يكمن الغرض من هذه التجربة الفكرية في حقيقة أننا نتقدم ببطء لكن بثبات نحو هذا الوضع المثالي. فخلال معظم تاريخ البشرية لم يمتلك أي إنسان القدرة على شن حرب سيكون إفناؤها لكل أشكال الحياة على الكوكب احتمالًا كبيرًا. في العصر الحالي بعضهم يمتلك. كلما استمرت تكنولوجي الأسحلة في التقدم بقفزات هائلة سريعة تصير القدرة على إيقاع الدمار الشامل متاحةً أكثر فأكثر على نحو واسع. إن أسلحتنا لا تصير فقط أكثر إهلاكًا، بل مثل هواتفنا الخلوية [الموبايلات] تصير أكثر سهولة في الوصول إليها ويسرًا في الاستعمال ومضغوطةً أكثر. إن هذه الظاهرة_جزئيًّا_كما يُزَعَم هي ما قاد إدراة جورج بوش الابن إلى شن تحرك عسكريّ واسع بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، بما في ذلك الغزو الوقائي المثير للجدل للعراق عام 2003 [130].
تقدمنا التكنولوجي الذي لا يُصدَّق قد ساهم في الكثير من المشاكل التي نواجهها حاليا. لكن أيضا يقدم بعض الأسباب للأمل. لقد استخدمنا العلم للسيطرة على الكثير من القوى الأساسية العاملة في العالم الخارجي. ينبغي أن نركز جهودنا الآن على استعمال العلم للسيطرة على قلب الظلام بداخلنا. في كون من وجهة نظر المذهب الطبيعي، ليس هناك سبب مسبَق للاعتقاد بأن مشروعا كهذا لا يمكن أن ينجح. ليس هناك ضمان إلهي أن مثل هذا المشروع سوف يفشل، وليس هناك أمر إلهي بأننا ينبغي ألا نقوم بهذا الجهد. علاوة على ذلك، فإن مصدر قلب الظلام _النظام العصبي البشري_جزءٌ من العالم الطبيعي الفيزيائي؛ إنه ليس روحًا غير مادية غير ممكن للعلم الوصول إليها إلى الأبد. في عالم من منظور طبيعي، فإن العقل البشري هو منتج بالكامل لعمليات عمياء عاملة خلال دهور لا تُحصى. لا يوجد شيء مقدس بخصوص تصميمه، إنه ليس جزءً من خطة إلهية، أو إنشاء إلهيّ يحرم عينا التلاعب فيه. كتب Owen Flanagan [في كتابه مشكلة الروح The Problem of Soul 2002]:
"إن العواطف الأساسية ربما تكون قد تطورت تمامًا كتكيفات في أسلافنا القريبين أو فينا....لكن ما إذا كانت ستستمر في العمل بنفس كيفية اعتمادها على تقيدها بإحكام بحوافز معيَّنة كما هي عليه، مع الاختلافات بين البيئات التي نعيش فيها اليوم والتي نشأت فيها تلك التكيفات. إن أي صفة_مع حدوث تغير بيئي مغاير معاكس_يمكن أن تصبح تكيفًا سيئًا."
أشار كثير من علماء التطور وعلم النفس التطوري مثلا إلى حب الحلويات والسكريات. ففي بيئة فيها كان أكثر نوع من الطعام سكرية وحلاوة هو الفواكه والبروتينات نادرة نسبيا، فإن امتلاك شهية قوية للطعم الحلو واللحوم ربما كان مفيدًا على المدى البعيد. لكن عندما تصير البيئة تعج بالكيكات والحلويات السكرية كالكَندي والمصاصات والعسليات والآيس كريم وسندوتشات همبرجر اللحم [البقري أو] الخنزيري المزدوجة مع الجبن الدسم، فإن مثل هذه الشهيات تسبب بدانة بمعدل لم يشهده العالم من قبلُ، مع وفرة من المشاكل الصحية الجدية. على نحو مماثل، ففي بيئة كان بها حدود مقيدة لمقدار الدمار الذي يقدر إنسان مفرد أن يحدثه، فإن الخوف والغضب والشهوة غير المتحكم بهن ربما كانت أفضلية نسبيا على المدى الطويل. لكن حيث أن قدرة أفراد البشر على إحداث الدمار تزداد كنتيجة لتقدم التكنولوجي، فإن مثل هذه العواطف تصبح خطيرة على نحو متزايد.
إننا لم نَقْنَع بمنح الطبيعة التي صادف أن وُجِدَتْ في طريقنا. بدلا من ذلك، لقد استخدمنا العلم لانتزاع المزيد والمزيد من المنح من الطبيعة. إننا لا نمشي، بل نستعمل العجلات والدراجات والسيارات والقطارات ومترو الأنفاق والطائرات. إننا لا نعيش في العراء، مرتبين برنامجنا اليومي وفق شروق وغروب الشمس، بل في البيوت، ونشكِّل إتاحة الضوء حسب جدالنا بدلا من الطريق المعاكس. لاحظ برتراند رَسِل [في مقاله الجيل الجديد]: "لم تعد الأسنان تُخْلَع كما كان يقام بذلك عندما كنتُ صغيرًا، بربط سلك بها وبمقبض الباب ثم غلق الباب". نحن لم نترك أنفسنا لنكون حرفيا وتماما تحت رحمة قوى الطبيعة الخارجية، فلماذا ينبغي أن نترك أنفسنا تحت رحمة نظامنا العصبي الخاص بنا حرفيا؟!
إن هذا النظام العصبي، مع قدرتنا المتزايدة بسرعة على تدمير بعضنا البعض، يصنعان تهديدًا خطيرًا. كالمتحكّم في رواية ألدوس هكسلي (عالم شجاع جديد) فهذا هو بالضبط نوع التهديد الذي قادر الناس إلى القبول بالمجتمع الذي قصد هكسلي أن يجعلنا نراه منفِّرًا:
" ما أهمية الحقيقة أو الجمال أو المعرفة عندما تكون قنابل [جراثيم] الجمرة الخبيثة تُفجَّر في كل مكان حولك؟! ذلك كان حينما بدأ يُتحكَّم بالعلم لأول مرة.....لقد كان الناس مستعدين لأن يُتحكَّم حتى برغباتهم آنذاك، أي شيء لأجل حياة هادئة."
المواطنون في رواية عالم شجاع جديد أنقذوا أنفسهم بالسماح بجعل أنفسهم يُحوَّلون إلى أطفال، قادرين فقط على الفضيلة المتظاهر بها والسعادة الزائفة. هل يمكننا عمل ما هو أفضل؟ بدون الله، لا ضمانَ أننا سنكون قادرين على إنقاذ أنفسنا من أنفسنا، لكن وكذلك ولا ضمان هناك أننا سوف نفشل. هناك مجال للأمل. اقتراحي أن نركز جهودنا على المحاولة.
الفصل الخامس والأخير: عقائد للعيش بها
34«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا. 35فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. 36وَأَعْدَاءُ الإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ.
يسوع الناصريّ- إنجيل متى 10
[ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} المائدة
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} النساء ]
أن تؤمن أم ألّا تؤمن؟
قرب نهاية الحوار مع Phaedo فايدو يقدِّم سقراطس_حسبما روى أفلاطون_ وصفًا تفصيليا بوضوح عن الكون والذي يحتوي على شرح لطبيعة العالم السفلي والمصائر التي يواجهها الأنواع المختلفة من الناس فيما بعد الحياة[131]. بعد تقديم ذلك الشرح المطوَّل ومباشرةً قبل تحميم نفسه استعدادا لشرب شراب الشوكران السامّ [كحكم بالإعدام عليه]، يقول سقراطس الملاحظات التالية:
"لا رجلَ عاقلَ سيصر على أن هذه الأمور كما قد وصفتها، لكني أعتقد أنه لملائمٌ للرجل أن يخاطر بالاعتقاد، لأن هذه المخاطرة واحدةٌ نبيلة، أيْ: أو أن شيئا ما مثل هذا صحيح بخصوص أرواحنا ومساكنها، بما أن الروح خالدة على نحوٍ جَلِيٍّ، ويجب على المرء أن يكررها لنفسه كما لو كانت تعويذةً، وهذا سبب إطالتي لقصتي."
هذه إحدى أقدم الفقرات التي أعرفها التي يظهر فيها فكرة أنه بينما تكون معرفة الفائق للطبيعة فوق استيعابنا، فإننا ينبغي أن نحاول رغم ذلك أن نكتسب اعتقادات معينة عنها. يبدو أن فكرة سقراطس هي أن امتلاك معتقدات معيّنة عن الفائق للطبيعة سيجعلنا "ذوي شعور جيد" خلال الحياة، قادرين على مواجهة الموت كما قد فعل هو، بدون خوف، وأنها ستجعلنا أناسًا أفضل.
