عرض مشاركة واحدة
قديم 01-15-2016, 05:01 PM لؤي عشري غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [11]
لؤي عشري
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية لؤي عشري
 

لؤي عشري is on a distinguished road
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى لؤي عشري
افتراضي

ثانيا، يلاحظ سكروتب أن تحقيق هذا التواضع الزائف يكون في الأغلب صعبا للغاية أو مستحيلا، ومن كان سيكون إنسانا فاضلا ويقبل هذا الرأي سيجد نفسه يدور في حلقات مفرغة لانهائية في محاولة لأن يصبح متواضعا. "الفوائد" الشيطانية من هذا واضحة: إلهاء عن الفضيلة الحقيقية، وربما خيبة الأمل واليأس على نحوٍ نهائي.

بالتأكيد، حتى لو كانت شخصية سكروتب محقّة بصدد هذه النتائج، فلا ينتج عن هذا أن تفسيرَ التواضعِ مَحلَّ الكلام باطل (رغم أن لِوِس من خلال شخصية سكروتب يعتقد بوضوح أنه كذلك). لنستنتج أن ذلك الشرح باطل سنحتاج مقدمة منطقية أخرى إضافية وفق هذه السطور:

إن يكن شرح معين لفضيلة ما هو بحيث أن من يقبلونه يميلون إلى أن يصيروا أسأ حالًا من الذين لا يقبلونه، فمن ثم فإن الشرح باطل.

ولا أرى سببًا لقبول افتراض كهذا؛ ربما يمكن لتعلم الحقيقة [أحيانًا] أن يجعل المرءَ أسوأَ حالًا؟

إذن، لدينا لِوِس وأرسطوتلس من جانب وجوليا دْرَيـْﭬر Driver على الجانب الآخر. تؤكد Driver أن فهم قيمة المرء لنفسه وما يستحقه هو فضيلة، بينما يؤكد لِوِس Lewis وأرسطوتلس أنها رذيلة (أو على الأقل ليست فضيلة). أعتقد أن لِوِس وأرسطوتلس هما المحقَّان هنا. أولًا، لعلنا نلاحظ أن الجهل هو نوع من العيب والنقص، وبالتالي تعتقد دْرَيـْﭬر برأي ظاهر التناقض بأن بعض الفضائل، ما يسمى بـ"فضائل الجهل"، تنطوي على عيوب بشكل أساسي. وفقًا لهذا الرأي، فإن شخصًا فاضلًا بكمال يعاني بالضرورة من عيوب إدراكية معينة. بالتأكيد يشكِّل هذا سببًا مبدئيًّا لرفض رأيها. على أقل تقدير، فإن جدلية مقنعة ستُتَطَلَّب لجعل قبول مثل هذا الشرح الحدسي المقابل معقولًا.

ثانيًا، والأكثر أهمية، فإن شرح دريـﭬر المقترَح للتواضع عرضة للدحض بمثال مضاد. تأمل مثال سنسميه "بُبّْ المدهش". بب المدهش_كما سأفترض_هو أذكى وأقوى وأكثر الأشخاص رياضية وأكثرهم جاذبيةً في الكون. بب المدهش_لنفترض_يسيء تقدير قيمة نفسه. إنه يعتقد أنه الرقم مئة تقريبًا بين الأشخاص الأكثر ذكاءً وقوة ورياضية وجاذبية في الكون. لكن بب المدهش يتباهى باستمرار بمدى ذكائه وقوته ورياضيته وجاذبيته. في الحقيقة، يصعُب جعلُه يتكلم أو حتى يفكر في أي شيء آخر غير عظمته الخاصة به. كمثال، كل مرة يقابل فيها شخصًا جديدًا، يقول: مرحبًا [هاي]، أنا بب المدهش! أنا الرقم مئة بين الأشخاص الأذكى والأقوى والأكثر رياضية وجاذبية في الكون! أنا واحد في المليون، يا حبيبي!". وفقًا لشرح دريـﭬـر للتواضع، فإن بب متواضع. لكن هذا باطل بوضوح. قد يمتلك المرء الصفة التي حددتها دريـﭬـر ومع ذلك يكون متباهيًا متبجِّحًا بكمال. بالتالي، فإن الصفة التي حددتهادريـﭬـر ليست فضيلة التواضع.

من خلال شخصية الشيطان سكروتب، يقدِّم لِوِس معناه لحقيقة التواضع:

"إن العدو [الله] يريد جعل الإنسان في حالة عقلية يمكنه فيها تصميم أفضل كاتدرائية في الكون، ويعرف أنها الأفضل ويستمتع بهذه الحقيقة، بدون أن يكون أكثر أو أقل سعادة مما كان سيكون في حال لو أن شخصًا آخر هو من قام بها. يريده العدو....أن يكون متحررًا للغاية من أي محاباة لصالح نفسه بحيث يستمتع بمواهبه بنفس الصراحة والامتنان اللتين يستمتع بهما بمواهب الآخرين، أو برؤية شروقِ الشمس، أو فيلٍ، أو شلال مياه."

الرأي المقترَح هنا أن الكينونة[1] متواضعًا ليست مسألة تعلق بالتقليل من قدر قيمة المرء لنفسه ولإنجازاته، بل بالأحرى أنها مسألة تتعلق بإعطاء تقدير ملائم للقيمة والإنجازات. الشخص المتواضع يكون لديه تقدير دقيق لقيمته أو قيمتها الخاص(ة) به(ا). ما يجعل شخصًا متواضعًا هو الاعتقاد بأنه كسبب نهائي فإنه الله_على الأقل في الجزء الأكبر_من يستحق التقدير لأجل قيمة وإنجاز لفرد. هذا الاعتقاد يعلن عن نفسه في الامتنان لله. هذه هي أهمية آخر سطر من الفقرة المقتبسة، القائل بأن الناس المتواضعين يرون صفاتهم المثيرة للإعجاب الخاصة بهم بنفس الطريقة تقريبًا التي يرون بها الأشياء المثيرة للإعجاب في العالم التي ليس لهم علاقة بوجودها. الناس الذين يعتقدون أنهم هم وحدهم يسحقون كل التقدير والثناء لأجل قيمتهم وإنجازاتهم مخطئون، ويُظْهِرون رذيلةً. هناك سخافة مؤكدة لهذا النوع من الغرور، إنه كما لو أن لوحة تعطي كل التقدير لجمال نفسها ولا شيء لراسمها.

وفقًا لهذا الرأي عن التواضع، فهناك ارتباط مهم بين التواضع والطاعة. الشخص المتواضع يدرك اعتماد الفرد على الله، وبالتالي_على الأقل إلى حد ما_يكون واعيًا بكونه محددًا له مكانٌ في الكون. يقينًا، فإن الشخص المتواضع [من وجهة النظر الدينية] لن يكون أحمق لدرجة أن يشعر أنه مكتفٍ ذاتيًّا على نحوٍ كامل. بالإضافة إلى ذلك، فإن التواضع ينشئ الامتنان لله لأجل إنجازات المرء (وكذلك لأجل إنجازات الآخرين). وكما لاحظتُ في الفصل الثاني، فإن الامتنان لله يُقدَّم عادةً كسبب لوجوب طاعة وصايا الله [الدين]. من ثم فأن التواضع ينبغي أن يؤدّي إلى طاعة وصايا [أوامر] الله. على النقيض، فإن الشخص الفخور لا يشعر بأي اعتماد على الله ولا يرى سببًا لأن يكون ممتنًا له، وبالتالي لا يرى سببًا لطاعة أوامر الله. كل هذا يجعل التواضع فضيلة هامة على نحو حاسم في الأخلاق المسيحية.

بالتأكيد، يجب أن يرفض الطبيعيّ [العقلانيّ] هذا الشرح للتواضع (أو لو فشل في ذلك، فيجب أن يرفض الادّعاء بأن التواضع فضيلة)، المربوط بشكل لا يمكن فصله مع الاعتقاد بالله. رغم ذلك، فإن هذا الشرح مفيد لأنه يساعدنا على رؤية المشكلة في نظرية أرسطوتلس بأن التعقل أو الروح السامية فضيلة، وهي ترشدنا إلى اتجاه ما أعتقد أنه شرح طبيعي واعد لفضيلة التواضع.

يصرح أرسطوتلس في (الأخلاق النيقوميدية) بأن "مِنَح الحظِ....تساهم في التعقل الأسمى. الرجال ذوو المحتِد النبيل، أو السلطة، أو الثروة يعتبرون مستحقين للتشريف، حيث أنهم يشغلون مكانة أسمى." هنا يدعي أرسطوتلس بأن الناس يستحقون الخيرات بسبب عوامل ليس لهم تحكم فيها، بسبب تلقيهم لـ" منح" معيَّنة من "الحظ". افترِضْ أن سعيدًا وسميرًا متشابهان في كل النواحي، عدا أن سعيدًا محظوظ في كونه قد وُلِدَ في أسرة ثرية وبارزة، بينما سمير قد وُلد في أسرة فقيرة ومغمورة. وفقًا لأرسطوتلس، فبسبب هذا الاختلاف بين الاثنين، فإن سعيدًا يستحق تشريفا وخيرات أكثر مما يستحق سمير. لو كان أرطوتلس محقًّا، فمن ثم فإن سعيدًا محقّ في شعوره بالتفوق والاستحقاق أكثر للتشريف عن سمير، تحديدًا بسبب المولد [المحتِد] النبيل لسعيد. لكن هذا محضُ تغطرسٍ وحماقة. وفقًا لرأي لِوِسْ، فإن سعيدًا لو كان فاضلًا فلن يشعر بأنه أكثر استحقاقًا للخيرات مما يستحق سمير بسبب الاختلاف بينهم؛ بدلا من ذلك، فإنه سيكون ممتنا لله لكونه ولد نبيلا. يمكن للطبيعي_وينبغي عليه_أن يوافق على الجزء الأول من هذا الادعاء.

افترضْ أنكَ تعلم أن المذهب الطبيعي صحيحٌ. من ثم، فما هو الموقف الملائم لك لتتخذه باتجاه نفسك وإنجازاتك؟ إحدى الإجابات الممكنة هي أنه إذا كان كل ما يوجد يُتضَّمن كليًّا في الكون الطبيعي، فمن ثم هذا يجعل البشر في أعلى مكانة. بإزالة الله والملائكة، فإن البشر هم ملوك الكون، غير محكومين من أحد، ومفوَّضون للحكم على كل شيء موجود. لكن هذا سخيف؛ الكون من منظور طبيعي ليس مجرد كون من منظور مسيحي أزيل منه ذلك القسم من التراتبية فوق البشر ببساطة. بالأحرى، ففي كون منظور طبيعي، ليس هناك مثل هذه التراتبية في المقام الأول. لا يوجد موضع مرتَّب على نحوٍ إلهيّ قد عُيِّنّا له نحن أو أي كائن آخر. البشر لم يُستأثَروا بانتباه خاص من خالق إلهيٍّ، بالأحرى، فنحن_ككل شيء حي آخر على الأرض، تشكلنا عن طريق عمليات طبيعية عمياء تمامًا خارج تحكُّمنا. هذا_بالإضاقة إلى مقدار معرفتنا الحالي بكيفية عمل الكون الطبيعي مع شيء من التفكُّر الدقيق_يقترح شيئُا مثل الرأي التالي:

كلٌّ منا قد برز في الكون بمجموعة من الظروف ليست من اختيارنا، موهوبًا سمات نفسية وبدنية وإمكانيات ممنوحةً لنا بعوامل خارج تحكُّمنا. ليس لنا يد في ما إذا كنا سنكون موجودين على الإطلاق، أو في أي ظروف، أو مع أي قدرات ممنوحة لنا. ومع ذلك فإنه فوق الشك أن ظروفنا مع قدراتنا العديدة تحدد ما يمكن لنا تحقيقه، و_على الأقل إلى حد كبير_ما نحققه في الحقيقة. ربما تثور جدلية التنشئة في مقابل الطبيعة، لكن هل يتساءل أي أحد بجدية عما إذا لا يُشكِّل هذان العاملان مصائرنا على نحوٍ كبير؟! تفكَّرْ في حياتك الخاصة بك. تأمل في الأسرة التي وُلِدت فيها، والبلد، والنظام السياسي، والزمن، والوضع الاقتصادي، والجيران الذين صادف أن يحيطوا بك، والمدارس التي صادف أنك ذهبت إليها، والأصدقاء الذين صادف أن صادقتهم. هل من الممكن أن يُغالى في تقدير المجموع الكليّ لتأثير هذه الأشياء على مسار حياتك؟[2]

[IMG]file:///C:\DOCUME~1\Vortex\LOCALS~1\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image001.gif[/IMG]

[IMG]file:///C:\DOCUME~1\Vortex\LOCALS~1\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image002.gif[/IMG]
[IMG]file:///C:\DOCUME~1\Vortex\LOCALS~1\Temp\msohtmlclip1\01\c lip_image003.gif[/IMG]

قد يلاحظ آخرون على نحو صائب أنهم قد أنجزوا أكثر بكثير من آخرين لهم نفس الخلفيات. رغم كل شيء، قد يفكر أحدهم: لا أحد آخر من جيراني قد صار دكتورًا. وماذا صنع الاختلاف بشانك؟ هل كنتَ أكثر ذكاءً؟ أكثر اجتهادًا في العمل؟ هل كان لك موقف أكثر إيجابية؟ ومن ثم تفكَّرْ في هذا السؤال: ما مدى تحكمك وتقريرك في ما إذا كنت ستكون أذكى أو أكثر اجتهادًا في العمل أو أكثر تفاؤلا من كل الباقين؟ هل يمكنك أن تؤكد بجدية أن كل هذه_أو حتى أكثرها_كانت من صُنعِكَ؟

تقترح الأبحاث في علم النفس الاجتماعي أن السمات العادية للأوضاع التي نجد أنفسنا فيها يمكن بوضوح أن تؤثِّر على نحو دراميّ على سلوكياتنا[3]. ما إذا كان ناسٌ سيساعدون آخرين أم لا، يتأثر بمدى استعجلهم وبمزاجهم العامّ، والتي يمكن أن تتأثر على نحو هامّ بأحداث ثانوية مثل العثور على (أو الإخفاق في العثور على) عشرة سنتات [عملة معدنية] للاتصال من تلفون عموميّ في الشارع. الأشخاص الطبيعيون المستقرون عقليا وعاطفيا على نحو واضح وغير العنيفين سيرتكبون أفعالا ساديَّة ويوقعون (ما يعتقدون أنه) معاناة رهيبة على الآخرين كنتيجة للإصرار الحازم من جانب شخصية ذات سلطة، أو_في تجربة أخرى سيئة السمعة_كنتيجة لكونهم خُصِّص لهم على نحو عشوائي دور الحرس في تجربة محاكاة لسجن[4]. مثل هذه التجارب تدعم الفرضية الرئيسية المؤسسة لشرح التواضع من منظور طبيعي والتي سأنشئه وأوضحه، وهي أن تأثير العوامل التي خارج تحكمنا على أنفسنا وحيواتنا هائل وأكثر بكثير مما نميل بدون تفكُّر بأن نعتبرها عليه. قاد التفكر في مثل هذه التجارب John Doris جون دوريس لأن يدعي:

"لو أني قد عشت في جرمانيا [ألمانيا] أو رواندا، أو أي مكان آخر أثناءَ اللحظة التاريخية الخاطئة، لربما كنت عشت حياة تستحق التوبيخ الأخلاقيّ، رغم حقيقة أن الحياة التي أعيشها الآن ربما ليست أسوأ من متوسطة أخلاقيا. في هذه المسألة_لولا نعمة الله_لما كنت أكون كذلك[5]."

كما لاحظ لِوِسْ، فإن التواضع له علاقة بإعطاء الفضل إلى ما يستحق الفضل. إن اعتمادية البشر هي ما يجعل التواضع موقفا مناسبا. في ناظم لِوِس فنحن معتمدون على الله. لكن نوعا مشابها من الاعتماد موجود في الكون من منظور طبيعي. في كلا نوعي منظوري الكون، فإن مصير البشر (على الأقل في هذه الحياة) معتمد على نحو كبير على عوامل خارج تحكمهم. في الكون من منظور إيمانيّ، كل هذه العوامل تحت تحكم الله على نحو نهائي، وبالتالي كثير من الفضل لأي إنجازٍ بشريٍّ يجب أن يذهب إلى الله. في الكون من منظور طبيعي_على النقيض_ هذه العوامل ليست تحت تحكم أي أحد على نحو نهائي، وبالتالي الكثير من الفضل لأي إنجاز بشري ينبغي أن يذهب إلى....حسنًا، إلى لا أحد. ليس الأمر أنه إذا كان الله خارج الصورة، فإن كل الفضل للإنجازات البشرية يؤول بطريقة ما إلى البشر لغياب البديل؛ تظل هذه الإنجازات معتمدة على عوامل خارج وفوق تحكمهم تمامًا كما كانت دومًا.

