عرض مشاركة واحدة
قديم 01-11-2016, 01:01 AM الـبـاحـث غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [6]
الـبـاحـث
عضو برونزي
الصورة الرمزية الـبـاحـث
 

الـبـاحـث is on a distinguished road
افتراضي

موقف الإباضية من علي وأهل‎ ‎النهروان‎
مقـــدمــة‎:
أخي المسلم الباحث عن الحقيقة، إن معركة صفين‎ ‎والتحكيم وما ‏تبعه من أحداث يعد من القضايا المهمة والشائكة في التاريخ ‏الإسلامي‎ ‎التي يجب أن تدرس من منظور شمولي متجرد عن ‏المذهبية والعصبية الجاهلية، فكل يدعي‎ ‎الحق والصواب، والله ‏هو العالم بالصواب وأهله، وما نقوم به هو بحث من‎ ‎خلال المعطيات التاريخية والدلائل العقلية المنطقية التي تربط ‏الأحداث بالزمان‎ ‎والمكان لتعطينا صورة أوضح لفهم الحقيقة عن ‏طريق النظر للأمور نظرة شمولية متجردة‎ ‎من وثنيات الأهواء ‏وما ترسب في العقول من رديء الآراء‎.
ولكن يجب علينا أن‎ ‎نعي جيداً أن النظرة الشمولية للتاريخ تتطلب ‏منا التجرد الكامل والحقيقي من الموروث‎ ‎المذهبي في التعامل مع ‏هذه الأحداث، إنها تتطلب منا أن نصغي إلى الضحية كما أصغينا‎ ‎إلى الجزار، تتطلب منا أن نزن الأمور بموازين العدل والأمانة ‏والعقل والمنطق، لا أن‎ ‎يجر الإنسان من شعيرات أنفه ويطعم ‏الغث والسمين ثم يقول نظرتي‎ ‎شمولية‎!!
‎فكثيرا ما أسمعك أخي وأنت تدعي البحث عن الحقيقة تلوك‎ ‎العبارات التي يرددها كتاب التاريخ وأصحاب مقالات الفرق والتي ‏تصف الإباضية‎ ‎بالخوارج وتصف أهل النهروان بإنهم مارقة ‏مرتدين عن الدين؟!!
أخي الباحث عن‎ ‎الحقيقة ستقول أن ‏مصدر حكمك على موقف أهل النهروان هو كتب التاريخ السنية ‏أو‎ ‎الشيعية!! فهلا أدركت لبرهة أن هؤلاء ما هم إلا خصوم أهل ‏النهروان؟‎!!
‎بينما‎ ‎لا أسألك أن تقبل روايات الإباضية والخوارج في المسألة، ‏فشعاري الذي ألتزمت به هو‎ ‎سماع جميع الأصوات والاحتكام ‏لبديهات العقل وسنن الكون والثوابت الراسخة من القرآن‎ ‎، فلهذا فإني آليت على نفسي أن ألتزم ‏بروايات أهل‎ ‎الحديث والتاريخ المعتمدين وعرضها على موازين ‏الحق والعدل والإنصاف، فاءت بما شئت‎ ‎من روايات أخي لترى إن كل الروايات التي تشين أهل النهروان هي بين واهي‎ ‎وموضوع ومختلق ومصنوع‎.

شبهة إجبار علي على التحكيم‎:
‎وأول قضية‎ ‎أحب أن أفندها هي الإدعاء بأن أهل النهروان أناس ‏سذج من أجلاف الأعراب لا يفقهون‎ ‎إلا لغة الحديد والنار؟!! ‏فالعقل والمنطق والحق والأمانة التي لو تجردنا من‎ ‎مورثاتنا ‏الفكرية لضفرنا بها تقول: أنه لا يمكن لهؤلاء ((القراء)) أن يكونوا ‏بهذه‎ ‎السذاجة التي تدعيها تلك الروايات الباطلة القائلة بأنهم هم ‏من اجبر علي على‎ ‎التحكيم!!، فقط انظر إلى أسمهم ‏‏((القـــــراء)) وستجيبك هذه التسمية على كل‎ ‎الافتراءات التي ‏حاول كتاب التاريخ وسمهم بها‎.
