تحية طيبة ...
هذه الجزئية من الأهمية بمكان ....
*حجَّة "النظام" في الكون
ولكن، هل انتهت وتقوَّضت كل حججهم؟ كلاَّ، لم تنتهِ ولم تتقوَّض بعد، فهناك "أحجية"، أو "حجَّة"، ما يسمُّونه "النظام الدقيق والمُحْكَم" للكون.
قبل اكتشاف قانون "القصور الذاتي"، كانوا ينظرون، في دهشة وحيرة، إلى حركة الكواكب في السماء، فحركتها كانت "مستمرة"، و"منتظَمة"، أي أنَّ حركة الكوكب لا تتوقَّف، لا تزيد، ولا تنقص، ولا تتغيَّر في الاتِّجاه.
تملَّكتهم الدهشة والحيرة؛ لأنَّهم كانوا يرون أنَّ "الكرة" المتحرِّكة على "سطح مستوٍ" لا تظلُّ تتحرَّك إلى الأبد، فحركتها تقلُّ شيئاً فشيئاً حتى تتوقَّف تماماً. فإذا أردتَ أنْ تستمر "الكرة" في حركتها فعليكَ أنْ تدفعها بين الفينة والفينة.
قياساً على ذلك، قالوا بضرورة وجود "قوَّة ميتافيزيقية" تعمل، في استمرار، على بقاء الكواكب في هذا النمط مِنَ الحركة، أي في حركة دائمة لا تتوقَّف، ومنتظَمة، وغير متغيِّرة الاتِّجاه.
هذه "الأحجية" ما عادت بـ "الأحجية" إذ اكتشفنا قانون "القصور الذاتي"، فالكوكب، الذي لا يتعرَّض لتأثير قوَّة، كـ "قوَّة الاحتكاك" بين "الكرة" و"السطح المستوي"، يظل يتحرَّك، إلى الأبد، بالسرعة ذاتها، وفي الاتِّجاه ذاته، أي أنَّ "قصوره الذاتي"، وليس تلك "القوَّة الميتافيزيقية"، هو الذي يبقيه في هذا النمط مِنَ الحركة.
ماذا بقي مِنْ هذه "الحجة"؟ بقي آخر بقاياها، وهو "الدفعة الأولى"، فهُم قد يوافقون على هذا التأثير لقانون "القصور الذاتي"، ولكنهم سيستمسكون بـ "الدفعة الأولى"، فثمَّة "قوة ميتافيزيقية" قامت بـ "دفع" الكوكب "الساكن"، ثمَّ تولَّى قانون "القصور الذاتي" إنجاز "بقية المهمة"!
وأحسب أنَّ "السوبر نوفا"، مثلاً، يدحض آخر بقايا تلك "الحجة"، فـ "سحابة الهيدروجين الضخمة" يستحيل وجودها إذا لم تكن "الجاذبية" Gravity جزءاً لا يتجزأ منه.
لنتَّفق، أوَّلاً، على هذه "المقدِّمة" التي لا غنى عنها، فإذا هُم أثبتوا لنا أنَّ هذه "السحابة" ممكنة الوجود مِنْ دون "الجاذبية" فإننا، عندئذٍ، نسلِّم بأنَّ "القانون الطبيعي"، أو "النظام الطبيعي"، مثل قانون "الجاذبية"، قد أُدْخِلَ إدخالاً في "العالم المادي".
وبعد الاتِّفاق على أنَّ "سحابة الهيدروجين" و"قانون الجاذبية" هما "شيءٌ واحد"، نقول إنَّ الجاذبية تقوم بتركيز "المادة" في "السحابة"، وإنَّ هذا التركيز، أو التقليص المستمر والمتزايد لحجم "المادة" في "السحابة"، ثمَّ في "النجم العملاق" المنبثق منها، هو الذي يُهيئ أسباب "الانفجار"، الذي بـ "قوَّته"، وليس بـ "قوَّة الدفعة الأولى الخفية"، تُقْذَف أشلاء وشظايا الطبقة الخارجية لـ "النجم العملاق" بعيداً في الفضاء. كل شظية مِنْ تلك، أكانت كبيرة أم صغيرة، تستمر، بفضل قانون "القصور الذاتي"، في الحركة، بالسرعة ذاتها، وفي الاتِّجاه ذاته، إلا إذا تأثَّرت بقوَّة خارجية.
