موقف الإباضية من علي وأهل النهروان
مقـــدمــة:
أخي المسلم الباحث عن الحقيقة، إن معركة صفين والتحكيم وما تبعه من أحداث يعد من القضايا المهمة والشائكة في التاريخ الإسلامي التي يجب أن تدرس من منظور شمولي متجرد عن المذهبية والعصبية الجاهلية، فكل يدعي الحق والصواب، والله هو العالم بالصواب وأهله، وما نقوم به هو بحث من خلال المعطيات التاريخية والدلائل العقلية المنطقية التي تربط الأحداث بالزمان والمكان لتعطينا صورة أوضح لفهم الحقيقة عن طريق النظر للأمور نظرة شمولية متجردة من وثنيات الأهواء وما ترسب في العقول من رديء الآراء.
ولكن يجب علينا أن نعي جيداً أن النظرة الشمولية للتاريخ تتطلب منا التجرد الكامل والحقيقي من الموروث المذهبي في التعامل مع هذه الأحداث، إنها تتطلب منا أن نصغي إلى الضحية كما أصغينا إلى الجزار، تتطلب منا أن نزن الأمور بموازين العدل والأمانة والعقل والمنطق، لا أن يجر الإنسان من شعيرات أنفه ويطعم الغث والسمين ثم يقول نظرتي شمولية!!
فكثيرا ما أسمعك أخي وأنت تدعي البحث عن الحقيقة تلوك العبارات التي يرددها كتاب التاريخ وأصحاب مقالات الفرق والتي تصف الإباضية بالخوارج وتصف أهل النهروان بإنهم مارقة مرتدين عن الدين؟!!
أخي الباحث عن الحقيقة ستقول أن مصدر حكمك على موقف أهل النهروان هو كتب التاريخ السنية أو الشيعية!! فهلا أدركت لبرهة أن هؤلاء ما هم إلا خصوم أهل النهروان؟!!
بينما لا أسألك أن تقبل روايات الإباضية والخوارج في المسألة، فشعاري الذي ألتزمت به هو سماع جميع الأصوات والاحتكام لبديهات العقل وسنن الكون والثوابت الراسخة من القرآن ، فلهذا فإني آليت على نفسي أن ألتزم بروايات أهل الحديث والتاريخ المعتمدين وعرضها على موازين الحق والعدل والإنصاف، فاءت بما شئت من روايات أخي لترى إن كل الروايات التي تشين أهل النهروان هي بين واهي وموضوع ومختلق ومصنوع.
شبهة إجبار علي على التحكيم:
وأول قضية أحب أن أفندها هي الإدعاء بأن أهل النهروان أناس سذج من أجلاف الأعراب لا يفقهون إلا لغة الحديد والنار؟!! فالعقل والمنطق والحق والأمانة التي لو تجردنا من مورثاتنا الفكرية لضفرنا بها تقول: أنه لا يمكن لهؤلاء ((القراء)) أن يكونوا بهذه السذاجة التي تدعيها تلك الروايات الباطلة القائلة بأنهم هم من اجبر علي على التحكيم!!، فقط انظر إلى أسمهم ((القـــــراء)) وستجيبك هذه التسمية على كل الافتراءات التي حاول كتاب التاريخ وسمهم بها.
هل تعرف ماذا تعني كلمة)) القـــراء )) ؟!! إليك الجواب من فطاحل التاريخ والحديث :
قال ابن خلدون في شرحه لمعنى لكلمة القراء:
"ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم. وإنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته بما تلقوه من النبي ص أو ممن سمعه منهم ومن عليتهم. وكانوا يسموّن لذلك ((القـراء)) أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية. فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ. وبقي الأمر كذلك صدر الملة.. وكمل الفقه وأصبح صناعة وعلماً فبُدِّلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء.."(انظر المقدمة، ص563-564).
