عرض مشاركة واحدة
قديم 04-24-2016, 04:16 PM ابن دجلة الخير غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [8]
ابن دجلة الخير
عضو بلاتيني
 

ابن دجلة الخير is on a distinguished road
افتراضي

الجزء السادس والأخير
وثبت بذلك فشل النماذج التي طبقتها النظم الحاكمة التابعة في البلدان النامية. وسواء تولت الحكم بأنقلابات عسكرية او مدنية لتأمين مسيرة الرأسمالية المحلية واحتواء السخط الجماهيري الناجم عن المتاعب الأقتصادية, فأن سياستها الأقتصادية التي اوصى بها صندوق النقد الدولي, ابتداء او انتهاء, قد قادتها الى الفشل الذريع. فسياسة الأنفتاح على السوق الرأسمالية العالمية, وتفكيك القطاع العام, وسيادة القطاع الخاص ونظام السوق, وتفكيك و تقليص قطاع الخدمات الأجتماعية, لم تكن لها من نتيجة سوى مفاقمة الأزمة الأقتصادية والأجتماعية والسياسية, وتفكيك جهاز الدولة ونشر الفساد في اركانه, وتدمير جزء من الصناعة والزراعة الوطنية, ومضاعفة النزعة الأستهلاكية السفيهة, مع اثار ذلك كله على عجز ميزان المدفوعات وعجز ميزانية الدولة والالتجاء الى تغطية بالتضخم ورفع الأسعار وزيادة بؤس الفقراء وزيادة غنى الأغنياء والحكام.
وبصفة خاصة كان التفكيك الذي حدث في القطاع العام لم يملأه القطاع الخاص بمزيد من فرص الأنتاج ومزيد من فرص العمل والسعي لرفع الكفاءة الأنتاجية حتى الأستثمارات الي جرت فلقد تمت على اساس الأستدانة من النظام المصرفي الداخلي اوالأستدانة من الخارج. وعندما فتحت الأسواق الداخلية فلقد احدثت في اسواق اخرى – مثل سوق العمل وسوق المال- اختلالات رهيبة. وفي احوال كثيرة, فان فتح الباب امام رأس المال الدولي بلا تمييز قد دمر جزءا من الصناعة الوطنية التي كانت قد نمت في ظل سياسة احلال الواردات.
وتبين ان الثمن الباهظ الذي دفع على حساب الديمقراطية الساسية والعدالة الأجتماعية والأزدهار الثقافي لم يكن له نفع في المجال الأقتصادي. كما تبين ان النظم الأستبدادية الحاكمة كانت تحمي النهب الغاشم للبلدان النامية. فلما سقطت وعادت نظم مدنية بقدر من الديمقراطية انكشفت الأوضاع وهبت الجماهير واضطر الحكام الجدد لأتخاذ موقف ما: التوقف عن سداد فوائد الديون, او تحديد الدفع بنسبة معينة من حصيلة الصادرات, او الألغاء الكلي للمديونية الخارجية.
لكن ثبت ايضا ان المديونية اصبحت هي الآلية الرئيسية لأستعادة الرأسمالية العالمية لهيمنتها المباشرة على البلدان النامية المدينة. واصبح نمو اعباء الديون يجري بمعدلات اسرع من نمو حجم الديون. واصبحت الفوائد الأقساط السنوية تلتهم الجزء الأكبر من الديون الجديدة. وفي احيان كثيرة كان يثبت ان حجم الأموال المحلية المهربة الى الخارج, وبعضها منهوب من القروض الخارجية, اكبر من حجم المديونية الخارجية للبلد النامي الذي كان عليه ان يستمر في الأقتراض على الوام. فيقترض ليسدد قروضه. ويقترض ليستورد غذاءه.
واصبحت شروط اعادة الجدولة تعني ان يخضع البلد المدين لمشيئة الدائنين – كما يحددها صندوق النقد الدولي – في صياغة سياساته الأقتصادية والجتماعية, بل والساسية ايضا. وهو ما يعني ان تتم ادارة الأقتصاد والمجتمع والدولة من الخارج. ويعني ايضا ان ادارة المديونية الخارجية صارت اهم آلية لنهب الفائض القتصادي للبلد النامي. يكفي مثلا ان نعلم ان سعر الفائدة على القروض العسكرية كان 6و5% في العام1972 فأصبح 14% في العام 1984. وهذا السعر لا علاقة له بقوانين العرض والطلب, وانما هو مسألة سياسية تحددها الحكومة الأمريكية.