إن فكرة مشابهة تؤسس رهان باسكال الشهير. اعتقد باسكال أن معرفة وجود الله أو عدم وجوده خارج قدرة الإنسان على الوصول لحقيقتها، [كتب في كتابه التأملات Pensees]:
الله قد يكون أو لا يكون. لكنْ إلى أي جانب سنميل؟ العقل لا يقدر أن يقرر أي شيء [بصدد ذلك]. هناك فوضى كونية لا نهائية تفصلنا. عند النهاية البعيدة لهذه المسافة غير المحدودة تُلعَب لعبة [رهان] والعملة ستأتي على وجهها أو قفاها. كيف ستقوم برهانك؟ العقل لا يمكنه اختيار سبيل أو الآخر، العقل لا يمكنه الدفاع عن أيٍّ من الاختيارين.
وفقا لباسكال، تتضمن السعادة الأبدية_التي قد ينالها المرء إن اعتقد على نحو حقيقي بالله ولو كان الله موجودًا_أن كلًّا منا يجب أن يحاول أن يغرس في ذهنه اعتقادا حقيقيا بالله. في الواقع سنكون حمقى لو لم نفعل، رغم أننا لا يمكننا البرهنة بالجدل على تبنينا لطريق وجود الله. الإيمان بالله هو رهان عقلانيّ فقط. في زمن أحدث، دافع John Cottingham في كتابه معنى الحياة Meaning of Life, 96–97 عن تنويعة على جدلية باسكال. في نسخة Cottingham _كما في نسخة سقراطس_فإن بعض فوائد الاعتقاد تُكتَسَب في هذه الحياة. يلخِّص Cottingham جدليته بهذه الطريقة:
"أولًا، هناك فوائد واضحة مترافقة مع الحياة الروحية. ثانيا، فإن التعاليم الميتافيزيقية [الغيبية] المؤسسة لها تتعلق بأمور ليست ضمن مجال المعرفة العقلانية. ثالثا، فهذا شيء لا يجب أن نقلق بصدده كثيرًا رغم ذلك، بما أن تبني الممارسات ذوات الصلة سيسبب تكرسًا عاطفيًّا والذي سيتجاوز الاحتياج إلى اقتناع عقلاني مسبَق....إنه منطقيٌّ أخذ السبيل الباسكاليّ، وتبني المخاطرة، وتلقين وتعويد النفس تدريجيًّا على الممارسات ذوات الصلة، بدلا من البقاء خارجًا في موقف عقلي غير مُرضٍ للتحفظ المعرفي الخالي من العاطفة المحايد."
لقد رأينا من قبل نسخة كانط من هذه الفكرة الأساسية، حيث قال أن سبب وجوب أن نحاول الاعتقاد بالله أن فعل ذلك هو السبيل الوحيد الذي يمكننا به إنجاز كل التزاماتنا الأخلاقية. إنه لهامٌّ ملاحظة أن هذه الجدليات_حتى لو افترضنا أنها ناجحة تمامًا_لا تتضمن بأي حالٍ أن التعاليم الفائقة للطبيعة محل الكلام صحيحة. عوضًا عن ذلك، فإنها تقصد البرهنة أننا ينبغي أن نؤمن بهذه التعاليم، ليس لأنها صحيحة، بل لأجل سببٍ آخر.
ناقشتُ كذلك جدلية Graham في الفصل الثالث، وهو يقول في كتابه الشر والأخلاق Evil and Ethics, 96 بأن هذه الجدلية لا تدّعي البرهنة على استنتاجها، بل تنشئ سببا للافتراض المسبق لصحة الاستنتاج.
أود دراسة نسخة من هذه الفكرة والتي وفقا لها ينبغي أن نحاول أن نزرع في عقولنا اعتقادات معيَّنة بخصوص الفائق للطبيعة على أساس أن القبول الواسع الانتشار لهؤلاءِ الاعتقاداتِ سيجعلنا أفضلَ حالًا عمومًا. بوجه خاص، سأدرس الاقتراح القائل بأننا، بافتراض أن العقل لا يمكنه إعلامنا عما إذا تكون المسيحية صحيحة أم باطلة، ينبغي علينا رغم ذلك محاولة جعل أنفسنا والآخرين نقبل المسيحية لأن فعل ذلك سيجعلنا عمومًا أفضل حالًا في هذه الحياة.
تقييم هذه الاقتراح يتطلب بوضوح فحص نتائج القبول المنتشر على نحو واسع للمسيحية. علاوة على ذلك، حيث أن هناك تنوعاتٍ عديدةً للمسيحية، فإن هناك احتمالية أن نتائج القبول الواسع الانتشار لهذه الأشكال المختلفة قد تتنوَّع. إن دراسة كاملة لتأثيرات المسيحية عبر التاريخ هي بوضوح خارج غرض العمل الحالي، وكذلك خوض نقاشٍ عن الأشكال العديدة للمسيحية. بدلا من ذلك سأحدد عناصر معيَّنة من الفِكر موجودة بوضوح في العهد القديم [الجزء اليهودي من الكتاب المقدس المسيحي_المترجم] وأجادل بأن أي نسخة [مذهب] من المسيحية، أو أي منظومة اعتقادٍ تتصل بذلك وتشابهه، تتضمَّن هذه العناصر هي لأجل ذلك السبب خطيرة. الانتشار الواسع لقبولها يرجَّح أن يكون له نتائج سيئة جدًّا للكثيرين منا. يفتقد المذهب الطبيعي هذه العناصر ولذلك_في هذا الجانب على الأقل_هو اعتقاد أقل خطورة. لن أحاول عمل مقارنة كاملة بين نتائج قبول المذهب الطبيعي في مقابل النتائج الخاصة بقبول المسيحية، ولا سأحاول تقرير أي نسخ المسيحية_لو كان هناك أيٌّ منها_يخلو من هذه العناصر الخطيرة التي سأحددها. إذن، فإن فرضيتي في هذا الجزء هي هذه: إن آراءً معينة في العهد القديم [التاناخ الذي كتبه اليهود وتبناه المسيحيون_م] خطيرة جدًّل، وكلما قلَّ من يعتقدون بهذه الآراء صرنا كلُّنا أفضلَ حالًا.
الأول من هذه العناصر الخطيرة هو مفهوم أن هناك إلهًا والذي قد اختار مجموعة معينة من الناس ليكونوا شعبَه[132]. إحدى أهم الروايات في العهد القديم هي رواية كيف أن الله_من بين كل الشعوب المختلفة على وجه الأرض_قد اختار مجموعة واحدة_الإسرائيليين_ليكونوا شعبه المختار. بعد تقسية قلب الفرعون المصريّ لكي [كما أبلغ موسى الفرعونَ] " 16وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا أَقَمْتُكَ، لِكَيْ أُرِيَكَ قُوَّتِي، وَلِكَيْ يُخْبَرَ بِاسْمِي فِي كُلِّ الأَرْضِ." [الخروج9: 16]، جعل اللهُ موسى يقود الإسرائيليين إلى خارج مصر. عندما وصل الإسرائيليون إلى جبل سيناء، أخبر اللهُ موسى أن ينقل رسالةً إلى باقي الإسرائيليين: "5فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي، وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ الأَرْضِ. 6وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً. هذِهِ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُكَلِّمُ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ»." [الخروج19: 5-6].
العنصر الثاني الخطير هو فكرة أن هناك إلهًا تفوق أوامرُه كلَّ الاعتباراتِ الأخرى. فيما سبق، لاحظت أهمية طاعة الله في المنهج المسيحي لرؤية الأمور. هذه الفكرة_الاعتقاد بأن القول بأن الله قد أمر بالقيام بفعل معيَّن هو سبب مهيمن ذو أولوية للقيام بالفعل محل الكلام_بارزة في العهد القديم. أي تفكير إضافي بصدد المسألة بلا معنى، أوامر الله تُطاع بلا استثناء.