وقال في موضع آخر: " والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين ولا دُفعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة. وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله إلى القراء أي الذين يقرأون الكتاب وليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عرباً فقيل لحملة القرآن يؤمئذ قرّاءٌ إشارة إلى هذا. فهم قرّاءٌ لكتاب الله ... لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه" ( انظر المقدمة، ص 747)
وقول ابن خلدون هذا له شواهد كثيرة من كتب السنة نذكر منها مثالاً واحداً من صحيح الإمام مسلم:
"حدثني محمد بن حاتم حدثنا عفان حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس بن مالك قال جاء ناس إلى النبي ص فقالوا: أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن ... فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء فيهم خالي حرام يقرؤون القرآن ويتدارسون بالليل يتعلمون وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء فبعثهم النبي ص فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان فقالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا قال وأتى رجل حراما، خال أنس، من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام فزت ورب الكعبة فقال رسول الله ص لأصحابه إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا " (المنهاج- شرح صحيح مسلم بن الحجاج- الرواية :4894، م7،ج13/ص49)
فإذا أدركت ذلك علمت أن من كانت هذه عقليته لا يمكن أن يتصور أن يكون بتلك السذاجة التي تحاول كتب التاريخ وصمه بها، أضف إلى ذلك الرواية الصحيحة السند التي ذكرها الإمام أحمد والتي ذكرها الأستاذ علي بن محمد الحجري في كتابه "الإباضية ومنهجية البحث" ص 180-184 جاء فيها :
عن أبي وائل شقيق بن سلمة ما نصه: " قال: كنا بصفين فلما استحر القتل بأهل الشام اعتصموا بتل فقال عمرو بن العاص لمعاوية أرسل إلى علي بمصحف وادعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك فجاء به رجل فقال بيننا وبينكم كتاب الله (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) فقال علي: نعم أنا أولى بذلك بيننا وبينكم كتاب الله قال فجاءته الخوارج ونحن ندعوهم يومئذ ((القراء)) وسيوفهم على عواتقهم فقالوا يا أمير المؤمنين ما ننتظر بهؤلاء القوم الذين على التل ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم … "انظر الإمام أحمد (المسند الرواية : 15408) والنسائي ( السنن الكبرى 6/463 ) وابن أبي شيبة ( 15 /317 ) وأبي يعلى ( المسند 1 / 364 ).
حتى إن الدكتور حسين عبيد غانم غباش وهو شافعي من السنة قال بعد أن ذكر رواية القلهاتي (العالم الإباضي) والتي يتفق معناها مع معنى رواية الإمام أحمد هذه ما نصه: (هذه الرواية للوقائع تعيد وضع مجموعة من كتابات مؤرخين مسلمين غير إباضيين، وعلى الأخص ما يدعيّ منها أن الخوارج شجعوا علياً على قبول مبدأ التحكيم، موضع المساءلة ، بل ويدحضها.) " انظر عمان الديمقراطية الإسلامية، ص 53 "
هكذا يكون التجرد من المذهبية وهكذا تكون النظرة الشمولية .
قضية التـحكيـم :
تقول روايات المؤرخين – خصوم أهل النهروان – ما مضمونه: ( إن أهل النهروان قالوا له: (لا حكم إلا لله وان عليا حكم الرجال في حكم الله)، ورد ابن عباس أن الله في كتابه أمر بالتحكيم في حالات، وهي قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} المائدة 95، وقوله تعالى {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا} النساء35.
من هاتين الآيتين انطلق ابن عباس ليثبت لهم جواز التحكيم في الإمامة، فإذا كان الله قد حكم في الرجال في شأن يسير، ليمنع الشقاق بين الزوجين، أفلا يجوز تحكيم الرجال منعا لشقاق في صفوف الأمة، وحقنا للدماء؟!!)اهـ.
ونحن نقول: لماذا لم تورد مصادر التاريخ رد اهل النهروان أو القراء – أهل الحكمة والعلم كما وصفتهم رواية مسلم وأحمد وابن خلدون – على حجة ابن عباس؟ هل فعلا أفحمهم بهذه الحجة أم انهم كانوا مسلحين بإجابات قاصمة لهذه الحجج؟!! تعالوا بنا لنرى ردهم الذي بدد هذه الحيرة التي وقع فيها البعض، وذلك منقولا من كتب الإباضية ورثة أهل النهروان.
راجع : "خلاصة الاحتجاج بين الخوارج وابن عباس" "موقع المجرة"
فالخاتمة أن عليا حكم في دماء المسلمين من كان يعتقد جواز استباحتها وانتهاك حرمتها ومن كان يحارب الله وإمام المسلمين ومن كان يوالي حزب الشيطان والفئة الباغية على المسلمين، وهذا طبعا لا يجوز ولا يمكن أن يقبل به عاقل .
