إيهاب الدمشقيّ: حكايات جدي.. والكهرباء.. وداعش
في أيام الطفولة المبكرة، كنا نزور بيت جدي في أحد الأحياء الدمشقية الشعبية، ذلك البيت المتكئ بحنان على بيت الجيران، والذي بدوره يتكئ على البيت المجاور في سلسلة ممتدة تبدو للناظر وكأنما هي مجموعة من الأطفال الصغار تغفو في حضن أمها الدافئ.
كان جدي يجلس في صدر الليوان، ونحن مجتمعون حوله، أنا وأبناء عمومتي الصغار، فيما يجلس أبي وأعمامي مع جدتي حول البحرة، حينها كان جدي يحكي لنا عن تفاصيل الحياة أيام طفولته، كان يحدثنا وفي عينيه تبدو نظرات الحنين لتلك الأيام التي كان يصفها بالجميلة رغم بساطتها، كان كثيرا مايخبرنا كيف كان الناس في تلك الأيام يعيشون ويمارسون حياتهم اليومية ببساطة وهدوء وبدون وسائل التكنولوجيا الحديثة التي كان يصفها باللعنة، كنا نسأل جدي ببراءة: “ولكن إن لم يكن في تلك الأيام لا كهرباء ولا تلفزيون ولا هاتف ولا براد فكيف كنتم تعيشون؟”.
كان جدي يجيب وعيونه تلتمع بدمعة حنين: “كنا نزور بعضنا ونمضي أوقات فراغنا بأحاديث السمر وبلعب الطاولة و(البرسيس)، كانت (النملية) هي المكان الذي نحفظ فيه الطعام،كانت أمي -والحديث لجدي- تكوي الثياب بمكواة البخار، دعوني أريكم إياها”. ويصعد جدي الدرج ونحن نتبعه إلى غرفة كان يحتفظ بمفتاحها بجيبه، غرفة مليئة بأغراض غريبة تثير فضولنا الطفولي.
“ماهذا” أسأل جدي
“إنه جرن الكبة” مجيبا بنبرة حانية “كانت أمي بواسطته تدق اللحم لتصنع منه أقراص الكبة الشهية، وليس كما تقوم النساء هذه الأيام بإعدادها بواسطة تلك الآلة الغبية فتخرج الكبة لاطعم ولا رائحة”.
يختم جدي قصصه بدعوة إلى الله أن يعيد تلك الأيام قبل موته، ذلك الزمن الذي نراه بدائيا وصعب الظروف، ويراه جدي وجيله عصرا ذهبيا!
ويبدو أن الله قد حقق نصف أمنية جدي، فقد عادت تلك الأيام، ولكن جدي قد توفي منذ زمن ليس بالبعيد.
فنحن اليوم في دمشق قد دخلنا تلك العصور الذهبية من أوسع أبوابها،وعلى يد حكومتنا الرشيدة، أصبحت الكهرباء ضيفا خفيفا لايكاد يزورنا ساعة حتى يغيب دهورا، فلم نعد بحاجة لا إلى تلفزيون أو براد أو موبايل أو غسالة، وبفضلها أيضا -أي حكومتنا الموقرة- أصبحنا نستيقظ على آذان الفجر بكل نشاط وحيوية ونحمل “بدوناتنا” الفارغة قاطعين القفار والمفازات إلى أقرب واحة لننهل منها ماءا عذبا سلسبيلا بعد أن استحكمت الغيرة في موظفي وزارة المياه من زملائهم في وزارة الكهرباء، فباتت المياه حلما صعب المنال في مدينة كان نهر بردى يفيض فيها مغرقا أشهر ساحاتها “ساحة المرجة” بمياهه الوافرة، ونحمد الله بأن لا وزارة هواء قد شكلت بعد، وإلا لكانت ربما حرمتنا أيضا أكل “الهوا” الذي نمارسه مجبرين.
زرت قبر جدي منذ أيام خلت، ورويت له كيف بدأت حلمه يتحقق، وبشرته أن مابقي من آثار التكنولوجيا المعاصرة في طريقه إلى الزوال أيضا، فهاهي داعش قادمة لتعيدنا ليس فقط ثمانين عاما وإنما ألفية ونصف ألفية.
الحوار المتمدّن.