الخالقَ تعالى لا يحتاج إلى أزمنة الخلق، بل قدّر لتمام الخلق والتكوين أزمنةً تلائم نفس الخلق في سُنَنٍ وضعها. وإذن فالأيّام المذكورة هي ليس فترةً قضاها في خلق هذه الأشياء، بل هي آمادٌ مضروبةٌ لها لتتشكّل كيفما شاء. وكما حدّدَ لها آماداً للتشكّل فقد حدّدَ لها آجالاً أيضاً. قال تعالى:
} وَمَا خَلَقنَا السَّماواتِ والأرضِ إلاَّ بالحَقِّ وأَجَلٍ مُسمّى { الأحقاف 3
فما أدراهم أنَّ بعضها لا زال في طورٍ من أطوار التكوين.. بل لا بدَّ من ذلك. فالأيّام الستّة هي رقمٌ عدديٌّ بديلٌ عن الأمد المضروب نفسه.
والحديث عن (أيّامٍ) وقت لا زال فيه الفلك في أوّل تكوينه وتشكيله، ووقت لم تنبثق عنه حركةٌ منتظمةٌ، هو من باب الحديث عن المعدوم. إذ كيف يفترض وجود زمانٍ قبل تكوّن حركة الفلك؟
ولكن حينما يكون هذا الزمان هو زمان الأجل التامّ فإنَّه سيكون من خصائص حركة الفلك، ويكون له معنى يفهمه السامع ويقدّره. ويكون هو الظرف العام لحركة هذه الأجزاء كلّها.. فهي إذن (فيه) تتحرّك وتتكوّن، و(فيه) تقع حوادثها من البدء والإعادة.
و لو قال الرجل لابنه المسافر (قدّرتُ لك نفقةً وطعاماً في شهرين)، لكان معناه أنَّ الطعام والنفقة يكفيانه شهرين، وليس المعنى أنَّه قضى شهرين في تقديرها. فلماذا أصبح قوله تعالى (وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيامٍ سواءً للسائلين) مختلفاً، وأصبحت الأيام الأربعة ماضية كلّها؟ و لم يسأل أحدٌ عن معنى (سواء)، وبماذا هو متعلّق بالتقدير أم بالأيام الأربعة؟. فمن الواضح لغوياً أنَّه متعلّقٌ بأربعة أيامٍ فيها يظهر جميع السائلين. فهو من هذه الجهة أمدُ الخلق نفسه لا أمدُ السماوات والأرض. ومعلومٌ أنَّ حُقباً ودهوراً مرّت على أجناس وأطوار من الكائنات قبل الإنسان… فهذه الأيام الأربعة هي أمدُ الحياة على الأرض.
والخلق (مستمِّرٌ). قال تعالى:
} وَيَخلُقُ مَا لا تَعلَمون { النحل 81
وإنَّ توسيع السماء مستمرٌّ:
} والسَماء بَنينَاهَا بأيدٍ وَإنَّا لَموسِعون { الذاريات 47
مع وجودُ فعلِ مضارعٍ بجوارِهِ فعل مضارعٍ مستمرٍ في قوله تعالى:
} أنَّهُ يُبديءُ ويُعيد { البروج 13
فالخطأ كلُّ الخطأ هو في تصوّر أنَّ الأيام الستة مضت كلّها كزمنٍ للخلق، بينما الزمن لم يظهر كحركةٍ للفلك إلاَّ بعد الخلق الذي هو مستمرٌّ في ظرف زمانه.
والأرض هي جزءٌ من هذا الكون الواسع وأنَّه تعالى بدأ الجميع خلقاً وإيجاداً، إلاَّ أنَّه فصل المراحل والأحقاب والآجال في هذه الآيات
|