دائرة الصحابيّ اللئيم :
فلما أصبحنا ، أقبلت جلة من قريش فيهم الحارث بن هشام ، فتى شاب وعليه نعلان له جديدتان ، فقالوا : يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا لتستخرجوه من بين أظهرنا ، وإنه والله ما من العرب أحد أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم . فانبعث من هناك من قومنا من المشركين يحلفون لهم بالله ، ما كان من هذا من شيء ، وما فعلناه . فلما تثور القوم لينطلقوا قلت كلمة كأني أشركهم في الكلام : يا أبا جابر - يريد عبد الله بن عمرو أنت سيد من سادتنا وكهل من كهولنا ، لا تستطيع أن تتخذ مثل نعلي هذا الفتى من قريش . فسمعه الحارث ، فرمى بهما إلي وقال : والله لتلبسنهما . فقال أبو جابر : مهلا أحفظت - لعمر الله - الرجل يقول : أخجلته اردد عليه نعليه . فقلت : لا والله لا أردهما ، فأل صالح إني لأرجو أن أسلبه .
شرح القصّة:
خلاصة هذه الرواية أنّ قريشا قد علمت بأمر مبايعة الأنصار لمحمّد بيعة العقبة الثانيّة، فأتت قريشٌ إلى الأنصار تستفسر منهم عن سبب انضمامهم لمحمّد و تحاول أن تكلّمها في هذا الأمر مظهرة أنّ قريشًا لا تحبّ الدخول في حرب مع الأوس و الخزرج بسبب محمّد، و أنّهم أبعد الناس عن محاربة بعضهم البعض. فبينما هم يتحاورون إذِ انبرى كفّار الأوس و الخزرج يحلفون أنّهم لم يبايعوا محمّدا، لأنّ بيعة العقبة الثانيّة قد شهدها بعض من الأوس و بعض من الخزرج سرّا و لم يكن في علم كلّ الأوس و الخزرج هذا الأمر. فكان في معرض هذا الحديث بين قريشٍ من جهة و بين الأوس و الخزرج من جهة أخرى أن لاحظ كعب بن مالك، و هو صحابيّ و شاعر النبيّ محمّد أنّ الهارث بن هشام يرتدي نعليْن جديدتين، فأبدى كعب بن مالك إعجابه بهاتين النعلين، فما كان من الحارث بن هشام و هو كافر من قريش إلا أن خلع نعليه و رمى بهما لكعب بن مالك و حلف عليه أن يأخذهما لأنّه أعجب بهما، و هذا تصرّف كريم صادرٌ عن رجل كافر في حقّ شخص يبطن الإسلام، فتلقّف كعبُ بن مالك تلك النعلين و عاد الكافر الحارث بن هشام حافي القدمين إلى منزله، فكان من الصحابيّ كعب بن مالك أن استبشر خيرًا بهذا الأمر و أبى أن يردّ النعلين إلى الحارث بن هشام فقال: فأل صالح إني لأرجو أن أسلبه بمعنى '' أن أقتله ''، بمعنى أنّ كعب بن مالك استبشر بقتل الحارث بن هشام الذي أهدى إليه تلك النعلين، فإهداؤه النعلين جعل من الصحابيّ كعب بن مالك يتوقّع أن يصيب الحارث في حرب و أن يكون قاتله، فتأمّل أيّها القارئ كيف يكون كرم الكافر و سموّ أخلاقه و كيف يكون ردّ الجميل من طرف الصحابيّ المسلم الذي أراد عضّ اليد التي أهدت إليه نعلين. فأيّ أخلاق و أيّ ضمير لمثل هذا الصحابيّ و غيره الكثيرين؟
يتبع...
|