إحدى الأمثلة القوية لهذه الفكرة توجد في إحدى أشهر الأحداث في قصص العهد القديم. إنها قصة تقييد الطفل إسحاق [لتقديمه كقربان_م]، هاكم النقاط الرئيسية في الرواية الكتابية:
(1وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: «يَا إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا». 2فَقَالَ: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ». 3فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَشَدَّ عَلَى حِمَارِهِ، وَأَخَذَ اثْنَيْنِ مِنْ غِلْمَانِهِ مَعَهُ، وَإِسْحَاقَ ابْنَهُ، وَشَقَّقَ حَطَبًا لِمُحْرَقَةٍ، وَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهُ اللهُ. 4وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَأَبْصَرَ الْمَوْضِعَ مِنْ بَعِيدٍ، 5فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِغُلاَمَيْهِ: «اجْلِسَا أَنْتُمَا ههُنَا مَعَ الْحِمَارِ، وَأَمَّا أَنَا وَالْغُلاَمُ فَنَذْهَبُ إِلَى هُنَاكَ وَنَسْجُدُ، ثُمَّ نَرْجعُ إِلَيْكُمَا». 6فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ حَطَبَ الْمُحْرَقَةِ وَوَضَعَهُ عَلَى إِسْحَاقَ ابْنِهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ النَّارَ وَالسِّكِّينَ. فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا. 7وَكَلَّمَ إِسْحَاقُ إِبْرَاهِيمَ أَبِاهُ وَقَالَ: «يَا أَبِي!». فَقَالَ: «هأَنَذَا يَا ابْنِي». فَقَالَ: «هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟» 8فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي». فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا.
9فَلَمَّا أَتَيَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ لَهُ اللهُ، بَنَى هُنَاكَ إِبْرَاهِيمُ الْمَذْبَحَ وَرَتَّبَ الْحَطَبَ وَرَبَطَ إِسْحَاقَ ابْنَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ فَوْقَ الْحَطَبِ. 10ثُمَّ مَدَّ إِبْرَاهِيمُ يَدَهُ وَأَخَذَ السِّكِّينَ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ. 11فَنَادَاهُ مَلاَكُ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ: «إِبْرَاهِيمُ! إِبْرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هأَنَذَا» 12فَقَالَ: «لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا، لأَنِّي الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي». 13فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكًا فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ.) من الإصحاح 12 من سفر التكوين[133]
لا يوجد أية إشارة في الرواية الكتابية إلى أن إبراهيم تساءل أو تردد أو كان لديه أية شكوكٍ عما إذا كان ينبغي عليه التضحية بإسحاق. لم يسأل إبراهيمُ اللهَ أيَّ شرحٍ للأمرِ، ولا اللهُ قدَّمَ شرحًا. حقيقة أن الله قد أمره بذبح ابنه الوحيد، الذي يحبه، قرَّرَتْ المسألةَ؛ إن رد فعله الوحيد_بقدر ما يمكننا رؤيته من القصة_كان النهوض مبكرًا في الصباح التالي لينفِّذَ الأمرَ.
العنصران اللذان قد حددتهما قد لا يكونان حتى الآن خطيران للغاية، حيث لم يضمَّا مع عنصرين آخرين ذَوَيْ صلّةٍ. أول هذين الاثنين الآخرين هو الاعتقاد بأن هناك إلهًا يأمر بالاحتلال والقتل والإبادة، أحيانًا بدون وجود أي تبرير واضح لمثل هذه الأفعال سوى أنها قد أمر بها الله (كما في قصة تقييد إسحاق). العنصر الثاني ذو الصلة هو الاعتقاد بأن بعض الناس لهم السلطة للأمر بمثل هذه الأفعال نيابةً عن الله. هذه العناصر خطيرة بسبب السابقات التي تنشؤها. إحدى الوظائف المفترَضة للكتاب المقدّس هي الكشف عن شخصية الله؛ وبدراسة قصة كيفية تدخل الله مع البشرية خلال التاريخ [الأسطوري]، نتعلم شيئا بصدد ماهية أن تكون الله. ووفقا للعهد القديم، فإن إحدى السمات الجديرة بالملاحظة للإله اليهو-مسيحي [والإسلامي] هي أنه إلهٌ يأمر شعبه المختار بإزالة مجموعات الناس الأخرى من على وجه الأرض. تأمل_كمثال_ رواية العهد القديم لوعد الله المزعوم لموسى باحتلال كنعان [فلسطين، إيليا]:
(23فَإِنَّ مَلاَكِي يَسِيرُ أَمَامَكَ وَيَجِيءُ بِكَ إِلَى الأَمُورِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، فَأُبِيدُهُمْ. 24لاَ تَسْجُدْ لآلِهَتِهِمْ، وَلاَ تَعْبُدْهَا، وَلاَ تَعْمَلْ كَأَعْمَالِهِمْ، بَلْ تُبِيدُهُمْ وَتَكْسِرُ أَنْصَابَهُمْ. 25وَتَعْبُدُونَ الرَّبَّ إِلهَكُمْ، فَيُبَارِكُ خُبْزَكَ وَمَاءَكَ، وَأُزِيلُ الْمَرَضَ مِنْ بَيْنِكُمْ. 26لاَ تَكُونُ مُسْقِطَةٌ وَلاَ عَاقِرٌ فِي أَرْضِكَ، وَأُكَمِّلُ عَدَدَ أَيَّامِكَ. 27أُرْسِلُ هَيْبَتِي أَمَامَكَ، وَأُزْعِجُ جَمِيعَ الشُّعُوبِ الَّذِينَ تَأْتِي عَلَيْهِمْ، وَأُعْطِيكَ جَمِيعَ أَعْدَائِكَ مُدْبِرِينَ.) الخروج23: 23-27
إن كان هناك أي شك بخصوص ما يعنيه الله حينما يقول لموسى [حسب زعم التوارة]: "ستبيدهم"، فإن الرواية الكتابية لاحتلال مدينة أريحا على يد الإسرائيليين توضِّح المسألة. أتذكر استماعي كطفلٍ لأغنية تسرد نصر الإسرائيليين في معركة أريحا. تروي الأغنية كيف سار الإسرائيليون حول مدينة أريحا سبع مرات، وكيف صاحوا ونفخوا في أبواقهم، وكيف كنتيجةٍ انهارت أسوار المدينة. ما هو مفقد من الأغنية_رغم ذلك_هو نتيجة الحَدَثِ:
(20فَهَتَفَ الشَّعْبُ وَضَرَبُوا بِالأَبْوَاقِ. وَكَانَ حِينَ سَمِعَ الشَّعْبُ صَوْتَ الْبُوقِ أَنَّ الشَّعْبَ هَتَفَ هُتَافًا عَظِيمًا، فَسَقَطَ السُّورُ فِي مَكَانِهِ، وَصَعِدَ الشَّعْبُ إِلَى الْمَدِينَةِ كُلُّ رَجُل مَعَ وَجْهِهِ، وَأَخَذُوا الْمَدِينَةَ. 21وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُل وَامْرَأَةٍ، مِنْ طِفْل وَشَيْخٍ، حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْفِ.) يشوع6: 20-21
بالنسبة لفكرة أنه ليس الله فقط بل أيضًا ممثلوه البشريون من يمكنههم الترخيص وشرعنة هذه الأعمال الشريرة الوحشية، تأمل أفعال موسى عند عودته من جبل سيناء [حسب أسطورة التوارة]. ارتقى موسى الجبل لاستلام اللوحين الحجريين لعهد [وصايا] الله. في غيابه، صاغ الإسرائيليون عجلًا ذهبيًّا، وشرعوا في عبادته، و_عمومًا_بدؤوا يتمردون. تعامل موسى مع الموقف كالتالي:
(25وَلَمَّا رَأَى مُوسَى الشَّعْبَ أَنَّهُ مُعَرًّى لأَنَّ هَارُونَ كَانَ قَدْ عَرَّاهُ لِلْهُزْءِ بَيْنَ مُقَاوِمِيهِ، 26وَقَفَ مُوسَى فِي بَابِ الْمَحَلَّةِ، وَقَالَ: «مَنْ لِلرَّبِّ فَإِلَيَّ». فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمِيعُ بَنِي لاَوِي. 27فَقَالَ لَهُمْ: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: ضَعُوا كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ عَلَى فَخِْذِهِ وَمُرُّوا وَارْجِعُوا مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ فِي الْمَحَلَّةِ، وَاقْتُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ». 28فَفَعَلَ بَنُو لاَوِي بِحَسَبِ قَوْلِ مُوسَى. وَوَقَعَ مِنَ الشَّعْبِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ رَجُل. 29وَقَالَ مُوسَى: «امْلأُوا أَيْدِيَكُمُ الْيَوْمَ لِلرَّبِّ، حَتَّى كُلُّ وَاحِدٍ بِابْنِهِ وَبِأَخِيهِ، فَيُعْطِيَكُمُ الْيَوْمَ بَرَكَةً».) الخروج32: 25-29
سويًا، هذه الأربع عناصر الاعتقادية التي قد أشرتُ لها من وجهة النظر القائلة بأن هناك إلهًا والذي قد اختار مجموعة معينة من الناس ليكونوا شعبه المختار، والذي تفوق أوامره كل الاعتبارات الأخرى، والذي يأمر بالاحتلال، والقتل، وأحيانًا التضحية [بقرابين من البشر] عندما لا يكون هناك تبرير واضح لمثل هذه الأفعال سوى أن الله قد أمر بها. بالإضافة إلى ذلك، فالبشر يمكن أن يكون لهم السلطة أحيانًا للأمر بمثل هذه الأفعال نيابةً عن الله.