هل تعرف ماذا تعني كلمة‎)) ‎القـــراء )) ؟!! إليك الجواب من ‏فطاحل التاريخ والحديث‎ :
قال ابن خلدون في‎ ‎شرحه لمعنى لكلمة القراء‎:
‎"ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا ولا كان‎ ‎الدين يؤخذ ‏عن جميعهم. وإنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين ‏بناسخه‎ ‎ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته بما تلقوه من ‏النبي ص أو‎ ‎ممن سمعه منهم ومن عليتهم. ‏وكانوا يسموّن لذلك ((القـراء)) أي الذين يقرأون الكتاب لأن‎ ‎العرب ‏كانوا أمة أمية. فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم ‏لغرابته يومئذ‎. ‎وبقي الأمر كذلك صدر الملة.. وكمل الفقه وأصبح ‏صناعة وعلماً فبُدِّلوا باسم الفقهاء‎ ‎والعلماء من القراء.."(انظر ‏المقدمة، ص563-564‏).
‎وقال في موضع آخر‎: " ‎والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم ‏والتأليف والتدوين ولا دُفعوا إليه ولا‎ ‎دعتهم إليه حاجة. وجرى ‏الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين وكانوا يسمون المختصين‎ ‎بحمل ذلك ونقله إلى القراء أي الذين يقرأون الكتاب وليسوا ‏أميين لأن الأمية يومئذ‏‎ ‎صفة عامة في الصحابة بما كانوا عرباً ‏فقيل لحملة القرآن يؤمئذ قرّاءٌ إشارة إلى‎ ‎هذا. فهم قرّاءٌ لكتاب الله ... لأنهم لم يعرفوا‎ ‎الأحكام ‏الشرعية إلا منه" ( انظر‎ ‎المقدمة، ص 747)
‎وقول ابن خلدون هذا له شواهد كثيرة من كتب السنة نذكر‎ ‎منها ‏مثالاً واحداً من صحيح الإمام مسلم‎:
‎"‎حدثني محمد بن حاتم حدثنا عفان حدثنا‎ ‎حماد أخبرنا ثابت عن ‏أنس بن مالك قال جاء ناس إلى النبي ص ‏فقالوا‎: ‎أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن ... فبعث إليهم ‏سبعين رجلا من الأنصار يقال‎ ‎لهم القراء فيهم خالي حرام ‏يقرؤون القرآن ويتدارسون بالليل يتعلمون وكانوا بالنهار‎ ‎يجيئون ‏بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به ‏الطعام لأهل الصفة‎ ‎وللفقراء فبعثهم النبي ص فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا‎ ‎المكان فقالوا اللهم بلغ ‏عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا قال وأتى‎ ‎رجل ‏حراما، خال أنس، من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام ‏فزت ورب الكعبة فقال‎ ‎رسول الله ص لأصحابه ‏إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا اللهم بلغ‎ ‎عنا نبينا أنا قد لقيناك ‏فرضينا عنك ورضيت عنا " (المنهاج- شرح صحيح مسلم بن‏‎ ‎الحجاج- الرواية :4894، م7،ج13/ص49‏)
‎فإذا أدركت ذلك علمت أن من كانت هذه‎ ‎عقليته لا يمكن أن ‏يتصور أن يكون بتلك السذاجة التي تحاول كتب التاريخ وصمه ‏بها،‎ ‎أضف إلى ذلك الرواية الصحيحة السند التي ذكرها الإمام ‏أحمد والتي ذكرها الأستاذ علي‎ ‎بن محمد الحجري في كتابه ‏‏"الإباضية ومنهجية البحث" ص 180-184 جاء فيها‏‎ :
عن‎ ‎أبي وائل شقيق بن سلمة ما نصه: " قال: كنا بصفين فلما ‏استحر القتل بأهل الشام‎ ‎اعتصموا بتل فقال عمرو بن العاص ‏لمعاوية أرسل إلى علي بمصحف وادعه إلى كتاب الله‎ ‎فإنه لن ‏يأبى عليك فجاء به رجل فقال بيننا وبينكم كتاب الله (ألم تر إلى ‏الذين‎ ‎أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم ‏يتولى فريق منهم وهم‎ ‎معرضون) فقال علي: نعم أنا أولى بذلك ‏بيننا وبينكم كتاب الله قال فجاءته الخوارج‎ ‎ونحن ندعوهم يومئذ ‏((القراء)) وسيوفهم على عواتقهم فقالوا يا أمير المؤمنين ما ننتظر‏‎ ‎بهؤلاء القوم الذين على التل ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم ‏الله بيننا وبينهم‎ … "‎انظر الإمام أحمد (المسند الرواية : ‏‏15408) والنسائي ( السنن الكبرى 6/463 ) وابن‎ ‎أبي شيبة ( ‏‏15 /317 ) وأبي يعلى ( المسند 1 / 364‏ ).