إحدى المشاكل في شرح أرسطوتلس للتعقل الأسمى هي اقتراحه أنه من الملائم للناس أن يعتقدوا أنهم يستحقون المديح لأجل "منح من الحظ" معيَّنة، عوامل خارج تحكم الأفراد. لكن هذه مجرد نسخة متطرفة [قصوى] وواضحة لنوع الخطأ الذي يقوم به الناس الذين يعتقدون أنهم يستحقون كل الفضل [أو الفخر] لأجل إنجازاتهم الشخصية، غافلين عن المساهمة الكبيرة في إنجازاتهم التي قامت بها عوامل فوق تحكُّمِ الأفراد، أو معتقدين على نحو خاطئ أنهم يستحقون الفضل لأجل العوامل التي ليسوا بأي طريقة مسؤولين عنها.

يلاحظ لِوِس كذلك أن التواضع له علاقة بكيفية رؤيتنا لإنجازاتنا الخاصة بنا بالعلاقة مع إنجازات الآخرين. الشخص المتواضع_كما ميَّزه لِوِسْ_خلوٌّ تمامًا من أي محاباة شخصية لنفسه. أنا أفهم من هذا أن فكرة لِوِسْ أن الشخص المتواضع يدرك أنه ليس هناك فائدة تًنال بتضخيم إنجازات المرء الخاصة به، بما أنها_مثل إنجازات كل أحدٍ آخر_مِنَحٌ من الله. هذا يسمح بتقدير ورؤية أمينة للنفس، والتي تحبط التضخيم المتباهي. حتى لو كان شخصٌ_مثل بُبّْ المدهش_ جديرًا بالملاحظة حقًّا، فإن التباهي لا يكون ذا معنى لأن الله هو المسؤول النهائي. كما قال الرسول بولس: " لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ، فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟[6]" كورنثوس الأولى4: 7. لو كان بب المدهش متواضعًا، فسيكون ممتنا بدلا من أن يكون متفاخرا.

في كونٍ من منظور طبيعي، ينبغي على كلٍّ منا أن يدرك المساهمة الرهيبة التي قام بها الحظ الأعمى لكل إنجازات البشر، وأنه في حالة أيٍّ إنجاز كهذا، فإن معظم الفضل يذهب إلى الحظ الأعمى. سواءً بوجود أو بدون الله، فإن نفخ النفس والتكبر فوق رفاق المرء من البشر بسبب إنجازاته حماقةٌ. أيًّا كانت الإنجازات التي قد نكون قمنا بها لنجاحنا، فإن مساهمةً أكبر قد قامت بها عوامل فوق تحكمنا. تفكَّرْ في أكثر شخص تعيس مثير للشفقة قد عرفتَه. في كون من منظور طبيعي، لا ينبغي أن تفكر في نفسك بطريقة "لولا نعمة الله عليَّ لما كنت كذلك"، بل بدلا من ذلك: "لولا الحظ الأعمى لما كنتُ كذلك". أو ربما: "كم أنا محظوظ لأني قد وُجِدتُ على الإطلاق!". سواء بوجود الله أو بدونه، فإن تصور فرد عصاميّ [صانع لنفسه] على نحوٍ كاملٍ هو خيال سخيف.

ما العلاقة بين هذا النقاش بالنقاش اللانهائي المطوَّل عن الوجود وطبيعة حرية الإرادة الإنسانية؟ لو أن المذهب الطبيعي صحيح، فنحن نعلم أنه لا توجد روح فوق طبيعية، ولا نفس غير فيزيائية حقيقية متمايزة عن النفس الفيزيائية. افترض_رغم ذلك_أن المذهب الطبيعي يحتوي ضمنه على على عدم تحديد كافٍ للسماح بوجود الإرادة الحرة من نوع قويٍّ على نحو مناسب، ما يسمَّى بالإرادة الحرة "الليبرتارية". افترِضْ أننا يمكننا_إلى حد ما_تشكيل شخصياتنا الخاصة بنا من خلال أفعالنا الحرة. بهذه الطريقة، ربما نكون مسؤولين جزئيا عن بعض أفعالنا وحتى عن بعض سمات شخصياتنا.

حسنا، لو كان لدينا حرية ليبرتارية حقا، فإن ما يسقطه لنا الحظ الأعمى في جيوبنا هو مجرد هدية واحدة أخرى له. رغم ذلك، فعلى نحو أكثر أهمية، يجب أن ندرك أنه حتى مع افتراض أننا لدينا حرية ليبرتارية، فإن مفهوم وجود فعل يكون الإنسان مسؤولا عنه بمفرده، مستحقا كلَّ الثناء أو اللوم للقيام به، هو خيال صرف. إن أي فعل، أي نجاح أو فشل، يعتمد في حدوثه في الجزء الأكبر على عوامل خارج تحكم فاعله. كل فعل نقوم به كل فكرة نفكر فيها، تحدث ضمن إطار ليس من صنعنا. هذا الإطار يحدِّد مدى الإمكانية لنا. حتى مع الحرية الليبرتارية في الكون، فمعظم الفضل لإنجازاتنا يذهب إلى عوامل خارجة عن تحكمنا أكثر مما إلينا.

أنا لا أقترح أنه لا حياة أفضل أو أكثر إثارة للإعجاب أو أكثر استحقاقا من أخرى، أو أن كل البشر متساوون حقا في كل النواحي، أو أن لا فعل أكثر أهمية أو إثارة للاهتمام من آخر. إن الفنان الناجح الذي قد رسم للتو تحفة فنية يعلم تمامًا أن الرسم أكثر إنجازًا من قضاء اليوم في بالوعة. القطعة الفنية بالتأكيد وتستحق إعجابا وثناءً أكثر مما يستحق نشاط سِكِّير. بل إن ما أقترحه هو أن رد فعل الفنان على كل هذا ينبغي أن يكون إحساسَ المؤمن بالامتنان إلى الله أو إحساس الطبيعي [العقلاني] بكونه محظوظا جدا.

لا ينتج أيضا عن رأيي أننا لا ينبغي أن نعاقب أي أحد لقيامه بأفعال خاطئة أو خرق القانون. فيما يتعلق بهذه النقطة إنه لمهمٌّ ملاحظة شيئين. أولًا، إن المسؤولية عن فعل هي شيء يسمح بوجود درجات، قد يكون الشخص أكثر أو أقل مسؤولية عن فعل معيَّن. ثانيا، أن كون الشخص مسؤولا عن فعل معين إلى حد ما عادة يجعل معاقبة الشخص معقولة وعادلة لقيامه بالفعل محل الكلام. لا يحتاج الأمر أن أكون قد صنعت البندقية والرصاصات بنفسي، وصمَّمت مزاجي السيء كزناد على شعرة، واستحضرت الضحية البغيض لكي تكون معاقبتي على القتل معقولة وعادلة. يقوم شرحي للتواضع على الادعاء بأن أكثر الفضل لإنجازاتنا يعود إلى عوامل خارج تحكُّمنا؛ لا يتضمن هذا بأي سبيل أن ممارساتنا الخاصة بعقاب الناس لأجل بعض أفعالهم ينبغي أن تُلغَى.

إن اعتمادية البشر وأفعالهم على عوامل فوقَ تحكُّمِهم، وهي اعتمادية حاضرة سواء يوجد الله أم لا، ما يجعل التواضع في شكلٍ معيَّن موقفًا ملائمًا لاتِّخاذه. في كون من منظور إيمانيّ، فإن إدراك اعتمادنا يجب أن يولِّد الامتنان اتجاه الله؛ بينما في كون من منظور طبيعي يجب أن يولِّد شعورًا بكون المرء محظوظا (بالنسبة لمن أنجزوا الكثير). في كلا نوعي الكون، فإن محاولة ترجيح ميزان الفضل لجهة الشخص لأجل إنجازاته فعلٌ أحمقُ. هناك بالفعل تواضع من منظور طبيعي، وهو فضيلة[7].

من التواضع إلى الإحسان

تخيل أن ملايين البشر يهبطون بمظلات هبوط على سطح كوكب مغايِر. تتنوع تضاريس الأرض وقابلية سطح الكوكب للسكنى على نحو واضع، وبالتالي تتنوع أطياف الظروف التي يجد هؤلاء البشر أنفسهم فيها عند الهبوط على نحو مماثل. يجد بعض الناس أنفسهم يهبطون في رمال متحركة ويكافحون للبقاء أحياء، آخرون يهبطون في غابات مورقة خصبة، محاطة بمياه وافرة وفواكه شهية. بينما يهبط آخرون في صحارى قاسية وقاحلة، وهكذا. نحن كمثل هؤلاء البشر فيما يتعلق بالموضوع الذي كان مجال تركيز المقطع السابق؛ يعتمد ما تكون عليه حياتنا بدرجة كبيرة على ظروف خارج تحكمنا. فمثلهم، نمارس بعض التحكم على مسارات حيواتنا، لكن مجال الإمكانيات المتاحة لنا بعيد عن أيادينا [تحكمنا] إلى حد كبير.

فلندرس طريقتين لتوسعة هذا السيناريو. أولًا، فلنفترضْ أن هؤلاء البشر الهابطين بالمظلات يعرفون أن كائنا كلي القدرة والمعرفة وكامل أخلاقيا مسؤول عن كامل المسألة. هذا الكائن قد صمّم خلق الكون وقد قرر مسبقا أين سيهبط كل إنسان. الكائن لديه خطة كبيرة، وكل إنسان يلعب دورا صغيرا لكنه حاسم في تلك الخطة. مفترضين هذه الافتراضات الأخرى، فإن السؤال الذي أود التركيز عليه هو هذا: أيُّ التزامات_لو كان هناك أيٌّ منها_على الأفضل حالا بين هؤلاء البشر اتجاه الأسوأ حالا؟ هل على الإنسان الذي هبط في غابة خصيبة أي التزام بمساعدة إنسان مجاور هبط في صحراء قاحلة؟

الإجابة ليست واضحة، فرغم كل شيء، قد يعتقد البشر الأفضل حالا أن البشر الأسوأ حالا قد وُضِعوا حيث جُعِلوا أسوأ حالا من قِبَل كائن ذي كمال. كائن مثل هذا ما كان سيضع هؤلاء البشر الأقل حظا في ظروف صعبة ما لم يكن هناك سبب وجيه لفعل ذلك، ومَنْ نحن لنتدخل في الخطة الكبيرة للكائن ذي الكمال؟ بدون أي معلومات إضافية، قد يستنتج الأكثر حظا على نحو عقلاني أن ما ينبغي عليهم فعله هو أن يكونوا ممتنين لأجل مصائرهم ويتركوا الآخرين لمصائرهم الخاصة بهم. "كل واحد يهتم بنفسه، والله مع جميعنا" يبدو مبدأ معقولا لاتخاذه في هذا الوضع المتخيَّل.

لكنْ فلنضِف سمةً أخرى إضافية على هذا السيناريو. فلنفترض أن الكائن الكامل قد أصدر الأمر التالي للبشر: "أحبَّ قريبَك كنفسِكَ" [اللاويين19: 18، متى19: 19، و22: 39، ومرقس12: 31].[8] هذا_كما سيبدو_يغيِّر الوضع بالكامل. مسلِّمين بهذا الأمر، فإن الامتنان الذي يشعر به على نحو ملائم الأكثر حظا بين البشر اتجاه الكائن الكامل ينبغي أن يترجم إلى الطاعة. مسلّمين بالأمر بحب جيراننا، فإن على الأفضل حالا من بين البشر التزام بمساعدة الأسوأ حالا، على الأقل بدرجة ما.

النسخة الموَسَّعة لهذا السيناريو مماثلة للوضع الذي يعتقد المسيحيون [والمتدينون المؤمنون بإله أو آلهة عموما_م] أنهم فيه. هناك شيئان ذوا أهمية خاصة هنا. أولًا، يبدو أنه بدون الأمر من الله بمساعدة جيران المرء، فإن البشر (على نحو قابل للجدل) لن يكون عليهم أي التزام أخلاقي بفعل ذلك. هذا يقترح نوعا آخر من الجدلية لأجل فرضية كارامازوﭪ (التي ناقشتها في الفصل الثاني)؛ بأنه لو لا وجود لله، فمن ثم فإن كل الأفعال البشرية مسموح بها أخلاقيا وليس على البشر أي التزامات أخلاقية على الإطلاق. بفرض أن الله يوجد بالفعل، فإن الجدلية تبدأ بالادعاء الذي قد جادلت للتو للبرهنة عليه، تحديدا: 1- لو لم يكن الله [الدين] قد أمر البشر بمساعدة جيرانهم، لما كنا سيكون علينا أي التزام بفعل ذلك. قد يُلاحَظ بالإضافة إلى ذلك أنَّ 2- لو أن الله لا يوجد، فمن ثم فلن يأمر البشر بمساعدة جيرانهم. قد نعتقد أنه من 1و2 يمكننا الاستنتاج أنه 3- لو أن الله لا يوجد، فمن ثم فلن يكون علينا أي التزام بمساعدة جيراننا. آخر الأمر، لو أضفنا مقدمة منطقية أن كل التزاماتنا مثل هذا على نحو وثيق الصلة، فسنصل إلى الاستنتاج بأنه لو لا وجود لله، فلن يكون علينا أي التزامات، فرضية كارمازوﭪ.

هذه الجدلية تنطلق على نحو خاطئ في استدلالها من 1و2 على 3. هذا استدلال يتخذ الشكل التالي: 1- لو أن (أ) صحيح، فمن ثم فإن (ب) سيكون صحيحا. 2-لو أن (ج) صحيح، فإن (أ) سيكون صحيحا؛ بالتالي 3-لو أن (ج) صحيح، فإن (ب) سيكون صحيحا. لكن هذا الاستنتاج لا ينتج عن المقدمات المنطقية، كما يمكن أن يُرَى من خلال المثال المضاد التالي: يصادف أن لي أخًا واحدًا، تأمل هذا النمط من التفكير: 1- لو لم يكن أخي قد وُلِدَ، فمن ثم لكنتُ سأكون طفلا وحيدا. 2-لو لم يكن والدايَ قد التقيا قط، لما كان أخي سيولد. بالتالي: 3-لو لم يلتقِ والدايَ قط، لكنتُ سأكون طفلا وحيدا. الادعاآن 1 و2 كلاهما صحيح، لكن الادعاء 3 ليس كذلك بوضوح. المشكلة هي أن لو لم يلتقِ والداي قط، بينما يكون صحيحا أن أخي لم يكن سيوَلد، فإن هناك أشياء أخرى ستكون صحيحة ستجعل كوني سأكون طفلا وحيدا باطلا، بوضوح لما كنت سأوجَد على الإطلاق[9]. كما سأقترح قريبا، فإن شيئا مماثلا صحيح في حالة الادعاء بأنه لو لا وجود لله، فمن ثم لن يأمرنا بمساعدة جيراننا. هذا صحيح، لكن لو أن الله لا وجود له، فمن ثم فإن أمورا أخرى معينة ستكون صحيحة والتي تجعل الوضع أن علينا بالفعل التزاما بمساعدة جيراننا، رغم أننا لم نُأمَر بفعل ذلك من قِبَل اللهِ.

الشيء الثاني ذو الأهمية في سيناريو [الهبوط في] غابة أو صحراء أنه يمكننا من إدراك أن التواضع أساس عنصر واحد على الأقل من عناصر الإحسان[10]. كما قد اقترحتُ، فإن التواضع يتضمن إدراكًا لمكان المرء المناسب في الكون ويولٍّد امتنانا اتجاه الله لأجل الأشياء الطيبة التي يمتلكها المرءُ [وفقَ المنظور الديني]. إذن، يؤدّي التواضع إلى إدراك أن المرء ينبغي عليه طاعة أوامر الله، والتي أحدها هي الأمر بأن نحب جيراننا. التواضع المسيحيّ يولِّد الإحسانَ.

