خاتمة:
تحيّة للجميع،
حتّى لا أستغلّ كوني آخر متدخّل لصالح الردّ المسهب و المطوّل، و الذي سيبقى الردّ الأخير في هذه المناظرة، فإنّني أتنازل عن حقّي في الردّ على نقاط الأستاذ إبراهيم، و سأكتفي بتلخيص فكرتي مع توضيحها أكثر، علما بأنّني سأعود للردّ على كافّة نقاط الأستاذ إبراهيم في
شريط التعليق على المناظرة، و يمكن هناك لكلّ الزملاء أن يتدخّلوا بتفصيل أكثر.
قمت خلال هذه المناظرة بعرض وجهة نظري بشكل واضح و صريح و خلاصتها أنّ الإسلام ليس سببًا لتخلّف المسلمين، بقدر ما هو مظهر من مظاهر ذلك التخلّف، إنّ الإسلام ليس عاملا للتخلّف، لكنّه ملجأ اضطرّ إليه الإنسان العربيّ في فترة انحطاطه الحضاريّ، يقول المفكّر الألمانيّ كارل ماركس '' إن أساس النقد اللاديني: الإنسان هو الذي يصنع الدين، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان. ''، في إشارة إلى أنّ الأفكار قد تؤثّر على الإنسان، لكنّها لن تستطيع '' صناعة '' أو '' هدم '' حضارة إنسانيّة، فالأفكار دائما تابعة لمنظومة البناء التحتيّ المتحكّم فيها ( المناخ، علاقات الإنتاج، نمط الإنتاج ) مهما بلغت منظومة البناء الفوقيّ من قوّة و شدّة تأثير، هذا الكلام ليس مجرّد اجترار عقائديّ لمقولات الماركسيّة، و التي لا أتّفق معها كلّها، بل إنّها نتيجة الفهم العلميّ للواقع الموضوعيّ كما هو: المادّة تسبق الفكرة، و هذي الأخيرة لاحقة على المادّة، و لا أشكّ أبدا أنّ الأستاذ إبراهيم، و هو عالم يشتغل في حقل العلوم الفيزيائيّة، لا أشكّ أنّه قد يختلف معي أبدا.
يردف ماركس '' لإنسان ليس كائنا مجردا، جاشما في مكان ما خارج العالم. الإنسان هو عالم الإنسان، الدولة، المجتمع. وهذه الدولة، وهذا المجتمع ينتجان الدين؛ الوعي المقلوب للعالم. لأنهما بالذات عالم مقلوب. الدين هو النظرية العامة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية، منطقه في صيغته الشعبية، مناط شرفه الروحي، حماسته، جزاؤه الأخلاقي، تكملته المهيبة، أساس عزائه وتبريره الشامل. إنه التحقيق الخيالي لكينونة الإنسان، إذ ليس لكينونة الإنسان واقع حقيقي. إذن، النضال ضد الدين هو بصورة غير مباشرة، نضال ضد ذاك العالم الذي يشكل الدين عبيره الروحي. إن الشقاء الديني هو تعبير عن الشقاء الواقعي، وهو من جهة أخرى، احتجاج عليه. الدين زفير المخلوق المضطَهَد، قلبُ عالم لا قلبَ له، كما انه روح شروط اجتماعية لا روحَ فيها؛ إنه أفيون الشعب. إنّ إلغاء الدين، بصفته سعادة الشعب الوهمية، يعني المطالبة بسعادته الفعلية. ومطالبة الشعب بالتخلي عن الأوهام حول وضعه، يعني مطالبته بالتخلي عن وضع في حاجة إلى أوهام. فنقد الدين هو، إذن، النقد الجنيني لوادي الدموع الذي يؤلف الدين هالة له. ''
[1]
هذا التنظير قد لا يكون كافيا بالنسبة للأستاذ إبراهيم، لذلك أرفقانه بمثال حيّ على الحضارة العربيّة العلمانيّة في أوجها، حين خلعت المرأة العربيّة في الأندلس حجابها، و تعلّمت الكتابة والقراءة و بدعت في العلوم و الآداب، و حينما نفقت تجارة الفنّ، المحرّم دينيّا، في ديار الإسلام، تكاثر علماء المسلمين فصاروا بالآلاف المؤلّفة، و حين قامت ثورة زراعيّة بأيادي عربيّة، و حين نفقت المكتبات و البيمارستانات و الصيدليّات في ديار المسلمين، و ماجت الأسواق بالنساء و الرجال، فلم يميّز ابن الخطيب بين حمر الخدود و حمر البنود.