‎حتى إن الدكتور حسين‎ ‎عبيد غانم غباش وهو شافعي من السنة ‏قال بعد أن ذكر رواية القلهاتي (العالم الإباضي‎) ‎والتي يتفق ‏معناها مع معنى رواية الإمام أحمد هذه ما نصه: (هذه الرواية ‏للوقائع‎ ‎تعيد وضع مجموعة من كتابات مؤرخين مسلمين غير ‏إباضيين، وعلى الأخص ما يدعيّ منها أن‎ ‎الخوارج شجعوا علياً ‏على قبول مبدأ التحكيم، موضع المساءلة ، بل ويدحضها.) " ‏انظر‎ ‎عمان الديمقراطية الإسلامية، ص 53‏‎ "

هكذا يكون التجرد من المذهبية وهكذا‎ ‎تكون النظرة الشمولية‎ .

قضية التـحكيـم‎ :
تقول روايات‎ ‎المؤرخين – خصوم أهل النهروان – ما مضمونه: ‏‏( إن أهل النهروان قالوا له: (لا حكم‎ ‎إلا لله وان عليا حكم الرجال ‏في حكم الله)، ورد ابن عباس أن الله في كتابه أمر‎ ‎بالتحكيم في ‏حالات، وهي قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد ‏وأنتم حرم‎ ‎ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ‏يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ‎ ‎الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو ‏عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف‎ ‎ومن عاد ‏فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} المائدة 95، وقوله تعالى ‏‏{وإن خفتم‎ ‎شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ‏إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما‎ ‎إن الله كان عليما خبيرا} ‏النساء35‏‎.
من هاتين الآيتين انطلق ابن عباس ليثبت‎ ‎لهم جواز التحكيم في ‏الإمامة، فإذا كان الله قد حكم في الرجال في شأن يسير، ليمنع‎ ‎الشقاق بين الزوجين، أفلا يجوز تحكيم الرجال منعا لشقاق في ‏صفوف الأمة، وحقنا‎ ‎للدماء؟!!)اهـ‎.
ونحن نقول: لماذا لم تورد مصادر التاريخ رد اهل النهروان أو القراء – أهل الحكمة والعلم كما وصفتهم رواية مسلم وأحمد ‏وابن خلدون – على حجة ابن‏‎ ‎عباس؟ هل فعلا أفحمهم بهذه ‏الحجة أم انهم كانوا مسلحين بإجابات قاصمة لهذه الحجج؟‎!! ‎تعالوا بنا لنرى ردهم الذي بدد هذه الحيرة التي وقع فيها البعض، ‏وذلك منقولا من كتب‎ ‎الإباضية ورثة أهل النهروان‎.
راجع :
"خلاصة الاحتجاج بين الخوارج وابن عباس" "موقع ‏المجرة"
فالخاتمة أن‎ ‎عليا حكم في دماء المسلمين من كان يعتقد جواز ‏استباحتها وانتهاك حرمتها ومن كان‎ ‎يحارب الله وإمام المسلمين ‏ومن كان يوالي حزب الشيطان والفئة الباغية على المسلمين،‎ ‎وهذا طبعا لا يجوز ولا يمكن أن يقبل به عاقل .
وانصرف ابن عباس عنهم وهو‎ ‎مقر لهم معترف لهم انهم قد ‏خصموه ونقضوا عليه ما جاء به مما أحتج به عليهم‎ .