الاعتقاد الدينيّ له تنوع واسع من النتائج. فيمكن أن يكون قوة للخير: يمكن أن يلهم الناس القيامَ بأفعال مثيرة للإعجاب؛ يمكن أن يقدم لهم أملًا ويمكِّنهم من تحمُّل ما لا يُمكن احتماَله ظاهريًّا، يمكنه التسبب باللطف والمحبة والشفقة [الحنُوِّ]. كمثال، دوَّنتْ كارِنْ أرْمْسْتْرُنْج [في كتابها تاريخ الله] Karen Armstrong, A History of God, 105 أن الكنيسة المسيحية المبكرة أثارت إعجاب الوثنيين لأجل "نظام الإحسان [التضامن] الذي أسسته الكنائس وبالسلوك الشفوق للمسيحيين أحدهم اتجاهَ الآخر". لكنْ يجب كذلك ملاحظة أنه مع الدين المؤسَّسي يأتي العنف الديني بمقدارٍ كبيرٍ. سيكون انعدامَ أمانةٍ [تضليلًا] عدمُ الاعترافِ بأن من ضمن نتائج الاعتقاد الدينيَ بحورًا من الدموع، ومحيطاتٍ من الدماء، وجبالًا من الجثث. انظر_كمثال_رواية Mark Juergensmeyer المختصرة للحملات الصليبية المسيحية [في كتابه الإرهاب في العقل الديني The Terror in The Mind of God, p26]:
الحملات الصليبية التسعة، والتي بدأت في عام 1095م مع مناشدة البابا أُرْبان الثاني للمسيحيين بالنهوض واستعادة مقام الضريح المقدس في أورشليم، والذي قد وقع في أيدي [حكم] المسلمين، وانتهت بعد ثلاثة قرون لاحقًا، تميزت بصيحة الحرب المسيحية (الله يريدها) Deus volt. أثناء مرور الجيوش عبر أورُبا في طريقهم إلى الأرض المقدَّسة جمعوا الفقراء واليائسين لأجل مغامرات دونكيشوتية عديمة الجدوى لم تؤدِّ عمليًّا إلى أي انتصارات عسكرية ذوات قيمة دائمة. رغم ذلك فقد أدت حقًّا إلى مقتل الآلاف من المسلمين واليهود الأبرياء."
تربط كارِنْ أرمسترُنْج [في كتابها تاريخ الله] الحملة الصليبية الأولى بأسفار الكتاب المقدس التي توجد فيها الفقرات التي قد ناقشتها:
"خلال المسير الطويل الرهيب إلى أورشليم، عندما نجا الصليبيون بشق الأنفس من الموت، أمكنهم فقط تفسير بقائهم أحياء بافتراض أنهم يجب أن يكونوا شعب الله المختار، الذي يتمتع بحمايته الخاصة. لقد كان يقودهم إلى الأرض المقدسة كما فعل ذاتَ مرةٍ للإسرائيليين القدماء. من الناحية العملية، فإن إلههم كان لا يزال نفس الإله القَبَليّ البدائي الخاص بالكتب المبكرة للكتاب المقدس. عندما احتلوا أورشليم آخر الأمر في صيف 1099م، قتلوا سكان المدينة اليهود والمسلمين بتعصب يشوع [خليفة موسى_م] وذبحوهم بوحشية صدمت حتى معاصريهم."
كلما ازداد اتساع انتشار قبول هذه الأفكار الأربعة التي قد حددتها، أمكننا أكثر توقع مثل هذا التطرف والعنف. إن الاقتراح بأن هذه أفكارٌ ينبغي أن نزرعها في الكثير من الناس بقدر ما نستطيع لأن فعل ذلك سيكون مفيدًا إجمالًا يجب أن يُرفَض. على النقيض، فإن تقديم هذه الأفكار لعقلِ صغيرٍ هو تسميمٌ له. إن القبول المخلص والموالي لهذه الاعتقادات يحوِّل الشخصَ إلى قاتلٍ منتظرٍ، كل ما يتبقى هو حقنه بفكرة أنه أو أنها من ضمن الشعب [الناس] المختارين (بالتأكيد اعتقاد مُغرٍ) وأن الله أو ممثل بشري شرعيّ له قد أمره أو أمرها بالقتل. بالنسبة إلى عقلٍ كهذا، فإن الفكرة معقولة على نحوٍ ملاحَظ، فرغم كل شيء فالمؤمن قد تعلَّم أن هذه بالضبط نوعية الأمور التي يأمر الله بها أحيانًا. ويجب أن يُطاع اللهُ. الأفكار الدينية الأخرى قد تقوم عند هذه النقطة بمساهمة خطيرة. وربما يكون الشخص أنانيا، لماذا يجب أن يضحي المرءُ بحياته لأجل أمر الله؟ لكن هذا النوع من الشكوك يُزاح بالوعد بالخلاص [أو النعيم والفردوس] الأبديّ في مقابل التضحية الشخصية. فرغم كل شيء، هناك ضمان إلهيّ بالعدالة التامّة. ربما يكون الضحية المحتملة بقدر ما يمكننا رؤيته بريئا. لكن ألم يكن إسحاق بريئا بقدر ما استطاع إبراهيمُ رؤيتَه؟ وما هو فهمنا عندما يُقارَن بفهمِ الله؟ نحن لا نرى سوى جزءٍ ضئيلٍ من المنظور الكليّ؛ الله يرى المخطَّطَ الكبير.إحساس المرء بمدى أخلاقية الموقف_مستقلًّا عن أمر الله_لا يوثَق به. قدَّمَ Juergensmeyer المثال التوضيحي التالي [في كتابه الإرهاب في العقل الدينيّ]:
"عندما ابتسم الشاب الخجول أمام الكامِرة في اليوم السابق على صيرورته استشهاديًّا في عملية انتحارية لحماس، معلنًا أنه "يقوم بهذا في سبيل الله"، كان يبرهن على إحدى الحقائق الجديرة بالملاحظة بخصوص من يرتكبون أعمال الإرهاب في العالم المعاصر: إنهم سيقومون تقريبًا بأي شيء لو اعتقدوا أنه قد أُجيز من قِبَلِ تفويضٍ إلهيٍّ أو تُصًوِّر في عقل الله."
المذهب الطبيعي خالٍ من هذه الأفكار الخطيرة. فحيث أنه لا إلهَ، فليس هناك مجموعة من البشر قد اختيرت لعناية خاصة. بدلا من ذلك، فنحن كلنا في نفس المركب عمومًا، إن الكون غير مبالٍ وعدائيّ على نحو متساوٍ اتجاهَنا كلٍّ منّا. إن مفهوم الشعب أو الأمة المختارة من الله يميل إلى التسبب في الخلاف والانقسام، إنها تديم الشعور بأننا في المجموعة المختارة مختلفون جذريا عن بقية البشرية. وصف برتراند رَسِل [في مقاله عبادة الإنسان الحر] كيف أن المذهب الطبيعي_على النقيض_يمكن أن يسبب شعورًا بالوحدة والرفقة بين أنفسنا وباقي البشرية. إن الفقرة طويلة إلى حد ما لكنها تستحق الاقتباس بالكامل:
"متحدًا مع رفاقه من لبشر بأقوى أنواع الروابط، رابطة القدر الواحد، فإن الرجل الحر يجد أن رؤية جديدة معه دومًا، ساكبة على كل واجبٍ يوميٍّ ضوء الحب. إن حياة الإنسان هي مسير طويل خلال الليل، محاطة بالخصوم الخفيين، معذَّبةً بالضجر والألم، باتجاه هدفٍ يستطيع قلائلُ فقط أن يأملوا في الوصول إليه، وحيث لا أحد قد يبقى طويلًا. واحدًا تلو الآخر_بينما يسيرون_يختفي رفاقنا من أمام ناظرنا، معتَقَلين بالأوامر الصامتة للموت الكليّ القدرة. قصيرٌ جدًّا هو الوقتُ المتاح الذي نستطيع فيه مساعدتهم، والذي تُقرَّر فيه سعادتهم أو بؤسهم. فعلينا أن نسكب الضياءَ في طريقهم، لننير أحزانهم ببلسم التعاطف، ونمنحهم الفرح الصافي للعاطفة التي لا تكلّ، لنقوِّي الشجاعة المنهارة، لنغرس الإيمان في ساعات اليأس. هلموا لا نزنُ بموازين الحقد [الغلّ] فضائلهم وعيوبهم، بل فلنفكر فقط بحاجاتهم، وبالأحزان والصعبات وربما الجهالات التي تسبب البؤس في حيواتهم؛ فلنتذكرْ أنهم رفاق معانون في نفس الظُلمة، ممثِّلون في نفس المأساة معنا. وهكذا، عندما تنتهي أيامهم، عندما يكون خيرهم وشرهم قد صار خالدًا بأبدية الماضي، علينا أن نعتقد أنهم_متى ما كانوا قد عانَوْا_لم يكن فعلٌ لنا هو السبب؛ لكنْ متى ما اشتعل ضوءٌ مقدسٌ في قلوبهم فقد كنا مستعدين للتشجيع، وللتعاطف، وبالكلمات الجريئة التي تتوقد فيها الشجاعة السامية."