فلنعُدْ الآن إلى نسخة أخرى من السيناريو. في هذه النسخة، يعلم البشر أنه ليس هناك كائن ذو كمال مسؤول عن مصائرهم، يعلمون أنهم قد تبعثروا عشوائيا على سطح الكوكب، والذي تحددت طبيعته نفسها بقوى طبيعية غير واعية. إن نوع التضاريس الأرضية التي يهبط فيها أي إنسانٍ فردٍ هو مسألة حظ بالكامل. ليس هناك أي كائن كامل مسؤول عن الوضع أو أصدر أية أوامر للبشر. إنهم معتمدون على أنفسهم. هذا السيناريو مماثل على نحو وثيق الصلة بالوضع الذي نجد أنفسنا فيه في كون من منظور طبيعي. كما سبق، أود التركيز على السؤال: أي التزامات_ لو كان هناك أيٌّ منها_على الأفضل حالا من بين هؤلاء البشر اتجاه الأسوأ حالا؟

أعتقد أن في هذا السيناريو الثاني على الأفضل حالا التزامًا بمساعدة الأسوأ حالا، على الأقل بدرجة ما، رغم كونهم لم يُصْدَر لهم أمر إلهيّ بفعل ذلك. افترِضْ أن إنسانا والذي صادف أن هبط في غابة مورقة ووافرة يحدث أن يلاحظ إنسانا آخر والذي قد هبط بالجوار في صحراء جافة وقاحلة. سيلاحظ الإنسان الأول_لو كان مفكرا على نحو كافٍ_أن كليهما قد انتهى به الحال حيث هو كنتيجة لقوى خارج تحكمهما. "لقد صادف أن هبطت في غابة منعِمة، بينما هذا الرفيق قد صادف أن هبط في صحراء قاحلة. كلانا بشَرٌ، ولا أحد منا قد اختار مصيره. ليس هناك قوة أعلى مسؤولة عن الوضع، ويتضح أني لو لا أساعد هذا الرفيق، فلا أحد آخرَ سيفعل". هذه نوعية الأفكار التي ينبغي أن تدور في عقل الإنسان الأكثر حظًّا، والذي ينبغي أن يصل على نحو عقلاني للاستنتاج بأن الثريّ ذا الامتياز عليه التزام بمساعدة الأقل حظا. هذا الالتزام لا يعتمد على أي أمر إلهيّ بل بدلا من ذلك على تفاصيل الوضع. ضمن أكثر السمات بروزًا في هذا الوضع افتقادُ التحكم لدى كليهما على مصيريهما الخاص كلٌّ منهما بأحدهما. لو أن الرياح هبَّتْ على نحو مختلف قليلا، فإن مصيريهما كان يمكن أن يُعكَسا. أليس واضحا أنه ليس مسموحا أخلاقيا بالرفض تماما لتقديم أي مساعدة للأقل حظا الذين وجدوا أنفسهم في ظروف صعبة بدون خطإٍ من جانبهم والذين سيعانون على الأرجح وحتى يهلكون لو لا نساعدهم؟

لو أن هذا صحيح، فمن ثم يمكننا أن ندرك أن التواضع من منظور طبيعي_كالتواضع المسيحي _يؤدّي إلى الإحسان. كما قد اقترحتُ في مقطعٍ سابق؛ فإن التواضع من منظور طبيعي يتضمن إدراك المساهمة الهائلة للحظ الأعمى في مصائر البشر، وهذا الإدراك بالتحديد هو ما ينبغي أن يقودنا إلى الاعتراف بالتزام بمساعدة الأقل حظا من بيننا. هناك مجال واسع للجدال هنا بصدد المدى الدقيق لتشابهات وضعنا في كون من منظور طبيعي مع وضع البشر في سيناريو الهبوط في غابة أو صحراء، وبصدد المدى الدقيق لالتزامنا بمساعدة الأقل حظا، لكن يبدو واضحا على نحوٍ كافٍ أن علينا التزاما ما كهذا. كمثال، لو وضعنا العلاقات الأسرية في الصورة، ستصير الأمور أكثر تعقيدا، لكن أعقد أن النقطة الرئيسية رغم ذلك تظل صحيحة. لو أن الله ميت [غير موجود بتعبير نتشه الأدبيّ_م] ، فإننا لسنا مأمورين من قِبَل إلهٍ بمساعدة رفاقنا من البشر. رغم ذلك، فإن علينا مثل هذا الالتزام، رغم أنه مستمدٌّ من مصدر آخر. و_في كلٍّ من كون مسيحي وكون طبيعي_فإن النوع الملائم من التواضع سيقودنا إلى إدراك هذا الالتزام.

الأمل والبطولة

في (عبادة الإنسان الحر)[11]، كتب برتراند رَسِل:

"...أن الإنسان هو نتاج لأسباب ليس لها بصيرة بالنهاية التي تحققها، أن أصله ونموه وآماله ومخاوفه وما يحب ومعتقداته ليست سوى حصيلة انتظامات صدفوية للذرّات، أنه لا حماسة، ولا بطولة، ولا قوة فكر وشعور يمكنها حفظ حياة فردٍ إلى ما بعد القبر؛ أن كل جهود العصور، وكل التكرسات، وكل السطوع المشرق للعبقرية البشرية مقدَّرٌ لها الانقراض في الموت الكبير للنظام الشمسيّ، وأن كامل معبد الإنجاز البشريّ يجب على نحو محتوم أن يُدفَن أسفل حطام كونٍ مهدَّمٍ. كل هذه الأمور، لو لم تكن بعيدة عن الخلاف تماما، فهي كذلك يقينية تقريبا بحيث لا فيلسوفَ يرفضها يمكن أن يأمل في إظهار نفسه. فقط ضمن الأساس الراسخ لليأس الثابت، يمكن من الآن بناء مُسْتَقَرٍّ للنفس بأمان."

هذه الفقرة جديرة بالملاحظة لأجل تصريحها البليغ والصادم عن المذهب الطبيعي، مع الاقتراح (والذي يجب أن أعترف أني أجده مرحًا على نحوٍ غامض) أن رد الفعل الملائم على حقيقة المذهب الطبيعي هي اليأس الراسخ. لكنْ هل هذا صحيح؟ إن السؤال الثالث من أسئلة كانط الشهيرة في كتابه (نقد العقل المحض) هي: ماذا علي أن آمَل؟ على نحو محدد، ما هو المعقول بالنسبة لشخص يعلم أن المذهب الطبيعي صحيح أن يأمله؟ في الحقيقة، لو أن المذهب الطبيعي معروفٌ بأنه صحيحٌ، فهل هناك أي مكان للأمل على الإطلاق، أم أن اليأس الكامل هو رد الفعل العقلاني الوحيد؟

كتب توماس الأكوينيّ في (مقالة عن الفضائل) أن: "فعل الأمل يُتَضَمَّن في النظر باتجاه السعادة المستقبلية الممنوحة من الله". بوضوح فلا مكان لهذا النوع من الأمل بالنسبة لمن يعرفون أن المذهب الطبيعي صحيح. رغم أن فقرة رَسِل Russell عن "اليأس الراسخ" قد تقود المرء إلى الاعتقاد بأن رأيه هو أن اليأس الكامل هو الموقف الملائم للطبيعيّ، فإن هذا ليس ما عليه الأمر. لقد اعتقد رَسِل أن الكثير منا يمكنه أن يأمل على الأقل على نحو معقول بحيوات جيدة، حتى في كونٍ من النوع الذي اعتبَر أن كوننا عليه. وفقا لرَسِلْ، [كما كتب في مقاله ما أعتقده المنشور ضمن نسخة لماذا لست مسيحيا] فإن الحياة الجيدة "يلهمها الحب وترشدها المعرفة". وإن جزءً هاما من المعرفة هو معرفة أن المذهب الطبيعي صحيح. وفقا لرسل، فيمكن لمعرفة صحة المذهب الطبيعي أن تساهم في حياة طيبة.

لكن كيف؟ كيف ينبغي أن نشعر، وماذا ينبغي أن نفعل، في ضوء هذه المعرفة؟ إن إجابة رَسِل _باختصار وفي قشرة جوز_أننا ينبغي أن نواجه الحقائق بشجاعة. لقد كتب [في نفس المقال]: "إنها خشية الطبيعة ما أنشأ الدين". إن وظيفة الإيمان بالله هي "أنسنة عالم الطبيعة وجعل البشر يشعرون أن القوى الفيزيقية حلفاء لهم حقًّا". إنها خرافة قائمة على التمنّي، متراس وُضِعَ بيننا وبين الحقيقة التي نخشى مواجهتها. وبعد، فلو أن ادعاء رسل هو أن الخوف هو دومًا ما يقود الناس إلى الدين، فإن هذا الادعاء باطل، لأن بالنسبة لكثير من الناس، فإن ادعاآت دينية معينة هي ببساطة ضمن الأمور التي علَّمها لهم آبارهم وقبلوها على ذلك الأساس. لكن رسل محقّ بالتأكيد في أن الخوف أحيانا يقود الناس إلى الدين [وقال الشاعر الروماني الأبيقوري لوكريشيوس منذ ما قبل الميلاد في قصيدته عن الطبيعية أن الخوف هو أُمُّ كلِّ الآلهة]. هذه هي الفكرة التي وراء القول المأثور القديم "ليس هناك ملحدون في جحور الثعالب". أشار Mark Juergensmeyer في كتابه (الرعب في التفكير الديني)[12] الصادر عام 2000 إلى حَدَثٍ حدث عام 1870م حيث أوقعت مجموعة من الهنود الحمر الأمركيين الأصليين في فخٍّ من جانب فرسان الولايات المتحدة الأمركية، و "كان رد فعلهم تلقائيا بإنشاء شعيرة رقصٍ وحالات نشوة من الغشية أو الترانس تُعرَف بديانة رقصة الشبح". بالتالي فنحن نعلم بأن دينا واحدا على الأقل قد أفرخه الخوف.[13]
إن الخوف هو ما يقودنا إلى براثن الدين، من ثم فإن الشجاعة هي ما يمكن أن يحرِّرنا. إن فكرة رسل هي أن الشخص الشجاع يقبل حقيقة المذهب الطبيعي وبفعل ذلك يواجه حقيقية أن "العالم الكبير...ليس خيِّرًا ولا سيئًا على السواء، ولا يهتم بجعلنا سعداء أو تعساء[14]." في الحقيقة، اقترح رَسِلْ أن مواجهة الحقيقة بصدد الكون في حد ذاتها نوع من الانتصار، فعل بطوليّ، كما كتب في (عبادة الإنسان الحر):

"عندما_بدون مرارة التمرد عديم الجدوى_نتعلم كلٍّ من تسليم أنفسنا للحكم المادي للقدر وإدراك أن العالم غير الإنساني لا يستحق عبادتنا، يصبح ممكنا آخر الأمر أن نحوِّل ونعيد صياغة الكون غير الواعي، بحيث نغيره في بوتقة التصوُّر، بحيث تحل صورة جديدة كالذهب المشرق محل وثن الطين القديم......فأن نأخذ إلى أعمق مقام للنفس هذه القوى التي لا تقاوَم التي نبدو كدمى لها، الموت والتغير، والماضي غير القابل للتغيير، وعجز الإنسان أمام السرعة العمياء للكون من لا جدوى إلى لا جدوى، أن نشعر بهذه الأشياء ونعرفها هو هزيمتها".

إن انتصار قبول المذهب الطبيعي يتعلق بممارسة التحكم في عقل المرء الخاصّ به. في كون يكون فيه البشر إلى حد كبير تحت رحمة قوى غير مبالية ومحايدة أخلاقيا خارج تحكمهم، فإن أحد أنواع الإنجاز البارزة هو التحكم. في الحالة الخاصة بقبول المذهب الطبيعي، فإن النصر يكون على الخوف. المؤمن المتدين يقوده الخوف، بهذه الطريقة فإن عقل المؤمن خاضع لقوى خارج تحكمه الشخصيّ، تمامًا مثل الجسد. لكنَّ الطبيعي يتحكم في العقل ويرفض أن يحكمه الخوف، هذا الانتصار على الكون هو إنجاز ذو شأن في حد ذاته ولأجل ذاته.

على نحو مثيرٍ للاهتمام، فإن نوع التحكم الذي أعجب به رسل يتوافق على نحو وثيق مما يحدده الدفاعيّ المسيحيّ العظيم C. S. Lewis كأحد أنواع الإيمان، في كتابه (المسيحية المجرَّدة) Lewis, Mere Christianity, 140–141:

"الإيمان...هو فن التمسك بالأمور التي قد قبلها عقلك ذات مرة، رغم أمزجتك المتغيرة. لأن الأمزجة ستتغير، فأي رأي سيتخذه عقلك...الآن فأنا مسيحيّ لدي بالفعل أمزجة يبدو فيها كل أمر الدين غير مرجَّح جدًّا: لكنْ عندما كنت ملحدًا كان لدي أمزجة تبدو فيها المسيحية محتملة بشدة. تمرد أمزجتك ضد نفسك الحقيقية سيحدث على أية حل. هذا سبب كون الإيمان هو فضيلة ضرورية إلى هذا الحد: ما لم تعلِّم أمزجتك أنها "كيفما تصير" فإنك لا يمكنك أن تكون سواءً مسيحيا سليما أو حتى ملحدا سليما، بل مجرد كائن يتحيَّر ذهابًا وإيابًا [يقدم ويتراجع]، مع كون اعتقاداته تعتمد في الحقيقة على الطقس وحالته الهضمية."

لاحظ أن لِوِسْ يتكلم عن "تمرد الأمزجة"، و_قرب نهاية الفقرة_يمتدح الإيمان على أساس أنه ينقص اعتمادية المرء على العوامل التي خارج تحكمه، بوجه خاص الطقس وحالته الهضمية. يتفق رَسِلْ و لِوِسْ في امتداح القدرة على تنظيم اعتقادات المرء بالتوافق مع العقل كفضيلة، وعدم ترك اعتقادات المرء ليتحكم بها العواطق والأمزجة المتغيرة. ما لا يتفقان عليه هو ما إذا يكون العقل يوجهنا باتجاه الإيمان أم الإلحاد. لكن يبدو واضحا من فقرة "المزاج المتمرد" هذه أن لِوِس كان سيوافق أنه لو أن العقل يخبرنا أن الإلحاد حقيقة، فإن القبول المستمر له سيكون دالًّا على الفضيلة، الفضيلة التي يميزها رسل بأنها الشجاعة ولِوِس بأنها الإيمان. ربما هناك شيء على غرار إيمان طبيعيّ[15]؟

لنفترض أننا يمكننا أن نأمل في نوع الانتصار الذي تصوّره رَسِل. إن سؤالا معقولا هو: هل ذلك هو كل ما يمكننا الأمل فيه؟ لنعرف ما يمكننا أن أمل فيه أيضًا في كون من منظور طبيعي فيجب أن نبحث أعمق قليلا. المذهب الطبيعي له معانٍ ضمنية سوداوية، تضمينات يجب أن نفحصها على نحو أكثر تمامًا قبل أن يمكننا أن نقرر إلى أي حد ينبغي أن نأمل وإلى أي حد ينبغي أن نيأس في كون من منظور طبيعي.

في كتابه (مواجهة الشر) 1990م يحدد John Kekes ثلاث ظروف أساسية للحياة البشرية، ثلاث سمات حتمية للظرف الإنساني. أول هؤلاء هو الذي قد شدَّدْت عليه من قبلُ، وهو أن "الإنسان عرضة للصدف....هناك مجالات واسعة من حيواتنا نفتقد فيها الفهم والتحكم.[16]" الظرف الثاني هو "لا مبالاة [عدم تمييز] نظام الأشياء باتجاه الاستحقاق الإنساني. لا توجد عدالة كونية....نظام الطبيعة ليس نظاما أخلاقيا....إنه حياديّ". هذا الظرف الثاني متعارض مع_كمثال_مفهوم وجود ضمان إلهيّ للعدالة التامة. يلعب هذان الظرفان الأولان للحياة البشرية دورا هاما في نظرية رَسِل. الظرف الثالث (والذي يوضحه Kekes من خلال شخصية كورتز في رواية كونراد "قلب الظلام") هي "وجود الميل للتدمير في الحافز البشريّ". إنه لمهمٌّ أن نلاحظ أنه يعتبر هذه سمة حتمية للطبيعة البشرية. ويبدو أن رسل أدرك هذا الظرف الثالث كذلك في مقالته (ما أعتقده).

من بين الثلاثة ظروف، فإن الثاني هو الأكثر إثارة للإزعاج إلى حد كبير. في كلام جراهام هِسّْ من فِلم (علامات) Signs الذي اقتبستُ منه في بداية هذا الكتاب، فإن ما يميز المجموعتين اللتين قال هس أن كل الناس يمكن أن يُقسَّموا إليهما هو موقفهم فيما يتعلق بالظرف الثاني. قال هس أن الناس في المجموعة الأولى يعتقدون أنه مهما يحدث، "فهناك شخص ما في الأعىل هناك، يراعيهم"، بينما الناس في المجموعة الثانية يعتقدون أنهم معتمدون على أنفسهم. قال هس أن الناس في المجموعة الأولى مملوؤون بالأمل، بينما الناس في المجموعة الثانية مملوؤون بالخوف.

