مني للعثور على الله ! خاصة بعد أن قص علي الملك إبليس ( الشيطان ) قصة الخلق مدعيا أنه هو من خلق آدم وحواء لمساعدة الله في عملية الخلق . وأن ما جرى بعد ذلك من غضب إلهي على آدم وحواء والأفعى مسألة محيرة ما تزال لغزا يخفي الحقيقة التي لا يعرفها أحد . كل هذه المسائل المحيرة دفعتني إلى اليأس فكيف بالعثور على الله وسبر الحقيقة ومعرفة الغاية من الوجود ؟ قررت ترك كل شيئ والعودة إلى الأرض لمكابدة الشقاء ورؤية القتل والقتلى والقتلة والتفرج على عار العالم. كان إصراري على ترك هذا العالم السماوي المتخيل فائق الجمال والعودة إلى جحيم الأرض عصي على دموع مليكة قلبي الملكة نور السماء .. قبلتها بضع قبلات وضممتها إلى حضني دون أن أعدها بالعودة إلى السماء.. ثم أشرعت يدي لاحتضان الطفلة نسمة التي أنقظتها ووالديها وأختها وملايين المعذبين والمحترقين من جحيم الإله المزيف داجون ، وغدت جزءا من نسيج روحي،تشبثت بعنقي وهي تصرخ هاتفة " لا تتركنا يا عمو من سينقذنا من العذاب ومن سيحيي لنا آباءنا ثانية إذا ما قتلوا أو ماتوا ؟" همست لها من عمق اختلاج دموعنا " سأعود يوما يا حبيببتي سأعود ولن أنساكم "
ودنا مني الملك شمنهورباكيا " السجن في قمقم سليمان أهون علي من فراقك يا مولاي . أرجوك أن تفكر في العودة إلينا ولو بعد حين " " سأحاول أيها الملك الطيب . بفضلك عرفت عوالم لم يعرفها بشر من قبل . أنا مدين لك بالكثير أيها الملك " وألقت دليلة( التي أنقذتها من جحيم الإله داجون ) نفسها علي وراحت تعانقني مدارية دموعها قدر الإمكان .. وأخيرا عانقت الجميلة أستير التي أنقذتها من الكوكب المسحور ولم ألب لها طموحها بأن تكون عشيقتي حتى لا أكدر عيش حبيبتي الملكة نور السماء.
كان أحبتي السماويون من الجن والإنس يبكون على فراقي ولا يصدقون أنني سأترك كل هذا الجمال الممتع وأعود إلى شقاء الأرض.
توقفت للحظات ملوحا بيدي الإثنتين لجموع المودعين راسما ابتسامة عريضة على شفتي خالجتها دمعة انزلقت من عيني فجأة . وقررت لأول وآخر مرة أن أوظف القدرات الخارقة الممنوحة إلي بتحويل جسدي إلى طاقة تعود إلى الأرض بسرعة الضوء ! وهذا ماكان . فقد اختفيت من هذا الكون الذي كنت أودع فيه أحبتي لأظهر خلال لحظات في صالون بيتي الدمشقي مجسدا بشكلي المادي !
كان ذلك قبل قرابة عشرين عاما . كنت في دمشق وأنا الآن في عمان منذ ثلاثة أعوام ونيف .
لا أعرف ماذا يخبئ القدر لي هذه المرة وإن كنت أدرك أن تصميمي على الإنتحار جاد . صعدت إلى أعلى برج في العبدلي . وقبل أن أفكر في العواقب ألقيت نفسي من أعلى البرج . حين تجاوزت ثلثي البرج أدركت أنني سأموت هذه المرة ،لكن وعلى مسافة أمتار من الأرض شعرت بيدين تتلقفاني بهدوء .
فتحت عيني حين استعدت توازني لأرى وجها جميلا على مقربة من وجهي ذكرني بوجه الملك ابليس. رسم على شفتيه ابتسامة طفيفة وهو يهتف "مرحبا عزيزي لقمان " همست متسائلا؟ " "الملك ابليس ؟" همس " أجل يا صديقي اشتقت لك ""لماذا لم تدعني أنتحر؟" لم يئن الأوان بعد " " هل ثمة أمل في معرفة الحقيقة ؟ " " أجل" " وسألتقي الله " " أجل " " تضحك علي" "أبدا "
وغبت عن الوجود للحظة ربما أكثر من ثانية . وإذا بي أحط متسربلا بالزي الملكي على كوكب بعيد كما يبدو وسط جمهور هائل من الملوك والملكات والحوريات الفاتنات وفرق الموسيقى فيما أقواس وردية ونوافير ترذ المياه على علو مرتفع فوق الرؤوس . أدركت أن الملك ابليس استخدم قواه الخارقة بإلباسي الزي الملكي ونقلي من كون إلى كون ،وهذا ما ذكرني بالقوى الخارقة التي كانت ممنوحة إلي وفقدتها. فوجئت بوجودي في مواجهة أحبتي الذين تركتهم من عشرين عاما . كانت الملكة نور السماء تتقدم الجميع وما لبثت أن هرعت لتعانقني ودمعتا فرح تنزلقان على وجنتيها .. ولم يتح لها الملك شمنهور أن تعانقني أكثر فقد انقض علي ليعانقني ويهتف " الحياة دونك ليس لها معنى يا مولاي "! ورحت أعانق الجميع فردا فردا وقد أدركت تماما أن مشروعي الإنتحاري فشل مرة أخرى وأن الحياة تصر على بقائي إلى أن يحين أجلي .
فوجئت بكم الملوك والملكات الذين كانوا في استقبالي.. جميعهم من الذين تعرفت إليهم في رحلتي السماوية الأولى على متن المركبة الفضائية المسحورة التي يقودها الجن . نسمة أصبحت عروسا فائقة الجمال وأستير ما تزال تحتفظ بجمال أسطوري ومليكة قلبي نور السماء حورية جنية وهي لا تشيخ ،وحتى تصغر نفسها لو أرادت !
كان ثمة قصر فاره تحيطه حدائق وردية ومسابح ونوافير مياه . دعتنا الملكة لاستراحة في صالونات القصر قبل أن ننتقل لتناول الغداء في الحدائق . عرفت أن الملك إبليس أول من عرف أنني سأقدم على الإنتحار فصمم على إنقاذي منه ، وخاطر الملكة نور السماء والملك شمنهور بالأمر فخاطرا بدورهم جميع من عرفتهم في رحلتي السابقة ليحضروا من أكوانهم لاستقبالي ، فحضروا بسرعة تفوق سرعة الضوء !!
كانت نسمة تجلس على طرف الكنبة وأنا أضم خصرها فيما هي تمد يدها على كتفي وتقبل جزءا يروق لها من صلعتي بين فترة وأخرى . قبلت خدها ومخيلتي تستحضرصورتها وأنا أحلق بها فوق محيط داجون الجهنمي منتظرا أن تعثر على والديها بين جموع المحلقين في الفضاء الذين أحيوا من الموت . أحست أنني أستحضر طفولتها فقبلتني وأعطتني خدها ..
رحت أستعرض وجوه الملوك والملكات . ثمة وجوه نسيت أصحابها ولم أعرفهم . تناولنا القليل من المشروبات الروحية مع الموالح الحلبية . ومن ثم دعتنا الملكة إلى مائدة الغداء .. مائدة ذكرتني بأول مائدة أقامها الملك شمنهورعلى شرفي بعد أن حررته من القمقم . ظباء وخراف وجداء وإوز وحجل وحمام ودجاج وأسماك تشوى على سفافيد بين الموائد . مقبلات وسلطات وخضار شامية . خمور منوعة . وحوريات فاتنات يتخطمن بجمال أخاذ للقيام بواجبات الضيافة . جلس الملك ابليس في مواجهتي فيما جلست الملكة نورالسماء عن يميني ونسمة عن يساري وإلى جانبها الملك شمنهور . وجلس على المائدة الملك حامينار والملكة شامنهاز والملكة نسيم الريح والأميرة ظل القمر والملك دامرداس والملكة ظل السحاب والملك نذير الزلازل والملكة هدباء الجفون والملك قاهر الموت والملكة شمس الربيع .. فيما توزع باقي الملوك والملكات على موائد مختلفة .
وقفت الملكة نور السماء وشرعت في إلقاء كلمة ترحيبية :
" صاحبات الجلالة الملكات . أصحاب الجلالة الملوك . صاحبات السمو الأميرات . أصحاب السمو الأمراء . صاحبات وأصحاب المعالي من الشريفات والأشراف والعلماء والأدباء والفنانين . السيدات والسادة الكرام :
"إنه لمن دواعي سرورنا وما يبعث البهجة في نفوسنا ، ويغمر قلوبنا بعمق الفرح ، ومشاعر المحبة ، أن نستقبل اليوم حبيبنا وصديقنا وراعينا ومحررنا من العبودية والسجون، ملك ملوكنا لقمان العظيم ، بعد غياب عنا دام لأكثر من عشرين عاما "
نهض الجميع وشرعوا يصفقون مرحبين بي ما جعلني أشعر بفخر واعتزاز قل نظيرهما ( رغم أنني لا أحب التعظيم ) محاولا قدر الإمكان أن أتناسى سفك الدماء الجاري على كوكب الأرض وسيول المشردين الذين تبتلعهم البحار أو يهيمون على رؤوسهم في مدن العالم .
وما أن توقف التصفيق وعاد الحضور إلى الجلوس حتى تابعت الملكة :
"وإننا لنشكرمن أعماقنا جلالة الملك الملاك إبليس العظيم الذي ظل طوال سني غياب الملك العين الساهرة عليه ،وحين أدرك بعون الخالق العظيم أنه عزم على الإنتحار أخبرنا وهرع لنجدته ."