وتعلق بعض الجهلة بما قاله النووي في شرح صحيح ‏مسلم حين قال معلقا‎ ‎على حكم سعد بن معاذ في ‏بني قريضة، ما نصه: (فيه جواز التحكيم في أمور‎ ‎المسلمين وفي ‏مهماتهم العظام، وقد اجمع العلماء عليه، ولم يخالف فيه إلا ‏الخوارج،‎ ‎فإنهم أنكروا على علي التحكيم)اهـ، "انظر النووي، ‏شرح صحيح مسلم، تقديم د. وهبة‎ ‎الزحيلي، طبع المكتبة ‏العصرية بيروت، ط1 سنة1422هـ، المجلد الرابع ج12‏‎ ‎ص439‏‎".
وهذه شبهة كنا نربأ بالنووي من أن يتعلق بمثلها لأنها ‏ضعيفة‎ ‎وواهية، فكيف يقيس النووي مسألة قتال الفئة ‏الباغية التي نزل فيها نص قرآني‎ ‎واضح جلي لا لبس فيه، وهو ‏قوله تعالى {وإن فئتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا‎ ‎بينهما فإن ‏بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر‎ ‎الله}الحجرات 9، كيف يقيس هذه المسألة المنصوص عليها في ‏الكتاب بمسألة لم ينزل فيها‎ ‎نص أو تشريع قبل حدوثها؟‎!!

فأمر الحكم في بني قريظة لم ينزل فيه قرآن أو حكم‎ ‎من الله قبل ‏تحكيم سعد بن معاذ، فالمسألة مفتوحة يستطيع أن يحكم بما شاء، ‏فهو مفوض‎ ‎من عند الرسول ص ، بينما مسألة ‏قطع يد السارق وجلد الزاني وقتال‎ ‎الفئة الباغية أمور نزل فيها ‏نص قرآني فلا يمكن أن يحكم فيه برأي الأشخاص‎ ‎أبداً‎.
‎ ومن هنا يتبين للجميع أن ما حاول كتاب المقالات والمؤرخين ‏إلزام أهل‎ ‎النهروان به من الحجة لا يصمد أمام الفحص، بل أن ‏حجج أهل النهروان كانت أقوى وأرسخ،‎ ‎وهي لك أخي المسلم ‏المنصف لكي ترى صدق قوتها وأصالتها‎.

الحــوار بين ابن‎ ‎عباس وعلي‎:
‎ تحاول المصادر التاريخية أن تتجنب ذكر الموقف الذي حصل بين ‏ابن‎ ‎عباس وعلي بعد التحكيم وبعضها يقول أن علي سار بنفسه ‏إلى أهل‎ ‎النهروان‎!!
‎ ونحن نقول أن ما ذكروه من توجه علي لأهل النهروان ما هو إلا‎ ‎لإدراكه أن ابن عباس لم يستطع أن يقيم عليهم الحجة، هذا من ‏جانب ومن جانب آخر ماذا‎ ‎عسى أن يقول علي لأهل النهروان ‏وهم قد فندوا جميع الحجج التي تذكر كتب التاريخ أن‎ ‎علي وابن ‏عباس احتجوا بها على أهل النهروان؟!! بل أن ابن عباس لم ‏يستطع إلا أن‎ ‎يعترف لهم بأنهم على الحق المبين والصراط ‏المستقيم‎.
‎ ولكن هل يعقل أن لا يخبر‎ ‎ابن عباس تلك الحجج لعلي، وأن لا ‏ينصحه قبل أن يقتل المؤمنين الأبرياء ظلما‎ ‎وعدوانا؟‎!!
‎ الجواب: ذلك غير معقول طبعا. لكن ابن عباس معروف بالحكمة ‏فلهذا‎ ‎من البديهي جدا أن يتوجه بالنصح لعلي على انفراد خاصة ‏إذا ما عرفنا الأشعث –عميل‎ ‎معاوية في جيش علي- وعيونه‏‎.
‎ ولكن لا نستطيع أن نجزم بأنه أخبره عن جميع ردود‎ ‎أهل ‏النهروان وحججهم الدامغة فربما انزعج علي من اقتناع ابن ‏عباس من موقف أهل‎ ‎النهروان ولم يشأ أن يستمع إلى كل آرائهم ‏فلهذا دب بينه وبين ابن عباس خلاف كبير‎ ‎حسبما تورده المصادر ‏الإباضية التي أتحفتنا بقضية الحوار السابق بين ابن عباس واهل‎ ‎النهروان‎.