إن فكرة أن الكون عاقل وأخلاقيّ هي قناعة يعتقد بها على نحو واسع العديد من المفكرين من العديد من الاتجاهات الدينية. إن مفهوم كونٍ متعقلٍ وأخلاقي يعم الفلسفة الجريكية [اليونانية] القديمة. سعى هيراكْلَيْتَس [هيرقليطس] وبارْمَنَيْدِس كلاهما لفهم الكلمة أو اللوجوس، النموذج العقلاني للكون، رغم أنهما اختلفا حول طبيعة اللوجوس[17]. اقترح أنَاكْسِمانْدِر أن الأرض في مركز الكون لأنه لا سبب وجيه لها لتكون في مكان آخر[18]. أما سقراطس في محاكمته والحكم عليه بالإعدام، متهَمًا من أَنِتَسْ و مِلِتَسْ بالسفسطة [السوفسطائية اللعب بالجدليات المغلوطة ومعاني الكلمات_م] والإلحاد وإفساد شباب أثينا، قدّم سقراطس هذا النمط من التفكير، كما نقل عنه أفلاطون في (الدفاع عن سقراطس): أَنِتَسْ ومِلِتَسْ لا يستطيعان أن يؤذياني، فهذا مستحيل، لأني متأكد أنه لا يُسمَح أن يؤْذَى رجلٌ صالح من قِبَل من هو أسوأ." في الكتاب الأول من الأخلاق النيقوميدية، يلجأ أرسطوتلس للمقدمة المنطقية القائلة بأن "في مملكة الطبيعة، فإن الأشياء مرتَّبة على نحو طبيعي بأفضل طريقة ممكنة". أما فيلسوف القرن السابع عشر الجرماني جوتفريد وِلْهِلْم ليِبْنِز Gottfried Wilhelm Leibniz، فمعروف باتخاذه لنسخة قوية على نحو خاص من هذه الفكرة [في كتابه العدالة الإلهية Theodicy]. لقد أكّد أنه بما أن العالَم (وعنى بالعالم كل الأشياء الموجودة خلال كل الزمن) قد خلقه إله كامل، فيجب أن يكون أفضل كل العوالم الممكنة[19]. لقد درسنا من قبل باختصار التفافة معاصرة على هذه الفكرة. ففي نهاية الفصل الثاني أشرتُ إلى اقتراح John Leslie في كتابه Universes (الأكوان) أن إلهًا شخصيًّا يوجد بسبب وجود متطلَبات أخلاقية معيَّنة في الكون. أما مارتن لوثر كنج فكاتبًا عن استقلال غانا [جانا] عن بريطانيا المحتلة عام 1957 [في سيرته الذاتية]، رأى أن هذا الحدث: "شهادة مناسبة على حقيقةِ أن قوى العدل في الكون تنتصر آخر الأمر، وبكيفية ما فإن الكون نفسه بجانب الحرية والعدالة". إن الرأي القائل بأن الكون عاقل وأخلاقي على نحو أساسيّ لم يعتقد به الفلاسفة فقط بالتأكيد؛ بل كثيرًا ما يعبَّر عنه بكلمات القناعة المعتقَدة من الكثيرين على نحو واسع بأن "الأشياء تحدث لأجل سبب". ويعنون بهذه العبارة عادة أن كل شيء يحدث لسبب وجيه وللأفضل.

في الفصل الأول من كتابي هذا أشرت إلى رأي أرسطوتلس بأن أفضل نوع من الحيوات البشرية هو حياة الفيلسوف الناجح، حياة التأمًّل النظريّ. لقد وجدت أن أول الاعتراضات التي يقترحها الطلاب على هذا الرأي هو أنه يعني ضمنيا أن معظم الناس لا يمكنهم أن يعيشوا أفضل نوع من الحياة الإنسانية. يصف الطلاب أحيانا رأي أرسطوتلس بأنه "ظالم" أو "صفويّ" نخبويّ. لقد سمعت هذا النوع من الاعتراضات يدافع عنه مؤمنون ولا أدريون [متبنو عدم الدراية] وعقلانيون [ملحدون] على السواء. قد يبدأ الاعتراض بهذه الطريقة:

1-لو يكون رأي أرسطوتلس صحيحا، فمن ثم فإن أغلب الناس لا يستطيعون عيش أفضل نوع من الحيوات.

2- لكنه غير صحيح أن أغلب الناس لا يستطيعون عيش أفضل نوع من الحيوات.

3- بالتالي، فإن رأي أرسطوتلس باطل.

لكن ماذا على وجه الأرض يدعم المقدمة المنطقية الثانية؟ إن ارتيابي هو أن الطلاب الذين يطرحون هذا الاعتراض يحرِّكهم الشعور بأن الكون لا يمكنه فحسب العمل بهذه الطريقة. وهذا الشعور يقوم على مفهوم أن الكون عاقل وأخلاقي على نحو أساسيٍّ.

لتبدأ في الإدراك فقط كم هو مرعب رفض فكرة أن الكون عاقل وأخلاقي، لاحظ أن اثنين من الظروف الثلاثة الرئيسية للحياة الإنسانية كما قدمها Kekes_ المصادفة والميل للتدمير في حافز البشر_هما مكونان في الرؤية المسيحية للكون. هذا واضح من نقاشنا الأبكر عن أسطورة سقوط الإنسان [آدم وحواء]. كان البشر معتمدين على الله قبل السقوط، أما بعد السقوط فإن اعتمادهم ازداد فقط. وجزء من الرؤية المسيحية هو أن من ضمن نتائج السقوطِ الفسادُ الأخلاقيُّ للطبيعة البشرية، أحد تجلياته هو الميل للتدمير في حوافزنا. بسبب السقوط، فإن قلبا من الظلام يسكن داخل كل واحدٍ منّا.

لكن المسيحية ترفض تماما الحياد وعدم التمييز الأخلاقي للكون. وهذا هو ما يجعل الرسالة المسيحية على نحو أساسي رسالة أمل، كما أعتقد. لاحظ كم يكون الظرفان المذكوران أقل تهديدا لو أنهما جُمِعا مع الجوانب الأخرى للمسيحية. نعم، هناك أشياء كثيرة ليست في تحكمنا، لكن هؤلاء الأشياء على نحو نهائي ومطلق تحت تحكم إله خيِّر على نحو كامل. نعم، هناك قلب ظلامٍ داخلَ كل منا، لكنْ لا يجب أن يكون هذا ظرفًا دائمًا. بمساعدة الله، يمكننا التغلب على الشر الذي بداخلنا والخلاص منه آخر الأمر، إن لا يكن في هذه الحياة، فمن ثَمَّ في التي ستأتي بعدها. [هكذا تقول المسيحية_م].

أَزِلْ هذا الكون الأخلاقي الذي يقوده خالقٌ عاقل كامل القدرة حكيم خَيِّر، واستبدِلْه بشيءٍ عديم العقل غير مُمَيِّز ولا مبالٍ وغير متَحَكَّم به بدرجة كبيرة، وسيكون هذان الظرفان أكثر تهديدًا بكثير. لا يوجد طمأنة بأن الشر داخلنا يمكن التغلب عليه على الإطلاق. الأشياء التي ليست تحت تحكمنا ليست كذلك تحت تحكم كائن خيِّر على نحو كامل. عوضًا عن ذلك؛ فإنها ليست تحت تحكم أي كائن على الإطلاق.

الاختلاف في الرأي فيما يتعلق بالظرف الثاني_كما أعتقد_أحد أهم الاختلافات بين الإيمان والإلحاد. إن أحد أسباب كون جدلية George Mavrodes الأخلاقية لأجل وجود الله (ناقشتها في الفصل الثالث، الباب الخامس) غير مقنعة للغاية هو أنه تبنّى كمقدمة منطقية الادعاء بأن الكون عادل على نحو أساسي، دون تقديم أي جدلية لذلك. لكن بما أن هذا أحد الأمور الرئيسية التي هي محل جدال في النقاش بين المؤمن والملحد، فإنه غيرُ مرجَّحٍ أن يجد الملحدُ هذا النوعَ من الجدليات مقنِعًا.

هذه المنطقة من الخلاف هي أيضًا أحد أسباب كون المؤمنين والملحدين قد يشعرون بعداءٍ هائلٍ اتجاه بعضهم الآخر، رغم أنه بالتأكيد ليس السبب الوحيد. يؤكد الملحد [العقلانيّ] أنه ليس هناك سبب محدَّد للاعتقاد بأن معاناة أو خسارة أي أحد لها معنى، بما في ذلك المعاناة والخسارة التي يعانيها المؤمنون. من ناحية أخرى، فإن الملحد قد يشعر أن في اعتقاد المؤمن بأن المعاناة الشخصية وموت الأحباء له حقًّا معنى ما على نحوٍ نهائيّ، فإنه [المؤمن] يخفق في أن يقدّر على نحو كامل كم هي سيئة فقط. قد يشعر الملحد بسخطٍ خاصٍّ تُجاهَ المؤمنِ الذي يتذبذب إيمانه فقط بعد مأساةٍ شخصيةٍ.

في الكثير من قصص الخيال العلمي تأتي لحظةٌ يتضح فيها أن أحد الشخصيات الرئيسية أبطالها هو روبوت [إنسان آليّ]. تخيَّلْ أن تكتشف هذا بخصوص شخصٍ تحبه. أعتقد أن هذه التجربة الفكرية قد توصِّل فكرة ما عما يشبهه الأمر في الانتقال من رفض قبول الظرف الثاني لـ Kekes. فكلا التجربتين_كما أظن_تتضمنان صدمة إدراكية مُرّة تقلب المعدة؛ بدلا من من شيء يبالي، وعاقل، وبشكل ما مثلنا، نجد شيئًا لا يعطي أقل اهتمام لعين، غير مُمَيِّز للأسباب، وغريب بالكامل. قد يجد بعض القراء أن إصرار سقراطس على أن الأثيم لا يُسمَح له بإيذاء الفاضل أو إصرار بعض طلابي على أن الكون لا يمكنه فقط العمل بهذه الطريقة، طريفًا أو ساذجًا. لكني أظن أن تفكُّرًا قليلًا سيكشف ميلا لهذا النوع من التفكير في كلٍّ منا. أحد المعاني الضمنية لحقيقة الظرف الثاني أنه لا يوجد شيء سيء أو ظالم للغاية بحيث لا يمكن أن يحدث ببساطة لأنه سيكون شريرًا أو ظالمًا للغاية. ومع ذلك ألا نجد داخل أنفسنا قابلية لعدم الاعتقاد ببعض الأشياء على هذه الخلفيات بالتحديد؟! كم هو طبيعيّ بالنسبة لنا أن نعتقد أن هذا وذاك لا يمكنه أن يكون صحيحًا فقط، سيكون بغيضًا للغاية! لكنْ لو أننا نعلم أن المذهب الطبيعي صحيحٌ، فإنه غير عقلاني أبدًا استعمالُ هذا النوعٍ من التفكيرِ. يسمي Steven Pinker هذا النوع من التفكير بالمغالطة الأخلاقية [في كتابه الصخر الأجوف_الإنكار المعاصر للطبيعة البشرية]. كون هذا وذلك سيكون أسوأ شيء يمكن تصوره يمكن أن يحدث لك، أو يمكن أن يحدث للجنس البشريّ، ليس بالتأكيد محل اهتمام القوى العمياء الموجودة في كونٍ من منظور طبيعيّ مطلقًا. إنه لا ينطوي على أقل أساس للتفكير بأن هذا أو ذاك لن يحدث.

في فلم Terminator (المبيد) أو المُهلك من إنتاج عام 1984 [وشاهدت له نسخة محدَّثة معاصرة بعنوان Terminator genisys بطولة أرنولد شوازينجر وآخرين، لكن حواراته وحبكته مختلفة_م] تجد شخصية البطلة سارة كونور نفسها هدفا لروبوت غرضه الوحيد هو قتلها. ولكونه محتاجًا بشدة لجعلها تفهم خطورة موقفها، يعطيها ريز_الذي أُرسِل من المستقبل لإنقاذها من المُهلِك_المحاضرة القصيرة التالية:

"اسمعي، افهمي، هذا المهلك بالخارج هناك. إنه لا يُمكن الجدال بمنطق معه، لا يمكن مساومته، إنه لا يشعر بالشفقة أو تأنيب الضمير أو الخوف، وهو لن يتوقف مطلقًا. إلى الأبد. ما لم تموتي".

لو استبدلنا "الكون" بكلمة "المهلك"، فمن ثم يلخص هذا الخطاب أحد أكثر الأشياء أهمية التي نتعلمها عندما نتعلم أن المذهب الطبيعي صحيح. بالتأكيد، بخلاف المهلك الآليّ، لا يقصد الكون الطبيعي تدميرنا. لكنْ رغم أنه ليس بالخارج لينال منك، فإنه سينال منك آخر الأمر [بقوانين الموت وتداعي التركيب البيولوجي لك وعلى مدى أكبر الموت المستقبلي للمجموعة الشمسية والمجرة والكون تباعًا_م].

هناك موضعٌ بالتأكيد للخوف وعلى الأقل اليأس المؤقَّت في مواجهة هذه المعلومة بخصوص الكون. أعتقد أن رَسِل مصيبٌ في اقتراحه أنه ينبغي على الطبيعي أن يكافح ليغلب هذا الخوف، وأن فعل ذلك نوع من الإنجاز. أعتقد أن رسل محقّ في اقتراحه أن بعضنا على الأقل يمكنه أن يأمل في حيوات تستحق العيش، حتى في كون طبيعي. لكن هؤلاء المسائل يقترحن أسئلة إضافية. كمثال، بفرض أننا نستطيع هزيمة خوفنا وقبول المذهب الطبيعي، فما ينبغي أن يكون موقفنا طويل المدى باتجاه الظروف الثلاثة التي حددها Kekes، خاصّةً الظرف الثاني؟ وبالتأكيد هناك سؤال صعب عن كيفية الشروع في تأمين حياة طيبة في كون طبيعي. أود اقتراح إجابة على السؤال الأول وتقديم اقتراح متواضع بخصوص الثاني.

كرد فعل طويل المدى على الظروف الثلاثة الرئيسية للحياة البشرية، يقترح Kekes [في كتابه مواجهة الشر] أن نتخذ ما يسميه (المزاج المتفكِّر). هذا المزاج المتفكر له مكونان إدراكي وعاطفي. المكون الإدراكي يتألف مما يسميه بـ (الفهم الموسَّع) أو الأشمل، والذي هو القبول المستمر المواظب للظروف الأساسية الثلاثة للحياة البشرية. فهؤلاء يجب قبولهن تماما وبلا تزعزع بنفس الطريقة التي اقترحها برتراند رَسِلْ. لا يجب فحسب أن يُقبلْنَ وينسين أو يُدفَعْن إلى مؤخرة مخزن ذاكرة عقل المرء، بل ينبغي أن يوضعن في مقدمة العقل بأفكاره ويُتفكَّر فيهن بانتظام. وأهم من كل ذلك وفوق كل شيء، أن يتجنب الشخص ذو المزاج المتفكر ما يسميه Kekes بـ (إغراء تخيل ما هو فائق للبشر)، والذي هو "افتراض أن خلف ما يظهر أنه الظروف الأساسية للحياة يوجد ترتيب أعمق في صالح البشرية".

الفائدة الرئيسية للمزاج المتفكر_وفقا لـ Kekes_هي "زيادة تحكُّمِنا". على وجه التحديد فإن: "ما نتعلم أن تحكم به هو أنفسنا، سواءً كضحايا أو كفاعلين للشر". مثل برتراند رسِل، يسلّط Kekes الضوء على أهمية أن نصير متحكمين في أنفسنا. من ضمن الطرق التي يزيد بها المزاج المتفكر تحكمنا في أنفسنا هي أنه "يُبقي توقعاتنا واقعية" ويساعدنا على "التكيف مع الإخفاقات التي لا يمكننا تجنبها، بتجهيز أنفسنا لها". نقاطKekes هنا مباشرة نسبيا: بامتلاك فهم مضبوط لما يكوُنه الكون، فنحن نحمي أنفسنا من التوقعات المبالغ فيها وخيبات الأمل. فقدان المرء لإيمانه قد يكون صادمًا له، يمكن تجنب الصدمة لو لا نكون حمقى للغاية بحيث يكون عندنا إيمان في المقام الأول. كتب Kekes: "التوقعات غير الواقعية أرجح لأن تكون مخيبة للآمال من التوقعات الواقعية. وتخييباتها للأمل أرجح أن تكون أكثر ضررًا بكثير لمن هم غير مستعدين لها عما هي بالنسبة لمن هم يفهمون قابليتهم للانجراح والتضرر."