هذا المثال الذي لا يستطيع الأستاذ إبراهيم ردّه، لأنّه يشكّل إجماعا بين أهل التاريخ، هو دليل على صحّة اقتباس ماركس فوقه، و هو أنّ العربيّ المسلم قد تخلّى عن سعادته الوهميّة المتمثّلة في '' الدين '' حينما وجد سعادته الحقيقيّة الأرضيّة.
غير أنّ الأستاذ إبراهيم فهم كلامي بشكل خاطئ، إذ اعتقد بأنّني أدعو إلى إعادة النموذج الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ، و هذا فهم ممسوخ لمداخلتي، فحينما عرضت مظاهر الحضارة العربيّة لم يكن ذلك العرض من أجل الدعوة إلى إحياء تلك الحضارة بنفس الشروط و القيم، لكنّني استحضرت مظاهر الحضارة العربيّة لأقول لأستاذ إبراهيم: إنّ مسلمًا بنى حضارة علمانيّة في يوم من الأيّام، بدون أن يتخلّى عن دينه ( شكليّا )، هو إنسان قادر على بناء حضارة أخرى بدون التخلّي عن دينه، لأنّه إذا كنت تتحدّث عن الدين الإسلاميّ الحقيقيّ، و الذي لا نختلف أنا و أنت حول كونه مصدرا للتخلّف، فإنّه ما منّ شكّ أنّ المسلمين قد تخلّوا عنه منذ قرون، أمّا إذا كنت تقصد الإسلام الشعبيّ المنتشر، فإنّه لم يكن يوما عائقا يحول دون الحضارة، و الدليل هو التاريخ.
و هذه خلاصة الخلاصة:
1 ـ الإنسان المسلم لا يعتنق إسلام النصوص.
2 ـ الإسلام المنتشر هو إسلام شعبيّ مسالم إلى حدّ بعيد ( مع بعض الاستثناءَات ).
3 ـ المسلمون يعتنقون إسلاما شعبيّا مفصولا عن الإسلام الحقيقيّ منذ أن قامت الحضارة الأمويّة على أشلاء الصحابة.
4 ـ الحضارة العربيّة الإسلاميّة كانت حضارة علمانيّة في جوهرها إسلاميّة في مظهرها.
5 ـ ما لا يكون سببا في قيام الحضارة لا يستطيع أن يكون سببا في هدم حضارة.
6 ـ المسلمون يستطيع التقدّم إلى الأمام إذا توفّرت لديهم الشروط اللازمة لذلك '' شروط سياسيّة اقتصاديّة ''.
7 ـ الواجب إذن هو التخلّص من القيادات السياسيّة العربيّة الرجعيّة و العميلة، و تنصيب قيادات وطنيّة مثل محمّد مصدّق و عمر توريخوس و سيلفادور الليندي و غيرهم من القادة الوطنيّين الذين تمّ عزلهم بشكل مباشر أو غير مباشر من طرف أميركا و بريطانيا.
شكرا لك و شكرا للزميل باسم على تسييره لهذه المناظرة و للنقاش الملحق به.
عاطر التحايا.
_ _ _ _
[1] من مقدمة "نقد فلسفة الحقوق عند هيغل" (ترجمة مجلة "النقطة"، باريس 1983)