إن المذهب الطبيعيّ يرفض الصيحةَ المسببة للخلاف والفرقة: "لا إلهَ سوى إلهنا" (والتي دومًا تٌقصي أناسًا أكثرَ مما تضمّ) وتستبدلها بصيحة: "ليس هناك إله لمساعدتنا، نحن كلنا في هذا معًا"، والتي تنطبق على كل البشر. في كون من منظور طبيعيّ، لا يوجد آمر إلهي والذي يُطاع بلا سؤال والذي أوامره ثابتة على نحوٍ نهائيّ، بصدد ما يًقام به في موقف معيَّن. بل في كون من منظور طبيعيّ، كل منا يجب أن يقوم بالقرار النهائي بصدد ما سيفعله في موقف معين. ومثلما أنه لا قاضيّ إلهيَّ معصومَ يمكننا أن نمرر له القضايا العويصة، فكذلك تمامًا لا آمرَ إلهيَّ معصومَ يمكنه أن يخبرنا بما ينبغي أن نفعل. ليس معنى هذا أننا يمكننا فعل أي شيء نريده، أو أننا لدينا القدرة على خلق معنانا الخاص للأخلاق أو أخلاقنا الخاصة بنا كيفما نراه مناسبًا. لقد خُصصت الفصول الأولى من هذا الكتاب للبرهنة على أن المعنى والأخلاق يوجَدْنَ باستقلالٍ عن كلٍّ من إرادات البشر والله (لو أن له وجودًا). المعنى والأخلاق يُكتَشفان عوضًا عن خلقهما، لكنها يجب أن يُكتَشفا من خلال الاستعمال الحريص للعقل البشريّ عوضًا عن وحيٍ إلهيٍّ [مزعومٍ]. في كون من منظور طبيعي، هذا هو الاختيار الوحيد المتاح لنا.
بالنسبة كل ما قد جادلت لأجله هنا، فقد يكون هناك معتقدات في الفائق للطبيعة يكون الانتشار الواسع لقبولها شيئًا جيدًا إجمالًا. لكني أعتقد أن أي مجموعة من المعتقدات في الفائق للطبيعة تتضمن هؤلاء العناصر الأربعة الخطيرات الخاصة بالعهد القديم اللواتي قد حدَّدتهنَ هنا ليست مجموعة من هذا النوع. إن كانت المسيحية تدخل في هذا التصنيف، فإذن هذا أسوأ للمسيحية.
عقيدة يمكن العيش بها؟
إن نوع الرأي الذي قد دافعت عنه في هذا الكتاب أحيانًا يُطلَق عليه اسم (المذهب الإنسانيّ). في الفصل الأخير من كتاب (الشر والأخلاق المسيحية)، جادل Gordon Graham بأن المذهب الإنساني ليس "عقيدة يمكننا العيش بها"، كتب Graham:
"لو أن المذهب الإنساني صحيحٌ، فإن الأغلبية العظمى من البشر في كل العصور، بما فيها الحاضر، لديهم حيواتهم عديمة القيمة. هذا لأن حيواتهم تحتوي على القليل أو لا شيء من الأمور التي وحدها تجعل منها ذوات قيمة من وجهة نظرٍ خاصةٍ بالمذهب الإنسانيّ. هذا جانب قاسٍ للمذهب الإنسانيّ...."[134]
لو أن هناك اعتراضَا هنا، فهو قريب للاعتراض الذي كثيرًا ما يقيمه الطلبة على رأي أرسطوتلس بأن أفضل حياة بشرية ممكنة هي التي تُقضى في التأمل النظريّ. إن اعتراضًا كهذا يجري كالتالي:
1-لو أن المذهب الإنسانيّ صحيحٌ، فمن ثم فإن معظم البشر لديهم حيوات خالية من المعنى الداخليّ.
2-لكن ليس صحيحًا أن معظم البشر يعيشون حيواتٍ خالية من المعنى الداخليّ.
3-بالتالي، فإن المذهب الإنسانيّ باطلٌ.
قد يكون هناك مجال للجدال الطفيف بشأن المقدمة المنطقية الأولى، لكني راغبٌ في الإقرار بأن شيئًا ما نحو ذلك صحيحٌ. ففي كون من منظور طبيعي ليس هناك حياة بعد الموت، وبالتالي فإن أيَّ معنىً داخليٍّ تمتلكه حياة بشرية يوجد في هذه الحياة الأرضية. إلا أن الكثير من البشر_بل وربما حتى معظمهم_خلال التاريخ قد عاشوا في ظروف رهيبة كئيبة للغاية بحيث تحول دون وجود الكثير من أو حتى أي معنى داخليّ في حيواتهم.
إن الضعف الحقيقيّ في هذه الجدلية_بالتأكيد_هو في المقدمة المنطقية الثانية. أيُّ سببٍ هناكَ لقبولها؟ كل الأدلة القائمة على الملاحظة [الإمبريقية] التي لدينا تدل على عكسها"؛ في الحقيقة فإن نفس هذه الأدلة الإمبريقية هي جزء من دعم المقدمة المنطقية الأولى. مثل اعتراض طلابي على رأي أرسطوتلس، فإن اعتراض Graham جْرام يبدو قائمًا على الشعور بأن الكون لا يمكن أن يعمل فقط بهذه الطريقة. لكن ما لم يكن لدينا سببٌ ما لقبول هذه الفكرة، فإن هذه الجدلية ببساطة تفترض مقدمًا صحة ما تحتاج إلى إثباته. إن فكرة أن معظم حيوات البشر تفتقد درجة ذات أهمية من المعنى الداخلي بالتأكيد فكرةٌ محبِطة، لكن كوْنَها محبطةً [كئيبة] وكونها باطلةً شيئان مختلفان.
رغم ذلك، ففي الفقرة التالية للفقرة التي اقتبستها للتو، يقوم جْرام باعتراضٍ أكثرَ تحدِّيًا:
"إن أنصار المذهب الإنسانيّ الأثرياءَ وذوي الامتيازات لديهم أسبابٌ وجيهة لإهمال أي حديثٍ عن التزامٍ أخلاقيٍّ بالسعي إلى إصلاح العالم مع قصدٍ لتحسين أقدار الفقراء والجاهلين. هذه الأسباب تنتج عن المقدمة المنطقية المتفَق عليها عمومًا، بأن "ينبغي تتضمَّن أستطيع [الاستطاعة]"، إن كانت النتيجة النهائية لأفعالها لا يمكن تحقيقها، فنحن ليس علينا أي التزام بمحاولة فعلها...إن اللامبالاة الأخلاقية للإنسانيين المحظوظين[135] مشروعة بالاستحالة العملية. هذه نتيجةٌ للحقيقة الواضحة بأن هناك ظروفًا قليلة جدًّا_لو أن هناك أيًّا منها_سيكون له أو لها فيها فرصة واقعية لزيادة القيمة الإنسانية للمجرى العام لحيوات الناس."