‎ قال علي لابن عباس: ألا تعينيني على قتالهم؟‎
‎ قال ابن عباس‎: ‎لا والله لا أقاتل قوما خصومني في الدنيا وانهم ‏يوم القيامة لي أخصم وعلي أقوى إن‎ ‎لم أكن معهم لم أكن عليهم‏‎.
‎ فلهذا اعتزل ابن عباس جيش علي وهذا ما تؤكده معظم‎ ‎المصادر ‏التاريخية الموثوقة كتاريخ ابن جرير الطبري، حيث أنها تجمع ‏على أن ابن عباس‎ ‎لم يكن في أرض المعركة يومئذ، هذا مع العلم ‏بأن تلك الكتب تقول بأن قتال الخوارج من‎ ‎أعظم القربات!!! فلو ‏كانت هذه الدعوى صحيحة لما ترك ابن عباس الخير والفضل، ‏وهو كان‎ ‎مع علي في جميع حروبه ومعاركه فلماذا ابتعد عنه في ‏هذه المعركة بالذات؟ علما بأنه‎ ‎كان طرفا في النقاش فيها‎!!.
‎ كل هذه الدلائل تؤكد صدق الخبر بأن ابن عباس‎ ‎فارق جيش ‏علي، ولكن الخلاف لم ينتهي عند هذا الحد حيث نشب النزاع بين ‏علي وابن عباس‎ ‎واتهم علي ابن عباس بسرقة أموال بيت المال ‏في البصرة!! وهذا كله في كتب التاريخ‎ ‎المعروفة ككتاب التاريخ ‏لابن جرير الطبري. فرد عليه ابن عباس: قد عرفت وجه اخذي‎ ‎المال أنه كان بقية دون حقي من بعد ما أعطيت كل ذي حق حقه، ‏قد علمت أخذي للمال من‎ ‎قبل قولي في أهل النهروان ولو كان ‏أخذي المال باطلا كان أهون علي من أن أشرك في دم‎ ‎امرأ ‏مؤمن‎.

شبهــة قتل عبدالله بن خباب‎:
ومن الشبهة المثارة حول أهل‎ ‎النهروان هو الدعوى المغرضة ‏والتي تدعي بأنهم قتلوا الصحابي الجليل عبدالله بن خباب‎؟!أما ما أثاره الحاقدون حول رواية قتل أهل النهروان ‏للصحابي عبدالله‎ ‎بن خباب فلم تصح منها رواية واحدة فجميعها ‏قد جاءت عن طريق أبو مخنف (ليس بثقة‎ ‎متروك الحديث) "انظر ‏الجرح والتعديل ت1030 ج7ص182"، وجاء في لسان الميزان ‏ت8/6776‏‎ ‎ج4ص584 أنه (أخباري تالف لا يوثق به)اهـ، ‏وجاءت رواية أخرى في مصنف أبي شيبة لكنها‎ ‎مرسلة من ‏طريق أبي مجلز‎.
‎ ولو سلمنا بهذه الحادثة المزعومة فقد ثبت لدى كتب‎ ‎التاريخ أن ‏حادثة مقتل الصحابي عبدالله بن خباب المزعومة قد تمت عن ‏طريق رجل لا‎ ‎ينتمي لأهل النهروان بصلة وهو مسعر بن فدكي ‏‏(تاريخ الطبريج3ص116 ) ومسعر هذا ثبت‎ ‎لجوءه إلى راية ‏علي (راجع المحلى لابن حزم ج11 ص301و302 والأنساب ‏للبلاذري ج3ص146‏‎)‎،‎ ‎ولقد اثبت كتاب المقالات أنفسهم عدم ‏رضا أهل النهروان لمحادثة مقتل عبدالله بن خباب‎ ‎حيث يذكر ‏الأشعري في "المقالات" ص43 بعدما أورد ما صنعه مسعر: ‏‏"وبعض الخوارج‎ ‎يقولون: إن عبدالله بن وهب كان كارهاً لذلك ‏كله وكذلك أصحابه"اهـ‎.