" وإني لأدرك أن جلالة الملك الذي عاد إلينا بعد كل هذا الزمن لن يقبل البقاء بيننا دون مساعدته على ما كان يصبو إليه من قبل، من تحقيق لقيم الخيروالحق والعدل والمحبة والجمال والتعاون بين البشر . والغاية من الوجود التي أرادها الخالق لنا . وإني لآمل من جميع ملوك وملكات الأكوان أن يضعوا كل إمكانياتهم تحت تصرفه ، والعمل معه على إنجاح مسعاة حتى لا نفقده مرة ثانية "
" أكرر شكري لكم وترحيبي بكم،والسلام عليكم. وأدعو جلالة الملك لقمان إلى إلقاء كلمة بهذه المناسبة العظيمة "
لم ألق خطبة في الجن والإنس منذ أن فارقت الكون عائدا إلى الأرض ، ولم يعد لدي أعصاب تحتمل مواجهة الجماهير ، حتى أنني في أمسياتي الأدبية القليلة كنت أتمالك أعصابي بصعوبة لتخوفي من صدى وقع كلماتي غير المألوفة على الأسماع والعقول ، فكيف أبرئ الشيطان من شيطانيته وأجعله ملكا وصديقا ، لأصفع بذلك عقول المستمعين التي اعتادت لعنه . كنت أحبذ معارض الرسم على الأمسيات الشعرية والأدبية لأنني لا أضطر إلى إلقاء كلمات فيها ، غير أنني كنت أرتبك قليلا في القليل من الحوارات التلفزيونية . عزائي أن معظم جمهوري هنا من الجن المغضوب عليهم وكل ما أرجوه أن تسعفني الكلمات لقول بعض ما أريد . رفعت هذا التاج الذي أشعر أنه يثقل رأسي لعدم تعودي عليه، ووضعته أمامي على المائدة ، دون أن أنسى أنني الآن ملك سيخاطب ملوكا وملكات ، ونهضت متماسكا بقدر ما أتاحت لي شيخوختي وشرعت في الكلام :
صاحبات وأصحاب الجلالة ،صاحبات وأصحاب السمو ، السيدات والسادة الأشراف والأدباء والعلماء الكرام . محبتي وجزيل شكري لكم جميعا لهذه الحفاوة البالغة التي أحطتموني بها ، وشكري الخاص لجلالة الصديق الوفي إبليس الذي أصر على إنقاذي للحاجة إلي ولضرورة بقائي على قيد الحياة ، اعتقادا منه أن في مقدورنا أن نسبرغور الحقيقة الوجودية ونغير مجرى التاريخ البشري إلى ما هو أجمل وأفضل .
جئتكم محملاً بأوجاع كوكب ينوء تحت وطأة الآلام والعذابات منذ آلاف السنين . وإذا كانت الحروب تقام في الماضي بالسيوف والرماح والنبال ، فإنها تقام اليوم بأسلحة الدمار الهائلة ،لتبث الرعب والهلع في قلوب الملايين من البشر ، وتحيل الصروح إلى أنقاض، وأجساد البشر إلى أشلاء . أي ضمير يحمله هذا العالم ويخوض به حروبه الفتاكة، باسم العدالة ، وباسم الأمن ، وباسم الله . كم هو مسكين هذا الإله الذي يقتل كل يوم على أيدي هؤلاء بحجة الدفاع عنه . وكم هي العدالة بائسة التي تقتل كل يوم باسم القضاء على الإرهاب. فضاع الإنسان لدى هؤلاء بين الإرهابي وبين المكافح للحصول على الحد الأدنى من حريته وكرامته وحقه في أن يكون مواطنا يحصل على كافة حقوقه كمواطن ، أو حتى عن مجرد حقه في أن يكون وطنه له ! هل يعقل أن لا يحصل شعب على حقه في وطنه ويظل رازحا تحت نير المحتل في القرن الحادي والعشرين ؟ أين هي العدالة التي يتشدق بها العالم ؟ وأين هو الله ؟ هل هناك من يؤمن بالله حقا . هل يعقل أن يقبل الله القتل وسفك الدماء ؟! النبلاء من البشر يعفون عن الخاطئين وحتى عن المجرمين في لحظة صفاء وعمق محبة ، فهل لا يعفو الله ويصفح ويسامح ؟! هل خلق الله الوجود لينعم بجماله ويحقق به ذاته أم ليدمره ؟ لقد شوهوا حقيقة الله وأساءوا إليه حين جعلوه معذبا فظيعا وقاطع أيدي وأرجل وقالع أعين وقاطع ألسن ومدمر أدمغة. الأيدي التي أوجدها لتبني الحضارة وترقى برفاهية الإنسان . والألسن التي أوجدها لتنطق بالحق وحسن الكلام ، والعيون التي أوجدها للبصر والتبصر وإبداع الجمال ،والأدمغة التي تمنحنا العقل لنعقل لا لنجن ، ولنطور العلوم وسائر الوسائل والوسائط التي ترقى بحياة الإنسان ، وتحقق أرفع قيم الحق والعدل والمساواة والخير والجمال لبني البشر، مما يرضي الله ، وهو يرى خلقه يحقق الغاية التي أوجده من أجلها ،أي المساهمة معه في عملية الخلق وبناء الحضارة التي لن تقوم دون الفعل الإنساني . فعملية الخلق يا صاحبات وأصحاب الجلالة ،تكاملية بين الخالق وخلقه ، فلا خلق دون خالق ولا خالق دون خلق ،ولا غنى لأحدهما عن الآخر ،وفناء أحدهما فناء للآخر ، فالله في كل كائن في الكون وفي كل إنسان، يسري بطاقته العظيمة الخلاقة في كل جسد، وفي كل مكان ، دون أن يحد وجوده مكان أو زمان ، ونحن دون طاقته السارية فينا لن نقدر على فعل شيء وأن نقوم بأية حركة .
فلا تنتظروا الله أن يبني لكم الحضارة بإقامة المدن وشق الطرق وبناء الجسور والمصانع . إنه واجبكم أيها البشر وأيها الجن إن شئتم . لقد جن البشربدلا من أن يعقلوا وقتلوا الإنسان ليقتلوا الله معه ،بدلا من أن يسعوا إلى المحبة والتسامح وتحقيق القيم النبيلة . فغدا القتل حقا وارتكاب الجرائم بحق الشعوب عدالة ! فهل يمكن أن يكون هناك جنون أفظع من هذا الجنون !؟
إن القيم البشرية كلها في حاجة إلى إعادة نظر بل وإلى إعادة بناء على أسس إنسانية حديثة وسليمة . وإذا كان أجدادنا قد فكروا واجتهدوا حسب ثقافة زمنهم ، فإنه ينبغي ويتوجب علينا أن نفكر ونجتهد حسب ثقافة زمننا . أمة كوكب الأرض أمة واحدة وليست أمما وإن اختلفت وتنوعت ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها. وإلهها إله واحد هو إله الوجود كله . وينبغي عليها أن تنبذ الخلافات وأن تتحد وتتعاون لحل مشاكل الشعوب واقتسام ثروات الأرض ورفع شعار الإنسانية والمواطنة المنتمية إلى كوكب الأرض . الأرض الأم الكبرى التي جئنا منها وإلى أحضانها سنعود كمادة وطاقة تساهم في ديمومة الحياة وتجددها .
وعلى أمة كوكبنا أن تسعى للإتصال بالأمم في الكواكب والأكوان الأخرى وتقيم معها علاقات حسن جوار وتعاون والإفادة من ثقافاتها وعلومها وخبراتها .
لقد قمنا بنزع السلاح سلميا من كوكب الأرض كله في رحلتنا السابقة، فكيف أعيد إلى الأمم وكيف تسنى لها أن تصنع الأسلحة المدمرة والفتاكة من جديد ، هل كنا نحلم ؟ أم أننا كنا نتوهم أونكذب على أنفسنا ؟
صاحبات وأصحاب الجلالة.. السيدات والسادة .. آمل أن ننجح ولو بالحد الأدنى من مسعانا في إقامة السلام والمحبة بين البشر .أكرر شكري لكم، والسلام عليكم .
هب الجميع وقوفا وشرعوا في التصفيق الحاد ، وأنا أحييهم بحركة من يدي .. ثم دعوتهم إلى الجلوس ، فيما دعت الملكة إلى تناول الطعام والشراب .
لم تكن الخدمة في عالم الجن غريبة علي فقد خبرتها بشكل جيد وأنا الآن أتذكرها فحسب . وإن كانت تختلف بعض الشيئ حسب رغبة المضيف وعاداته .. فكل ما تريده يمكن أن يأتي إليك وحده بمجرد النظرإليه والرغبة فيه. وما الحوريات المضيفات إلا لإضفاء الإحترام وإبداء المساعدة للضيف ليشعر بمكانته المرموقة . لذلك لم أفاجأ حين بدأت الكائنات المشوية تحلق بسفافيدها وأطباق السلطات والمقبلات تحلق بأطباقها دون أن يكون لها أجنحة لتقدم لكل انسان ما يريده ،دون أن يصطدم سفود بسفود أو طبق بطبق ، وكأننا أمام خلية نحل تحلق في فضاء مملكتها دون أن تصطدم نحلة بنحلة . وحمدت الله أن الحدائق قائمة على الأرض وليست تحت الماء وأن الشواء يتم على مناقل تتوهج بالجمر فوق الأرض أيضا وليس تحت الماء كما رأيت في أول وليمة أسطورية دعوت إليها برفقة الملك إبليس. حيث كان الشواء يتم تحت الماء ونحن نأكل ونشرب في الماء دون أن نبتل ودون أن يبتل الشواء أو الطعام .