بإعادة استحضار مثال الناس الذي يهبطون بمظلات [باراشوتات] عشوائيًّا على سطحٍ متنوع للغاية لكوكبٍ آخر. أقترح أن الناس في موقفٍ كهذا سيكون لديهم التزام بمساعدة رفاقهم. لو أن المذهب الطبيعي صحيحٌ، فإذن نحن في موقف مشابه نسبيًّا، وبالتالي لدينا التزام مشابه بمساعدة رفاقنا من البشر. يتألف التواضع من وجهة نظر طبيعية جزئيا من إدراك هذا الجانب من وضعنا. هذا كان أساس اقتراحي أن التواضع الطبيعيّ يؤدّي إلى الإحسان.
لكن افترِضْ أننا أضفنا إلى السيناريو البند الشرطيَّ بأنه واضحٌ لكل أحدٍ على سطح الكوكب بأن لا شيءَ يمكن عمله لتحسين القدَر العام لكل أحدٍ آخر. في هذه النسخة من السيناريو لا أحدَ سيكون التزام بمحاولة تحسين القدر العام لكل واحد، بما أن_كما وضَّحَ جْرام Graham _لا يمكن أن يكون هناك أي التزام بفعل ما لا يمكن بوضوحٍ عمله. إن اقتراح جْرام هو أنه في الحقيقة لواضحٌ أنه ليس هناك أي شيء يستطيع أي أحد فعله لتحسين القدر العام للبشرية هنا على الأرض؛ وبالتالي لو أن المذهب الطبيعيّ صحيحٌ، فلا أحد عليه أي التزام بالمحاولة.
تتسم جدلية جرام هنا ببعض التشابه مع جدلية كانط الأخلاقية التي ناقشتها في الفصل الثالث، في مقدمة كتابه يقول جرام أن جدليته "هي على نحو أساسيّ نسخة مما يسمى بالجدلية الأخلاقية لأجل وجود الله، الخاصة بكانط.
للرد على هذه الجدلية، يجب أن نميز بين ادعائين:
1- ليس هناك أي شيء يقدر أي أحد فعله لتحسين حيوات كل أو معظم البشر.
2- ليس هناك أي شيء يقدر أي أحد فعله لتحسين حيوات بعض البشر.
لدعم نظريته، ناقش جْرام العديد من المحاولات الكبيرة لمساعدة الآخرين، ويجادل بأن كلها قد فشلت. إن جدليته استقرائية: مسلِّمين بالسجل الماضي للمحاولات لتحسين الظرف الإنساني، فإن التوقعات باحتمالية نجاح أي محاولة مستقبلية ضعيفة باهتة للغاية. لا ينكر جْرام أن الظروف العامة للحياة البشرية قد تحسنت في بعض مناطق العالم على الأقل. بل إن ما ينكره هو الادعاء بأن "الظرف الإنسانيّ قد صار أفضل كنتيجةٍ للقصد الواعي والعزم على تحسينه". لقد دوَّنَ أنه "لم يعد أي مؤرّخ جادّ يقرّ بمفهوم "الرجال العظماء" الذي يَنسُب التحولات كبيرة المقياس إلى أفعالِ أفرادٍ." هو كذلك يرفض فكرة أن الدول (بدلًا من الأفراد) يمكنها إحداث مثل هذه التحولات الكبيرة المقياس:
"نحتاج فقط أن نتأمل أبرز محاولات القرن العشرين لاستعمال قوة الدولة القوية بروح المذهب الإنسانيّ لإحداث تحولات وتحسينات كبيرة في أقدار الناس العادية، لندرك كي ضلت الطريق على نحو مذهل دارميّ، على غرار النظام الشيوعي للبلاشـﭭة في روسيا، والمحاولة النازية لصنع رايخ [امبراطورية] ثالثة تبزغ من جرمانيا أعظم، وثورة ماو الثقافية في الصين، وسياسات كاسترو في كوبا، ومحاولات الخمير الحمر الوحشية لبدء صفحة جديدة وسلوكيات أفضل في كامبوديا... إن مخططات التحسينات السياسية للمذهب الإنساني_إن كان القرن العشرون يرشدنا إلى أي شيء_لها سجل سيء على نحوٍ استثنائيّ[136]".
يضيف جْرام أنه عندما حدث النمو الاقتصادي، فإن "الحكومات سيطرت على النمو الاقتصادي بدلًا من أن تكون مدبَّرَتَه"، ويصل آخر الأمر إلى الاستنتاج التالي:
"إن الأفعال القصدية للبشر فرديًّا أو جمعيًّا في أحسن الأحوال تحقق مقدارًا ضئيلًا وفي أسوئها مؤذية...المعنى الضمنيّ للمذهب الإنسانيّ واضح. إن الأغلبية العظمى للحيوات البشرية تفتقد القيمة التي تجعلها تستحق العيش، الكثير للغاية من الحيوات ستستمر مفتقدةً للقيمة، وحيثما تكون هذه هي الحالة فلا يوجد أي شيء يمكن أن يتوقعه إنساني مقتنع، أو يُتوقَّع القيامُ به... إن معتقد المذهب الإنسانيّ ليس....معتقدًا ذا تفاؤلٍ منوِّر، بل هو إما ثقةٌ عمياءُ أو يأسٌ منوِّر."
يركّز جْرام حصريا على المحاولات التي قام بها الأفراد أو الدول لإحداث تحسينات كبيرة على مقياس كبير. إن نظريته أن مثل هذه المحاولات قد فشلت في الماضي وبالتالي يمكننا توقع فشل كل المحاولات المستقبلية المماثلة. الآن، أعتقد أن هناك مجالًا للجدال هنا؛ كمثالٍ، ألم يُلغَ الاستعبادُ في الولايات المتحدة الأمِرِكية [ومعظم العالم وكله تقريبًا وعمومًا]؟ وألم يكن هذا تغييرًا كبيرًا مُحدَثًا قصديًّا حسَّن على نحو دراميّ حيوات الكثير من المُستعبَدين وأنسالهم؟ [وحسن حيوات كل البشر بالقضاء على إمكانية استعباد الإنسان لأخيه الإنسان؟]
فيما سبق اقترحتُ أن نسعى لبرنامجٍ قد يُقهَم على نحوٍ معقول على أنه من النوعية التي ينتقدها جْرام. رغم أني قلت عندما ناقشت مبدئيا الاقتراح محل الكلام في الفصل الرابع أني لست مناصرًا لوضع سلطة تشكيل الشخصية في يد الدولة. في الحقيقة فأنا أعتقد أنها ستكون فكرة سيئة للغاية. أشير هنا إلى اقتراحي بأن نجعل العلم في خدمة المسعى الأفلاطونيّ لإيجاد وسيلة يُعتمَد عليها لجعل البشر فضلاءَ. إن السجل الماضي للأبحاث العلمية_أنا أؤكّد_يقدّم بعض الأمل لهذا المسعى. فرغم كل شيء، إننا نرى تقدمًا تكنولوجيًّا وعلميًّا هائلًا في مسار التاريخ البشريّ. وبعض مجالات هذا التقدم قد منحت بعضنا على الأقل قدرة على عيش حيواتٍ أكثر صحةً بكثيرٍ ومريحةً أكثر مما كان ممكنًا في السابق. بالتأكيد لم يسبِّب التقدمُ العلميُّ أيَّ تحسنٍ أخلاقيٍّ، لكنه صحيحٌ كذلك أن العلم لم يُستعمَل حتى الآن بوضوحِ لذلك الغرض. لذلك لا أعتقد أن نوعيات الإخفاقات التي أشار إليها جْرام تتنبأ بأن نوع البرنامج الذي قد اقترحته محكومٌ عليه بالفشل. في الحقيقة، أعتقد أنه يمكن عمل احتجاج مقبول بأن في بعض الأمثلة على الأقل التي أشار إليها جْرام كان جزءٌ من المشكلة هو أن "المخططات" محل الكلام قامت على أساليب فهم معيبة للطبيعة البشرية، وهذا بالضبط نوعية الأمور الذي يمكن أن يساعدنا تقدم العلم، خاصّةً علم المخ والأعصاب، على تجنبها [إساآت الفهم][137]. كتب Antonio Damasio في آخر صفحة من كتابه (البحث عن سيبنوزا) Looking for Spinoza:
"لا شكَّ أن فشل تجارب الهندسة [التخطيط] الاجتماعية الماضية هو جزئيا بسبب الحماقة المحضة للخطط أو فساد تنفيذها. لكنَّ الفشل قد يكون كذلك بسبب المفاهيم الخاطئة عن العقل البشري التي أمدت المحاولات بالمعلومات".