كتوضيح لنوع الأشياء التي يقصدها Keke، تفكَّرْ في الوسيلة التي يوصي بها دي مونتاني de Montaigneفي مقالته التي بعنوان (أن تتفلسف هو أن تتعلم الموت) [ضمن مقالاته، وهو ينسب الفكرة إلى سيسرو الرومانيّ Cicero، لكن أصلها يعود إلى أفلاطون في حواره فايدوPhaedo, 64a]. كما يقترح العنوان، فإن مونتاني كان مهتما بوجه خاص بالموت. لقد بحث عن سبيل لإعداد الناس لكل من زوالهم الخاص بهم وزوال أحبائهم بحيث لا يعانون من النتائج العاطفية السيئة التي كثيرا ما تترافق مع الموت. لقد كتب:

"إنهم يروحون ويجيئون، يهرولون، يرقصون، طالما لا أخبار عن الموت فكل شيء بخير. لكنه عندما يأتي، سواء لهم أو لزوجاتهم أو أبنائهم أو أصدقائهم، فإنه يفاجئهم غير مستعدين وعُزَّل بلا دفاع، فأي عذاباتٍ، وأي بكاءٍ، وأي جنونٍ، وأي يأسٍ يغمرهم!......لو كان عدوًّا لأمكننا تجنبه، لكنت نصحت أنفسنا باستعارة سلاح الجبن [الفرار_م]. لكنْ بما أن هذا غير ممكن، وبما أنه يمسك بك بنفس الطريقة تماما؛ سواء أهربت كجبان أو تصرفت كرجلٍ.....فلنتعلم أن نواجه بثبات ونصارعه. وللبدء بتجريده من أفضليته العظمى علينا....فلنجرده من غرابته، فلنعرفه، فلنصبح معتادين عليه. فليكن لا شيء يدور كثيرا في عقولنا بقدر الموت....هكذا فعل المصريون القدماء العظماء، الذين_في وسط أعيادهم وأعظم سعاداتهم_احتفظوا بهيكل عظميّ لإنسان ميت جلبوه أمامهم، ليعمل كتذكير للضيوف."

إن فكرة دي مونتاني أنه بجعل مشهد الموت باستمرار أمامنا، فسوف نكتسب تحكما متزايدا على عواطفنا. على وجه الخصوص، سنتحرر من خشية الموت. الحيلة هي أن تكون واعيًا بأن الموت قد يضرب أي أحد في أي وقت. لو تذكر المرء هذا طوال الوقت، فمن ثم لن يفاجًأ أبدًا بالموت. اقترح دي مونتاني أن "معرفة كيف نموت تحررنا من كل خضوعٍ وتقييدٍ".

لو أن برتراند رَسِل محقٌّ في أن الخوف هو ما يقود نمطيًّا الناس إلى الدين، وإن كان المكون الرئيسي للخوف هو الموت، فمن ثم ربما يمكننا استعمال وسيلة مونتاني لتحرير أنفسنا من الخوف من الموت، وتجنب إغراء وهم وجود ما هو فائق للطبيعة، ولتحقيق النصر العظيم الذي امتدحه برتراند رَسِلْ في الفقرة المقتبَسة منه. ما إذا كان الأمر كذلك أم لا أتركه للقراء[20].

قدم Kekes اقتراحا آخر بصدد كيف يمكن أن يكون المزاج المتفكر مفيدا. الاقتراح ذو صلة بوجه خاص بالثالث من الظروف الأساسية الثلاثة للوجود البشري، قلب الظلام في كلٍّ منا أو الميل للشر والدمار. الاقتراح هو أننا ينبغي أن نكون واعين بأن لدينا ميولا تدميرية داخلنا وأن نراقبها [نحذَر منها]. الغرض من هذا أننا "يمكننا أن نصير واعين_من خلال التفكُّر_بنزعاتنا العديدة للتسبب بالشر و_كنتيجة_نغير سلوكياتنا." هذا مجال حيث يمكن أن يساعد فيه العلمُ. كمثال، كتب Steven Pinker ستِيِـﭭـِنْ بِنْكَر في (صخر الإردواز الأجوف: الإنكار المعاصر للطبيعة الإنسانية) Pinker, Blank Slate, 265:

"في تجارب علم النفس الاجتماعيّ، يبالغ الناس باستمرار في تقدير مهاراتهم، وأمانتهم، وكرمهم، واستقلالهم. إنهم يغالون في تقدير مساهماتهم في جهد مشترك، يعيدون نجاحاتهم إلى مهارتهم إخفاقاتهم إلى الحظ، ودومًا يشعرون أن الطرف الآخر قد حصل على الجزء الأفضل من تسوية [صفقة]. يستمر الناس في الحفاظ على هذه الأوهام الأنانية حتى عندما يتصلون بأسلاك بما يعتقدون أنه جهاز كشف كذب دقيق. هذا يبرهن أنهم لا يكذبون على القائم بالتجربة على أنفسهم.

إن إدراك أن عقولنا لديها ميل للتحريف والمحاباة في أنواع معينة من المعلومات لأجل صالحنا يمكِّنُنا من أن نراقب ذلك ونصحح هذا التحيز. تماما مثلما أن معرفة أن ميزانًا يضيف دومًا 2.5 كيلوجرام على الوزن الصحيح يمكّننا من استعماله لمعرفة أوزاننا الحقيقية، فإن معرفة أن عقولنا تميل إلى تحريف البيانات في اتجاهات معيَّنة يمكّننا من الاقتراب من الحقيقة بأخذ التحريف في الحسُبان. وهذا يمكن أن يساعد على تجنب الخلافات والنزاعات التي يمكن أن تنتج عن التحيزات المنتشرة على نحو واسع من النوع الذي وصفه Pinker.

إذن، بالجمع بين اقتراحات برتراند رَسِل و Kekes، أقترح أن مفهوم الطبيعيّ عن ذاته ينبغي أن يكون كبطلٍ، يكافح لسد متطلَبات الأخلاق وتأمين حياة ذات معنى داخليّ لنفسه كفرد وللأحباء في كونٍ في أفضل الأحوال هو غير مبالٍ تمامًا وفي أسوئها معادٍ تمامًا بكل معنى الكلمة لكلا المشروعين [متطلبات الأخلاق وتأمين حياة ذات معني_م]. الطبيعي بطلٌ يجب أن يسعى للمشاريع ذات الأهمية مع فهم "إنها قابلة للتعرض للشر مهما كان مقدار اجتهاده وإرادته اللذين حاول بهما النجاح فيها"[بكلمات Kekes]. النصر يمكن أن يكون في أفضل الحالات مؤقتًا، لكنه نصرٌ يستحق الكفاح لأجله. كما لاحظ رَسِل [في مقاله ما أعتقده]: "السعادة رغم ذلك هي سعادة حقيقية لأنها يجب أن تكون لها نهاية، ولا يفقد الفكر والحب قيمتهما لأنهما ليسا خالدين". و_كما يقترح Kekes_يجب أن يتذكر ويستحضر الطبيعي هذه الحقائق الأساسية بشأن الكون في عقله بقدر ما يمكن.

جزء من المفهوم المسيحي للكون هو فكرة أن البشر منخرطون في حرب كونية [وهي نفس فكرة الزردشتية واليهودية والإسلام ومذاهب الغنوسية والهندوسية والبودية والجاينية ولو بأشكال متنوعة، بعضهم أنها ضد قوة الشر والشيطان والنفس، وآخرون ضد المادة والغرائز الطبيعية وخرافة إعادات الانولاد_م].أحد المكونات الرئيسية لخلفية هذا الصراع كما تُتَصوَّر في المسيحية التقليدية قد وصفناها سابقًا في نقاشنا حول أسطورة سقوط الإنسان. إنه صراع للأفراد ضد أنفسهم، كما عبر C.S. Lewis عن الأمر [في كتابه مشكلة الألم]: "إننا لسنا مجرد مخلوقات ناقصة يجب أن تُحسَّن؛ إننا....ثوارٌ يجب أن يضعوا أسلحتهم". بالإضافة إلى ذلك، وفقا للمسيحية التقليدية فإن معظم التاريخ يجب أن يُفهَم بشروط هذا الصراع. اقترح Gordon Graham [في كتابه الشر والأخلاق Evil and Ethics] أننا ينبغي أن نرى التاريخ كـ "معركة كونية بين قوى النور وقوى الظلام، معركة تُرِك فيها البشر أحرارًا ليقوموا باختيار بخصوص مع أي جانبٍ سيشتركون".

بدلا من هذه الرؤية للنفس كجنديّ في حرب بين الخير والشر، أقترح أن يري الطبيعيون أنفسهم كمنخرطين في صراع ضد حيوان بريّ. الصراع ليس على ميدان معركة حيث يشتعل القتال بين قوى الظلام والنور، وحيث النصر والخلاص مضمون للجانب الصائب فقط. بالأحرى؛ فإن الصراع لترويض وحش غير مبالٍ ولا عقلانيّ، والنجاح في ذلك ليس مؤكدًا على الإطلاق؛ كل واحد لديه جزء من الوحش داخله وإن جزءً هامًّا من الصراع هو هزيمة الوحش الداخليّ. إن قوانين الطبيعة غير المبالية التي لا تتوقف هي ساحة القتال المميت [الأرينا مدرج القتال الرومانيّ arena_م]، وبأقصى قدر ممكن يجب أن تُفهَم وتُستعمَل. بداخل المقاتلين ميول شعورية تدميرية والتي نشأت ليس كنتيجة لسقوط الإنسان، بل بالأحرى بسبب العمل البطيء عديم العقل للقوى الانتخابية الطبيعية التي شكَّلَت العقل البشريّ. هذا الصراع الداخليّ وإمكانيات الانتصار فيه هي مواضيع المقطع التالي.

التعليم الأخلاقيّ والعلم

إن لواضحٌ في الكثير من حوارات أفلاطون الاهتمامُ بالعثور على وسيلة يُعتمَد عليها لإنتاج بالغين فاضلين. في ذهن أفلاطون فإن الناس الفضلاء أكثر قيمة من الذهب، كما تقول بوضوح الملاحظة التالية على لسان سقراطس في الحوار مع مينو Meno:

"لو كان الصالحون هكذا بالطبيعة، لكان لدينا ناس يعرفون من من بين الصغار هم صالحون بالطبيعة، ولكنا أخذنا من حددوهم وحرسناهم في الأكروبوليس [قلعة أثينا]، مغلقين عليهم [بأمان وإحكام، الترجمة حرفيًّا: خاتمين عليهم] هناك بعناية أكثر بكثير من الذهب لكي لا يفسدهم أحد، وعندما يصلون إلى النضج سيكونون مفيدين لمدنهم."

لماذا الناس الفضلاء مهمون للغاية لأفلاطون؟ الإجابة هي أنهم المفتاح للسعادة البشرية الدائمة. اعتقد أفلاطون أن السعادة الدائمة ممكنة فقط في مجتمع عادل، والمجتمع العادل هو الذي فيه مجموعة صغيرة من الحكام الفضلاء يحكمون على الجموع[21]. رأى أفلاطون الديمقراطية كشكل منحطّ أدنى من أشكال الحكومات. في تحفته (الجمهورية) حاول أفلاطون أن يخطط تفصيليا أعمال مجتمع عادل بكمال، مجتمع ستكون به السعادة البشرية الدائمة مضمونة. يحتوي الحوار على توجيهات لكيفية تربية وتعليم حكام هذا المجتمع المثاليّ (الملوك الفلاسفة). الكلام التالي على لسان سقراطس يبين أهمية هؤلاء الحكام في خطة أفلاطون:

"إلى أن يحكم الفلاسفة كملوك أو من يُدعَوْنَ الآن بالملوك والرجال القادة يتفلسفون على نحو أصيل وكافٍ، أي: حتى تتطابق السلطة السياسية والفلسفة تماما، وحتى تُمنَع الكثير من الأمزجة الموجودة حاليًّا التي تسعى حصريًّا إلى أحدهما فقط بالإكراه من فعل ذلك، فإن المدن لن يكون لها راحة من الشرور، .....ولا الجنس البشري، كما أعتقد".

هذا يفسّر سبب كون العثور على وسيلة يعتَمَد عليها لإنتاج أشخاص فاضلين مهمًّا للغاية. ما هو متطلب لضمان سعادة بشرية دائمة هو إمداد ثابت بالبديلين الفاضلين الذين يحلون محل الحكام الشائخين عندما يستقيلون أو يمضون [يموتون]. في جامعتي_كما في الكثير من الجامعات في الولايات المتحدة الأمِرِكِية_هناك موجة حالية من الاهتمام بموضوع التعليم الأخلاقي. يبدو أن هذا الاهتمام قد أطلقه جزئيا الهمجات الإرهابية يوم 11 سبتمبر 2001م، لكن ربما على نحو أكثر مباشرةً بالفيض الحالي من الفضائح المدمرة للشركات، أكثرها سوءَ سمعةٍ يتضمن العملاقتين الاقتصاديتين Enron and WorldCom. هذا يعرِّفنا شيئا بخصوص من يمتلكون السلطة في مجتمعنا. يبدو أن ما نحتاجه ليس ملوكًا فاضلين، بل رؤساءُ تنفيذيون فاضلون.

في كون من منظور طبيعي، ليس هناك ضمانة إلهية للعدالة الكاملة، والمدى الذي تتطابق وفقا له المصلحة الشخصية ومتطلبات الأخلاق هو مسألة صدفوية. حتى أرسطوتلس وهيوم اللذان اعتقدا أن هناك في الحقيقة درجة مهمة من التطابق بين الاثنين، أدركا تأثير الصدفة في هذا المجال. بينما هو شبه يقينيّ أنه لن يُحقَّق تطابق تام بين الاثنين أبدًا، إلا أن تقديرات الأكثر والأقل لهذه الفكرة المثالية ممكن. فبما أن البشر حيوانات اجتماعية، فإن المجتمعات العادلة ضرورية للاقتراب من الفكرة المثالية بأكبر قدر ممكن بشريًّا. وكما عبر Kekes عن الأمر: إن الدولة النموذجية هي التي فيها "السؤال لماذا ينبغي أن يكون المرء أخلاقيا له الإجابة الواضحة أن العيش على نحو أخلاقيّ هو أفضل سبيل للعيش.[22]" و_كما أدرك أفلاطون_إن عنصرًا أساسيا للمجتمع العادل هو الحكم من قِبَلِ الفاضلين. هذا لا يعني أننا يجب أن نتبع أفلاطون في رفض الديمقراطية. ففي الديمقراطية، يكون للشعب السلطة، وبالتالي لو أن مجتمعا ديمقراطيا عادل، فإن الناس سيكونون فاضلين. إن إيجاد وسيلة يعتمَد عليها لإنتاج مواطنين فاضلين ستكون إحدى أعظم القفزات العلمية في تاريخ الجنس البشري؛ سيكون قفزة تطور علمي ستحسِّن كل مجتمع، بغض النظر عن نظام حكومته[23].

