الفصل الخامس
الأصول هي الأهم
في هذا الفصل سنقوم بإلقاء الضوء على المناهج التي أنتجها العلماء لكي يصلوا إلى الشكل " الأصليّ" من النص (أو على الأقل "أقدم ما يمكن الحصول عليه" من هذا الشكل ) و ليصلوا إلى شكل النص الذي يجسد التحريف الذي أحدثه النسَّاخ في العصور التالية. بعد توضيح هذه المناهج ،سأشرح ،عبر التركيز على ثلاث قراءات نصيَّة متباينة موجودة في التقليد المخطوط لعهدنا الجديد ، كيف يمكننا استخدام هذه المناهج. لقد اخترت هذه الأمثلة الثلاثة لأنَّ كل واحدٍ منها له أهميته البالغة في تفسير السفر الذي يحتويه؛ فوق ذلك ، ليس هناك وجود لأيٍّ من هذه القراءات في الغالبية الساحقة من ترجماتنا الإنجليزية المعاصرة للعهد الجديد. أي أنَّ هذه الترجمات التي يستخدمها غالبية القارئين بالإنجليزية بمعنى آخر ،وحسب وجهة نظري، هي تعتمد على النص الخطأ ،واعتمادها على النص الخطأ يشكل فارقًا كبيرًا عند تفسير الأسفار .
في البداية ينبغي أنَّ نتعرض للمناهج التي طوَّرها العلماء لتساعدهم على تحديد أيِّ القراءات النصيَّة تمثِّل القراءة الأصلية وأيُّها يمثل التغييرات التي أحدثها النسَّاخ في عصور متأخرة. كما سنرى ، ليس بناء شكل أقدم من النص بالأمر اليسير دائمًا ؛ بل قد يكون ممارسة مرهقة .
المناهج المعاصرة للنقد النصيّ
أكثرية علماء النقد النصيّ اليوم عندما يصلون إلى مرحلة اتخاذ القرارات بخصوص الشكل الأقدم من النص سيطلقون على أنفسهم اسم الانتقائيين العقلانيين(rational eclecticists) . هذا يعني أنهم "ينتقون" ( وهو معنى كلمة " eclectic ") القراءة النصيَّة التي تعبر أفضل تعبير عن الشكل الأقدم من النص وذلك من بين العديد من القراءات النصيَّة مستخدمين لفعل ذلك مجموعة من الحجج النصيَّة (العقلانية). هذه الحجج تعتمد على دليل يتم تقسيمه عادةً إما إلى دليل خارجيّ أو داخليّ حسب طبيعته .
الدليل الخارجيّ
البراهين المبنية على أدلة خارجية تعني تأييد إحدى المخطوطات الموجودة لهذه القراءة أو لتلك .ما هي المخطوطات التي يمكنها أنَّ تشهد على صحة قراءة ؟هل هذه المخطوطات يمكن الاعتماد عليها؟ وعلى أيِّ أساسٍ بُني هذا التقسيم..أي إلى مخطوطة يمكن الاعتماد عليها وأخرى لا يمكن الاعتماد عليها ؟
عند التفكير في المخطوطات التي تدعم قراءة ما على حساب القراءة الأخرى ، ربما دُفِع المرء منا ببساطة إلى أنَّ يبذل جهدًا خارقًا لكي يرى أيَّ القراءة المتباينة لها وجود في غالبية الشواهد (أي المخطوطات)الموجودة . معظم العلماء اليوم ،رغم ذلك ، ليسوا مقتنعين تمامًا بأن غالبية المخطوطات هي بالضرورة ما يمنحنا أفضل نصِّ متاح . من اليسير تفسير السبب وراء ذلك من خلال بعض التوضيحات . فلنفترض أنه بعد أنَّ كُتِبَت المخطوطة الأصلية التي تحوي نصًا ما، نسخت منها نسختان ،ربما نطلق عليهما الاسمين ( أ) و (ب). هاتان النسختان ،بطبيعة الحال ،سيكون بينهما اختلافات بطريقة أو بأخرى – ربما هي اختلافات هامة و على الأرجح هي اختلافات يسيرة . الآن لنفترض أنَّ النسخة (أ) قد نسخت من خلال ناسخ واحد آخر فقط ، لكنّ النسخة (ب) نسخت من خلال خمسين ناسخ .