إن النقد الرئيسي الذي أريد القيام به لجدلية جْرام هو أنها على أقصى تقدير تبرهن على أن: 1- لا شيء يمكن لأي أحد فعله لتحسين حيوات معظم أو كل البشر، لكنه لم يبرهن بجهدٍ كبيرٍ على هذا الادعاء. 2-ليس هناك شيء يمكن لأي أحد عمله لتحسين حيوات بعض البشر.
فلنعد إلى مثال المظلات [الباراشوتات] مرة أخرى. ربما يكون الوضع أنه لا يوجد شيء يمكن لأي فرد فعله لتغيير الظروف العامة للوضع جذريًّا. فلنفترض أن بنية وتضاريس الكوكب الأساسية غير قابلة للتغيير [حتمية]، ومهما فعل أي أحدٍ فإن مسارات الهبوط التي اتخذها الهابطون بالمظلات ستظل عشوائية. فرغم ذلك، يستق مع كل هذا أن الكثير من الأفراد لديهم القدرة على مساعدة بعض رفاقهم، وبالتالي فعلى هؤلاء الأفراد التزام بفعل ذلك. وأعتقد أن وضعنا مشابه كثيرًا لذلك. ويقينًا أن الكثير من سلوكياتنا يشير إلى أننا نفترض ضمنيًّا أن الافتراض 2 باطل، كمثال كم عدد الآباء الذين يتصرفون كما لو أنهم يعتقدون أن لا شيء يمكنهم عمله لتحسين حيوات أولادهم؟. ربما يكون جْرام محقًّا أن بالنسبة لمعظمنا أو كلنا فإن التغيير الكبير للظروف الأساسية للإنسانية مستحيل وخارج إمكانية السعي. لكنه واضحٌ أن كلًّا منا (وأعني بالضمير "نا" أي أحدٍ يعيش حياةً يكون فيها تكريس وقت معتَبَر لقراءة كتابٍ كهذا اختيارًا معقولًا) هو في مكانةٍ [وضعٍ] يمكنه من مساعدة شخصٍ ما.
ردًّا على الاعتراض على مذهب النفعية المسمى بـ "أسمى كثيرًا من الطبيعة البشرية"، كتب جون ستيورات مِلّْ [في كتابه المذهب النفعي Mill, Utilitarianism p.19]:
"إن مضاعفة [مقدار] السعادة هو_وفقا للأخلاق النفعية_موضوع الفضيلة. المناسبات التي يكون فيها أي شخص (عدا واحدًا في الألف) في قدرته عمل هذا على مقياس كبير_ أي بعبارة أخرى: أن يكون محسنًا مدنيًّا_ليست سوى استثنائية؛ وفي تلك المناسبات فقط يُطالَب أن يراعي الصالحَ العامَّ؛ أما في كل الحالات الأخرى، حالات المنفعة الخصوصية، فإن مصلحة أو سعادة بعض القليل من الأشخاص هي كل ما عليه أن يقصده."
بإعادة تذكر مناداة Peter Singer بيتَر سِنْجَر كذلك بثورة أخلاقية. كتب سِنْجَر أنه "لو أن 10% من السكان اتخذوا منظورًا أخلاقيًّا بوعيٍ للحياة تصرفوا وفقا له، فإن التغير الناتج سيكون أكثر أهميةً من أي تغير في الحكومة". فإن ردي على جدلية جْرام_من ثَمَّ_هي الإشارة البسيطة إلى أنه ربما أفضل وسيلة لتحسين حيوات الناس ليست عمل ذلك لكلهم، بل بالأحرى تحسين حياة أحدهم كل مرة. ما هو متطَلَّب ليس مخلِّصًا أو "إنسانًا عظيمًا" أو تغييرًا كبيرًا يُفرَض من خلال الوسائل السياسية، بل بالأحرى شيء مثل ثورة سنجر الأخلاقية [المقترَحة][138]. حتى في كونٍ من منظور طبيعيٍّ فإن كلًّا منا يقدر أن يساعد شخصًا ما، ونحن ملزَمون بالقيام بالمحاولة.
هناك أساس محتمل آخر للادعاء بأن المذهب الطبيعي ليس عقيدة يمكننا العيش بها. إنه الادعاء بأن المذهب الطبيعي هو منظور للعالم مستحيلٌ على الكثير من الناس نفسيًّا قبوله خلال حيواتهم بكاملها. بإعادة تذكر إصرار جْرام المتكرِّر بأن المذهب الطبيعيّ يتضمن أن معظم الناس محكوم عليهم بعيش حيواتٍ عديمة أو شبه عديمة القيمة. فإن هناك مجالا للجدال بصدد النِسَب هنا، لكن المذهب الطبيعي يتضمن بالتأكيد أن كثيرًا من الناس عاشوا ويعيشون وسيعيشون مثل هذه الحيوات. إن يكن هذا صحيحًا، فمن ثمَّ يمكننا أن نفهم سبب احتمالية صعوبة الاعتقاد بالمذهب الطبيعي على الكثير من الناس، هل هو محتمَلٌ أن يعيش امرؤٌ بعقيدةٍ تتضمن أنه محكومٌ عليه بعيش حياة عديمة القيمة؟! على أقل تقديرٍ فإن الكون من منظور طبيعيّ يسمح بوجود أوضاع ميئوس منها على نحوٍ حقيقيٍّ. على النقيض، فإن المسيحية [والإسلام] تقدّم أملًا لكل أحدٍ، بغض النظر عن الوضع [الخاصّ به]. هناك دومًا أمل بالخلاص الأبديّ [والنعيم المقيم]. الإغراء بالاعتقاد بالفائق للطبيعة يصعب مقاومته، لو أن المذهب الطبيعيّ صحيحٌ، فمن ثُمَّ فإن الكثير من الناس قد يجدون أن "الواقع_بالنظر إليه باستمرار_لا يمكن احتماله"، بحسب تعبير لِوِس في (الأسى الملاحَظ) C. S. Lewis, A Grief Observed New York: HarperCollins, p.28, 2001.
إن شعوري الخاصّ هو أن المذهب الطبيعي هو عقيدة يستطيع البعض العيشَ بها بينما لا يستطيع آخرون. ما يمكن أن يعتقده شخصٌ يتنوع اعتمادًا على الظروف الخارجية، والتركيب البنيوي، وحشد من العوامل الأخرى. يبدو واضحًا أن بعض الناس على الأقل قادرون على عيش كامل حيواتهم كطبيعيين. برتراند رَسِل قام بذلك، وكذلك فرويد. رغم أن الأخير لم يكن مثالًا ملهمًا في أواخر حياته الخاصة [على عظمة إسهاماته لعلم النفس، وللفكر الإلحادي كذلك، وأضيف كمترجم أمثلة روبرت أنجرسُل وبارون دي هولباخ ودنيس ديدرو وبنجامين فرانكلين و Charles Bradugh, Charles Southwell, soeur de Charron وابن الراوندي وأبي العلاء المعري ويوسف زيدان وGoro الهندي وغيرهم]. ظل ديـﭭـِد هيوم أيضًا ملحدًا حتى النهاية المريرة. في الحقيقة، فإن صلابة إلحاد هيوم كانت مصدرًا لإذهال James Boswell، وهو كاتب سيرة Samuel Johnson، الذي كان صديقًا لهيوم لوقتٍ طويلٍ وزراه عندما كان يحتضر. كان Boswell_مرتعبًا من فكرة الفناء_مفتونًا ومخيَّب الأمل معًا بقبول هيوم الواضح الهادئ لنهايته[139].