وانصرف ابن عباس عنهم وهو مقر لهم معترف لهم انهم قد خصموه ونقضوا عليه ما جاء به مما أحتج به عليهم .
وتعلق بعض الجهلة بما قاله النووي في شرح صحيح مسلم حين قال معلقا على حكم سعد بن معاذ في بني قريضة، ما نصه: (فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين وفي مهماتهم العظام، وقد اجمع العلماء عليه، ولم يخالف فيه إلا الخوارج، فإنهم أنكروا على علي التحكيم)اهـ، "انظر النووي، شرح صحيح مسلم، تقديم د. وهبة الزحيلي، طبع المكتبة العصرية بيروت، ط1 سنة1422هـ، المجلد الرابع ج12 ص439".
وهذه شبهة كنا نربأ بالنووي من أن يتعلق بمثلها لأنها ضعيفة وواهية، فكيف يقيس النووي مسألة قتال الفئة الباغية التي نزل فيها نص قرآني واضح جلي لا لبس فيه، وهو قوله تعالى {وإن فئتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}الحجرات 9، كيف يقيس هذه المسألة المنصوص عليها في الكتاب بمسألة لم ينزل فيها نص أو تشريع قبل حدوثها؟!!
فأمر الحكم في بني قريظة لم ينزل فيه قرآن أو حكم من الله قبل تحكيم سعد بن معاذ، فالمسألة مفتوحة يستطيع أن يحكم بما شاء، فهو مفوض من عند الرسول ص ، بينما مسألة قطع يد السارق وجلد الزاني وقتال الفئة الباغية أمور نزل فيها نص قرآني فلا يمكن أن يحكم فيه برأي الأشخاص أبداً.
ومن هنا يتبين للجميع أن ما حاول كتاب المقالات والمؤرخين إلزام أهل النهروان به من الحجة لا يصمد أمام الفحص، بل أن حجج أهل النهروان كانت أقوى وأرسخ، وهي لك أخي المسلم المنصف لكي ترى صدق قوتها وأصالتها.
الحــوار بين ابن عباس وعلي:
تحاول المصادر التاريخية أن تتجنب ذكر الموقف الذي حصل بين ابن عباس وعلي بعد التحكيم وبعضها يقول أن علي سار بنفسه إلى أهل النهروان!!
ونحن نقول أن ما ذكروه من توجه علي لأهل النهروان ما هو إلا لإدراكه أن ابن عباس لم يستطع أن يقيم عليهم الحجة، هذا من جانب ومن جانب آخر ماذا عسى أن يقول علي لأهل النهروان وهم قد فندوا جميع الحجج التي تذكر كتب التاريخ أن علي وابن عباس احتجوا بها على أهل النهروان؟!! بل أن ابن عباس لم يستطع إلا أن يعترف لهم بأنهم على الحق المبين والصراط المستقيم.
ولكن هل يعقل أن لا يخبر ابن عباس تلك الحجج لعلي، وأن لا ينصحه قبل أن يقتل المؤمنين الأبرياء ظلما وعدوانا؟!!
الجواب: ذلك غير معقول طبعا. لكن ابن عباس معروف بالحكمة فلهذا من البديهي جدا أن يتوجه بالنصح لعلي على انفراد خاصة إذا ما عرفنا الأشعث –عميل معاوية في جيش علي- وعيونه.
ولكن لا نستطيع أن نجزم بأنه أخبره عن جميع ردود أهل النهروان وحججهم الدامغة فربما انزعج علي من اقتناع ابن عباس من موقف أهل النهروان ولم يشأ أن يستمع إلى كل آرائهم فلهذا دب بينه وبين ابن عباس خلاف كبير حسبما تورده المصادر الإباضية التي أتحفتنا بقضية الحوار السابق بين ابن عباس واهل النهروان.
قال علي لابن عباس: ألا تعينيني على قتالهم؟
قال ابن عباس: لا والله لا أقاتل قوما خصومني في الدنيا وانهم يوم القيامة لي أخصم وعلي أقوى إن لم أكن معهم لم أكن عليهم.
