ثمَّ شحنوا نظرية "الانسحاق الكبير" Big Crunch بخرافة "عودة الكون إلى العدم" إذ قالوا إنَّ كوننا المتمدِّد، والذي يتسارَع تمدُّداً، يمكن أن يشرع ينكمش ويتقلَّص، وأنْ تنهار مادته على نفسها، وصولاً إلى تلك "البيضة الكونية"، التي منها انبثق. وهذا "الانسحاق (الكوني) الكبير" فهموه على أنَّه سَحْقٌ للزمان والمكان والفضاء.. ولسائر الأشياء، فَمِنَ "العدم (بمعناه "الفيزيائي" هذا)" جاء الكون، وإليه يعود!
إنَّ المادة Matter هي كل شيء.. باستثناء شيء واحد فحسب هو "الوعي" وأشباهه؛ وهذا "اللامادي"، من حيث ماهيته وطبيعته، هو نُتاج لمادة (وليس لكل مادة) ولا يمكنه أبداً أن يستقلَّ بوجوده، وينفصل، عن العالم المادي.
والمادة، بمعناها هذا، تشمل، على سبيل المثال، المادة التي نراها على هيئة كوارك وإلكترون وبروتون ونيوترون ونواة ذرَّة وذرَّة وجزيء وكوكب ونجم ومجرَّة.. وفوتون وطاقة وضوء وحرارة وكتلة..؛ و"المادة المضادة"، و"المادة الداكنة (المظلمة)"، و"الطاقة الداكنة"؛ كما تشمل الفضاء والمكان والزمان والحركة (أي الانتقال في المكان) والجاذبية والقوى..
في تعريفها الفيزيائي الأوَّل، عُرِّفت المادة على أنَّها كل شيء يشغل حيِّزاً وله كتلة Mass. وعُرِّفت "الكتلة"، في الوقت نفسه، على أنَّها "مقدار ما في الجسم من مادة". وفُهِمَ هذا المقدار على أنَّه مقدار البروتونات والنيوترونات والإلكترونات، فكتلة "جزيء الماء" هي مقدار ما في هذا الجسم، أي الجزيء، والذي يتألَّف من ذرَّتي هيدروجين وذرَّة أوكسجين واحدة، من بروتونات ونيوترونات وإلكترونات.
أمَّا خاصية "شغله حيِّزاً" فتعني أنَّ للجسم ثلاثة أبعاد (أبعاد المكان) هي الطول والعرض والارتفاع (أو العمق). والأبعاد الثلاثة تعني أنَّ له حجماً. والخاصية نفسها تعني أيضاً أنَّ الجسم يقتطع لنفسه جزءاً من الفراغ أو الفضاء.
عيوب عدة اعترت هذا التعريف للمادة، منها أنَّه انطوى على استثناء "الطاقة" من مفهوم "المادة"، وكأنَّ "المادة" هي الأشياء (الأجسام والجسيمات) التي لها "كتلة" فحسب. وهذا الاستثناء الخاطئ، أفضى إلى قولٍ خاطئ شهير هو "تحوُّل المادة إلى طاقة، وتحوُّل الطاقة إلى مادة".
"والكتلة" نفسها فُهِمَت فهماً غير سوي إذ عُرِّفت على أنَّها مقدار ما في الجسم من مادة، أي من بروتونات ونيوترونات وإلكترونات.
إنَّني لا أرى في هذا التعريف للمادة من شيء جدير بالبقاء (لسلامته الفيزيائية والفلسفية) سوى عبارة "المادة هي كل شيء يشغل حيِّزاً".
لقد تصوَّرنا "المادة" على أنَّها شيء في هيئة من هيئتين، فالمادة إمَّا أن تكون مادة ذات كتلة وإمَّا أن تكون مادة "عديمة الكتلة".
ونحن ينبغي لنا أن نفهم "الكتلة" Mass على أنَّها خاصية لبعضٍ من المادة، بسببها لا يستطيع الشيء (الجسم أو الجسيم) أن يسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، هي سرعة الضوء (في الفراغ).
وفي مزيدٍ من الوضوح نقول ليس من وجود لمادة (على ما نَعْرِف حتى الآن) يمكنها أن تسير في الفراغ بسرعة تزيد (ولو بمترٍ واحدٍ) عن 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة. إنَّ المادة (أو الجسيم) عديمة الكتلة، كالفوتون، هي المادة التي تملك خاصية السير في الفراغ بسرعة 300 ألف كيلومترٍ في الثانية الواحدة؛ وإنَّ المادة ذات الكتلة هي المادة التي تملك خاصية تمنعها منعاً مُطْلَقاً من السير بسرعة 300 ألف كيلومترٍ في الثانية.
ثمَّة "مادة"، وثمَّة "مادة مضادة". بعضٌ من "المادة" و"المادة المضادة" يمكنه السير في الفراغ بسرعة 300 ألف (لا أكثر) كيلومترٍ في الثانية الواحدة؛ وبعض من "المادة" و"المادة المضادة" لا يمكنه أبداً السير بهذه السرعة (القصوى في الكون).
كل جسيمٍ لا يظهر إلى حيِّز الوجود إلاَّ ومعه نقيضه، فالإلكترون، مثلاً، لا يظهر إلى حيِّز الوجود إلاَّ ومعه البوزيترون. إذا تصادما تبادلا الفناء، أي تحوَّلا إلى "طاقة خالصة"؛ وهذه الطاقة هي أيضاً متضادة، فثمَّة فوتون، وثمَّة فوتون مضاد، إذا تصادما هما أيضاً تحوَّلا، مثلاً، إلى إلكترون وبوزيترون.
وإنَّني لا أرى سبباً وجيهاً للقول بحتمية "التصادم"، فإنَّ (على سبيل المثال) إلكتروناً وبوزيتروناً ظهرا الآن معاً إلى حيِّز الوجود يمكن أن ينفصل كلاهما عن الآخر، محتفِظاً، بالتالي، بوجوده.
___________
الحوار المتمدن