تحية عاطرة....
العلم الحديث يقدمنا كحادث عرضي و الكون هو سبب وجودنا و لسنا سبب وجوده و الإنسان الحديث في نهاية المطاف لا يمثل شيئا و ليس له دور في عملية الخلق.
إن العلم مزعج على المستوى الروحي و يحرق جميع الأسس و التقاليد القديمة , إنه بالفعل لا يستطيع التعايش مع أي شيء . إن العلم يكشف مشهد الطبيعة الصامت الغريب , ولا يمكن للبشر التعايش مع هذا الكشف .
و لكن ما هو البديل للطرح العلمي حول موقعنا في الكون؟
هل هو التظاهر بعناد باليقينيّة ؟ هل هو تبنّي منظومة اعتقاد مريحة بغض النظر عن مدى توافقها مع الواقع؟ إذا لم نعرف ما هو الحقيقي , كيف لنا أن نتعامل مع الواقع؟
العلم يبدو شديد العقلانيّة و محدّدا بالقياس و مجرّدا تماما و نتائجه مستمدّه من استجواب الطبيعة و ليست مصمّمة سابقا لتلبية رغباتنا .
تغلب العلم على الدين في مجال الترويع, في بعض الجوانب. هل نظر أي دين من الأديان الأساسية إلى العلم و توصل إلى نتيجة مفادها هذا أفضل مما كنّا نعتقد أو إن الكون أكبر بكثير مما قال أنبيائنا و أكثر براعة و رونقا و لا بد أن الإله أعظم مما تخيّلنا. لو عشت قبل ألفين أو ثلاث آلاف سنة , لم تكن ستخجل من الاعتقاد بأن الكون مصنوع من أجلنا فقد كانت فرضية تنساق مع كل ما عرفنا و لكن منذ ذلك الحين ونحن نكتشف أمور جديدة فالتمسك بهذا الرأي اليوم يعد تجاهلا للدليل و هروبا من معرفة الذات و الواقع كما هو.
" إن سخف الحياة , الذي لا معنى له , هو المعرفة الوحيدة المتاحة للإنسان التي لا تقبل الجدل " هكذا كتب ليوتولستوي . إن عجرنا مثقل بالأعباء بسبب عمليات افتضاح الزيف المتعاقب لأفكارنا فنحن وافدون جدد و نعيش في الأرياف الكونية و نشأنا من الميكروبات و الوحل , القردة أعمامنا و قد توجد كائنات أذكى منّا في أماكن أخرى و فوق هذا كله نحن نحيل كوكبنا إلى فوضى و نصبح مصدر خطر على أنفسنا.
في ظل هذا الواقع القاسي , نحن نغلق عيوننا و نتظاهر أننا بأمان . إننا نفقد إجماع الرأي حول موقعنا في الكون و لا يوجد رؤية بعيدة المدى متّفق عليها حول هدف نوعنا فنحن نصبح غير مستعدين لمعرفة الاستنزالات الكبرى للمكانة. حتى إذا كان الدليل ضئيلا فنحن نصبح أكثر رغبة في الاستماع إلى أننا شيء خاص.
إذا اتّسم منظورنا الجديد بالمعرفة العميقة و تغلّبنا على خوفنا من ضآلتنا , فسنجد أنفسنا على مشارف كون فسيح . نحن نحدّق في الفضاء عبر بلايين السنين الضوئية لنرى هذا الكون بعد فترة وجيزة من الانفجار الكبير و نفحص بدقة البنية الدقيقة للمادة و نقرأ اللغة الوراثية المدوّن بها مختلف مهارات و ميول كل كائن على هذا الكوكب و نكشف الغطاء عن خفايا أصلنا و ندرك طبيعتنا و إمكاناتنا و نبتكر الأدوية و التحصينات و اللقاحات التي تنقذ حيوات الملايين . نتصل ببعضنا بسرعة الضوء و ندور حول الأرض في ساعة و نصف و قد أرسلنا سفن إلى ما يزيد عن سبعين عالما و أربع سفن فضائية إلى النجوم و لنا الحق في التمتّع بإنجازاتنا.
برزت الأديان عند أسلافنا كمحاولات للاسترضاء و السيطرة , إن لم يكن بدرجة كبيرة لفهم الجانب المضطرب من الطبيعة , حيث البرق و العواصف و الزلازل و الطاعون و الجفاف و الشتاء الطويل. و قد أتاحت لنا الثورة العلمية إلقاء نظرة خاطفة على الكون و إذا فهمنا الطبيعة فأن هناك آفاق للسيطرة عليها و بهذا المعنى فإن العلم ولّد الأمل.
لقد خيضت نقاشات كثيرة تتعلق بالتخلص من ضيق الأفق و دون تفكير في تضميناتها العلمية, و لكن بعضها أسفر عن فوائد علميّة عميقة فمنهج التفكير الرياضي ذاته , الذي استعان به إسحاق نيوتن لتفسير حركة الكواكب حول الشمس , هو الذي أفضى إلى غالبية تكنولوجيا عالمنا الحديث.
إننا نتوصل إلى نتائج تبدو مروّعة للوهلة الأولى : كون أضخم وأعرق بكثير مما تصوّرنا بحيث نتضائل إلى جواره و تتواضع خبراتنا الشخصية و التاريخيّة , كون تولد فيه شموس كل يوم و تفنى عوالم , كون تتشبث فيه الإنسانيّة بكتلة غامضة من المادة تدعى الأرض.
كم سيكون مرضيا إلى أقصى حد أن نوضع في حديقة مصنوعة خصيصا لنا و فيها من نستخدمهم لخدمتنا. يبدو أنه توجد قصة مشهورة تماثلها , باستثناء أنه لم يكن كل شيء مصنوع خصيصا لنا , و كانت فيها شجرة غير مسموح لنا بالتهام ثمارها, إنها شجرة المعرفة , فالمعرفة و الحكمة و الفهم كانت من الممنوعات علينا في هذه القصة فكان ينبغي علينا أن نبقى جهلاء . و لكننا لم نستطع مساعدة أنفسنا في ذلك , فنحن , كما يقال , خلقنا جوعى للمعرفة و هذا أصل مشاكلنا بل هو السبب الرئيسي أننا لم نعد نعيش في تلك الحديقة بعد أن اكتشفنا الكثير . كنا نقول لأنفسنا أننا السبب في صنع الكون و ما أن بدأنا نعرف حقيقة هذا الكون حتّى طردنا من جنة عدن و وقف الملائكة حرّاسا على أبواب الجنة لمنع عودتنا و رحنا نندب ذلك العالم المفقود, المسألة تبدو لي حمقاء و عاطفيّة , فلم يكن ممكنا أبدا أن نظل ننعم بالجهل إلى الأبد.
كثير مما نلقاه في هذا الكون يبدو مصمما , فنتنهد بارتياح و نأمل أننا سنجد المصمم و لكننا بالأحرى نكتشف على الدوام أن العمليات الطبيعيّة – الإنتخاب التصادمي للعوالم مثلا , أو الانتخاب الطبيعي للمستودعات الجينيّة أو حتّى نموذج الحمل الحراري في ماء يغلي داخل وعاء , يمكن أن تستخرج النظام من الفوضى و تخدعنا في استنتاج هدف حيثما لا يوجد شي
يتبع ...