‎ ومما يؤكد‎ ‎عدم وجود علاقة بين أهل النهروان وبين الناس الذين ‏عرفوا باستعراض المسلمين ما جاء‎ ‎برواية الثقات عند أبي شيبة ‏برقم 19760 ج15ص317 وأبي يعلى برقم 473 ج1ص364 ‏ما نصه‎ (‎فساروا حتى بلغوا النهروان فافترقت منهم فرقة فجعلوا ‏يهدون الناس قتلاً قال‎ ‎أصحابهم ويلكم ما على هذا فارقنا عليا)اهـ‎ ‎‎.
ثانـيـاً: ثمة أمر آخر –غير‎ ‎ما تقدم- يؤيد عدم انتهاج أهل ‏النهروان أمر التقتيل والاستعراض، وأن حوادث القتل‎ ‎المذكورة ‏لو ثبتت لا تعدو كونها خروجاً فردياً على هذا الإطار‎.
‎ فقد كان أبو‎ ‎بلال مرداس بن أدية التميمي ممن شهد صفين مع ‏علي وأنكر التحكيم ثمّ اعتزل إلى‎ ‎حروراء ، وشهد النهروان مع ‏منكري التحكيم، وكان من الأربعمائة الذين ارتثوا في‎ ‎المعركة ‏فنجا، وقد بقي إلى عهد زياد بن أبيه والي معاوية على الكوفة ‏والبصرة والذي‎ ‎كان جائرا الأمر الذي أدى إلى تطرف بعض ‏المعارضين، فكان من ذلك حادثة قريب بن مرة‎ ‎الأزدي الإيادي ‏وزحاف بن زحر الطائي وكانا ابني خالة، فقتلا رجالاً، فقال أبو ‏بلال‎ ‎كما في ( البلاذري (الأنساب) جـ5 ص183/ اليعقوبي ‏‏(التاريخ) جـ2 ص232/ المبرد‎ (‎الكامل) جـ3 ص1169: "قريب ‏لا قربه الله من كل خير وزحاف لا عفا الله عنه، لقد‏‎ ‎ركباها ‏عشواء مظلمة" يقول لاستعراضهما الناس. وفي رواية عند ‏الطبري 3/209 : "قريب‎ ‎لا قربه الله، وايم الله لأن أقع من ‏السماء أحب إلي من أن أصنع ما صنع" يعني‎ ‎الاستعراض‎.
وقد خرج مرداس في زمن عبيدالله بن زياد - الذي سار على ‏منوال‎ ‎أبيه وزاد عليه - في أربعين رجلاً إلى الأهواز قائلاً: "إنه ‏والله ما يسعنا المقام‎ ‎بين هؤلاء الظالمين تجري علينا أحكامهم ‏مجانبين للعدل مفارقين للفضل، والله إن‎ ‎الصبر على هذا لعظيم ‏وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكننا ننتبذ عنهم ولا‎ ‎نجرد سيفاً ولا نقاتل إلا من قاتلنا" ومن قوله: "إنا لم نخرج ‏لنفسد في الأرض ولا‎ ‎لنروّع، أحداً ولكن هرباً من الظلم، ولسنا ‏نقاتل إلا من يقاتلنا ولا نأخذ من الفيء‎ ‎إلا أعطياتنا"( )، وتؤكد ‏مصادر أخرى أنه لم يقتل ولم يعرض للسبيل (ابن خياط‎ (‎التاريخ) ‏ص159 )، وأنه كان "لا يدين بالاستعراض" البلاذري (الأنساب) ‏جـ5‏‎ ‎ص189‏‎.
ومنهج أبي بلال واضح في أنه لا يستبيح قتال أحد إلا دفاعاً عن ‏النفس،‎ ‎وهذا يعكس لنا طبيعة موقف أهل النهروان بأنهم لا ‏يستبيحون دم أحد من المسلمين، فإن‎ ‎أبا بلال واحد منهم، ولا ‏شك أنه إذا كان يقف موقفاً معادياً من قريب وزحاف لما‎ ‎ارتكباه ‏فإن رضاه عن عبدالله بن وهب – وهو رمز لفكر أهل النهروان ‏‏– يجلي لنا الصورة‏‎ ‎الحقيقية لمنهجهم في التعامل مع مخالفيهم‎.