لا أكاد أصدق أنني في عالم متخيل . فقبل قرابة ساعة كنت أجر خطاي المتعبة نحو أبراج عابدون في عمان لأنتحر . وأنا الآن ملك بين ملوك وملكات غير عاديين . ما هي الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال؟ وهل وجودنا خيال أم واقع . وهل الوجود كله واقع أم خيال ؟ وإذا كان الوجود الحقيقي لله وحده حسب ابن عربي فهل يمكن أن يكون وجودنا واقعيا ؟ وإذا كان وجود الله لا ينفصل عنا وعن الوجود كله حسب فكري الوجودي، فهل نحن واقعا افتراضيا متخيلا أم أننا واقع حقيقي؟! ثمة مسائل أكبر من عقولنا .. حتى الفيزياء أنبأتنا بالوجود الوهمي والكون الهيلوغرامي وغيره ، وكل شيء يمكن أن يتلاشى بلحظة . إذن لنعش الحياة كما نستطيع أن نعيشها وكما يمكن أن نعيشها لنتمتع بها ، حتى لا نجد أنفسنا يوما نبحث عن دقائق نطيل بها عمر زمننا لنتمسك بلحظة سعادة .. تنبهت الملكة إلى أنني سرحت لثوان وأنني قلق بعض الشيء وأنني لا أستشعر ولو الحد الأدنى من السعادة . أمالت رأسها نحوي لأستشعر طيب أنفاسها وهمست :
ألقيت نظرة على أطباق المقبلات والسلطات الشامية وإذا بها تثب من مكانها وتدنو من الصحن الكبير المتموضع أمامي وقد اصطفت فوق المائدة واحدها خلف الآخر بانتظام شديد فيما راحت حورية تسكب لي ما أريد ، أما الملكة فقد فاجأتني بتقريب طبق كافيار أسود أمامي .. ابتسمت لها وأنا أدرك نواياها وطموحها في إعادة الشيخ إلى صباه . هتفت :
ونظرا لأنني لم آكل لحما منذ أشهر هتفت " كل شيء"!
ولم أصدق ما جرى بعد ذلك فقد راحت السفافيد تطير بما عليها وتهرع نحوي وتصطف بانتظام طبقا خلف الآخر في فضاء الموائد. ضحكت وضحكت الملكة والملوك والملكات . كان ظبي صغير يصطف أولا ،تبعه خروف صغير أيضا ، تبعته إوزة ، فدجاجة ،فحجلة ، فحمامة ،فسمكة . وحتى لا أكسف هذه الأطباق التي هرعت نحوي، أشرت إلى المضيفة أن تضع لي مقدار لقمة من كل سفود . وهذا ما حصل دون أن تراعي المضيفة حجم لقمتي فكل قطعة كانت بحجم ثلاث لقمات لي على الأقل . وأشرت إلى مضيفة ثانية أن تأتيني بعرق ريان شامي. . سكبت لي كأسا حسب ذوقي ،رفعته وشربت نخب الجميع.
ما أن ابتلعت أول لقمة من قطعة لحم الظبي حتى قفز الأطفال السوريون والفلسطينيون والعراقيون واليمنيون والمصريون والليبيون وكل المشردين والمشردات في الآفاق والغرقى العائمون في البحار تتقاذفهم الأمواج لتطرح جثامينهم على شواطئ العالم القاتل. ألقيت الشوكة والسكين على الطبق وابتلعت اللقمة بصعوبة وتوقفت عن تناول الطعام ودمعتان تتمردان علي وتنزلقان على وجنتي . تنبهت الملكة إلي وقد أدركت تماما ما دار في خيالي . ضمت رأسي إليها وقبلتني وتوقفت عن تناول الطعام ليتنبه الجميع للأمر ويتوقفوا تضامنا معي في انتظار أن أستأنف الطعام .
ما أن ودع الملك لقمان آخر ملك من المستقبلين حتى انطرح متهالكا على أريكة في صالون القصروالعرق يتصبب من وجهه ودخيلته تضطرم بصراع فظيع بين شخصيتين فصاميتين تسكنان مخيلته وتطبقان على روحه المتعبة . محمود شاهين الأديب ولقمان الملك . الأول واقعي والثاني متخيل أسطوري . ومشكلة شاهين الواقعي أنه يشك ليس بوجود لقمان الأسطوري فحسب بل بما سيقدم عليه من أفعال لا تتقبلها حتى أساطير السابقين واللاحقين . الأول أمضى حياته مشردا ، ما أن يخلص من تشرد حتى يغرق في جحيم تشرد جديد. والثاني يطمح في تحقيق أحلامه الجنونية بإقامة عالم تسوده قيم المحبة والخير والعدل والجمال ، ولو على أيدي جن وشياطين يتخيل وجودهم !
كانت الملكة تجثو على ركبتيها أمامه واضعة يديها على فخذيه داعية إياه إلى الهدوء متضرعة إلى الله أن يحميه ويقف معه !
- أنا الملكة نور السماء حبيبتك وزوجتك التي تركتها من عشرين عاما وعدت إلى كوكب الأرض !
وكرر الكلمة مرتين بانفعال متزايد"كذب ! كذب ! "وأطبق راحتيه على رأسه بعنف .
ألقت الملكة نفسها إلى جانبه واحتضنته ضامة رأسه إلى صدرها وراحت تقبله وتجفف عرقه بمنديل حريري . راح يهدأ شيئا فشيئا وما لبث أن رفع رأسه عن صدر الملكة وهتف متسائلا " أين الملك شمنهور ؟ "
وخلال لحظة كان الملك شمنهور ينتصب واقفا أمامه ليهتف :
- اسمع ! أريدك أن ترسل فورا مليار جني مغوارمخفيين إلى كوكب الأرض لينزعوا السلاح من أيدي البشر جميعا دون أن يريقوا نقطة دم واحدة . لا أريد أن يبقى بين أيديهم حتى قطعة مسدس . ليقذفوا كل شيء على سطوح أبعد الكواكب . أريد أن أرى الطائرات والسفن والبوارج وحاملات الطائرات والغواصات والطوربيدات والصورايخ والدبابات والمجنزرات والبنادق والرشاشات تقذف في الفضاء كقطع الكرتون . وثانيا :أريدك أن ترسل جيشا يجوب البحار ويساعد المهاجرين على اجتيازها ويقدم لهم الطعام والشراب واللباس ويؤمن وصولهم إلى البلدان التي يقصدونها . ويبني بيوتا للاجئين السابقين ويقدم لهم كل ما يحتاجونه . وارسل من يبني المدن والقرى المهدمة في البلدان المختلفة ويقدم للناس كل ما يحتاجون إليه . هيا !
- مولاي سمعت أن الفلسطينيين بدأوا يستخدمون السكاكين في قتالهم !
- ألم ير جندك في كل أسلحة الدمار الشامل على أرض فلسطين إلا سكاكين الفلسطينيين أيها الملك ؟ اسحب من أيدي الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب كل من يشرع سكينا أو سيفا أو أي أداة للقتل والضرب حتى لوكانت عصا ! لكن بعد أن تسحب أسلحة الفتك والدمار من أيدي الدول .
ليتفضل مولاي ويجلس على شرفة في القصر ليمتع ناظرية بأسلحة الدمار وجيوشي المغوارة تقذفها في الكون الفسيح !
أرعد الملك شمنهور بصوت هائل ملقيا أوامره على جيوشه الهائلة . ولم تمر سوى لحظات حتى راح الفضاء يتقاذف الأهوال وكأنه يوم القيامة ، فيما عم الذهول سكان كوكب الأرض وقد أدركوا أن الإرادة الإلهية قد تدخلت لإنقاذ الكوكب من الحروب !
صعد الملك والملكة إلى أعلى شرفة في القصر وجلسا يتمتعان برؤية الأجسام المتقاذفة في الفضاء وكأن ريحا هوجاء تعصف بها .
للحظات أحس الملك لقمان أنه يعيش واقعا لا خيالا فانفرجت شفتاه عن ابتسامة طفيفة وهو يضم رأس الملكة إليه ويقبلها بحرارة .
المحبة والإيمان المطلق يسودان العالم !
خصص الملك لقمان ليلته الأولى للملكة نورالسماء بعد أن أمضى باقي يومه متمتعا برؤية البوارج والسفن والطائرات والدبابات والغواصات والصورايخ العابرة للقارات والمدافع وبراميل المتفجرات وأسطوانات المواد الكيماوية والقنابل النووية المتقاذفة في الفضاء .. وخصص ليلته الثانية للسهر مع أسرته القديمة على المركبة الفضائية المسحورة فالتقى هو والملكة ربة الجمال وأستير ودليلة ونسمة وأختها ووالديها وقائد المركبة والملك شمنهور والعديد من المقيمين على المركبة وفي قصر الملكة. ودعا الملك لقمان الملك ابليس وزوجته الملكة والملك حامينار والد الملكة نور السماء وزوجته الملكة إلى الحفل . رقصت أستيرمتثنية على أنغام موسيقى كونية فأذهلت برقصها الحضور وترنمت ربة الجمال بصوت عذب لامس شغاف القلوب وحلقت دليلة بالجميع في فضاءات الروح بعزفها على الكمان .