فلهذا اعتزل ابن عباس جيش علي وهذا ما تؤكده معظم المصادر التاريخية الموثوقة كتاريخ ابن جرير الطبري، حيث أنها تجمع على أن ابن عباس لم يكن في أرض المعركة يومئذ، هذا مع العلم بأن تلك الكتب تقول بأن قتال الخوارج من أعظم القربات!!! فلو كانت هذه الدعوى صحيحة لما ترك ابن عباس الخير والفضل، وهو كان مع علي في جميع حروبه ومعاركه فلماذا ابتعد عنه في هذه المعركة بالذات؟ علما بأنه كان طرفا في النقاش فيها!!.
كل هذه الدلائل تؤكد صدق الخبر بأن ابن عباس فارق جيش علي، ولكن الخلاف لم ينتهي عند هذا الحد حيث نشب النزاع بين علي وابن عباس واتهم علي ابن عباس بسرقة أموال بيت المال في البصرة!! وهذا كله في كتب التاريخ المعروفة ككتاب التاريخ لابن جرير الطبري. فرد عليه ابن عباس: قد عرفت وجه اخذي المال أنه كان بقية دون حقي من بعد ما أعطيت كل ذي حق حقه، قد علمت أخذي للمال من قبل قولي في أهل النهروان ولو كان أخذي المال باطلا كان أهون علي من أن أشرك في دم امرأ مؤمن.
شبهــة قتل عبدالله بن خباب:
ومن الشبهة المثارة حول أهل النهروان هو الدعوى المغرضة والتي تدعي بأنهم قتلوا الصحابي الجليل عبدالله بن خباب؟!أما ما أثاره الحاقدون حول رواية قتل أهل النهروان للصحابي عبدالله بن خباب فلم تصح منها رواية واحدة فجميعها قد جاءت عن طريق أبو مخنف (ليس بثقة متروك الحديث) "انظر الجرح والتعديل ت1030 ج7ص182"، وجاء في لسان الميزان ت8/6776 ج4ص584 أنه (أخباري تالف لا يوثق به)اهـ، وجاءت رواية أخرى في مصنف أبي شيبة لكنها مرسلة من طريق أبي مجلز.
ولو سلمنا بهذه الحادثة المزعومة فقد ثبت لدى كتب التاريخ أن حادثة مقتل الصحابي عبدالله بن خباب المزعومة قد تمت عن طريق رجل لا ينتمي لأهل النهروان بصلة وهو مسعر بن فدكي (تاريخ الطبريج3ص116 ) ومسعر هذا ثبت لجوءه إلى راية علي (راجع المحلى لابن حزم ج11 ص301و302 والأنساب للبلاذري ج3ص146)، ولقد اثبت كتاب المقالات أنفسهم عدم رضا أهل النهروان لمحادثة مقتل عبدالله بن خباب حيث يذكر الأشعري في "المقالات" ص43 بعدما أورد ما صنعه مسعر: "وبعض الخوارج يقولون: إن عبدالله بن وهب كان كارهاً لذلك كله وكذلك أصحابه"اهـ.
ومما يؤكد عدم وجود علاقة بين أهل النهروان وبين الناس الذين عرفوا باستعراض المسلمين ما جاء برواية الثقات عند أبي شيبة برقم 19760 ج15ص317 وأبي يعلى برقم 473 ج1ص364 ما نصه (فساروا حتى بلغوا النهروان فافترقت منهم فرقة فجعلوا يهدون الناس قتلاً قال أصحابهم ويلكم ما على هذا فارقنا عليا)اهـ .
ثانـيـاً: ثمة أمر آخر –غير ما تقدم- يؤيد عدم انتهاج أهل النهروان أمر التقتيل والاستعراض، وأن حوادث القتل المذكورة لو ثبتت لا تعدو كونها خروجاً فردياً على هذا الإطار.
فقد كان أبو بلال مرداس بن أدية التميمي ممن شهد صفين مع علي وأنكر التحكيم ثمّ اعتزل إلى حروراء ، وشهد النهروان مع منكري التحكيم، وكان من الأربعمائة الذين ارتثوا في المعركة فنجا، وقد بقي إلى عهد زياد بن أبيه والي معاوية على الكوفة والبصرة والذي كان جائرا الأمر الذي أدى إلى تطرف بعض المعارضين، فكان من ذلك حادثة قريب بن مرة الأزدي الإيادي وزحاف بن زحر الطائي وكانا ابني خالة، فقتلا رجالاً، فقال أبو بلال كما في ( البلاذري (الأنساب) جـ5 ص183/ اليعقوبي (التاريخ) جـ2 ص232/ المبرد (الكامل) جـ3 ص1169: "قريب لا قربه الله من كل خير وزحاف لا عفا الله عنه، لقد ركباها عشواء مظلمة" يقول لاستعراضهما الناس. وفي رواية عند الطبري 3/209 : "قريب لا قربه الله، وايم الله لأن أقع من السماء أحب إلي من أن أصنع ما صنع" يعني الاستعراض.