يقول أبو بلال‎:
أبعد ابن وهب‎ ‎ذي النـزاهة والتقى‎ ***أحب بقاءً أو أرجـِّي سلامــة‎
فيـا ربِّ سلِّـم نيَّتي‎ ‎وبصـيرتــي‎ ***ومن خاض في تلك الحروب المهالكا‎
وقد قتلوا زيد بن حصـن‎ ‎ومالكا‎ ***وهب لي التقى حتى ألاقي أولئكـا‎


موقف علي بعد معركة‎ ‎النهروان‎ :
لا شك أن من سبر أغوار التاريخ ودرس أحداثه يستطيع أن يدرك ‏شخصية‎ علي بن أبي طالب أيام الدعوة ‏والجهاد في سبيل الله‎ ‎والسير خطوة خطوة في مرحلة بناء تاريخ ‏الإسلام في مراحله الأولى، كما‎ ‎انه كان له الدور ‏الكبير في رتق الخلافات التي ظهرت بعد وفاة النبي ص حيث كان خير عون للخلفاء الراشدين‎.
‎ فالمستقرئ للتاريخ يدرك بكل سهولة‎ ‎أن شخصية كهذه لا يمكن ‏أن تصر على الخطأ صغيرا كان أم كبيرا، ولإن الإنسان غير‎ ‎معصوم من الخطأ فإن حدوث الخطأ من أي امرأ كان أمر وارد ‏فقد ثبت الخطأ في حق ‎آدم حين أكل من الشجرة التي نهاه ‏الله تعالى عن أكلها، فلهذا فتح الله سبحانه‎ ‎وتعالى أبواب رحمته ‏ومغفرته وكرمه في استقبال عودة الإنسان المخطئ، فلهذا ‏فليس من المستغرب أن نجد‎ ‎إشارات كثيرة تدل على صدور تلك ‏التوبة من علي لما اقترفته‎ ‎يداه في حق ‏الأبرياء من أهل النهروان‎.
‎ والمشكلة تقع في هل أن علي قتل‎ ‎أهل النهروان متأولاً ‏بحيث كان يرى أن دماءهم حلال لإنهم على خطأ وهو على ‏صواب؟ أم‎ ‎أنه قاتلهم وهو مدرك انهم على الحق ولكنه أصر على ‏الخطأ فيكون قد قتلهم‎ ‎عمداً؟‎!!
فنحن قدعرفنا تاريخه وتضحياته في ‏سبيل‎ ‎الدعوة ونزوله عند الحق حتى لو كان لغيره كما ثبت ‏في رواية سرقة اليهودي‎ ‎لدرعه حيث لم يعترض ‏على حكم القاضي لليهودي بالدرع‎.
فهو بلا‎ ‎شك كان متأولا لقتلهم، والمتأول تكفيه التوبة، ولكن ‏اشترط البعض أنه من أخطأ في‎ ‎الجهر يجب عليه أن يتوب في ‏الجهر، ومن أخطأ في السر جاز له التوبة في السر، وقال‎ ‎البعض ‏أن علي لم يصرح بتوبته من دماء أهل النهروان‎!!
‎ وأنا أقول أن في‎ ‎هذا الكلام مغالطه للتاريخ فنحن نعلم أن هناك ‏روايات كثيرة تحمل روايات تدل على ندم‎ علي على قتله ‏لأهل النهروان، بل وثبت عند الإباضية أنه كان كثير البكاء على‎ ‎ما فعل في النهروان، وهل البكاء والندم إلا عين التوبة؟!! أما ما ‏قيل بأنه لم يصرح‎ ‎بتلك التوبة، فأقول: وهل كان نقلة تاريخ إلا ‏اتباع مذاهب وأهواء معادية لأهل‎ ‎النهروان فهل تتصور من ‏هؤلاء الذين ملئت جيوبهم أموال الخزائن الأموية والعباسية أن‎ ‎ينصفوا أهل النهروان وأن يقروا بالحق في هذه القضية؟‎!!
‎ ألم يزورا التاريخ‎ ‎ويبتدعوا ويختلقوا روايات مكذوبة موضوعة ‏لخدمة أهوائهم وأغراضهم لتنكل بأهل‎ ‎النهروان ومن سار على ‏دربهم من تحري للحق ومعاداة لأهل البغي؟!! نعم فعلوا وشوهوا‎ ‎التاريخ ولطخوه بما أنتجته مطابخ الحروب العلوية الأموية من ‏دعاية إعلامية هائلة‎ ‎لنصرة نفسها على حساب الضحية التي كان ‏صوتها دائما مخنوقاً‎.