وفي صباح اليوم الثالث أعلن الملك شمنهورفروغ قواته من كافة المهام التي أوكلت إليها بقذف الأسلحة على كوكبي نبتون وكرونوس ، وأن آخر شيء فعلته هو نزع السكاكين من أيدي الفلسطينيين. . وأكد للملك لقمان أن الأسلحة التي قذفت على القمر في المرة الأولى ما تزال عليه ، غيرأن الدول استغلت غياب القوى العظمى التي نزعت الأسلحة فقامت بصنع أسلحة جديدة خلال العشرين عاما الماضية . وأدرك الملك لقمان أن الملك شمنهور يضع الحق عليه بتخليه عن إكمال مهمته في إصلاح الكون وكوكب الأرض بشكل خاص ، وعودته إلى الأرض ليكابد الشقاء مع البشرية تاركا إياها تتخبط في تصرفاتها وسلوكها.. وأكد الملك شمنهور أنه تم بناء المدن المدمرة وفي مقدمتها مدن حلب وحمص ودرعا وحماة ودوما وكل المدن والبلدات المحيطة بدمشق وغيرها . ,وأنه أنزل ملايين الأطنان من اللحوم والخضار والفواكه والحبوب في كل مكان فيه جوعى ومشردون وبنى بيوتا لهم ، وأنه أنقذ آلاف المبحرين وأوصلهم إلى أماكن توجههم وبنى لهم بيوتا . وأكد أن البشرية تحتفل الآن في الحدائق والشوارع والملاعب والغابات وسطوح الأبنية والعمارات وداخل الصالونات متبادلة القبل والأنخاب والأغاني والألحان والرقصات ، مرددة الأهازيج لمجد الآلهة بكافة مفاهيمها ، وأعلن أن البشرية لم تتبادل القبل في حياتها كما تبادلتها وتتبادلها الآن . وما يزال زعماء العالم في حالة صدمة وذهول ولم يبد أي من الكبار فرحته لما جرى ويجري بل أن بوتين صرح بأن ما يجري هو مجرد خيال وأن البشرية أصيبت بالجنون ! ووافقه أوباما حين صرح بأن ما يجري يستحيل أن يكون حقيقة واقعية . أما نتنياهو فقد بدا في غاية الحزن وهو يرنو إلى قنابل اسرائيل النووية تتقاذف في الفضاء وإسرائيل تغدو عارية دون أسلحة !
وهنا رفع الملك لقمان يده مشيرا إلى الملك شمنهور أن يتوقف عن إكمال تقريره ،وبدا عليه أنه استعاد كامل توازنه ودخل في شخصية الملك لقمان بكل أبعادها الأسطورية ضاربا عرض الحائط وإلى الأبد بمحمود شاهين الأديب ! وخاصة بعد أن استعاد كافة عناصر قوته الخارقة من خواتم وقلائد مطلسمة وكلمات سحرية ، وراح يشكر الله بصوت خفيض مرددا " شكرا يا إلهي / شكرا يا إلهي " ثم توجه بكلماته إلى الملك شمنهور :
- مهلا أيها الملك هل قلت أنهم يمجدون آلهتهم على اختلاف مفاهيمها ؟
- كم مرة قلت لكم أن تعفوني من ترديد مولاي هذه على مسامعي؟!
وأطرق الملك لقمان للحظات وما لبث أن نهض وخرج إلى شرفة القصر. مد يدا منقبضة وأغمض عينية للحظات متفكرا وما لبث أن أطلق أصابع يده وإذا بالكون يزدحم بالمليارات من القصاصات الورقية الملونة بكافة الألوان الذهبية والخضراء والحمراء والصفراء والزرقاء والبنفسجية والبرتقالية وراحت تتهاطل على كل رقعة في كوكب الأرض وقد كتب عليها بألوان تتناسب ولون القصاصة وبأكثر من مائة لغة :
" نشهد أن لا إله إلا الله
ونشهد أن الإنسانية حبيبة الله
لا يكتمل الحبيب إلا بالحبيب
وراح الملك لقمان يردد الكلمات بصوت هائل والحضور يأخذون القصاصات ويرددون معه ليتردد صدى كلماتهم في كافة أرجاء الكون ومن كافة أجهزة التلفاز والراديو في كل جهاز في الكون . وظلت الأصوات تتردد في كافة أرجاء الكون وبلغات مختلفة ،ولم تجد البشرية والجن والشياطين على اختلاف مذاهبهم على كوكب الأرض وغيره من الكواكب . إلا أن تخرج من ذهولها وتجثو على ركبها وتردد الكلمات ليتردد صداها من كافة أرجاء الكون . معلنة بذلك الدخول في الإيمان المطلق . الإيمان الذي ليس بعده إيمان ! الإيمان بالإله الواحد الساري بطاقته وقدرته في الكون والكائنات وفي مقدمتها الإنسان كأجمل تجليات الألوهة !!
*سجون بلا سجناء حرية وكلمة !
عبثا يحاول الملك لقمان النوم لكن دون جدوى . ينظر إلى جمال وجه الملكة المستلقية إلى جانبه على السرير الفسيح محاولا تأمله ليطرد الصور المختلفة من مخيلته . يمثل الوجه له بكل جماله لكن تظل الصورة مضطربة ، فمعجزة الصلاة الكونية التي تحققت لأول مرة في التاريخ على ألسن البشرجميعا مرددة كلماته الشعرية التي سطرها في مفهومه للإيمان جعلته يشعر بفرح لم يستشعره من قبل على الإطلاق . وإذا ما أضاف إليها معجزة نزع السلاح وغيرها من المعجزات مثل صعوده إلى الفضاء بسرعة تفوق سرعة الضوء وحضور ملوك الجن والإنس وانصرافهم بالسرعة ذاتها فإنه يمكن القول أنه أسعد إنسان في الكون، وفي مقدوره أن ينام مطمئنا ، لكنه يفضل استشعار السعادة على النوم ،دون أن يغيب عن باله ما سيفعله في الأيام القادمة ، موقنا أن الله سيكون في عونه، ومدركا أن كل ما جرى ويجري لم يكن ليتم لولا الإرادة الإلهية التي شاءت أن تتضافر مع رغبته ورغبة الجن وحتى بعض البشر . وظل طموحه في لقاء الله قائما رغم قناعته بأن الألوهة طاقة سارية في الكون كله والكائنات كلها وأن تجليها يتمثل في الخلق كله ، لكن تظل مسائل كثيرة ينبغي عليه أن يحصل على إجابات قاطعة عنها ليجزم بصواب أفكاره وأنها لم تخطر له إلا بإلهام من الله نفسه .
مشكلة نزع سكاكين الفلسطينيين المقاتلين أقلقته بعض الشيء ،فكيف ينزع سلاحا بسيطا من يد شعب محتل؟ مع أنه يدرك أنه لم ينزع سكينا إلا من شباب كانوا يسيرون في الطرقات متربصين بمحتل ما ، ولم ينزع سكينا من بيت . وتقبل الأمر لقناعته أنه سيقيم في أقرب وقت دولة ديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني تحوي الجميع ، كما صرح الرئيس الفلسطيني قائلا " إذا كان نزع سكاكين أبنائنا يجلب لنا الحرية والسلام فلتنزع كل السكاكين " تنبه إلى أمر مهم نسيه وهو السجناء الفلسطينيين ، بل وسجناء الحرية في العالم كله ،كيف نسي إطلاق سبيلهم . والجرحى والمرضى في العالم . في رحلته السابقة أولى الملكة بهم .. ووجد نفسه يطبع قبلة خفيفة على جبين الملكة وينهض بهدوء من السرير ويخرج إلى الصالون . يخاطب الملك شمنهور تخاطرا . يشعر الملك شمنهور أن (سيده ) يخاطبه . ينهض بسرعة . يرتدي ملابسه بكلمة سحرية . ويمثل أمام الملك لقمان بكلمة أخرى.
- متى تتوقف عن ترديد مولاي هذه أنت وقومك . أنت ملك وصديق وقائد عظيم !
- مولاي ! أنت بالتأكيد تدرك ما معنى أن تحررني وقومي من قماقم سليمان بعد ثلاثة آلاف عام . إن ما فعلته لم يفعله بشر وحتى آلهة من قبل ولا نستطيع إلا أن نكون في إمرتك وتكون سيدنا .
- حسن أيها الملك . تذكرت أننا لم نطلق سراح سجناء الحرية والكلمة !
- سأفعل ذلك في الحال يامولاي .
- وحتى السجناء الجنائيين . أرغب بتبييض السجون في هذه المناسبة . وكذلك أرسل ملائكة رحمة من الحوريات لإشفاء المرضى في العالم . ابدأ بالسجون الإسرائيلية والسورية وباقي السجون العربية ثم تحول إلى سجون العالم . لا تنس أن تحرر النساء من أسواق النخاسة والعبودية .
في سجن اسرائيلي للنساء . فوجئ أحد حراس السجن بالباب يفتح مع أنه كان مغلقا بإحكام . وتقدمت النساء من الداخل بخطوات مرتابه .. حاولت فتاة فلسطينية أن تخرج . شعرت بيد تربت على ظهرها وتدفعها للخروج. خرجت . حاول الحارس أن يصدها وإذا بوجهه يصطدم بحاجز غير مرئي .. شرعت الفتيات في الخروج . هرع الحراس لكنهم كانوا يصطدمون بحواجز غير مرئية كلما اقتربوا من الفتيات . وأطرف ما جرى أن أحد جنود الجن أخذ حارسا وقذف به إلى أعلى وأخذ ثانيا وقذف به وأخذ ثالثا وقذف به أيضا ،وعاد ليتلقف المقذوف الأول ويقذفه ثانية ويتلقف بيده الثانية المقذوف الثاني ويقذفه ثم يتلقف الثالث بيده الأخرى ويقذفه ليلعب بالحراس لعبة الطابات الثلاث فيما السجينات يضحكن وينشدن للحرية ويخرجن إلى خارج السجن ..