وقد خرج مرداس في زمن عبيدالله بن زياد - الذي سار على منوال أبيه وزاد عليه - في أربعين رجلاً إلى الأهواز قائلاً: "إنه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للفضل، والله إن الصبر على هذا لعظيم وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكننا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفاً ولا نقاتل إلا من قاتلنا" ومن قوله: "إنا لم نخرج لنفسد في الأرض ولا لنروّع، أحداً ولكن هرباً من الظلم، ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا"( )، وتؤكد مصادر أخرى أنه لم يقتل ولم يعرض للسبيل (ابن خياط (التاريخ) ص159 )، وأنه كان "لا يدين بالاستعراض" البلاذري (الأنساب) جـ5 ص189.
ومنهج أبي بلال واضح في أنه لا يستبيح قتال أحد إلا دفاعاً عن النفس، وهذا يعكس لنا طبيعة موقف أهل النهروان بأنهم لا يستبيحون دم أحد من المسلمين، فإن أبا بلال واحد منهم، ولا شك أنه إذا كان يقف موقفاً معادياً من قريب وزحاف لما ارتكباه فإن رضاه عن عبدالله بن وهب – وهو رمز لفكر أهل النهروان – يجلي لنا الصورة الحقيقية لمنهجهم في التعامل مع مخالفيهم.
يقول أبو بلال:
أبعد ابن وهب ذي النـزاهة والتقى ***أحب بقاءً أو أرجـِّي سلامــة
فيـا ربِّ سلِّـم نيَّتي وبصـيرتــي ***ومن خاض في تلك الحروب المهالكا
وقد قتلوا زيد بن حصـن ومالكا ***وهب لي التقى حتى ألاقي أولئكـا
موقف علي بعد معركة النهروان :
لا شك أن من سبر أغوار التاريخ ودرس أحداثه يستطيع أن يدرك شخصية علي بن أبي طالب أيام الدعوة والجهاد في سبيل الله والسير خطوة خطوة في مرحلة بناء تاريخ الإسلام في مراحله الأولى، كما انه كان له الدور الكبير في رتق الخلافات التي ظهرت بعد وفاة النبي ص حيث كان خير عون للخلفاء الراشدين.
فالمستقرئ للتاريخ يدرك بكل سهولة أن شخصية كهذه لا يمكن أن تصر على الخطأ صغيرا كان أم كبيرا، ولإن الإنسان غير معصوم من الخطأ فإن حدوث الخطأ من أي امرأ كان أمر وارد فقد ثبت الخطأ في حق آدم حين أكل من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن أكلها، فلهذا فتح الله سبحانه وتعالى أبواب رحمته ومغفرته وكرمه في استقبال عودة الإنسان المخطئ، فلهذا فليس من المستغرب أن نجد إشارات كثيرة تدل على صدور تلك التوبة من علي لما اقترفته يداه في حق الأبرياء من أهل النهروان.
والمشكلة تقع في هل أن علي قتل أهل النهروان متأولاً بحيث كان يرى أن دماءهم حلال لإنهم على خطأ وهو على صواب؟ أم أنه قاتلهم وهو مدرك انهم على الحق ولكنه أصر على الخطأ فيكون قد قتلهم عمداً؟!!
فنحن قدعرفنا تاريخه وتضحياته في سبيل الدعوة ونزوله عند الحق حتى لو كان لغيره كما ثبت في رواية سرقة اليهودي لدرعه حيث لم يعترض على حكم القاضي لليهودي بالدرع.
فهو بلا شك كان متأولا لقتلهم، والمتأول تكفيه التوبة، ولكن اشترط البعض أنه من أخطأ في الجهر يجب عليه أن يتوب في الجهر، ومن أخطأ في السر جاز له التوبة في السر، وقال البعض أن علي لم يصرح بتوبته من دماء أهل النهروان!!