لو أن المذهب الطبيعي صحيح، فإن البشر هم جزء من العالم الطبيعي، وبالتالي يمكن فهمهم باستعمال وسائل العلم. إحدى فوائد نبذ أسطورة النفس غير الفيزيقية هي معرفة "النفس الحقيقية"، وأنها مسؤولة عن أنشطتنا العقلية وهذا فهم متزايد لكيفية عمل العقل وكيف أن النفس مسؤولة عن حالاتنا العقلية. في كون من منظور طبيعي، فإن حالات الإنسان الجسدية_وبخاصة حالات المخ والنظام العصبي_هي المسؤولة عن النشاط العقلي، وبالتالي عن الشخصية كذلك. التقدم في العلم قد أعطانا القدرة على جعل أنفسنا أكثر صحة جسديا مما كنا من قبل قط على الإطلاق (رغم أن ليس الكل قد استفادوا منه). لدينا المعرفة والتكنولوجي لنعيش حيوات أطول وأكثر صحة مما كان في أي مرحلة أخرى من التاريخ البشريّ، إنه لمنطقيٌّ أن نضع العلم، وخاصة علم الأعصاب، في خدمة المهمة الأفلاطونية القديمة الخاصة بالعثور على وسيلة يعتمَد عليها لجعل البشر فاضلين. لقد قدم برتراند راسل اقتراحًا عام 1925م قريبًا من هذا الاقتراح. لقد كان مهتما بوجه خاص بمهمة جعل الناس أكثر شجاعةً. لقد اقترح أن العلم ربما يكون له دور مهم لعمله في هذه المهمة وقدم الملاحظة التالية [في مقالته ما أعتقده]: "ربما تُكْتشَف المصادر الفسيولوجية [المتعلقة بعلم وظائف الأعضاء والكيميائيات_م] للشجاعة بالمقارنة بين دم قطٍّ ودم أرنب". من الصعب تحديد إلى أي حد من الجدية قصد رَسِلْ أن تُفهَم ملاحظته، لكن التقدم الهائل في فهم الأساسات العصبية للخوف الذي قد قيم به منذ كتبَهَا و_في الحقيقة_لقد دجَّنَ العلماء بنجاحٍ فئرانًا شجاعة على نحوٍ غير عاديّ[24]. رغم أن الأمور أكثر تعقيدًا بكثير مما اقترحته ملاحظة رَسِلْ، فإن اقتراح أن نحاول استعمال العلم كوسيلة للتحسين الأخلاقيّ هو اقتراح يجب التعامل معه بجدية.

هذا النوع من الاقتراحات سيستحضر بلا ريب في عقول الكثير من القرّاء العرضَ المروِّعَ للتعليم الأخلاقيّ من خلال العلم كما قدمه الأديب ألدوس هكسلي في روايته (عالم شجاع جديد). تصوِّر هذه الرواية مجتمعا كل مواطن فيه قد خُصِّص له دور واحد محدَّد، ومن خلال مزيج من الهندسة الجينية [الوراثية] والإشراط [ربط السلوك بمثير لا علاقة له من خلال حدوثه في الماضي] والتنويم المغناطيسيّ [التعليم خلال النوم]، فإن كل مواطن مشكَّل جسديا وعقليا وأخلاقيا للتلاؤم مع دوره[25]. الغرض من كل ذلك هو ضمان الثبات الاجتماعي. ذو أهمية خاصة كون المواطنين يتجنبون المرور بالعواطف القوية، إحدى الشعارات الملقنة لكل مواطن هي "عندما يشعر الفرد، فإن المجتمع يضطرب". كوسيلة لهذه الغاية، فإن الارتباط العاطفيّ ببشر معيَّنين محرَّم لأن هذا النوع بالضبط من الارتباط ما يؤدي إلى العواطف القوية والنزاع الاجتماعي. وكما عبِّر أحد المتحكمِّين (المجموعة النخبوية الصغيرة للحكّام) عن الأمر:

"الأم، الزواج الأحادي، الرومنسية، التدفقات العالية للينبوع، عنيفٌ ومزبِد التدفق الوحشيّ!. الحافز له فقط مخرج واحد! حبيبي، طفلي!. لا عجب أن هؤلاء القبل حديثين البؤساء قد جُعِلوا أشرارًا وبوساء. عالمهم لم يسمح لهم بأخذ الأمور ببساطة، لم يسمح لهم بأن يكونوا عاقلين وفاضلين وسعداء......لقد أجبِروا على الشعور بقوة.....كيف يمكن أن يكونوا مستقرين؟!".

في رواية عالم جديد شجاع، فإن كل واحد مثل سيزيفُ[س] المعدَّل الذي تصوره Richard Taylor رِتْشَرْد تايلُر في الفصل الأخير من كتابه (الله والشر): كل المواطنين يريدون عمل المهام المخصصة لهم. كل مواطن قد كُيِّفَ على أن يحب القيام بما يحتاجه المجتمع منه. كما شرح مدير معامل التفريخ في رواية هكسلي: "ذلك هو سر السعادة والفضيلة: حبُّ ما عليكَ أن تفعله." إن توضيحا ساخرا لهذا هو رد فعل عامل مصعد عند وصوله للسطح: "يندفع فاتحا البابين. يجعله التألقُ الدافئ لشمس بعد الظهر يشرع في إيماض عينيه. يكرر في صوت مبتهج: أوه، السطح!، لقد كان كما لو أنه قد استفاق بسعادة من غيبوبة ملمة قاتلة. السطح!" هذا مجتمعٌ فيه متطلبات "الأخلاق" (على ما هي عليه) و"السعادة" (على ما هي عليه) يتطابقان بالفعل. لكن "السعادة" هنا تعني المتعة الطفولية اللطيفة. المواطن الصالح في رواية عالم شجاع جديد في الحقيقة طفلٌ منغمسٌ في الملذات، في مجتمع يعتبر فيه تأخير الإشباع مدانًا بدلًا من أن يكون موصىً به.
أعتقد أن ما هو مروِّع بصدد التعليم الأخلاقيّ في رواية عالم شجاع جديد ليست في المقام الأول الوسائل التي تُفرَض بها الأخلاق، بل بالأحرى محتوى تلك الأخلاق. إنه نظام أخلاق ينبغي أن يروعنا لأنه يحول دون بعض الخيرات الأعظم للحياة البشرية، بما في ذلك العلاقات الشخصية ذوات المعنى والإنجازات الفكرية والفنية. إحدى المشاكل في الوسيلة الموصوفة في رواية ألدوس هكسلي أنها وسيلة لا تنتج أشخاصا فاضلين على نحو حقيقيّ. إنها وسيلة تنتج أطفالا مدلَّلين فاسدين[26].

سمة أخرى مستشكَلة للتعليم الأخلاقي المصوَّر في الرواية هو أنه يُفرَض من قِبَلِ الدولة. برأيي، فإن الحكومات_عمومًا_لا يوثَق بها، ولذا أعتقد أن إعطاء أي حكومة القدرة على تشكيل شخصيات مواطنيها (إن أصبح هذا ممكنًا) سيكون خطأ فظيعًا. إن إساءات الاستعمال الممكنة واضحة وكبيرة على السواء.

ماذا_إذن_في ذهني عندما أقترح أن يوضَع العلمُ في خدمة التحسين الأخلاقيّ؟ إني أفتقد المعرفة العلمية للقيام بأي شيء أشبه باقتراح تفصيليّ؛ ما آمل في تقديمه بدلا من ذلك هو اقتراح بصدد الاتجاه الذي قد تتخذه الأبحاث المستقبلية. سيتأسس اقتراحي على العديد من الافتراضات الفلسفية، الكثير منها قد حددته من قبل [في الكتاب]، وهو يُفهَم على نحو أفضل كادعاء مشروط له الصيغة التالية: "لو أن الافتراضات الفلسفية محل الكلام صحيحة، فإن نوعية البحث التي سأقترحها ستكون فكرة جيدة".

إن أرسطوتلس وكانط_على نحو قابل للجدل أكثر فيلسوفين أخلاقيين مؤثِّرين في تاريخ الفلسفة الغربية_ اختلفا حول الكثير من الأشياء، لكنهما قد تلاقيا في قبولهما للادعاء التالي: "أن تصير شخصا أخلاقيا هو كفاح. إنه صراع بين العقل العمليّ (القدرة على التفكير عقلانيا بصدد كيفية السلوك) من جانب وبين العواطف والرغبات من جانب آخر. اختلف الفيلسوفان حول الطبيعة الدقيقة للصراع. وفقا لرأي أرسطوتلس، فإن النزاع بين عواطف الإنسان ومفهوم الشخص عن الحياة الطيبة. يُحلُّ هذا النزاع بنجاح عندما يكون مفهوم الشخص عن الحياة الطيبة مفهوما صحيحا وعندما تكون عواطف المرء متوافقة مع هذا المفهوم الصحيح. في شخصٍ فاضل على نحو كامل، فإن الأجزاء العقلانية والشهوانية للنفس ستكون كلها تعمل على نحو ملائم، وبالتالي سيكون صوابًا أن نقول [كما هي العبارة في الأخلاق النيقوميدية]: "فيه كل شيء في تناغم مع صوت العقل". إن عواطف ومتع وآلام الشخص الفاضل ستكون ملائمة، وستكون اعتقاداته بصدد ما هو ذو قيمةٍ صحيحةً، وستترافق الاعتقادات مع العواطف [في سبيل واحد دون نزاع].

تُشدِّد كتابة كانط عن السمة الأخلاقية على صراعٍ داخليّ مستمر لتحقيق التزامات المرء الأخلاقية. أن تكون فاضلا هو إلى حدٍّ كبير مسألة تسيُّد المرء على رغباته الجامحة للسلوكيات الغير مسموح بها أخلاقيا. في فقرةٍ من كتابه (ميتافيزيقيا الأخلاق) يعرِّف كانط الفضيلة الأخلاقية على أنها: "القدرة والاعتزام المدروس على مقاومة....ما يضادُّ النزعة الأخلاقية فينا". في كل موضع آخر من كتاباته، فإن كانط متشائم بصدد إمكانية السيطرة وحيازة اليد العليا على رغبات المرء الجامحة بحيث أنه اقترح أن: "القدوة الجيدة (السلوك المقتدى) لا ينبغي أن يستعمل كنموذج، بل فقط كبرهان على أنه يمكن حقًّا السلوك بالتوافق مع الواجب". اعتبر كانط بوضوح أن التغلب على الميول التي تدفعنا بعيدًا عن القيام بواجباتنا صعب للغاية، لدرجة أن برهانًا على أنه حتى ممكنٌ متطَلَّبٌ! وضع كانط معيارا أقل تطلبا إلى حد ما للانتصار في الصراع بين العقل والعاطفة مما فعل أرسطوتلس. قال كانط: "تنطوي الفضيلة على أمرٍ للإنسان، تحديدًا بوضع كل قدراته وميوله تحت تحكم عقله وبالتالي يتحكم في نفسه". وفقًا لرأي كانط، لا يلزم أن تكون عواطف المرء في انسجام تامّ مع صوت العقل، كل ما هو متطلَّب هو أن يتحكم المرء في عواطفه إلى الحد الذي يجعلها لا تمنعه من تحقيق التزاماته الأخلاقية.

عندما لا يكون العقل منتصرا في الصراع، فإن النتيجة هي الظاهرة الشائعة جدا التي يسميها الفلاسفة بضعف الإرادة. إحدى أشهر التوصيفات لهذه الظاهرة يأتي من عبارة الرسول بولس: "18فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ الإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي، وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ. 19لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. 20فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ." رسالة روما7: 18-20 [27] [أو رومية أو الروميين].

وصف عالم المخ والأعصاب Joseph LeDoux في كتابه (العقل الشعوري) The Emotional Brain 1996 ما قد يكون سمات العقل التي تجعل ضعف الإرادة المرتبط بالخوف ممكنًا. إنها لذات أهمية خاصة القشرة أو اللحاء المخيّ، المنطقة من العقل المسؤولة عما نعتقد حدسيًّا بأنه الوظائف الإدراكية الأعلى رتبة ومكانة، بما في ذلك التفكير والعمل التطوعيّ، أما الفص اللوزيّ amygdala وهو حدسيًّا بنية مخية أكثر بدائية تشترك على نحو كثيف في إحداث العديد من التغيرات الفسيولوجية والسلوكيات المترافقة مع الخوف. كتبَ LeDoux:

" إنه لمعروف تماما أن الوصلات من المناطق اللحائية إلى الفص اللوزي أضعف بكثير من الوصلات من الفص اللوزي إلى اللحاء. هذا قد يفسّر سبب سهولة اجتياح المعلومات العاطفية لأفكارنا الإدراكية للغاية، بينما يصعب للغاية علينا أن نحوز التحكم الإدراكي على عواطفنا."

إن بولسَ آخر أكثر معرفة علمية ربما كان سيقول: "أنا لا أفعل الخير الذي يريده لحائي المخيّ، بل الشر الذي يرده فصي اللوزي هو ما أفعله". إذن، فإن إحدى مجالات البحث المحتملة تتصل بما نسميه مشكلة ضعف الإرادة. يحتاج العقل البشري لأن يُدرَس بغرض مساعدتنا على التغلب على العواطف التي في نزاع مع أحكامنا المدروسة المتفكرة بصدد ما هو صواب وخيِّر. إحدى أسباب كون هذا الاقتراح يبدو واعدًا إلى حدٍّ ما هو أنه يبدو متصلًّا مع الأبحاث الجارية بالفعل. إن السعي لفهم والتحكم في عواطف سلبية معيَّنة_مثل مشاعر الاكتئاب والقلق والخوف_جارية وتتقدم بالفعل. إن عالم مخ وأعصاب آخر معاصر، هو أنتونيو داماسيو Antonio Damasio ، متفائل بخصوص التأثير الذي سيكون للتقدم في علم الأعصاب على هذا المسعى، كتبَ في كتابه (البحث عن سيبنوزا، الفرح والحزن والعقل الحاسّ)[28]:

"خلال العقدين القادمين، وربما أقرب من ذلك، سيمكِّن علمُ الأعصاب الخاص بالعاطفة والمشاعر علمَ الطب الحيوي [البيولوجي] من تطوير علاجات فعّالة للألم والاكتئاب على أساس فهمٍ شامل لكيفية تعبير [عمل] الجينات في مناطق معينة من المخ وكيف تتعاون هذه المناطق لجعلنا نشعر وننفعل عاطفيا....بالاشتراك مع التدخلات الفسيولوجية، فإن العلاجات الجديدة ستقوم بتثوير الطب العقلي. ستبدو العلاجات المتاحة اليومَ آنذاك مثلما تبدو العلاج بالأعشاب وعتيقة مثللما تبدو العمليات الجراحية بدون تخدير لنا الآن."
اقتراحي أن يُوسَّع كتالوج [قائمة] العواطف تحت الدراسة ليشمل البغض والغيرة والشهوة، بحيث نحدد القليل. ليس الهدف إزالة هذه العواطف تماما بل بالأحرى زيادة القدرة على التحكم فيهن. إن الأبحاث الساعية لفهم كيمياء المخ المتضمنة في الاكتئاب لا تحاول تطوير عقار يزيل شعور الحزن تماما، بل عوضا عن ذلك فإنها تحاول إعطاء المرضى زيادة في التحكم في مشاعرهم بالحزن والقلق واليأس. ربما تبدو فكرة حبوب لقوة الإرادة سخيفة، وأنا لا أعني الاقتراح بأن شيئا كهذا متاح، لكن منتجات معيّنة مصمَّمة لمساعدة المدخنين على التحكم في رغبتهم في السجائر (كملصقات النيكوتين، كمثال) تنتمي لنفس الفئة كهذا العقار الافتراضيّ.

في القطاع الأخير من كتاب (العقل الشعوريّ) يتفكر LeDoux حول كيف قد يشكل التطورُ العقلَ البشريَّ في المستقبل. على أساس ملاحظة أن " الوصلات اللحائية مع الفص اللوزي في الرئيسيات أكبر بكثير مما في الثدييات الأخرى"، يتفكر LeDoux في أن الوصلات من اللحاء إلى الفص اللوزي في البشر قد تزداد تدريجيًّا عبر الزمن وأن "ربما يكتسب اللحاء تحكمًا متزايدًا أكثر فأكثر على الفص اللوزيّ، مما قد يمكن البشر المستقبليين من أن يكونوا قادرين على نحو أفضل على التحكم في عواطفهم". هذه الكائنات الافتراضية ستحقِّق الفضيلة بتعريفها الكانطيّ بسهولة أكثر بكثير مما نفعل بسبب طريقة توصيلات أمخاخهم. يصف LeDoux بديلا آخر:

"رغم ذلك، فهناك احتمالية أخرى. إن الاتصال المُزاد بين الفص اللوزيّ والقشرة المخية يتضمن أليافًا تمضي من القشرة إلى الفص اللوزي، وكذلك من الفص اللوزي إلى القشرة. لو وصلت هذه الطرق العصبية إلى توازن، فمن الممكن أن يُحلَّ الصراع بين التفكير والعاطفة على نحو نهائيّ ليس بسيطرة الإدراكات اللحائية على المراكز العاطفية، بل بتكامل [اندماج] أكثر تناغمًا وانسجامًا بين العقل والعاطفة. بتوصيل زائد بين اللحاء [القشرة] المخية والفص اللوزي، فإن الإدراك والعاطفة قد يبدآن في العمل سويًّا بدلًا من بانفصال."