ثم حدث أنَّ فقدت المخطوطة الأصلية ،وكذلك النسختان (أ) و (ب)،ليصبح ما تبقى لدينا في شكل تقليد نصيّ هما الواحد والخمسون نسخة التي تمثل الجيل الثاني ،واحدة منهم نسخت من النسخة (أ) و الخمسون الباقية تم نسخهم من النسخة (ب). لو أنَّ إحدى القراءات موجودة في المخطوطات الخمسين تختلف عن قراءة موجودة في المخطوطة الوحيدة (المنسوخة من (أ))، فهل القراءة الأولى منهما (أي الموجودة في الخمسين نسخة) بالضرورة هي الأكثر احتمالا أنَّ تكون القراءة الأصلية ؟لا ، على الإطلاق – حتى لو ثبت أنها متكررة في الشواهد الخمسين خمسين مرة . في الواقع ، الفارق النهائي الذي يدعم تلك القراءة ليس نسبة خمسين إلى واحد . بل الفارق هو بنسبة واحد إلى واحد (أ في مقابل ب ). قضية عدد المخطوطات التي تدعم قراءة على أخرى في حد ذاتها ،لهذه الأسباب، ليست وثيقة الصلة تحديدًا بمسألة تحديد أيِّ القراءات الموجودة في مخطوطاتنا المحفوظة هي التي تمثِّل الشكل الأصلي (أو الأقدم) من النص .
العلماء على وجه العموم مقتنعون ،لهذه الأسباب، أنَّ اعتباراتٍ أخرى هي الأكثر أهمية عند تحديد أيِّ القراءات هي الأَوْلَى بأن تعتبر الشكل الأقدم من النص .
إحدى هذه الاعتبارت الأخرى هي عُمْرُ المخطوطة التي تدعم قراءة ما . أنَّ العثور على الشكل الأقدم من النص في المخطوطات الأقدم هو أمر كبير الاحتمال- بالوضع في الاعتبار أنه من المألوف جدا أنَّ يزيد مرور الزمن حجم التغييرات التي تتعرض لها المخطوطة . هذا بطبيعة الحال لا يعني أننا نقول أنَّ المخطوطات الأقدم يجب اتباعها بلا أي نقاش في كل الحالات . وهذا لسببين اثنين ، أولهما سبب منطقي والثاني سبب تاريخيّ. أمَّا عن السبب المنطقي ،فلنفترض أنَّ مخطوطة من القرن الخامس تشتمل على قراءة واحدة ،بينما تحتوي مخطوطة من القرن الثامن على قراءة مختلفة . فهل يلزم أنَّ تكون القراءة الموجودة في مخطوطة القرن الخامس هي التي تمثِّل الشكل الأقدم من النص ؟ لا ، ذلك غير لازم . ماذا لو أنَّ مخطوطة القرن الخامس قد تمَّ نسخُها من نسخة أخرى يرجع تاريخها إلى القرن الخامس ، بينما الأخرى التي تنتمي إلى القرن الثامن قد نسخت من نسخة ترجع إلى القرن الثالث ؟ في تلك الحالة ، مخطوطة القرن الثامن هي التي ستحتوي على القراءة الأقدم .
السبب الثاني ،أي ذو البعد التاريخي ، في أنَّ المرء لا يمكن ببساطة أنَّ ينظر إلى ما تقوله المخطوطة الأقدم، بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى، هو أنَّ المرحلة المبكرة من مراحل نسخ النصوص ،كما رأينا من قبل ، كانت أيضًا أقل المراحل انضباطًا . ففي تلك المرحلة كان النسَّاخ غير المحترفين في أغلب الأحيان هم من تولّوا أمر نسخ نصوصنا – وضمَّنوها الكثير من الأخطاء . لذلك ، فعمر المخطوطة له أهميته ،لكنه ليس المعيار المطلق . هذا ما يجعل غالبية نقاد النصوص "انتقائيين عقلانيين". فهم يعتقدون أنَّ سوق عدد كبير من الحجج تدعيمًا لهذه القراءة أو تلك هو شئٌ ضروريّ ، وليس الاعتماد ببساطة على عدد المخطوطات أو أقدمها فحسب . مع ذلك ،وبعد أخذ كل هذه الأمور في الاعتبار،لو أنَّ غالبية مخطوطاتنا الأقدم تدعم قراءة ما ضد الأخرى فمن المؤكد أنَّ هذه العوامل مجتمعة ينبغي أنَّ ينظر إليها باعتبارها تمثل أهمية في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالنص .
ملمح آخر يتميز به الدليل الخارجي وهو النطاق الجغرافي للمخطوطات الذي يدعم قراءة ما أكثر من القراءة الأخرى . فلنفترض أنَّ قراءة ما وجدت في عددٍ من المخطوطات ، لكنَّ هذه المخطوطات كلها من الواضح أنَّ مكان نسخها يرجع ،فلنقل ،إلى روما ، بينما عددٌ كبيرٌ من المخطوطات الأخرى يرجع أصلها إلى مصر وفلسطين و آسيا الصغرى وبلاد الغال يعطي قراءة أخرى . ففي هذه الحالة ،لابد أنَّ يرتاب الناقد في أنَّ القراءة الأولى هي اختلاف يعود إلى أسباب " محلِّيَّة" (أي أنَّ النسخ التي أنتجت في روما كلها تحمل الخطأ ذاته ) وأنَّ القراءة الأخرى هي القراءة الأقدم ومن المحتمل أكثر أنها تتضمن النصَّ الأصليّ.
من الراجح أنَّ المعيار الخارجي الأكثر أهميَّة الذي يتبعه العلماء هو التالي :
لكي يُنْظَر إلى قراءة ما باعتبارها القراءة "الأصلية"، فلابد أنَّ يعثر عليها في أفضل المخطوطات وفي أفضل مجموعات المخطوطات . لكنه أيضًا معيارٌ خادعٌ آخرُ ، لكنه يستخدم على النحو التالي : بعض المخطوطات يمكن ،لأسباب عديدة،إثبات أنها أعلى قيمةً من المخطوطات الأخرى . فعلى سبيل المثال ،متى يكون الدليل الداخلي (سنناقشه فيما بعد) حاسمًا في تدعيمه لقراءة ما، فإن هذه المخطوطات(أي الأعلى قيمة)غالبًا ودائمًا ما تحتوي هذه القراءة ، بينما المخطوطات الأخرى ،والتي عادةً ما تكون ،كما سنوضِّح، مخطوطات أحدث عمرًا، تتضمن القراءة المغايرة . المبدأ الذي يهمنا هنا هو أنه لو عُرِفَ عن بعض المخطوطات أنها الأعلى قيمة من ناحية ما تحويه من قراءات عندما يكون الشكل الأقدم واضحًا ، فمن المحتمل أكثر أنَّ تكون هذه المخطوطات هي الأعلى مقامًا أيضًا في القراءات التي يكون دعم الدليل الداخلي لها ليس بالقدر ذاته من الوضوح . هذا يشبه ،إلى حدٍ ما ،أن يكون لديك شهودٌ في محكمة أو أنَّ يكون لديك أصحاب تثق في وعودهم . عندما تعرف أنَّ شخصًا ما يميل إلى الكذب ، فلن تتمكن أبدًا من التأكد أنه يمكن أنَّ يوثق به ؛ لكنك لو علمت أنَّ شخصًا ما موثوق به تمامًا ، فإنك حينئذ تستطيع أنَّ تثق بصدقه حتى عندما يخبرك بشئ ما لا يمكنك التأكُّد منه بطريقة أخرى .
هذا الأمر ذاته ينطبق على مجموعات الشواهد. فقد رأينا في الفصل الرابع أنَّ "ويستكوت" و "هورت" طوَّرا الفكرة التي توصل إليها "بنجيل" حول أنَّ المخطوطات يمكن تقسيمها إلى مجموعات من العائلات النصيَّة . بعض هذه المجموعات النصيَّة ، كما سيتضح ، يمكن الوثوق بكونها تحتفظ بأفضل و أقدم شواهدنا المحفوظة أكثر مما تفعله بعض المجموعات الأخرى ،و أنَّ الدليل قد قام ، عند اختبارها ،على أنها تقدم القراءات الأفضل قيمة .