وأنا أقول أن في هذا الكلام مغالطه للتاريخ فنحن نعلم أن هناك روايات كثيرة تحمل روايات تدل على ندم علي على قتله لأهل النهروان، بل وثبت عند الإباضية أنه كان كثير البكاء على ما فعل في النهروان، وهل البكاء والندم إلا عين التوبة؟!! أما ما قيل بأنه لم يصرح بتلك التوبة، فأقول: وهل كان نقلة تاريخ إلا اتباع مذاهب وأهواء معادية لأهل النهروان فهل تتصور من هؤلاء الذين ملئت جيوبهم أموال الخزائن الأموية والعباسية أن ينصفوا أهل النهروان وأن يقروا بالحق في هذه القضية؟!!
ألم يزورا التاريخ ويبتدعوا ويختلقوا روايات مكذوبة موضوعة لخدمة أهوائهم وأغراضهم لتنكل بأهل النهروان ومن سار على دربهم من تحري للحق ومعاداة لأهل البغي؟!! نعم فعلوا وشوهوا التاريخ ولطخوه بما أنتجته مطابخ الحروب العلوية الأموية من دعاية إعلامية هائلة لنصرة نفسها على حساب الضحية التي كان صوتها دائما مخنوقاً.
فلهذا نجد في كتب السير الإباضية والتي عرف أصحابها بالأمانة والإخلاص وعدم الكذب حيث - يذكر المبرد في الكامل (والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب) راجع الحارثي ، العقود ص73 - نجد في أحد أقدم كتبهم وهو كتاب النهروان الذي ذكره البرادي والشماخي ومؤلفه يزيد الفزاري من علماء القرن الثاني الهجري وأقتبس منه العلامة البسياني في القرن الرابع الهجري كتابه السير، نجد في هذا الكتاب روايات تؤكد على توبة علي بن أبي طالب وبكائه الشديد وندمه على فعلته في النهروان حيث جاء ما يلي:
وعن ابن عباس قال حدثني قمبر مولى علي قال تحولت أنا وعلي إلى النهر بعد القتال فانكب طويلا يبكي فقال ما يبكيك، قال: ويحك صرعنا ها هنا خيار هذه الأمة وقراءها فقلت أي والله فابك وبكى طويلا ثم قال جذعت انفي وشفيت نفسي، فأظهر الندامة على قتله إياهم) العقود الفضية، الحارثي ص68 .
وهذه الأخبار في كتب الإباضية عن توبة علي تدل على احترامه والإخلاص له ومحاولتهم تنزيهه عن الإصرار على المعصية، فرحم الله أناس هذا شأنهم.
ولأن الله الحليم بعباده يظهر الحق ولو كره الظالمون فقد أظهر إشارات في كتب المعارضين لأهل الحق تبين حقيقة توبة علي وندمه وبكاءه، ولكنهم سرعان ما يحورون الكلام ويأولونه ويضيفون عليه وينقصون حتى يشتتوا فكر القارئ عن وعي الحقيقة الناصعة الجلية .
ومن ذلك ما جاء في مصنف ابن أبي شيبة ما نصه: (.. قال بعضهم غرنا ابن أبي طالب من إخواننا حتى قتلناهم قال فدمعت عين علي.. ) ( الرواية : 19760، ج15/ص317)
وهذه الرواية رواتها ثقات ، يمكن للمنصف أن يراجع تراجمهم في كتاب الأستاذ علي بن محمد الحجري " الإباضية ومنهجية البحث " ص180 .
فبعد كل هذه الخلفية التاريخية والثوابت الروائية للأحداث بعد معركة النهروان لا تستغرب من أحد علماء الإباضية المحققين وهو الشيخ محمد بن شامس البطاشي أن يذكر في كتابه "الكشف عن الإصابة في إختلاف الصحابة" ص 32 – 33 ما نصه (ويبدو أن عليا تاب من قتلهم فإنه صح ندمه والندم توبة ولا عبرة بما يرويه غيرنا)اهـ.
ونحن إذ نستعرض تاريخ تلك الفتنة المريرة ليتملكنا الألم والحزن والأسى مما أصاب الأمة من فرقة وتشتت ولم نكن نريد الخوض في زوابع الفتنة لولا ما يثيره بعض الحاقدين حول معركة النهروان، واتهامهم أهل النهروان ظلما وعدوانا بالبغي وما هم منه أبرياء، فلهذا رأينا من واجبنا تشمير الأيدي وإزاحة الظلام المخيم من هراء الحاقدين.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
|