‎ فلهذا نجد في‎ ‎كتب السير الإباضية والتي عرف أصحابها بالأمانة ‏والإخلاص وعدم الكذب حيث - يذكر‏‎ ‎المبرد في الكامل (والخوارج ‏في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب) راجع الحارثي ، العقود‎ ‎ص73 - نجد في أحد أقدم كتبهم وهو كتاب النهروان الذي ذكره ‏البرادي والشماخي ومؤلفه‎ ‎يزيد الفزاري من علماء القرن الثاني ‏الهجري وأقتبس منه العلامة البسياني في القرن‎ ‎الرابع الهجري ‏كتابه السير، نجد في هذا الكتاب روايات تؤكد على توبة علي بن‎ ‎أبي طالب وبكائه الشديد وندمه على فعلته في النهروان ‏حيث جاء ما يلي‎:
وعن‎ ‎ابن عباس قال حدثني قمبر مولى علي قال تحولت أنا وعلي ‏إلى النهر بعد القتال فانكب‎ ‎طويلا يبكي فقال ما يبكيك، قال: ويحك ‏صرعنا ها هنا خيار هذه الأمة وقراءها فقلت أي‎ ‎والله فابك وبكى ‏طويلا ثم قال جذعت انفي وشفيت نفسي، فأظهر الندامة على قتله ‏إياهم‎) ‎العقود الفضية، الحارثي ص68‏‎ .
وهذه الأخبار في كتب الإباضية عن توبة علي تدل على ‏احترامه والإخلاص له ومحاولتهم تنزيهه عن الإصرار على ‏المعصية، فرحم‎ ‎الله أناس هذا شأنهم‎.
ولأن الله الحليم بعباده يظهر الحق ولو كره الظالمون‎ ‎فقد أظهر ‏إشارات في كتب المعارضين لأهل الحق تبين حقيقة توبة علي ‏وندمه وبكاءه،‎ ‎ولكنهم سرعان ما يحورون الكلام ويأولونه ‏ويضيفون عليه وينقصون حتى يشتتوا فكر‎ ‎القارئ عن وعي ‏الحقيقة الناصعة الجلية‎ .
‎ ومن ذلك ما جاء في مصنف ابن أبي‎ ‎شيبة ما نصه: (.. قال ‏بعضهم غرنا ابن أبي طالب من إخواننا حتى قتلناهم قال فدمعت‎ ‎عين علي.. ) ( الرواية : 19760، ج15/ص317‏)
‎ وهذه الرواية رواتها ثقات ، يمكن‎ ‎للمنصف أن يراجع تراجمهم ‏في كتاب الأستاذ علي بن محمد الحجري " الإباضية ومنهجية‎ ‎البحث " ص180‏‎ .
‎ فبعد كل هذه الخلفية التاريخية والثوابت الروائية للأحداث‎ ‎بعد ‏معركة النهروان لا تستغرب من أحد علماء الإباضية المحققين ‏وهو الشيخ محمد بن‎ ‎شامس البطاشي أن يذكر في ‏كتابه "الكشف عن الإصابة في إختلاف الصحابة" ص‎ ‎‏32‏‎ – ‎‏33‏‎ ‎ما نصه (ويبدو أن عليا تاب من قتلهم فإنه صح ندمه والندم توبة ‏ولا عبرة بما‎ ‎يرويه غيرنا)اهـ‎.
ونحن إذ نستعرض تاريخ تلك الفتنة المريرة ليتملكنا الألم‎ ‎والحزن ‏والأسى مما أصاب الأمة من فرقة وتشتت ولم نكن نريد الخوض ‏في زوابع الفتنة‎ ‎لولا ما يثيره بعض الحاقدين حول معركة ‏النهروان، واتهامهم أهل النهروان ظلما‎ ‎وعدوانا بالبغي وما هم ‏منه أبرياء، فلهذا رأينا من واجبنا تشمير الأيدي وإزاحة‎ ‎الظلام ‏المخيم من هراء الحاقدين‎.
‎ هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



  رد مع اقتباس