سمع نتنياهو أن السجون في كافة أنحاء اسرائيل والأراضي المحتلة قد بيضت وأن السجناء قد هربوا ، فأصيب بجلطة دماغية أدت إلى نقله إلى المستشفى .
وبعد ثلاثة أيام مثل الملك شمنهور أمام الملك لقمان ليعلمة أنه لم يبق سجين في العالم إلا وأطلق سراحه ولم يبق مريض أو جريح إلا وعولج من جراحه أو مرضه .
استؤنفت احتفالات البشرية في كافة مدن وعواصم العالم بإطلاق سراح سجناء الكلمة والرأي وحتى السجناء الجنائيين الذين قرروا أن يتوبوا عن اقتراف الجرائم . كما احتفل أهالي المرضى بذويهم ،وسمعوا قصصا لا يصدقها العقل من المرضى. فقد قال أحد مرضى السرطان أنه شعر بيد ناعمة تملس على جسده لتمنحه طاقة حيوية فريدة ، وفجأة ظهرت فتاة في غاية الجمال ترتدي الثياب البيض وقالت له " الحمد لله على سلامتك " فنهض وهو يشعر بحيوية ونشاط غير عادي ،وما كاد يشكر الفتاة حتى اختفت . وحين خرج من الغرفة شاهد مئات المرضى وقد عولجوا من أمراضهم وقد عادوا أصحاء على أكمل وجه . حتى من فقد ساقا أو يدا في حرب فقد عادت له قدمه وساقه . ومن فقد عينه عادت له .
طلب الملك لقمان أن يبقى وحده في خلوة . فانصرفت عنه الملكة ومن كان في حضرته .جثا على ركبتيه واضعا يديه عليهما وكأنه في طقس صلاة إسلامية . وراح يشكر الله من أعماق قلبه مرددا الكلمات إياها التي رددتها البشرية وراءه ومعه ،لكن بصيغة المفرد وليس بصيغة الجمع " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن الإنسانية حبية الله " وما لبث أن دخل في صمت وخشوع عميقين . وقد أغمض عينية ليذهب بعيدا في أغوار نفسه ويدخل في المطلق .
*الملك لقمان يهبط على جنة لا جهنم فيها !
قرر الملك لقمان أن يتابع رحلته الكونية على المركبة الفضائية المسحورة مصطحبا الملكة نور السماء ونسمة وأستير والملك شمنهور الذي اصطحب زوجته دليلة ومحبوبته ربة الجمال المخلوقة من مسك وعنبر وفل وقرنفل وزعفران وكافور ،والتي يبدو الماء من روحها ، وتبدو عظامها من خلال مائة ثوب من الحرير !
أقلعت المركبة بسرعات فائقة لتجتاز مسافات ضوئية وتحلق فوق مئات الكواكب ، ثم أمر الملك لقمان بتخفيف السرعة لعله يرى كوكبا مأهولا يمكنه الهبوط عليه ، حافزه أمر واحد أن يعثر على دليل يؤكد له صحة فلسفته عن الوجود والغاية منه وأن الله ليس إلا القدرة الطاقوية المتجلية والمتمظهرة في الكون والكائنات وما ينجم عنها . وتمنى لو أن الله يظهر له في هيئة ما ويخاطبه وجها لوجه. متمنيا ألا يعود خصمه المجهول إلى محاربته بالشهب والنيازك والمذنبات كما سبق له وأن فعل في رحلته السابقة . فهو لا يرغب في خوض حروب حتى لو كانت دفاعا عن النفس.
دخلت المركبة فضاء كوكب ملون في غاية الجمال . الأبنية فيه ملونة بألوان مختلفة . ليس هناك بناء من لون واحد وكأن رساما قام بتلوينها بألوان متناسقة . هبطت المركبة إلى أقرب مسافة فوق الكوكب .. بدا جمال الطبيعة وتناغم ألوانها أكبر مما يمكن للعقل أن يتصوره . وفيما كانت المركبة تحلق بسرعة بطيئة شاهد بشرا يتنقلون بين الأبنية والأسواق والطبيعة الخلابة . بعضهم يسيرون على أرجلهم وبعضهم يتنقلون طائرين بأجنحة . وبعضهم يتجولون في حدائق ملونة وسط نوافير متعددة ترذ المياه في اتجاهات مختلفة وبألوان متعددة .. لم يجر أي تنبيه للمركبة أو إطلاق صواريخ أو نار في اتجاهها ، كما لم تنطلق طائرات حربية لمواجهتها مما يدل على أن الكوكب لا يملك أسلحة ، رغم أن جمال الكوكب يشير إلى أنه متحضر ومتطور جدا بدليل الناس الطائرين . وحين تجاوزت المركبة بعض المدن واقتربت من مناطق خالية شاهد الملك ومرافقوه ما لا يصدقه عقل فقد كانت مجموعة أنهار تنبع مندفعة في الفضاء بشكل قوسي من أماكن مختلفة بعيدة كما يبدو دون أن يصطدم قوس نهري بقوس نهري آخر . أشار الملك إلى قائد المركبة بالتوقف في الفضاء وخرج الملك ومرافقوه إلى شرفة وراحوا يتأملون جمال الأنهار . كان نهران خمريان ينبعان من ناحية ولتكن الغرب ويندفعان بشكل قوسي في الفضاء إلى جانب بعضهما في اتجاه معاكس إلى مسافة بعيدة ليصبا في محيط ،ونهران يندفعان من الجنوب ليمرا فوق النهرين الآخرين ليصبا في محيط يفترض أنه في الشمال .عرض كل نهر لا يقل عن مائة متر . ولاحظ الملك ومرافقوه مئات الشباب والشابات مرتدين ملابس السباحة وهم يمتطون مياه الأنهار أو يسبحون فيها لتقذفهم في المحيط .
وشاهدوا مئات آلاف البشر المتنزهين على الأرض أسفل هذه الأنهار وإلى جانب أنهار أرضية أخرى ملونة . ولم يعلم الملك لقمان ومرافقوه أن جميع هذه الأنهار المحلقة في الفضاء والجارية على الأرض ليست إلا أنهار خمر مختلف الأنواع والألوان إلا بعد أن هبط ومرافقوه إلى الأرض واشتم رائحة فواحة فسأل مجموعة من الحوريات كن يتبادلن الأنخاب عما إذا كانت هذه الأنهار أنهار خمر فأجبن بالإيجاب ودعون الملك لقمان ومرافقيه إلى تناول خمر أنهارهن .
كان الملك قد أمر بإبقاء المركبة متوقفة في الفضاء ونزل طائرا مع مرافقيه وحط على مقربة من الفتيات اللواتي يتبادلن الأنخاب بغرف الخمربكؤوس كريستالية من نهر يجلسن إلى شاطئه ويقمن ببعض الشواء للحم طيور على جمر متقد . وما أن حياهن الملك لقمان حتى رددن التحية بأجمل منها ورحبن به وبمرافقيه ودعونهم إلى مشاركتهن الخمر والشواء . شكرهن الملك وجلس ومرافقوه على بساط عشبي أعشابه تبدو كأنها من خيوط الحرير .
غرفت الفتيات بكؤوسهن خمرا من النهر وقدمنه لضيوفهن ثم رفعن كؤوسهن ليتبادلن معهم الأنخاب . وبدا الملك شمنهور في غاية الدهشة وهو يرقب جمال الفتيات وأنهار الخمر المحلقة من فوقهم وإلى جانبهم ،ورغم أن خيال الملك شمنهور كان واسعا إلا أنه لم يفكريوما في أنهار خمر تجتاز الفضاء أو تمخر الأرض . أما الملك لقمان فقد راحت مئات الأسئلة تطرق مخيلته . فسارع إلى طرح الأسئلة على فتاة ذات جمال أخاذ تولت محادثته بعد أن قدم نفسه ومرافقيه باقتضاب مدعيا أنهم رواد فضاء:
- هل في مقدوري أن أطرح عليك بعض الأسئلة عن هذا الكوكب يا آنسة !
ورغم تردد الملك في لفظ "آنسة " إلا أنه بدا مصيبا كما يبدو فلم تعترض الحورية، وقالت تفضل :
- وما اسم هذا الكوكب و اسم هذا المكان ؟
- اسمه كوكب الجنات وهذه إحدى جنانه !
- هل هذا يعني أنه يوجد جنان كثيرة فيه ؟
- وهل فيه جهنم أو جهنمات ؟
وبدا أن الحورية تسمع لأول مرة بالكلمة فتساءلت عن معناها فأجاب الملك :
- نار يحرق فيها المذنبون ويتعذبون !
- لا لا يوجد ولا أعرف إن كان هناك جنات فيها جهنمات مثل هذه التي تتحدث عنها .
وبدت الحورية في غاية الدهشة لاعتقادها أن هذا الرجل متخلف بسؤاله عن إله يحاسب ويعذب . فأجابت بدهشة :
- نعم؟ إله يحاسب ويعذب ؟ ألله يسمو فوق الشر! ألله يا سيد محبة مطلقة وجمال مطلق وخير مطلق وعدل مطلق وخالق مطلق وخلق مطلق!
ولم تصدق الحورية ماذا جرى بعد إجابتها. فقد أغمض الملك لقمان عينيه واختلجت تقاسيم وجهه وتنهد من أعماقه والدموع تهطل من عينيه بغزارة وهو يردد باكيا " شكرا يا إلهي شكرا يا إلهي شكرا يا إلهي " ثم انحنى وقبل الأرض وهو يردد عبارته .