غالبية الانتقائيين العقلانيين،على وجه الخصوص ،يعتقدون أنَّ النص السكندري المزعوم (يشمل ما سمَّاه "هورت" النص " المحايد")،الذي كان في الأساس مقترنًا بالممارسات النسخيَّة المنضبطة التي مارسها النساخ المسيحيون في الإسكندرية في مصر ، هو الشكل الأعلى مقامًا بين النصوص المتاحة لنا ، وهو في أغلب الحالات يزوِّدُنا بالنص الأقدم أو "الأصلي" في أي موضع يوجد فيه قراءات متباينة . النصان "البيزنطي" و "الغربي" ، من ناحية أخرى ، من المحتمل بصورة أقل أنَّ يحتفظا بأفضل القراءات عندما لا يكونان مدعومين بالمخطوطات السكندرية .
الدليل الداخلي
يعتبر علماء النقد النصي أنفسهم انتقائيين عقلانيين وذلك لأنهم يقومون بالاختيار من بين عدد كبير من القراءات التي تعتمد على عددٍ من أجزاء الدليل(a number of pieces of evidence).فبالإضافة إلى الدليل الخارجي الذي تقدمه لنا المخطوطات ،هناك نوعان من الأدلة الداخلية يستخدمان بصورة نمطية . النوع الأول يتعلق بما يعرف باسم الاحتمالات الداخلية (intrinsic probabilities)- أي الاحتمالات المبنية على ما تأكد لدينا تقريبًا أنه مما كتبه المؤلف نفسه . بالطبع يمكننا أنَّ ندرس أسلوب الكتابة ومفردات اللغة و العقيدة اللاهوتية التي يستخدمها مؤلف ما . وعندما تحتفظ المخطوطات لنا بقراءة أو بقراءتين متباينتين وإحداها تستخدم الكلمات و الخواص الأسلوبية التي لا توجد في عمل ذلك المؤلف ،أو لو أنها تمثل وجهة نظر تختلف تماما مع تلك التي يعتنقها هذا المؤلف ، فمن غير المحتمل في هذه الحالة أنَّ تكون هذه القراءة هي مما كتبه المؤلف – خاصة لو أنَّ قراءة أخرى ثبتت موثوقيتها تطابقت تمامًا مع كتابات المؤلف في مكان آخر.
النوع الآخر من أنواع الدليل الداخلي يسمى الاحتمال النسخي (transcriptional probability) . هذا الدليل لا يبحث عن القراءة التي ربما كتبها المؤلف فحسب، بل أيضًا عن تحديد القراءة التي من المحتمل أنَّ يكون الناسخ قد أدخلها.
أخيرًا ، هذا النوع من الدليل أصله فكرة جاء بها بينجيل كانت تنصُّ على أنَّ القراءة "الأكثر صعوبة" هي على الأرجح القراءة الأصلية. هذه النظرية مبنية على فكرة أنَّ النسَّاخ على الأرجح يحاولون تصحيح ما يرون أنه يمثل أخطاءً ويحاولون التوفيق بين الفقرات التي يرونها متناقضة ، وليِّ عنق العقيدة اللاهوتية التي يحتويها النص لتتوافق مع العقائد اللاهوتيَّة التي يؤمنون بها . أما القراءات التي ربما بدت ظاهريًّا وكأنها تحتوي على "خطأ " أو يعوزها الانسجام أو كانت تشتمل على عقيدة لاهوتية غريبة ،فإنها أكثر عرضة لأن يغيرها أحد النسّاخ من تلك القراءات " الأسهل". هذا المعيار ربما يتمُّ التعبير في بعض الأحيان كالتالي:
القراءة التي تفسر وجود القراءات الأخرى بأفضل ما يكون هي الأولى باعتبارها القراءة الأصليَّة .