الاحتمالية الأخرى لا تتوافق مع الفضيلة بالتعريف الكانطي، بل بالأحرى مع التعريف الأرسطوطاليسيّ [الخاص بأرسطوتلس]. إن أمل LeDoux بـ "تكامل متناغم بين العقل والعاطفة" مذكِّرٌ باقتراح أرسطوتلس بأن في الشخص الفاضل "كل شيء في تناغم مع صوت العقل". إن تفكر LeDoux يقترح أنه خلال الزمن فإن توصيلات المخ البشري سوف تتغير بطريقة بحيث سيكون الناس على نحو طبيعي أقرب بكثير من إما الفكرة الأخلاقية المثالية الكانطية أو الأرسطوطاليسية مما هم عليه الآن. ربما سيقضي التطور البيولوجي على ضعف الإرادة لو مُنِحَ وقتًا كافيًا؟[29] لكنْ لماذا الانتظار؟ فنحن بعد ألفي ونصف عام تقريبا من ملاحظة أرسطوتلس للصراع بين الأجزاء العقلانية والشهوانية للنفس، نكتشف البنيوات المخية المسؤولة عن هذا الجانب من الطبيعة البشرية. ربما يمكن أن نجد طريقة لزيادة الوصلات بين اللحاء والفص اللوزي اصطناعيا. على نحو جلي فإن مثل هذه المحاولة خطوة خطيرة متوغلة ويجب أن تُتولّى بحذر، لكنْ كلما عرفنا أكثر عن العقل أصبح المشروع باديًا أكثر احتمالية عمليًّا.

إن تعديل المخ الذي أتصوره هنا سيكون طريقة مباشرة نسبيا لهزيمة ضعف الإرادة. لكنْ كما هو وضع الأمور حاليا، فإن لدينا وسائل أكثر لا مباشرة فقط للتعامل مع ضعف الإرادة. إحدى هذه الوسائل الغير مباشرة يمكن انتقاؤه من نقاش كانط عن دور التعاطف في نفسية الشخص الفاضل. توضيح هذه الوسيلة سيتطلب غزوة قصيرة إلى التفسير الكانطيّ. قد يجد القراء ذوو الاهتمام بآراء كانط عن السمة الأخلاقية هذا الاستطراد مثيرا للاهتمام، بينما قد يريد آخرون تخطيه إلى نتيجته بعد صفحات قلائل من هنا. كتب كانط [في ميتفيزيقيا الأخلاق]:

"إن الفرح والحزن التعاطفيّ....هما مشاعر واعية بالسعادة والاستياء....لأجل حالة سعادة أو ألم شخص آخر. لقد غرست الطبيعة فعليا في البشر قابلية للتأثر بهذه المشاعر. لكن استعمال هذه كوسائل لحثّ الإحسان الفاعل العقلاني هو رغم ذلك أحد الحوافز التي زرعتها الطبيعة فينا لعمل ما لن يحققه تمثيل الواجب وحده."

تقترح الفقرة أن مشاعر التعاطف لها دور تقوم به في نفسية الشخص الفاضل. لكنْ ما هو بالضبط هذا الدور في رأي كانط؟ إن كانط سيء السمعة من جهة تسويد سمعة العواطف وإعطائه مكانة مركزية لما يسميه بـ "دافع الواجب" في تفسيره لما يدفع الشخص الفاضل. التصرف بسبب دافع الواجب يتضمن بوضوح القيام بفعل لأن المرء ملزَمٌ بفعل ذلك، لكن حبرًا كثيرًا قد سُكِب في محاولة تحديد كيف يجب أن يكون هذا النوع من الحافز مركزيا بالضبط في الفاعل الفاضل من وجهة نظر كانط[30]. يمكن أن نبدأ بتسليط بعض الضوء على هذه المسألة بملاحظة أن كانط يقترح أن المشاعر المتعاطفة تُستعمَل كوسائل لـ "للإحسان الفاعل والواعي". بعدها بقيل، قال كانط أن الميل لامتلاك مشاعر تعاطف "هو رغم ذلك أحد الحوافز التي زرعتها الطبيعة فينا لعمل ما لن يحققه تمثيل الواجب وحده". كيف علينا أن نفهم هذه الادعاآت؟ إحدى الاحتمالات أن فكرة كانط هي أن المشاعر التعاطفية يمكن أن تزوِّد بمقدار إضافي من الحافز لقيام المرء بواجبه في الحالات حيث يكون حافز الواجب وحده غيرَ كافٍ. بينما هذا صحيح بالتأكيد [في حد ذاته]، لكن يبدو غيرَ مرجَّحٍ أن كانط سيحبِّذ ويمتدح المشاعر المتعاطفة لأجل دورها في التزويد بتعزيز حافزيّ إضافيّ. كمثال، انظر هذه الفقرة التالية من كتابه (الدين ضمن حدود العقل وحده):

"إن تلوث القلب البشري، يتعلق بأنه رغم أنه كحقيقة عامة بالفعل خيِّر في حافزه...وربما حتى قوي على نحو كافٍ عمليا، فإنه رغم ذلك ليست أخلاقيا بنقاء؛ أي أنه لم يتبنَّ_كما كان يجب عليه_القانون وحده كحافزه كلي الكفاية. بل بدلا من ذلك، فإنه يظل في حاجة إلى حوافز أخرى غير هذا، لتقرير الإرادة لفعل ما يتطلبه الواجب."

في هذه الفقرة يقترح كانط أن الحاجة للاعتماد على حوافز غير حافز الواجب يدل على نوع من الضعف الأخلاقيّ. إن شخصا فاضلا على نحو كامل ما كان ليحتاج لأن يُحثَّ بعواطف التعاطف ليساعد رفيقه أخاه في الإنسانية؛ إن إدراكه أنهم ملزَم أخلاقيا بفعل ذلك كان سيكون كافيا في حد ذاته لحثه. في رأي كانط، فإن مشاعر العطف كدوافع ستكون في أفضل الحالات عكازًا مؤقتًا يُستعمَل في طريق الفضيلة الحقيقية وسيكون زائدًا غير ضروري كحافز حالما يُتحصَّل على الفضيلة الحقيقية. لكن لماذا_إذن_على كل امرئٍ التزام_بما فيهم الشخص الفاضل بكمال_بتشجيع مثل هذه المشاعر؟

الملاحظة التالية من كتاب كانط (محاضرات في الأخلاق) تقترح إجابةً على هذا السؤال: "إن وظيفة الحوافز الحسية ينبغي أن تكون مجرد التغلب على العقبات الحسية الأكبر لكي يستطيع الفهم الهيمنة مجددًا." إن مثالا لهذا النوع من الأمور الذي أعتقد أنه كان في مقصد كانط هنا قد حدث لي بينما كنت متحيرًا في هذه المسألة فيما يتصل برسالة مناقشتي لنيل درجتي في الدكتوراة. لقد كنتُ في وسط العمل على رسالة المناقشة في أواخر الشتاء في شماليّ ولاية إنديانا عندما اتصل أحد معارفي بي على التلفون. لقد كانت بطارية سيارته قد فرغت وطلب مني أن أقود إليه وأساعده على تشغيل سيارته بتوصيل الأسلاك من بطارية سيارتي إلى سيارته. مبدئيا، كنت ميالا للرفض بسبب الحوافز الأنانية: أردتُ العملَ على رسالة المناقشة للدكتوراة لأنهي جزءً معيَّنا منها في ذلك اليوم. لكنْ بعد لحظاتٍ، تدفقت مشاعر التعاطف بداخلي. لقد انزعجت لفكرة اضطرار الرفيق المسكين للسير وحيدًا في البرد إلى منزله. إحدى الطرق الممكنة لفهم ما قد حدث تاليًا يوضِّح اقتراحَ كانط في الفقرة المقتبَسة للتو. لقد أضعف الشعور بالتعاطف رغبتي في الاستمرار في العمل على رسالة المناقشة. لم يُتغلَّب على رغبتي كثيرًا بقدر ما أنها انطفأت وزالت من الوجود. هكذا، عندما تصرفت بالفعل، فإن إدراكي بأني ينبغي أن أساعد الصديق بالخارج كان كافيًا في حد ذاته للتغلب على رغبتي المُضعَفَة في الاستمرار في العمل، وبالتالي حفّزني للقيام بواجبي. في الحرب بين العقل والعواطف، فإن بعض العواطف يمكن أن تقف إلى جانب جهة العقل. إنها تُحبَّذ ليس كحوافز في المقام الأول بل بالأحرى لأجل دورها في إضعاف العواطف التي تهدد بجذبنا عن سبيل الواجب[31].

في رأيي، ليس ما هو متطلب لأجل الفضيلة بمعناها الكانطيّ ليس أن يكون حافز الواجب هو الشيء الوحيد الذي يحثّ الشخص الفاضل على القيام بواجبه أو واجبها، بل أن يكون حافزًا كافيًا بالمعنى التالي للحقائق الافتراضية بخلاف الواقع: حتى لو أن لا حافز داعم آخر قد كان موجودًا في زمن الفعل، فإن الشخص كان سيؤدي واجبه على كل الأحوال. كان حافز الواجب سيكون كافيًا في حد ذاته للتغلب على أي حوافز مضادّة لدى الفاعل في الحقيقة في الحَدَثِ محلِّ الكلام. هذا هو تحديد الفضيلة. مع هذه الخلفية، من السهل فهم معنى وصف كانط لإحدى وسائل تجنب ضعف الإرادة، لقد كتب [في ميتافيزيقيا الأخلاق]:

"إنه لذلك هو واجبٌ ليس أن نتجنب الأماكن التي يوجد بها الفقراء الذين يفتقدون أكثر الضروريات أساسية، بل بالأحرى البحث عنهم، وكذلك ليس تجنب حجرات المرضى أو سجون المدانين وما إلى ذلك لتجنب مشاركة المشاعر المؤلمة التي قد لا يكون المرء قادرًا على مقاومتها."

إن فكرة كانط هي أننا ينبغي علينا البحث عن الأماكن التي توجد بها المعاناة البشرية لكي نقوِّي ميلنا إلى الشعور بالتعاطف مع معاناة الآخرين. مشاعر التعاطف مفيدة لإضعاف رغباتنا التي تبعدنا عن متطلَبات الأخلاق. هذه وسيلة غير مباشرة نسبيا لهزيمة بعض أنواع ضعف الإرادة على الأقل، قوِّ مشاعرك بالتعاطف وهذه ستساعد عقلك على كسب المعركة ضد العواطف التي تجعل تميل إلى القسوة وانعدام الإحساس. لكن ماذا لو أن العلم أمكنه أن يزوِّدنا بوسيلة أكثر مباشرة وإمكانية للاعتماد عليها لإضعاف أو نيل التحكم بهذه الأنواع من العواطف؟ إن بتر طرفٍ مصاب بالتلوث هو إحدى الوسائل لمنع موت المريض من العدوى. لكن العلم قد أرانا وسيلة أقل فظاظةً لإنجاز نفس الهدف من خلال استعمال البنسلين. على نحو مشابه، فالعلم قد أعطانا وسائل أفضل لتقليل مشاعر الاكتئاب والرغبة في تدخين السجائر. إذن، ربما أمكنه أن يقدم لنا وسائل أفضل لتقليل أو التحكم في الخوف والكراهية والجبن والشهوة كذلك. إن نوع تعديل المخ المستوحى من ملاحظات LeDoux قد يكون شيئا كهذا.

بالتأكيد، حتى لو أمكن أن يُكمَل مشروعٌ من هذا النوع، فإنه لن يزوّدنا في حد ذاته بوسيلة يُعتمَد عليها لجعل الناسِ فضلاءَ. هذا جزئيا بسبب حقيقةِ وجود أشياء أكثر متطلبة لتكون صالحًا غير كونك قويَّ الإرادة. كمثال، فإن المعرفة الأخلاقية مكوِّن هامٌّ للفضيلة. والاكتشافات العلمية التي قد تنتج عن نوع الأبحاث التي أقترحها لن تكون إبدالًا بل مكمّلًا وإضافةً للأجزاء الأخرى المعتادة لعملية التحسين الأخلاقي، كمثالٍ تلقِّي تنشئة ملائمة. إن كلام أرسطوتلس ليس أقل وثاقةَ صلةٍ في العصر الحالي عما كان عليه عندما كتبه منذ أكثر من ألفي عام، حينما قال [في كتابه الأخلاق النيقوميدية]: "إنه ليس أمرًا بسيطًا ما إذا كانت إحدى العادات أو أخرى قد غُرِسَت فينا منذ الطفولة، بل على النقيض إنه يصنع فارقًا معتبَرًا، أو بالأحرى كل الاختلاف."

إن اقتراحي بأن العلم يمكن أن يساعدنا على أن نصبح أفضل أخلاقيا لا يجب الخلط بينه وبين "التفاؤل المتبختر" أو الفَرِح الذي حط John Cottingham من قدره على نحوٍ صائب [في كتابه معنى الحياة Meaning of Life]. إني واثقٌ أن الظروف الثلاثة الأساسية للحياة البشرية سوف تمنعنا من تحقيق الجنة على الأرض إلى الأبد. لكن المذهب الطبيعي يقدّم أسبابًا أكثر للأمل في نوعية المشروع الذي قد وصفته مما تقدم بعض نسخ المنظور المسيحيّ. لقد لاحظتُ فيما هو أسبق أن رسالة المسيحية هي على نحو أساسيّ رسالة أملٍ، لكن إنه لهامٌّ إدراك أن ما تقدمه في المقام الأول هو أمل فيما يتعلق فيما يقع بعد هذا العالم. في بعض المناحي، فإن المسيحية أقل تفاؤلًا بكثير بصدد ما يمكن تحقيقه في هذا العالم عما هو عليه المذهب الطبيعي. بعض نسخ المسيحية [رؤاها ومذاهبها] على الأقل تتضمن أننا لن نكون قادرين أبدًا على الذهاب إلى مدى بعيد بالاعتماد على أنفسنا في التحكم في قلب الظلام القابع بداخلنا. لو أن قلب الظلام هذا جزءٌ من عقابٍ فُرِض على البشرية كنتيجة لسقوط الإنسان [أسطورة آدم وحواء]، فمن ثمَّ فلن نستطيع التحكم فيه من خلال العلم بأكثر مما يمكننا استعمال العلم لجعل أنفسنا خالدين[32]. لو أن الله موجود فسيمنع كلا المشروعين من النجاح. على نحو مشابه وبنفس الروح، لو C. S. Lewis أن محقٌّ في اقتراحه أن الله يستعمل المعاناة في هذا العالم لمنعنا من الالتصاق بهذا العالم، أو لو أن John Hick محق في رأيه بأن هذا العلم هو على نحوٍ أساسيٍّ "وادٍ لصنع الروح"، فمن ثم هناك حدود قصوى محددة لمدى السعادة والعدالة التي يمكن أن تُحقَّق في هذا العالم. على النقيض، فإن المذهب الطبيعي يتضمن أنه ليس هناك مثل هذه الحدود المفروضة إلهيًّا. بدون الله، لا يوجد كائن أعلى ليراعينا، لكن وكذلك لا يوجد مثل هذا الكائن ليبقينا غير متحسنين[33] تظل الحدود العليا للعدالة والسعادة لم تكتَشَف.

أود التأكيد على ضرورة السعي إلى المشروع الأفلاطوني القديم. كتب [في مقاله نحو حوارٍ كاثوليكيٍّ/ إنسانيٍّ]: "تمتلك البشرية الآن التكنولوجي لتدمير نفسها، ما لم يكن الإنسان قادرًا على إعادة التوجيه بوسائل التحكم العقلانيّ بالقوى العمياء [غير الواعية] التي تهدد الآن وجودَه، ليحوز مصيره الخاص به ويصير سيدَ نفسِه.[34]" إحدى المجالات التي قد قام فيها العلم بخطوات هائلة هو أبحاث السلاح. إن التقدم الذي قمنا به في اكتشاف الوسائل الفعّالة لقتل بضعنا الآخر محيرة ومروِّعة للعقل حقًّا. توجد أسلحة حاليا يمكنها إفناء ملايين البشر في لحظة مفردة واحدة.

أمهّد أحيانا لطلابي بالتجربة الفكرية البسيطة التالية: تخيل أن كل شخص في العالم لديه وصول لزرٍّ والذي لو ضُغِطَ سيُدمِّر كوكب الأرض، مزيلا الحياة البشرية من الكون تمامًا. السؤال للتفكير فيه هو: إلى كم ستستمر الأرض في الوجود تحت هذه الظروف؟ يبدو واضحًا أن أي أحد سيقترح مدىً زمنيًّا أطول من حوالي عشر دقائق يفتقد أخفَّ تصور لنوع العالم الذي نعيش فيه. في الحقيقة، إنه لواضحٌ أنه ما لم تُوَزّع الأزرار في وقتٍ واحدٍ تقريبًا، فإن عملية تسليمها لن تقترب بأي حالٍ من الاكتمال قبل أن يضغط شخصٌ ما زرًّا.