أدركت الحورية التي لم تكن سوى ملكة كوكب الجنات بعينها ، أن إجابتها كانت منسجمة تماما مع فكر الضيف ، فدنت من الملك وراحت تربت على ظهره فيما كانت الملكة نور السماء تربت على كتفه أيضا .
هتفت ملكة الكوكب مخاطبة الملك لقمان الذي راح يمسح دموع الفرح :
- أهلا بك في كوكب الجنات أيها الضيف . أنا الملكة "شمس الورود" ملكة الكوكب . وهؤلاء صديقاتي وقريباتي.
* أرواح القديسين والعلماء تصعد إلى السماء .
بدا الملك لقمان ومرافقوه في غاية الدهشة حين قادتهم الملكة الشابة إلى غابة تحولت إلى حديقة شاسعة تنتصب فيها تماثيل للأجداد الذين أمضوا أعمارهم في البحث عن الحقيقة . وكان الملك لقمان قد قدم نفسه كملك وليس مجرد مرتاد للفضاء كما قدم مرافقيه من الإنس والجن . وأكثر ما أدهش الملكة ومرافقاتها اعتقادهم بالجن والشياطين بل ووجودهم بينهم،وهذا الإعتقاد كان قد انقرض عندهم منذ عشرات آلاف السنين بعد أن تطور فهمهم لجوهر الألوهة الخالقة .
كان مئات الرجال المسنين المتحجرين يسند بعضهم ظهورهم إلى جذوع أشجار ضخمة ويمدون أرجلهم في استقامة واضعين أيديهم فوقها فيما كان بعضهم يقرفصون إلى جانب الأشجار وآخرون يثنون أرجلهم تحتهم ويستندون إلى جذوع الأشجاروآخرون يجلسون في وضع صلاة إسلامية . وبدا كل واحد منهم وكأنه قد بقي على الوضع الذي تجمد عليه منذ آلاف السنين لتجف الشجرة وتتحجر بدورها مشكلة مع جسد الرجل بأغصانها الضخمة المتحجرة نصبا في غاية الجمال . أجل الملك لقمان كل أسئلته الوجودية وراح يتأمل مئات النصب التي شكل كل واحد منها تحفة فنية مذهلة . وما لبث أن سأل الملكة :
- ماذا تقصدين بالأجداد الباحثين عن الحقيقة أيتها الملكة وكيف تجمدوا وتحجروا دون أن يطالهم أو يطال ألأشجارالتي استندوا إليها الفناء .
- إنها الإرادة الإلهية التي شاءت ذلك . ولهذا الأمر قصة طويلة أيها الملك . إذا تحب سأرويها لجلالتكم . فهؤلاء الذين ترى أنصابهم أحياء في الأبدية المطلقة الخالدة ،التي لا تفنى ولا تموت .
وبدا الكلام صعبا بعض الشيء على الملك .
- أكون شاكرا لجلالتك فأنا لم أجب الكون إلا بحثا عن الحقيقة .
- كان عدد سكان كوكبنا أكثر من خمسة عشر مليارا يعتنقون أكثر من عشرة آلاف دين ويعبدون أكثر من عشرة آلاف إله حسب فهم كل دين للألوهة . فكثرت النزاعات الطائفية والمذهبية ونشبت حروب طاحنة أودت بحياة الملايين . فقرر المئات من القديسين والعلماء والفلاسفة البحث عن الحقيقة والتعمق فيها . في البداية بدأت المسألة بقديس واحد . جلس إلى جذع شجرة وراح يتأمل في الوجود ملغيا من عقله كل ما عرفه ويعرفه عنه ،مضربا عن الطعام والشراب ما لم يصل إلى الحقيقة. حقيقة الوجود. حقيقة الخالق . الغاية التي وجد الخلق ووجد البشر من أجلها . ( وأشارت الملكة إلى أحد الأنصاب قالت أنه نصبه ) كانت غايته معرفة الحقيقة ليوحد أبناء الكوكب حولها وينقذ الكوكب من النزاعات المدمرة . كان ذاك القديس هو أكبر علماء كوكبنا . مر عليه ثلاثة أيام دون أن يتناول شيئا ، وطلب إلى الناس أن لا يأتوه بشيئ. وبدأ العلماء والقديسون والفلاسفة يتضامنون معه فرادى ثم جماعات . بحيث لم يبق في هذه الغابة شجرة كما ترى إلا وجلس إلى جذعها رجل أو حتى أكثر من رجل .فارق القديس الأول الحياة بعد ثلاثة أسابيع دون أن يطرأ أي حركة على جلسته . فارقها مساء في الوقت الذي كان فيه عشرات الآلاف من الناس يجثون في الغابة ويتضرعون إلى الله أن يرأف بعلمائهم وفلاسفتهم وقديسييهم . وحينئذ حدثت المعجزة الإلهية . فما أن فاضت روحه حتى خرج من جسده نور راح يتصاعد ببطء في الفضاء ولم تمر سوى لحظات حتى فاضت أرواح جميع العلماء كما كانوا جالسين، لينبعث من أجسادهم نور ويصعد إلى السماء خلف النور الأول . نور أضفى على الجو هالة جمالية في غاية الروعة والإدهاش. لم يكن النور يتصاعد بشكل عمودي أو في كتلة أو كتل بل كان يتصاعد في هالات نورانية مشعة متموجة بألوان مختلفة مبهره صبغت الغابة والناس بألوانها . وشرع الآلاف في إحضار الشموع وإشعالها أمام الجثامين دون أن يبدو على الناس أي حزن لرحيل العلماء لإدراكهم أن إرادة إلهية هي التي شاءت ذلك . وجاء الناس بباقات ورود ووضعوها أمامهم أيضا. زادت إنارة الشموع الجو سحرا وجمالا وتضوعت رائحة الزهور لتملأ الغابة .وشرع الناس على اختلاف مذاهبهم يرددون اسم الله بخشوع . وفجأة راحت الهالات النورانية ترسم بتموجاتها كلمات بلون أخضر تعبر عن جوهر الألوهة . بحيث راحت الجمل تظهر جملة خلف جملة إلى أن ظهر أكثر من مائة ألف جملة . وحين رأى الناس أن الجمل كثيرة جدا راح بعضهم يحفظ ما يريد منها وبعضهم يأخذ لها صورا لتنشر فيما بعد في مجلد شكل ناموس أمتنا التي توحدت خلفه وتبعته. فنحن الآن نعبد إلها واحدا يملأ وجوده الكون كله ويسري في قلوبنا وأجسادنا ولا نستطيع دون وجوده في ذواتنا أن نفعل ولو مجرد حركة ! وهو كما عبرت لك محبة مطلقة وخير مطلق وجمال مطلق . ويسرنا أن ندعوا جلالتكم للإحتفال معنا بعيد النور بعد يومين وهو اليوم الذي فاض فيه علينا النور الإلهي وصعدت فيه أرواح أجدادنا إلى السماء لتنضم إلى الروح الإلهية .
بدا الملك لقمان في غاية السعادة وهو يستمع إلى فكر أقرب ما يكون إلى فكره . وشعر أنه في حاجة إلى معرفة المزيد والمزيد عن هذا الفكر لعله يستطيع تطبيقه على كوكب الأرض البائس .
شكر الملكة على الدعوة بل وأبدى رغبته في أن يستمع إلى حديثها الممتع أكثر. وشعرت الملكة نور السماء بالقليل من الغيرة لأن الملك لقمان بدا مأخوذا بجمال وفكرملكة كوكب الجنات ! ولم يعد يهتم بها !
* أسعد بشر في الكون خالدون في دنياهم وخالدون في الألوهة !
تنبه الملك لقمان وهو يتجول مع ملكة الجنات في حديقة النور أو حديقة الأجداد إلى أن جمال الشباب يضاهي جمال الفتيات أو يفوقهن جمالا عند بعضهم فخطر له أن يسألها وصورة الولدان المخلدين في الفكر الإسلامي تمر في مخيلته :
- من يتمتع بجمال هؤلاء الشباب جلالتك ؟
أدركت الملكة أن سؤال الملك ينطوي على أبعاد اجتماعية وأخلاقية عميقة فقالت ببساطة:
- كيفما يريدون إما حبا أو زواجا أو مجرد رغبة مشتركة في صدفة ما . كل أشكال الحب مسموحة عندنا . المهم هو عدم الإساءة إلى أحد واحترام الآخر ورغبته .
ولا حظ الملك عدم وجود مسنين ومسنات فسأل :
- لماذا لا يوجد مسنون ومسنات بين المتجولين في الحديقة ؟
ابتسمت الملكة وأبدت بعض الدهشة وكأن السؤال فاجأها :
- لقد قضينا على الشيخوخة منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام .
- الموت عندنا اختياري وبمعنى أدق لا موت عندنا !
لم يعد الملك يستوعب شيئا !
- كيف اختياري ؟ هل يختار الإنسان عندكم أن يموت ؟
- بل يختار الإنتقال إلى الحياة الأبدية بالإنضمام بطاقة جسده الحيوية الباعثة على الحياة إلى طاقة الألوهة الخالدة ليساهم معها في عملية الخلق! ويتحول باقي جسده إلى نصب خالد بعد أن تذهب طاقته الثانية المادية لإغناء تربة الأرض .
لم يعد الملك لقمان يفهم شيئا وتمنى لو أنه لم يضرب عرض الحائط بخالق شخصيته محمود شاهين فهو الوحيد القادر على أن يفهم ما تتحدث به الملكة .
- أرجو جلالتك أن تأخذيني على قدر عقلي فأنا قادم من كوكب متخلف له مفاهيم مختلفة عن الخلق والخالق.