لقد عرضت أشكالا عديدة للدليل الداخلي و الخارجي المعتبرة لدى النقاد النصِّيين ليس لأنني أتوقع من أي شخص يقرأ هذه الصفحات أنَّ يتقن هذه المبادئ وأنَّ يبدأ في تطبيقها على تقليد العهد الجديد المخطوط ،بل لأنه من المهم،عندما نحاول أنَّ نحدِّد الماهية التي كان عليها النص الأصليّ ، أنَّ نعترف بأن عددًا كبيرًا من هذه الاعتبارات لابد من وضعها في الحسبان وأنَّ كثيرًا من القرارات المبنيَّة على التقديرات الشخصية لابد من اتخاذها . فهناك أوقات يحدث فيها تناقض بين أجزاء الدليل أحدها مع الآخر ،على سبيل المثال ،حينما لا تكون القراءة الأكثر صعوبة (حسب نظرية احتمالات الناسخ)مدعومة جيدًا داخل المخطوطات (التي تمثل الدليل الخارجي )،أو عندما تكون القراءات الأكثر صعوبة غير متوافقة مع أسلوب الكتابة الذي يتميز بها الكاتب أيضًا (الاحتمالات الداخلية).
باختصار، تحديد النص الأصلي ليس بالأمر اليسير ولا بالأمر الصريح ! بل يتطلب كثيرًا من التأمل في الدليل و التمحيص الحَذِرِ له، والعلماء المختلفون دائمًا ما يصلون إلى استنتاجات مختلفة –ليس فقط فيما يتعلق بالأمور الثانويَّة التي لا تؤثر على معنى الفقرة (مثل تهجئة كلمة ما أو تغيير ترتيب الكلمات المكتوبة باليونانية والتي لا يمكن حتى أنَّ يكون لها أي تأثيرٍ على الترجمة الإنجليزية)، و إنما فيما يتعلق بالأمور ذات الأهمية القصوى ، التي تؤثر على تفسير سفرٍ كاملٍ من أسفار العهد الجديد .
ولتوضيح الأهمية التي تتسم بها بعض القرارت التي تتعلق بالنصوص ، سأنتقل الآن إلى ثلاث قراءات نصيَّة متباينة من النوع الأخير ،حين يكون لتحديد النص الأصلي تأثيرٌ بالغٌ على الكيفية التي تُفهم بها الرسالة التي يريد إيصالها بعض مؤلفي العهد الجديد . أعتقد أنَّ غالبية المترجمين إلى الإنجليزية في هذه الحالات الثلاث ،كما سيتضح ،قد اختاروا القراءة غير السليمة ولم يقدموا لنا ترجمة النص الأصلي وإنما ترجمة النص الذي اختلقه النُسَّاخ حينما حرَّفوا النصَّ الأصليّ. أول هذه النصوص يأتي من مرقس و هو ذو علاقة بغضب يسوع حينما استعطفه فقير مصاب بالبرص ليعالجه .
قصة مرقس مع يسوع الغاضب
مشكلة النص في مرقس 1 : 41 نجدها في قصة شفاء يسوع لرجل يعاني من مرضٍ جلديّ . المخطوطات الموجودة تحتفظ بشكلين مختلفين للعدد 41 ؛ القراءتان كلتاهما موضحتان هنا بين قوسين :
فجاء ليكرِّز في مجامعهم في كل الجليل و يخرج الشياطين.فأتى إليه أبرص يتضرع إليه ويقول له :"إن ترِدْ ، تقدر أنَّ تطهرني." ،فشعر بالشفقة عليه (المقابل اليوناني هو : SPLANGNISTHEIS) أو فشعر بالغضب ( والمقابل اليوناني لها هو: ORGISTHEIS)،ومدَّ يده إليه ولمسه وقال :" أريد ، فاطهر ." فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ وَطَهَرَ. فَانْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ وَقَالَ لَهُ: «انْظُرْ لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئاً بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى شَهَادَةً لَهُمْ». وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَابْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيراً وَيُذِيعُ الْخَبَرَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أنَّ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِراً بَلْ كَانَ خَارِجاً فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ.