[1] ملاحظة من المترجم: المفروض كما تعلمنا في اللغة العربية أن كان من الأفعال الناقصة لا مصدر له ولا مفعول مطلق، لكن كما يقول الإنجليز: هناك دائمًا مرة أولى!

[2] لو أنك متزوج، فتفكر في الظروف العديدة التي خارج تحكمك، التي كان يجب نيلها لكي يحدث اللقاء الأول، وكم كانت ستكون حياتك مختلفة لو لم تحدث أو تُنَل واحدة منها.

[3] انظر كتابَيْ (الاستدلال البشري) و(افتقاد الشخصية)
See Nisbett and Ross, Human Inference, and John Doris, Lack of Character.

[4] Doris, ibid., 30–4.
تجربة سجن جامعة ستانفورد استوحت منها أفلام أمركية مثل التجربة The Experiment لكن مع تضخيم للقصة وجعلها أكثر درامية بحيث يموت شخص بمرض السكر لمنعه من دوائه آخر الأمر ويثور المساجين الافتراضيون بعد صبرهم الطويل على عنف وإهانات الحراس المعينين ويتبادل الطرفان العنف، ويحكي الفلم كيفية صنع الاستبداد والعنف في المجتمعات والدول من خلال التجربة.

[5] Ibid., 117.

[6] قارن مع نصوص القرآن، مثلا: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)} الزمر

[7] بعض النقاط التي أشرت لها في هذا البحث عن التواضع من منظور طبيعي مشابهة لبعض النقاط التي قام بها ساول سميلانسكي في (الإرادة الحرة وغموض التواضع)، المجلة الفلسفية الفصلية الأمركية، رغم ذلك فقد افترض سميلانسكي غياب الإرادة الحرة الليبرتارية لأجل غرض بحثه. لأجل نقاش آخر ذي علاقة انظر جوزيف كوبفر (السمة الأخلاقية والتواضع) في المجلة الفلسفية الفصلية لمنطقة المحيط الهادئ.
Saul Smilansky in “Free Will and the Mystery of Modesty,” American Philosophical Quarterly 40:2 April 2003, Joseph Kupfer, “The Moral Perspective of Humility,” Pacific Philosophical Quarterly 84 (2003), 249–69.

[8] قارن مع القرآن: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} الحشر، و{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} البلد، لكن في الثلاث ديانات تلوثت التعاليم الصالحة بأخرى عنصرية مناقضة لها وفاسدة كالقتل والعنف والتمييز العنصري في كتاب اليهود والقرآن وكتب الحديث والسيرة، وبدرجة أقل في نبذ وتجنب غير المؤمن وصاحب العقيدة المختلفة حسب رسائل بولس والرسل المسيحيين.

[9] للميالين للمصطلحات التقنية أكثر، فإن المثال يبرهن على أن التضمينات الظاهرية للحقائق الواقعية المتقابلة ليست علاقات وجوبية متعدية، أو بعبارة أخرى أن القياس النظري ليس قاعدة صالحة للاستنتاج بالنسبة للحقائق الواقعية. كانت أول مرة أتعرض لهذا المثال في منهج كورس المنطق الشكليّ للخريجين الخاص بكرسيّ Ed Gettier في ربيع عام 1995 في جامعة UMass–Amherst .

[10] وفقا لتوماس الأكويني، فإن الإحسان لا يتضمن فقط حب جيران المرء، بل أيضا حب الله، انظر مقالة عن الفضائل، هذا يتوافق مع ادعاء يسوع بأن أهم وصيتين هما حب الله وحب المرء لجيرانه. انظر مثلا متى22: 34-40. في معالجتي للأمر أهتم فقط بحب المرء لجيرانه.
Treatise on the Virtues, by Thomas Aquinas, trans. John A. Oesterle (Notre Dame: Univ. of Notre Dame Press, 1984), 147.

[11] الكتاب منشور باللغة العربية ومتوفر على النت، من منشورات المشروع القومي للترجمة، ضمن نشاط العلمانيين في عهد سوزان مبارك ووزير الثقافة فاروق حسني ومسؤول المشروع العلامة جابر عصفور، وهو من ضمن الأعمال الخيرة التي كانت لنظام حكم فاسد، لكن سنتذكر لهم خيراتهم_لؤي. ترجمتي للكلام أكثر حرفية هنا من المترجم محمد قدري عمارة. الكتاب رائع وترجمته لا بأس بها، لكن الفقرات العديدة التي ترجمتها هنا بمقارنتها معه تكشف وجود أخطاء بسيطة أو عدم دقة تؤثر على بعض المعاني.

[12] Mark Juergensmeyer, Terror in the Mind of God (Berkeley and Los Angeles: Univ. of California Press, 2000), 162.

Andrew Newberg, Eugene D’Aquili, and Vince Rause[13] يقترحون أن الإنسان النيندرتالي كان لديه شكل ما من الدين أعطاهم إحساسا بالتحكم في قوى الطبيعة وساعدهم على تهدئة خوفهم من الموت [عثر على أصداف وأشياء مدفونة مع موتاهم]. انظر (لماذا لن ينتهي الله: العقل والعلم وبيولوجي الاعتقاد). إن آراءهم عن أصل الدين التي لخصوها في الفصل السابع أكثر تعقيدا من الخاصة برَسِل.
Why God Won’t Go Away: Brain Science and the Biology of Belief (New York: Ballantine, 2001, 54–55.
إحدى أغرب النظريات عن أصل الاعتقاد الدين هي الخاصة بسيجمُنْد فرويد، خاصة في موسى والتوحيد، لأجل نقاش مفيد عنها انظر Armand Nicholi, Jr., Question of God, (New York: Free Press, 2002),.


[14] مقالة (ما أعتقده) وهذا الاستنتاج هو نفس ما يتوصل إليه هيوم على لسان شخصيته فيلو[ن] قرب نهاية الجزء التاسع من حوارات عن الدين الطبيعي.

[15] كل منظومة فكرية تتطلب قدرا من الثبات الفكري والاعتقادي، أنا أؤمن أني لو قفزت من الدور العاشر مثلا سأموت منتهيا كحطام، هذا ليس إيمانا بالمعنى الديني، وللإلحاد أدلة علمية وفلسفية ومن نقد نصوص الأديان وعلم الأديان، لي صديق عرفته فشل أن يكون ملحدا أو مسلما أو حتى بهائيا كما اعتقد لفترة أو أي شيء_رغم أنه شديد الذكاء وكتب مقالات نقدية للإسلام وعلمية إلحادية وكان شاعرًا جيدًا_ لمعاناته المرضية من شك عميق في كل الأفكار كمرض نفسيّ. لهذا كان كما وصف لِوِس يقدم ويتراجع، يسلم ثم يلحد ثم يسلم ثم يبحث عن اعتقاد ما وهكذا في حلقة مفرغة لفقدانه الثبات اللازم، يتطلب تبني اعتقاد ما استقرارا فكريا ونفسيا، مع اطلاع فكري وعلمي كافٍ لتبني قناعة معينة_ المترجم.

[16] John Kekes, Facing Evil (Princeton: Princeton Univ. Press, 1990, 23.- 26

[17] Merrill Ring, Beginning With the Pre–Socratics, 2nd ed. (Mountain View, CA: Mayfield Publishing Company, 2000), 62–3; 104–18. الدراسة التمهيدية لفلاسفة ما قبل سقراط

[18] For this interpretation of Anaximander’s position, see Jonathan Barnes, The Presocratic Philosophers: Volume 1 Thales to Zeno (London: Routledgeand Kegan Paul, 1979), 23–5. [18]
لأجل شرح لنظرية أناكسماندر انظر (الفلاسفة القبل سقراطيين) ج1 من ثاليس [طاليس] إلى زينو[ن]

[19] Gottfried Wilhelm Leibniz, Theodicy, trans. E. M. Huggard (La Salle, IL: Open Court, 1985), 128.
في قراءتي للترجمتين العربيتين عن الفرنسية لرواية ﭬولتير الفلسفية كَنديد أو التفاؤل، لاحظت أنه كان يسخر سخرية لاذعة من نظرية ليبِنْز ومن ينحون نحوه، لأن ﭬولتير رأى عالم البشر مليئا بالشرور والظلام، خاصة في القرون الوسطى التي عاش بأواخرها، واعتبرها نظرية غير إيجابية تعني عدم تدخلنا لتحسين الأمور طالما ليس بالإمكان أحسن مما كان.

[20]يبدو واضحا أن هذه الوسيلة ليست مضمونة تماما، فقد قال Nicholi, Jr. في (السؤال عن الله) Question of God, 216–230. أن سيجمُنْد فرويد كان مستحوذا عليه بمسألة موته الخاص به وكان يتفكر فيها يوميا. رغم ذلك فيبدو أن ذلك لم يجعله معزَّىً بل بالأحرى العكس.(وكمترجم أرى هذا حافزا قويا لبعض المفكرين والقائمين بالأعمال العظيمة لاغتنام لحظات حيواتهم).


[21] أشبه بنظرية الحكم الإسلامي الأول في أهل الحل والعقد وهم أهل الثقة المستأثرون بالسلطة وأمور الحكم كأسلوب توصية الخلفاء الأوائل بالتشاور مثلا بين مجموعة معينة على من يختارونه من بينهم كخليفة كما فعل عمر مثلا_م

[22] ينبغي ملاحظة أن هذا لا يتضمن أن في الدولة النموذجية يكون هذا هو الجواب الوحيد، إن نظرية Kekes كيكس تتسق مع الجواب الكانطي الذي عرضته وصادقت عليه في الفصل الثالث.

[23] لم تعجبني كمترجم آخر جملة للمؤلف، أنظمة الحكم الفاسدة تنشر الفقر والجهل وحتما هي معادية للفضائل ولن تريد تطبيق اختراع أو تنظيم ما ينشر الفضيلة، كذلك فإن تحت منظوماتها الفاسدة تنتشر كل الرذائل، لا انفصال بين الشعوب والحكومات والأوضاع العامة.

[24] Joseph LeDoux, The Emotional Brain (New York: Touchstone, 1996) (العقل الشعوري)، إن كتابه شرح قابل للفهم لغير المتخصصين للعلم العقلي للخوف والذي كتبه باحث رائد في هذا المجال.

[25] توجد تنويعات عديدة على هذه الرواية والمستوحاة منها في الأفلام والروايات المكتوبة بالإنجلش بحيث لا أذكر أسماء بعضها مما شاهدته منذ سنوات، بعضها سرد حرفي لقصة هكسلي وأخرى مختلفة قليلا أو كثيرا، ومن أجملها وآخرها كتحديثات لها لكن مختلفة كثيرا فلم Equilibrium و سلسلة Divergent_المترجم.

[26] أعتقد أن شيئا مشابها ينطبق على مثال أدبي سيء آخر للتحسين الأخلاقي من خلال العلم، وهو حالة ألكس في رواية البرتقالة المنتظمة كالساعة A Clockwork Orange. في حالة ألكس تكون العملية نفسها غير لطيفة للغاية، لكن نقدا أعمق لها هو أنها لم تجعله شخصا فاضلا على نحو حقيقي. لقد وضحت هذه الفكرة بتفصيل أكثر في مقالة (السعادة والألم والسمة الأخلاقية والتحسن" في
“Pleasure, Pain, and Moral Character and Development,” Pacific Philosophical Quarterly 83 (2002), 282-299.

[27] وتسمى كذلك بالعربية رومية أو الروميين، هذه أدق ترجمة تلتزم بالحرفية من خلال مقارنتها بالعهد الجديد ترجمة بين السطور يوناني عربي، وهي ترجمة ﭬانديك وبستاني المنتشرة في مصر، أما الترجمة العربية المشتركة فجاءت غير حرفية لكن أوضح كالتالي: (18لأنِّي أعلَمُ أنَّ الصّلاحَ لا يَسكُنُ فيَّ، أي في جسَدي. فإرادةُ الخَيرِ هِيَ بإِمكاني، وأمَّا عمَلُ الخَيرِ فلا. 19فالخَيرُ الّذي أُريدُهُ لا أعمَلُهُ، والشَّرُّ الّذي لا أُريدُهُ أعمَلُه. 20وإذا كُنتُ أعمَلُ ما لا أُريدُهُ، فما أنا الّذي يَعمَلُه، بَلْ ِ الخَطيئَةُ الّتي تَسكُنُ فيَّ.)، وطبعا قصد بولس هنا معانيَ ونظريات لاهوتية مسيحية.

[28] Antonio Damasio, Looking for Spinoza: Joy, Sorrow, and the Feeling Brain (Orlando, FL: Harcourt, 2003), 287–288.

[29] كمترجم وحسب معرفتي بآليات التطور لا أعتقد بجود ضغوط تطورية كافية لتحقيق تركيب مثاليّ كهذا، ربما يمكن تحقيقه في المستقبل اصطناعيا عندما يتقدم البشر بأدوية معينة تعطى للأم الحامل مثلا أو تحقن في الأجنة مباشرة، أو ربما بهندسة وراثية للجنس البشري بعد فهم كامل لعمل الجينات وهو ما لم نحققه بعد، وإجراء تجارب كثيرة على الحيوانات البدائية ثم على الأكثر تطورا. لكن أمورا كهذه ستحتاج دقة وحذرا تاما لخطورة ما قد تؤدي إليه كالأفلام الأجنبية، سواء تحويل البشر إلى آلات قاسية لا تشعر أو حتى خضار بشري عاجز ميئوس منه.

[30] النقاش الذي يسبب الكثير من الإشكال يظهر في الفصل الأول من ميتافيزيقيا الأخلاق، فصل خلفية العمل (إطار العمل)، لأجل نقاش مفيد عن الموضوع انظر:
see Marcia Baron, “The Alleged Moral Repugnance of Acting From Duty,” Journal of Philosophy 81:4 (April 1984), 197–220; Richard Henson, “What Kant Might Have Said: Moral Worth and the Overdetermination of Dutiful Action,” Philosophical Review 88 (1979), 39–54; and Barbara Herman, “On the Value of Acting From the Motive of Duty,” Philosophical Review 90 (1981), 359–82.

[31] لأجل نقاش مفيد عن بعض الأدوار الأخرى التي قد تقوم بها العواطف في نفسية الشخص مع الفضيلة بالمعنى الكانطي، انظر:
Chapter 4 of Nancy Sherman’s Making a Necessity of Virtue (Cambridge: Cambridge Univ. Press, 1997).

[32] ملاحظة من المترجم: يقول العلم أننا كائنات حية عديدة الخلايا، إحدى وسائل تنسيق العمل بين الخلايا بأنواعها المختلفة وتشكيلها هو ما يعرف بالموت المبرمج للخلية، وهو آلية تحدد عمر الخلية، في حالة حدوث خلل وتوقف لهذه الآلية تتحول الخلية إلى خلية سرطانية مجنونة كما هو معروف، وهنا المعضلة فجعل خلاياك خالدة يعني جنونها وعمل كل منها لوحده بلا تنسيق، بالتالي موتك أنت وإمكانية خلود الخلايا المسرطنة في معمل أيحاث. ربما سيكون أقصى أمل للبشر هو إطالة الحياة وجعلها صحية مرفهة، والخلود هدف سخيف مع كثرة أعداد البشر وانفجارهم السكاني وازدحامهم في بعض الأماكن وصعوبة أوضاعهم ونزاعهم على الموارد والأعمال. بعض أعمال السينما لأمركية كإحدى قصص سلاحف النينجا قدمت شخصية الإنسان الذي اكتسب الخلود منذ قرون ويسعى جاهدًا رغم وفرة صحته لشدة ملله وإرهاقه للتخلص منه والموت، صعب تخيل عيش الإنسان لقرون ناهيك عن الأبد، هذا خلف لسنن الطبيعة ودورتها الإحلالية والتدويرية لمواردها وقانون تطور الأحياء والثقافات_المترجم.

[33] ربما على طريقة أسطورة برج بابل في سفر التكوين_المترجم.

[34] Paul Kurtz, “Toward a Catholic/Humanist Dialogue,” in Secular Humanism, 140. For a related worry, see Bill Joy, “Why the Future Doesn’t Need Us,” in Taking the Red Pill: Science, Philosophy and Religion in the Matrix, ed. G. Yeffeth (Dallas, TX: BenBella Books, 2003), 199–232.
ولأجل قلق ذي علاقة انظر (لماذا لا يحتاجنا المستقبل، أخذ الحبة الحمراء القاتلة، العلم والفلسفة والدين في المنظومة).



  رد مع اقتباس