- االألوهة الخالقة في مفهومنا طاقة عظيمة تسري في الكون كله يتم بواسطتها الخلق وكل شيء ولا يمكن أن يتم دونها كما سبق وأن أسلفت. وحين يمل الإنسان أو يشبع من الحياة الدنيوية ويرغب من أعماق نفسه بالتوحد مع الألوهة ، يقوم بالسعي إلى ذلك بأن يختار طريقة للرحيل في المطلق الأزلي ( أي الألوهة ) كأن يجلس مثل أحد هؤلاء القديسين إلى جذع شجرة أو في أي مكان يختاره حتى لو كان على قمة جبل أو داخل بيته ، ممتنعا عن الطعام والشراب غارقا في أعماق نفسه إلى أن يبدأ بالتوحد بالمطلق والتفاني فيه شيئا فشيئا فاقدا إحساسه بجسده إلى أن يصل إلى ذروة التوحد بصعود الطاقة الحيوية من جسده إلى السماء في شكل هالة نورانية لتندمج بالطاقة المطلقة العظمى طاقة الألوهة الخالدة السارية في الكون والكائنات!. وليصبح بذلك شريكا في الألوهة متوحدا معها. يحس بما تحس ويشعر بما تشعر ويرى ما ترى ويسمع ما تسمع ويتمتع بما تتمتع ويخلق ما تخلق .
بدا الملك لقمان في غاية الدهشة وهو يسمع ما لم يخطر بباله ولو بهذا التصور فقرر أن يسأل سؤالا رغم ادراكه أن السؤال لا يخلو من سذاجة :
- هل هذا يعني أن الألوهة تحس وترى وتتمتع بكل ما تحس وترى وتسمع وتتمتع به الكائنات ؟!
وأجابت الملكة بتأكيد مطلق :
ترى بعيون كائناتها وتحس بإحساسها وتسمع بآذانها وتتكلم بألسنها وتفكر بعقلها وتتمتع بكل ما تتمتع به على الإطلاق بما في ذلك رعشة الجسد والقبلة ! فكل شيء يتم بطاقتها فكيف لا تعيشه ؟ وأسوأ ما تعيشه الألوهة هو الألم لأن كل نقطة دم تنزف من انسان وكل ألم يواجهه تشعر به الألوهة . لذلك نحن في كوكبنا ومن أسمائه كوكب المحبة ، نحاول أن نحيا دائما بمحبة كي لا نجرح شعور الألوهة لأننا ندرك أن الألوهة تسري في أجسادنا وتحس ما نحسه وتتمتع بما نتمتع به وتشمئز مما نشمئز منه . الفرق أنه لا يمكن مقارنة ما نراه ونحسه بما تراه وتحسه الألوهة . فأنا وأنت ومن معنا لا نتمتع الآن إلا بما نراه أمامنا أما الألوهة فهي تتمتع برؤية كل ما يجري في مليارات الأكوان .
وأصر الملك لقمان على طرح سؤال آخر قد لا يخلو من سذاجة وحتى وقاحة :
- لنأخذ الحب مثلا ، فهل رعشة الجسد أو بلوغ الذروة في ممارسة الحب لدى البشر والكائنات الأخرى تشعر الألوهة بها وتتمتع كذلك ؟
وأجابت الملكة بإصراركما في السابق :
- هذا ما توصل إليه علماؤنا وفلاسفتنا استنادا إلى العلم والمنطق وهو ليس حقائق مطلقة ، لكننا لم نتوصل إلى ما ينقضه حتى الآن .
وراح الملك يشكر الملكة ويتابع :
- أشكر جلالتك وآمل ألا أزعجك بكثرة أسئلتي فما يزال لدي الكثير .
- أبدا جلالتك فأنا سعيدة بزيارتكم خاصة وأننا لم نلتق ببشر من كواكب أخرى . الآن سأنتقل بك إلى أماكن أخرى أريك فيها أجسام بشر تحجرت كأجسام القديسين والعلماء وتحولت إلى أنصاب خالدة بعد أن خرجت طاقة الألوهة الحيوية منها وانضمت إلى الطاقة الكلية المطلقة السارية في الكون . بعضها في الحدائق العامة وبعضها على قمم الجبال وسفوحها وبعضها في الأودية وبعضها على ينابيع المياه أو إلى جانبها وبعضها في حدائق البيوت أو داخلها .
- هل هذا يعني أنه ليس لديكم قبور .
- أجل ليس لدينا قبور . كل من يغادر الحياة الدنيوية يتحول إلى نصب خالد .
- هذا يعني أن لديكم خلودين ، خلود دنيوي في نصب وخلود إلهي في الألوهة !
- أجل جلالتك . ونحن على الأغلب أسعد بشر في الكون كله ! هيا بنا .
وضغطت الملكة على زر في جناحيها الصناعيين لتنبعث طاقة تحركهما وطارت مع مرافقيها ليطير الملك لقمان ومرافقوه على طريقتهم وينتقلوا إلى الأماكن الأخرى .
* الحب في كوكب المحبة والجنات !
وهو يتأمل بعض الأنصاب للخالدين في الألوهة وقد انتصبت تماثيلهم إلى جانب صخور أو جذوع أشجارعلى سفح جبل تنبع منه ينابيع متعددة وقد كتب اسم كل خالد على جزء من جسده ، خطر ببال الملك لقمان سؤال حين كان يتأمل أحد هذه الأنصاب لفتاة جميلة اختارت أن ترحل عن الدنيا وتتوحد مع الألوهة وهي جالسة على صخرة كبيرة . ألقى نظرة نحو الملكة وتساءل :
- هل ينجح كل إنسان في الرحيل والإتحاد بالألوهة ؟
- لا ! ثمة من يفشلون لعمل سيء عملوه، أو لعدم صدق نية في الخلاص والتوحد مع الألوهة. فيبقون في الحياة الدنيا ويحاولون تحسين سلوكهم أو تلافي ما يظنون أنه خطأ ارتكبوه فيعودون إلى تكرار المحاولة إلى أن ينجحوا .. أي أن الجميع ينجحون في النهاية .
- لدينا مذهب في كوكبنا يتبعه كثيرون من البشر يدعى مذهب وحدة الوجود يبدو لي أن مذهبكم هو المذهب نفسه لكن بمفاهيم وسلوكيات أعمق . فعندنا يوجد موت ودفن. والطاقة الحيوية تخرج من الجسد وتنضم إلى الطاقة الخالقة بينما تتحلل الطاقة المادية في التربة لتغذيها ، حسب هذا المذهب دون غيره من مئات المذاهب بل آلافها على كوكبنا.
- هذا صحيح فالوجود واحد طاقوي مادي . الطاقة الخالقة وتجلياتها في المادة الحية . الوجودان خالدان . لكن الطاقة الخالقة يشمل وجودها الكل الكوني بينما المادة المتجلية في الكائن بذاته جزئية . فالكائن المادي وليكن الإنسان مستقل بذاته عن المواد المتجلية الأخرى مهما كانت من بشر أوغيرهم كما أنه مستقل بماديته عن الألوهة رغم سريان الألوهة بطاقتها في جسده ، لذلك يكون مسؤولا عما يفعله فقط ، أما بعد اتحاده بالطاقة الخالقة الكلية أي الذات الإلهية أو الألوهة فهو يفقد استقلاليته ويتحد بالألوهة ولا يغدو مستقلا عن كل كائن في الكون وعن كل ما يجري فيه .
اقترب الحشد الملكي من شاب يجلس إلى جانب صخرة بدا وكأنه في اللحظات الأخيرة قبل فيض النور من جسده . وكان ثمة شباب وفتيات يقفون على مسافة أمتار منه. بدا الشاب وكأنه تخلص من عبء جسده والإحساس به وأشرق وجهه بصفاء أخاذ.ولم يبد عليه أنه يشعر بوجود أحد على مقربة منه . أشارت الملكة بيدها بالتوقف وعدم المرور من أمامه احتراما له وللألوهة التي ينشدها. ولم تمر سوى لحظات حتى انبعث من كافة أنحاء جسده شعاع شكل هالة بدت وكأنها غيمة صغيرة راحت تصعد إلى السماء . جلس الجميع خاشعين على ركبهم إلى أن تلاشت الهالة في الفضاء البعيد . فيما كان جسد الشاب يتحول إلى منحوتة حجرية في غاية الجمال .
لاحظ الملك لقمان ومرافقوه أن الوحوش والطيور والحيوانات المختلفة لا تخافهم ولا تفزع أو تهرب حين تراهم فتساءل عن ذلك . قالت الملكة:
- كوكبنا كوكب محبة والصيد ممنوع عندنا كما أنه ليس لدينا بنادق مهما كان نوعها للصيد أو غيره وكل شيء عندنا محبوب ..
وبينما كان الحشد يقترب من أسد ولبؤة راحت الملكة تملس على رأسيهما وهما يقبلان يدها كل بدوره , وكي تزيد ضيوفها دهشة دنت من شجرة أينعت ثمارها وتفتحت زهورها وراحت تملس على أوراقها فأخذت الشجرة تهز أغصانها وتتراقص!
بدا الملك ومرافقوه في غاية الدهشة . وخطر للملك أن يسأل الملكة عن الطاقة الحيوية في الحيوانات والنباتات :
- جلالتك ! هل يحدث للطاقة الحيوية في الحيوانات والنباتات ما يحدث للطاقة الحيوية في الإنسان ، أي أنها تصعد إلى السماء وتنضم لطاقة الألوهة !
- أجل جلالتك حين ينتهي أجلها .