الأدلة من الملاحظات [الإمبريقية] على أن المذهب الطبيعيّ لا يُرجَّح أن يكتسب قبولا واسعا تظهر في كتاب (لماذا لن ينتهي الله) Why God Won’t Go Away. هذا الكتاب هو فحص للأسس العصبية لأنواع معينة من الخبرات الدينية. يُعطى فيها اهتمام خاص لشعور غامض يسميه المؤلفان بـ" الشعور بالاتحاد بالمطلَق". وهو حالة للعقل فيها "لا شعور بالمساحة ولا مرور الزمن، ولا خط فاصل بين النفس وبقية الكون...لا نفس شخصية على الإطلاق...فقط شعور مطلق بالوحدوية[140]. يقترح المؤلفان أن هذا النوع من التجربة الماورائية يمكن أن تنشأ من عمل عاديٍّ لمخ سليم صحيًّا وأن كل أمخاخ البشر العادية لديها التجهيزات العصبية المتطلَّبَة لإحداث الشعور بالوحدوية المطلقة. إنهما يقترحان أن هذا يساعد على تفسير سبب كون الاعتقاد الديني لن ينتهي: "هذه القابلية الموروثة للمرور بالشعور بالوحدة الروحية هي مصدر حقيقيّ لقوة الدين الباقية. إنها تثبِّت الاعتقاد الدينيّ في شيء أعمق وأقوى من التفكير أو العقل، إنها تجعل الله واقعًا لا يمكن تجاهله بالأفكار، ولا يمكن أن يصبح قديمًا مهجورًا". يختتم الفصل الأخير من هذا الكتاب بهذا الكلام: "طالما تكون عقولنا منظمة بالطريقة التي عليها...فإن الروحانية ستستمر في تشكيل الخبرة البشرية، والله_أيًّا ما كان تعريفنا لهذا المفهوم الماورائيّ الفخيم_ لن ينتهي." [انظر كذلك Breaking the Spell, Daniel Dennett كسر السحر، الدين كظاهرة طبيعية للفيلسوف دانيال دانِتْ][141]
يتضح أننا _إلى حدٍّ ما_مصمَّمين إعداديًّا على نحو مناسب للتدين. إن يكن هذا صحيحًا، فمن ثم من المحتمل أن الطبيعانيين [الملحدين] سيظلون دائمًا الأقلية. لكنْ بالتأكيد لا ينتج عن هذا أن المذهب الطبيعيّ باطلٌ. لربما أن المذهب الطبيعيَّ حقيقةٌ أساسية عن الكون لا يقدر أغلب البشر أن يقبلوها، على الأقل ليس لفترة طويلة جدًّا. لربما أن الكثير منا يمكنه قبولها فقط عندما يكونون شبابًا نسبيًّا وأصحّاء وناجحين. إن كان الأمر كذلك، فمن ثم ربما تكون القدرة على مواجهة وقبول هذه الحقيقة الأساسية بخصوص الكون هي فقط إحدى الفوائد التي يكتسبها من هم شباب وأصحاء وناجحون[142].
كيف ينبغي أن نصف الشخص الذي "يكتشف الدين" كنتيجة للمعاناة، أو فقدان الأحباء، أو إدراك موته الوشيك، أو نوع آخر ما من الشر يتعلق بما إذا يكون المذهب الطبيعيّ صحيحٌ أم النسخة ذات العلاقة من الإيمان هي الصحيحة. كان سيقول C. S. Lewis أن مثل هذا الشخص قد تعلم أخيرًا الدرس الذي يحاول اللهُ تعليمَه له؛ أن السعادة الحقيقية تكمن في الله وليس في الأشياء الأرضية[143]. بينما كان برتراند رَسِل Bertrand Russell سيقول أن مثل هذا الشخص قد خضع للخوف وقاده اليأس لتبنّي خرافة لكي يتجنّب حقيقةً لا يستطيع مواجهتها.
كما دوّنتُ في مقدمة الكتاب، فليس هدف هذا الكتاب تقرير ما إذا يكون المذهب الطبيعيّ صحيحًا أم باطلًا، ولذلك لن أحاول حسم [الرد] على السؤال عما إذا كان الشخص الذي يلجأ للدين قد اقترب أكثر أم ابتعد أبعد من الحقيقة. ما قد حاولته في هذا الكتاب هو البرهنة على أن المذهب الطبيعي [العقلانية، المادية، الإلحاد، المذهب الإنساني، التطورية، العلموية] لا يتضمن المعاني الضمنية الأخلاقية البغيضة التي كثيرًا ما تُنسَب إليه. المذهب الطبيعي ليس هو نفس_ ولا يتضمن_العدمية النهلستية ولا النسبية الأخلاقية ولا مذهب المتعة ولا الأنانية. الطبيعانيّ يمكنه ويجب أن يدرك أن بعض حيوات البشر على الأقل لها معنى داخليّ وأن هناك التزامات أخلاقية عديدة بسبب مكانة الفرد في الكون. لو أن الجدلية الرئيسية لكتاب (لماذا لن يرحل الله) صحيحة، فمن ثم فربما لن يكتسب المذهب الطبيعيّ قبولا واسعا. لكن لو أن المذهب الطبيعيّ سيُرفَض، فلا ينبغي أن يُرفَض على أساس فلسفة فاسدة. من يرفضون المذهب الطبيعيّ لأنهم يعتقدون أنه يتضمن أي من الأضرار الأخلاقية [شياطين الأخلاق] المسرودة للتو يقومون بهذا بالضبط.
فيم قالته (منفعة الدين)[144]، يقترح جون ستيورات مِلّْ أن نتبنى ما سمّاه بـ (دين الإنسانية). هذا دينٌ متوافقٌ مع المذهب الطبيعيّ. كتب مِلّْ:
"إن جوهر الدينِ هو توجيه قوي وجادٌّ للعواطف والرغبات باتجاه هدفٍ مثاليٍّ، يُعرَف باعتباره الامتياز الأسمى، وباعتباره الحاكم الأعلى بحقانية فوق كل الأهداف الأنانية الأخرى للرغبة. هذا الشرط يُحقَّق بدين الإنسانية بدرجة بارزة وحسٍّ عالٍ بنفس درجة ما حققه الأديان المعتقدة بالأمور الفائقة للطبيعة حتى في أفضل تجلياتها، وبالتالي أكثر بكثير مما في أيٍّ من تجلياتها الأخرى [الأضعف].
الهدف المثاليّ لدين الإنسانية الخاص بجون ستيورات ملّْ هو_كما يوحي الاسمُ_الإنسانيةُ نفسُها. إن جوهر هذا "الدين" وبمثابة القلب له "الإحساس بالوحدوية مع الجنس البشريّ، وشعور عميق لأجل الصالح العامّ".
ما يثير اهتمامي هنا ليس ادعاء ملّْ بأن الرأي الذي وصفه هو "دينٌ"، بل بالأحرى اقتراحه أن أحد الفوائد الرئيسية للدين هو "هزيمة الأنانية". يقول باسكال عن المسيحية [في كتابه التأملات] أن: "لا دينَ آخرَ قد اعتبَر أننا ينبغي أن نكره أنفسَنا". كما قد رأينا يشدَّد لِوِس C. S. Lewis و باسكال Pascal على أن السعادة الحقيقية والفضيلة تُنال من خلال الخضوع لله. كتب لِوِس [في كتابه المسيحية المجرَّدة Lewis, Mere Christianity, P. 88]:
"الخير الحقيقيّ للمخلوق هو أن يسلَّم نفسَه لخالقه، أن يقيم فكريا واختياريا وعاطفيا، تلك العلاقة المحددة بالحقيقة المجردة لكونه مخلوقًا. عندما يفعل ذلك، فهو بخير وسعيد."
العائق الرئيسي لهذا الاستسلام هو الأنانية، والتي يفهمها لِوِس وباسكال على أنها حب النفس، أو على نحو أكثر تحديدًا: حب النفس أكثر من الله. عندما يقول باسكال أن المسيحية تعلِّم كره النفس، فإن ما يعنيه هو فكرة أن المسيحية تعلِّم الاستسلام [الخضوع] لله. وأن العائق الرئيسيّ له هو حب النفس المُفْرِط.
على نحو مثير للاهتمام، فإن إحدى الظواهر المكونة الرئيسية للخبرة الماورائية الغامضة للشعور بالوحدوية مع المطلق هي انطفاء تامّ للشعور بالنفس.
لكن المرءَ لا يحتاج أن يكون مؤمنًا، ناهيك عن أن يكون مسيحيًّا، ليدرك أن الميل اتجاه الأنانية هو إحدى أكثر السمات البشرية رسوخًا وأكثرها ضررًا في نفس الوقت في الطبيعة البشرية. ينبغي أن يسلِّم الطبيعيُّ والمؤمن على السواء بأن إحدى التحديات العظمى التي نواجهها هي "قلب الظلام" في داخل كلٍّ منا. لمحاربة قلب الظلام هذا، فإن المسيحية توصي بالخضوع لله، ويوصي جون ستيورات مل بتنمية إحساس بالوحدة مع الجنس البشريّ، ويوصي كانط بجعل متطلَّبَات الأخلاق أولويتنا العليا، ويوصي Peter Singer بيتر سنجر بتكريس النفس لتقليل المعاناة، وقد أوصيت بوضع العلم في خدمة المسعى الأفلاطونيّ لوسيلة يعتمضد عليها لجعل البشر فاضلين. هذه كلها أشكال لصراعٍ مشترَكٍ، الصراع ضد الأنانية الموروثة في الطبيعة البشرية. ربما_إذن_ هذا صراع مفرَد فيه كلنا في نفس الجانب. تمنياتي للجميع بحياة طويلة وتطورٍ أخلاقيٍّ.
انتهى الكتاب
|