وبهذه المناسبة نسوق بعض نوادر امريكا مع مصر في عدد من المرات التي طلبت فيها مصر قرضا امركيا يضاف الى القرض الذي وافق البنك الدولي على تقديمه لمصر من اجل بناء السد العالي. ففي عام 1956 اعلن دالاس وزير خارجية امريكا للملك سعود عاهل السعودية انه قرر المعاونة في بناء السد العالي لأن " المشروع طويل الأجل ومن شأنه ان يربط مصر بأمريكا لمدة عشر سنوات ". غير ان الأمريكيين طلبوا من مصر – نظير القرض المقدم – منحهم الحق في السيطرة التامة على السياسة الأقتصادية ابتداء من مياه النيل, كما حاولوا ارغام مصر على العدول عن سياسة الحياد الأيجابي وعلى ابرام سلام مع اسرائيل. كان ذلك في 19 تموز 1956. وبعدها بأسبوع واحد في السادس والعشرين من تموز اعلن عبد الناصر قرار مصر بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس.
وفيكانون الثاني 1957, بعد هزيمة العدوان الثلاثي على مصر, طالبت مجموعة من رجال الكونجرس الأمريكي بتدويل جزء من الأراضي المصرية التي تحدها اسرائيل, وحرمان مصر من حق ادارة قناة السويس. وفي نفس الوقت اقترحت بعض الأحتكارات الأمريكية, وفي مقدمتها بنك تشيس مانهاتن على الحكومة المصرية تأجير قناة السويس لهم, لكن مصر ردت بالتصفية الكاملة لرأس المال الأجنبي, وساعد ذلك على اتباع سياسة خارجية مستقلة وبدأ تنفيذ برنامج للتصنيع.
وفي السنة الأخيرة عندما لجأت مصر الى امريكا طالبة مساعدتها في اقناع صندوق النقد الدولي بتخفيف شروطه على مصر, طلبت امريكا ان توافق الحكومة المصرية على فتح بنك اسرائيلي في القاهرة يتولى الوساطة في اقراض مصر, إقامة قاعدتين عسكريتين في مصر لقوات الأنتشار السريع, احدهما غرب الأسكندرية والأخرى في قنا. لكن مصر رفضت هذه المطالب الغريبة التي تستهدف النيل من سيادتها.
ان القروض الخارجية هي الفخ المنصوب للبلدان النامية, سواء جاءت من البنك الدولي او من صندوق النقد الدولي. وهي المناسبة الذهبية لأقتناص الفريسة وفرض الشروط عليها ضمانا لحقوق الائنيين اولا وقبل كل شيء.
وفي الأيام الأخيرة, عندما حلت بالاردن أزمة اقتصادية خانقة من جراء توقف الدعم العربي الذي كان يبلغ مليارا وربع مليار دولار في السنة, ومن جراء توقف حرب الخليج بين العراق وايران, اخذ الأردن يعاني منذ اوائل عام 1988 من قلة النقد الأجنبي لديه وبخاصة من انخفاض تحويلات الأردنيين العاملين في الأقطار العربية النفطية, فأن الحل الذي أوصى به الصندوق كان هو رفع الأسعار, وفي مقدمتها اسعار الوقود والعلف في بلاد تعتمد على النقل بالسيارات بين العراق وعمان والسعودية وتعتمد على الزراعة ورعي الماشية. ومن ثم اندفعت الجماهير للتعبير عن سخطها في منطقة لا يمكن ان يشك في ولائها للنظام الحاكم. لقد خرجت في الواقع لتعلن سخطها على صندوق النقد الدولي ووصفته المشؤومة التي تحمل الخراب للدول النامية والمزيد من البؤس لشعوبها المطحونة. (انتهى)
الدكتور فؤاد مرسي



  رد مع اقتباس