أيقن الملك لقمان أن أفكار ومعتقدات هذا الكوكب منسجمة في كل شيء ومع كل شيء ولا يشذ عنها شيء . وبدا غير مصدق لهذه الإرادة لهؤلاء الناس التي استطاعت أن تحقق كل هذا الرقي والتحضر . فقال جازما بسؤال ينطوي على جواب :
- أدرك الآن أن الغاية من وجودكم هي تحقيق قيم الخير والعدل والحق والجمال والمحبة ورفعة الحضارة الإنسانية. وأن عملية الخلق لديكم تكاملية بين الخالق والمخلوق وأن لا غنى لطرف لديكم عن الآخر .
- بالتأكيد جلالتك . أنت الآن تعرفنا جيدا . فكلنا خالقون وكلنا مخلوقون . وكلنا واحد في الكل هو الخالق وكل في الواحد هو نحن والكون والكائنات .
شعر الملك لقمان أنه لم يبق أمام الملكة إلا أن تردد بعض كلماته " فنحن الواحد في الكل والكل في الواحد يتحد " وبدا في غاية السعادة بلقائه بأناس يعتنقون مذهبه ويتعمقون فيه وراح يتمنى في سريرته أن يسود هذا المعتقد العالم ، فيما كانت الملكة تدعوه ومرافقيه إلى القصر الملكي للإستراحة وتناول طعام العشاء على مائدة القصر .
أقبلت نسمة التي كانت قد أخذت بجمال شاب من كوكب الجنات وهي في غاية الفرح والسعادة وراحت تطوق عنق الملك لقمان وتقبله وهي تسر إليه بسر جميل :
فبدا الملك فرحا وهو يهمس لها :
- مبروك حبيبتي أين الحبيب ؟
والتفتت وراءها حيث كان الشاب يدنو بخطى متئدة وقد اعتراه بعض الخجل . مد الملك يده مرحبا به . اقترب الشاب . ضمه الملك وقبله ثم ضم جسده إلى جسد نسمه وقبلهما معا ، ثم هتف :
- مبروك .. سنحتفل بحبكما هنا إذا سمحت لنا الملكة !
- سنكون سعداء بالإحتفال بهما في قصرنا !
رقصة الملك شمنهور في حفل زفاف نسمة !
غصت صالة الإستقبال في القصر الملكي في كوكب المحبة والجنات بمئات مستقبلي الملك لقمان ومرافقيه ، بينهم وزراء وعلماء وأدباء وفنانون .. وعزفت فرقة موسيقية مجموعة من الألحان الحالمة ثم قدمت فرقة باليه عرضا صفق له الحضور طويلا .. واستأذن الملك لقمان الملكة شمس الورود في إقامة حفل زفاف نسمة في المناسبة نفسها فوافقت . ,أرسل الملك المركبة الفضائية لإحضار والدي نسمه وأختها وأستير وباقي فريق المركبة لحضور حفل زفاف نسمة . فذهب وأحضرهم . ودخلت نسمة وحبيبها ليجهزا نفسيهما لحفل الزفاف. وما هي إلا لحظات حتى ظهرا بثياب الزفاف وهما يدخلان القاعة ممسكان يديهما .. ضج الحضور بالتصفيق الحار ورافقهما الملك لقمان والملكة شمس الورود ووالدا نسمة والشاب ( أنيس ) إلى منصة تتصدر القاعة وبارك الملك لقمان والملكة شمس الورود زفافهما باسم الألوهة الخالدة في الكون والكائنات وتمنيا لهما السعادة ودعيا لهما باحترام وصون الألوهة في جسديهما وأن لا يقدما على ما يعكر صفاءها وأن يجعلا المحبة شعارهما الدائم . ورافقاهما بدعوتهما للجلوس إلى المائدة الملكية مع ذويهما.
وفجأة ظهرت في فضاء القاعة فقاعات من أنوار ملونة راحت ترسم أشكالا هندسية بديعة أو تتجمع وتتفرق بحركات جمالية راقصة مشكلة نجوما بزوايا متعددة متشابهة أومختلفة الأحجام والأشكال رافقها موسيقى كونية ساحرة رافقها أصوات كورالية لم يعرف أحد مصدرها ، وظهرت على مسرح القاعة فرقة من الفتيات الراقصات حاسرات السيقان والأفخاذ والأيدي والأكتاف والصدور ورحن يهززن خصورهن ويرقصن أرجلهن على إيقاع الألحان وكانت الألوان تتراقص بدورها هي الأخرى . شعر الجميع بحاجتهم إلى الرقص فنهضوا وقد طلبت الملكة شمس الورود يد الملك لقمان للرقص فنهض معها فيما طلب أحد وزراء الكوكب يد الملكة نور السماء فنهضت معه . شعر الملك شمنهور ببعض الغيرة حين طلب أحد الشباب يد ربة الجمال للرقص فنهضت معه لتسحر برقصها العقول ،فيما كانت دليلة تتلوى مع الأنغام لتغوي أكثر من شمشون سماوي برقصها وجمالها وقد رافقها شاب في غاية الوسامة والجمال. أما أستير فبدت وكأنها حورية من حواري كوكب الجنان وهي تموج حركات جسدها لتبدوكثعبان يمتطي أمواج البحر! وانتهز الملك شمنهور الفرصة ليقتل غيرته على مراقصة زوجته (دليلة ) ومحبوبته ( ربة الجمال ) بأن جال بعينيه بين الفتيات والنساء ليختار الأكثر جمالا ويطلبها للرقص دون أن تعرف أنه جني وقد ظهر في شكل إنساني متقمصا شخصية شاب في غاية الوسامة والجمال . ذهلت الفتاة حين راح يقلبها كيفما يشاء وكأنها ريشة بين يدية ، ينقلها من يد إلى يد ويجلسها على أحد كفيه ثم يشلفها على كتفه الأيمن ثم يمددها على كتفيه الإثنين ليعيدها إلى الكتف الأيسر . يقلبها رأسا على عقب ليغدو رأسها بالقرب من قدميه وقدماها على كتفه وتنورتها القصيرة تنحسر إلى أسفل حتى تغطي كتفيها ، يفتلها ليعيدها إلى وضعها الطبيعي ضاما قامتها إلى طول جسده واضعا فمه بالقرب من فمها ليأخذ من شفتيها قبلة عميقة ،وما يلبث أن يطوق خصرها بيديه ويقذفها في استقامة إلى أعلى ويتلقفها من خصرها ثانية ثم يقذفها ثانية في الفراغ ليجعلها تسقط واقفة على كف يده اليمنى ويقذفها أعلى ليسقطها على كف يده اليسرى ثم يقذفها عرضيا ليتلقفها بيديه الإثنتين من تحت ظهرها ثم يحركها بشكل دائري وأصابع يديه تتسارع في تدويرها بحيث لم يعد أحد قادرا على رؤية تفاصيل جسدها لسرعة دورانها . أدرك الملك شمنهور أن الفتاة لا شك داخت ولن تستطيع الوقوف إذا ما أنزلها إلى الأرض وتركها .. فراح يبطئ من حركة أصابعه ليتباطأ دورانها على أصابعه شيئا فشيئا إلى أن أوشكت أن تتوقف فأدارها إلى أن أصبح طول قامتها في استقامة مواجهته فقلبها ليضمها إلى طول جسده ويحتضنها حتى لا تسقط ضاما رأسها إلى عنقه. وحين فتحت الفتاة عينيها أدرك أنها استعادت توازنها فأخذ يدها اليسرى وجعلها تدور حول نفسها مرتين ثم احتضنها من الخلف تاركا وجهها في مواجهة الجمهور. وتوقف عن الرقص ليفاجأ بتصفيق حاد من كافة الحضور الذين أدهشهم الملك شمنهور بترقيص الفتاة بهذا الجمال الذي لم يروا مثله . ولأول مرة في حياته انحنى الملك شمنهور محييا الجمهور حين وجد االفتاة تدفعه للإنحناء مثلها . أما مفاجأة الملك شمنهور غير المتوقعة فكانت أن الفتاة شرعت في تقبيله ما أن انتهى الحضور من التصفيق وطرحت عليه فكرة أن تكون محبوبته . شكرها الملك وأخبرها أنه ملك جني وأن زوجاته ومحبوباته كثيرات . أبدت دهشتها معلنة أن ذلك يسرها إن قبل، فقبل، وهل يعقل أن لا يقبل الملك شمنهور المولع بالنساء بعد أن حرم منهن ثلاثة آلاف عام في قمقم الملك سليمان كأسوأ سجن في الكون يمكن أن يسجن فيه كائن ما !
عاد الحضور إلى الرقص الرومانسي.
شعر الملك لقمان بروح الشباب تعود إليه وهو يحاضن ويخادد الملكة الشابة شمس الورود التي بدأت تفكر في إمكانية عودة الشباب إليه فيما الملكة نور السماء تتمنى أن لا يقعا في الحب فهي ما تزال تغار من أستير التي يبدو على الملك أنه يحاول إخفاء رغبته فيها ولا يواقعها حتى لا يزعج الملكة !
جلس الجميع إلى مائدة العشاء بعد أن تمتعوا لبعض الوقت برقصة العروسين . عشاء من اللحوم والخضاروالفواكه المنوعة لكنه ليس باذخا كموائد الجن . وخمور منوعة أيضا وضعت في جرار كريستالية . والخدمة عادية وليست جنية فليس هناك أطباق تتحرك وتطير وحدها . بل يحملها شباب وشابات يرتدون أزياء جميلة ، وإن كان هناك رجال آليون يقومون بتقطيع اللحوم والقيام ببعض الأعمال .
****