"المادة"، أو "الطبيعة"، الخالية، أو المُفْرَغة، مِنَ "القانون"، أو "النظام"، لم تُوجَد قط، ولن تُوجَد أبداً. إنَّ "سلك النحاس" يتمدَّد بالحرارة. وكذلك سائر "المعادن". وهذه "الظاهرة الفيزيائية" كشفت وأكَّدت وجود وعمل "قانون فيزيائي أو طبيعي موضوعي" هو قانون "التمدُّد الحراري للمعادن". فهل كان ممكناً تَصَوُّر وجود "سلك مِنَ النحاس" قَبْلَ أنْ تُدْخِل "قوَّة خارجية ميتافيزيقية" هذا "القانون"، أو "النظام"، فيه، وفي "المعادن" على وجه العموم؟!
قديمأً، كانوا ينسبون الظاهرة الطبيعية كلها إلى "الروح"، أي إلى "قوَّة ميتافيزيقية خالِقة خارقة"، فحيث يعجز "العِلْم" عن التعليل والتفسير تتولَّى "الخرافة" المهمة، فتحل "العلَّة المثالية" محل "العلَّة المادية". الآن، لا يجرؤن على ذلك، فـ "العِلْم" اكتشف "القانون الطبيعي الموضوعي" للظاهرة الطبيعية التي حيَّرتهم، وبَسَطَ "أسبابها"، التي يكفي أنْ تجتمع حتى تتكرَّر الظاهرة ذاتها.
على أنَّ نجاح "العِلْم" في التعليل والتفسير، وفي الإمساك بمزيدٍ مِنَ "القوانين الطبيعية الموضوعية"، لم يَسْتَنْفِدَ، بَعْد، قدرتهم على تطوير "العلَّة المثالية"، فهُمْ، في موقفهم من "القانون الفيزيائي الموضوعي"، يوافقون، على سبيل المثال، على أنَّ "الحرارة" تُنْتِج "التمدُّد" في "المعادن"، ولكنَّهم يبتنون "جسراً مثالياً" بين ذاك "السبب المادي"، أي "الحرارة"، وهذه "النتيجة المادية"، أي "التمدُّد" في "المعدن"، فـ "الحرارة"، في "المعادن"، ما كان لها أنْ تُنْتِج "التمدُّد" إلا بفضل تلك "الإرادة الميتافيزيقية العليا"، فـ "الروح" يجب أنْ تظل مقيمة في عمق "القانون الطبيعي"!
وهكذا يعيدون كتابة "القانون الطبيعي" في طريقة ميتافيزيقية، فيقولون، مثلاً، إنَّ "الإرادة الميتافيزيقية العليا" هي التي سمحت لـ "الحرارة"، في "المعادن"، بأنْ تُنْتِج "تمدُّداً!
وعليه، يتحدُّونكَ على أنْ تُجيب عن سؤالهم الساذج الآتي: لماذا هذه "الحرارة" تُنْتِج، في "المعادن"، "تمدُّداً"، ولا تُنْتِج، مثلاً، "صوصاً"؟!
أمَّا لو أنتجت "صوصاً"، لجاء سؤالهم الساذج الفاسد على النحو الآتي: لماذا أنتجت "صوصاً" ولم تُنْتِج، مثلاً، "تمدُّداً"؟!
لو كان لهم "مصلحة" في "التصالُح" مع "الموضوعية" في التفكير، والنظر إلى الأمور، لأدركوا أنَّ "التمدُّد الحراري" هو مِنَ "الخواص الجوهرية" للمعادن، وليس ممكناً، بالتالي، أنْ يُوجَد أي شيء إلا ومعه، وفيه، "خواصُّه الجوهرية"، فالمعدن الذي لا يتمدَّد بالحرارة لا وجود له.
يمكننا أنْ نشرح "كيف" تؤدِّي "الحرارة" إلى "تمدُّد المعدن"؛ ولكن ليس مِنَ العِلْم في شيء أنْ نسأل عن السبب الذي يجعل "الحرارة" تُنْتِج "تمدُّداً" في المعادن، فليس مِنْ جواب عن هذا السؤال الساذج، وأمثاله، سوى الآتي: "لأنَّ هذا هو طبيعة الشيء"، فالمعدن طبيعته أنْ يتمدَّد بالحرارة.
في "القانون الطبيعي"، نرى أنَّ "اجتماع الأسباب ذاتها" يؤدِّي، حتماً ودائماً، إلى "النتيجة ذاتها"، على أنْ نفهم "اجتماع الأسباب ذاتها" على أنَّه اجتماع للأسباب ذاتها، في جانبيها "النوعي" و"الكمِّي". قد نرى اجتماعاً للأسباب، في مكان ما، أو في زمان ما، ولكننا لا نرى "النتيجة ذاتها"، فيحملنا ذلك على القول بانتفاء "القانون الطبيعي"، و"الحتمية الطبيعية". هنا ينبغي لنا أنْ نمعن النظر، فثمَّة "نقص في المقدِّمات".. نقص "نوعي"، أو "كمِّي"، أي أنَّ "الأسباب ذاتها" لم تجتمع وتتهيَّأ بالكامل، في جانبيها "النوعي" و"الكمِّي". إنَّ في "التكرار" يكمن "القانون"، فإذا ما "تكرَّرت" الظاهرة، أو النتيجة، الطبيعية ذاتها فهذا إنَّما يدلُّ على وجود وعمل "القانون الطبيعي".
كل "النظام" في "الكون" إنَّما يُفسَّر، أي يمكن ويجب أنْ يُفسَّر، بـ "قانون موضوعي"، هو جزء لا يتجزأ مِنَ "المادة". فهل مِنْ "نظام" في "الكون" يمكن أنْ يشذَّ عن هذه القاعدة حتى نتساءل في استغراب ودهشة قائلين: "مِنْ أين جاء هذا النظام إلى الكون؟!".
"الكون" مُنَظَّم تنظيماً مُحكماً بـ "قوانينه الذاتية الموضوعية".. كان كذلك مِنَ "الأزل، وسيبقى كذلك إلى الأبد. "الفوضى" لم تَسُدْهُ حتى نخترع "قوَّة خارجية ميتافيزيقية"، نَنْسِب إليها فضل "تنظيمه"!
وما نراه "نظاماً" في هذا الجانب أو ذاك مِنْ] جوانب الكون إنَّما هو "ظاهرة مؤقَّتة" مهما طال عُمْرها، فـ "القمر"، مثلاً، بينه وبين "الأرض" مسافة معيَّنة، ويدور حولها بسرعة معيَّنة.. هو في هذه الحال، تقريباً، منذ ملايين السنين. هذا يدعونا إلى السؤال عن "سرِّ" هذا النظام الدقيق المُحْكَم؛ ثمَّ "افتراض" وجود "قوَّة خارجية ميتافيزيقية"، يعود إليها الفضل في "خَلْقِ" هذا "النظام" واستمراره. ولكن هذا "المشهد" لن يستمر إلى الأبد، فالقمر، بعد ملايين السنين، لن يبقى في مداره حول "الكوكب الأرضي"، أي أنَّ هذا "النظام" الذي أدهشنا وحيَّرنا لن يدوم طويلاً. سيصبح "قمرنا"، بعد ملايين السنين، في "نظام جديد"، فانتهاء "النظام القديم" لا يعني أبداً حلول "الفوضى"، وإنَّما حلول "نظام جديد".
ونحن في حديثنا عن "مظاهر النظام والتنظيم" في الكون لا نضرب صفحاً عن حقيقة أنَّ في الكون مظاهر مِنَ "الفوضى" و"المصادفة"، ولكننا نفهم هذه المظاهر فهماً "نسبياً"، فكل ظاهرة نَنْظُر إليها على أنَّها نُتاج "فوضى"، أو "مصادفة" إنَّما هي، في الوقت نفسه، نُتاج "قوَّة الضرورة الطبيعية"، فلو أنَّ "أسبابها الموضوعية" لم تجتمع وتتهيأ لما قامت لها قائمة.
هذه "الشجرة" كان لا بدَّ لها مِنْ أنْ تطرح ثمارها؛ لأنَّ "الأسباب الموضوعية" لطرحها ثمارها قد اجتمعت وتهيَّأت. ولكن، هبَّت، على حين غرة، ريح عاتية، فاقتلعت الشجرة مِنْ جذورها.
هذا "الحادث المباغت" نفسِّره بـ "الفوضى" و"المصادفة"، وليس في هذا التفسير مِنْ "خطأ" ما دام يَعْدِل "نصف الحقيقة" فحسب، ففي نصفها الآخر، يمكننا وينبغي لنا، أنْ نرى "الضرورة"، و"القانون"، و"النظام"، في هبوب تلك الريح، التي لو لم تجتمع وتتهيأ "أسباب" هبوبها لما هبَّت.
ليس مِنْ شيء في الكون حَدَثَ إلا وكان حدوثه ضرورة وحتمية، فأين هو هذا الشيء الذي حَدَثَ وكان حدوثه مخالفاً لـ "قانون طبيعي"، أو لم تجتمع وتتهيأ بَعْد "أسباب" حدوثه؟!
حُدوث الشيء إنَّما هو في حدِّ ذاته خير دليل على وجود وعمل "القانون الطبيعي الموضوعي"، وعلى أنَّ "أسباب" حدوثه قد "اكتملت"، فـ "الواقع" إنَّما ينطوي على "الضرورة الطبيعية"!