معظم الترجمات الإنجليزية تترجم بداية العدد 41 بطريقة تؤكِّد على محبة يسوع لهذا الأبرص الفقير المنبوذ : "الشعور بالشفقة"( أو يمكن ترجمة الكلمة بأنه " تحرك بدافع الشفقة") عليه . وفي سبيل قيامهم بهذا ،سارت هذه الترجمات وراء النص اليوناني الموجود في معظم المخطوطات التي لدينا .بالتأكيد من السهل أنَّ نعرف السبب الذي استخدمت من أجله عاطفة الشفقة في هذا الموقف . لا نعرف طبيعة المرض الذي ألمَّ بالرجل على سبيل الدقة – يفضل بعض المفسرين أنَّ يعتبروه برصًا ( اختلال في الجلد يظهر على شكل قشور )بدلا من اعتباره نوعًا من الإصابة باهتراء في لحم جسم الإنسان نسميه في العادة جذامًا . على أية حال ، من المحتمل جدًا أنَّ يكون هذا المريض قد خضع لأوامر الشريعة التوراتية التي تحظر على" المجذوم" أنَّ يعيش أيَّ حياةٍ طبيعيةٍ ؛ لقد كان مفروضًا عليهم أنَّ يعيشوا عيش المنبوذين ، معزولين عن المجتمع ،فقد اعتبروا أنجاسًا( سفر اللاويين 13 – 14 ). ولشعوره بالشفقة تجاه شخص على هذه الحال ،يمدَّ يسوع يده بلمسة حنونة ليلمس لحمه المصاب وليشفيه .
الشفقة الطبيعية و الشعور الخالي من أي تعقيد الذي احتواه هذا المشهد ربما يفسر ،في الغالب ، سبب عدم اعتداد المفسرين والمترجمين بالنص الآخر الذي وجد في بعض مخطوطاتنا. هناك تعبير ورد في أحد أقدم شواهدنا ،المسمى مخطوطة بيزا، ويدعمه ثلاث مخطوطات لاتينية يمثِّل في البداية صياغة محيِّرة و مشوَّهَة . فهنا ،بدلا من القول أنَّ يسوع شعر تجاه الرجل بالشفقة ،يشير النص إلى أنه استشاط غضبًا . في اليونانية هنا فارق بين كلمتي (SPLANGNISTHEIS) و (ORGISTHEIS) . فبسبب وجودها في الشواهد اليونانية واللاتينية ، يسلم المتخصصون في النصوص بأن تاريخ هذه القراءة الثانية يرجع إلى القرن الثاني على الأقل . فهل من الممكن ، مع ذلك ، أنَّ تكون هذه هي القراءة التي كتبها مرقس نفسه ؟
كما رأينا بالفعل ، ليس صحيحًا أبدًا أنَّ نقول إنه عندما تحتوي الغالبية الساحقة من المخطوطات قراءة ما بينما تحتوي مخطوطتان فحسب القراءة الأخرى ، فإن قراءة الغالبية هي الصحيحة .في بعض الأحيان يكون العدد القليل من المخطوطات هو الذي يحتوي القراءة الصحيحة حتى عندما لا تتفق معه المخطوطات الأخرى جميعًا . إلى حدٍ ما ،هذا يكون سببه أنَّ الغالبية الساحقة من مخطوطاتنا يبعد تاريخ كتباتها عن تاريخ كتابة الأصول بالمئات والمئات من السنوات، وأنها قد تم نسخها من نسخ أخرى أحدث كثيرًا وليس من الأصول. بمجرد أنَّ يجد أحد التحريفات طريقه إلى التقليد المخطوط ، ربما يستقر فيه إلى الأبد ليصبح أوسع انتشارًا من التعبير الأصلي . في حالة كهذه ، القراءتان كلتاهما نعتبرهما تبدوان قديمتين للغاية . فأيُّ القراءتين هي القراءة الأصلية ؟
لو أنَّ قارئا مسيحيًّا خُيِّر اليوم بين هاتين القراءتين ، لا شك أنَّ كل شخص في الغالب سيختار القراءة الأكثر وجودًا في مخطوطاتنا : شعر يسوع بالشفقة تجاه هذا الرجل ، و شفاه .أما القراءة الأخرى فمن الصعب تصورُّها :فما معنى أنَّ يقال أنَّ يسوع قد شعر بالغضب ؟ أليس هذا وحده سببًا كافيًا للافتراض أنَّ مرقس قد كتب أنَّ يسوع شعر بالشفقة ؟
على العكس ، فحقيقة أنَّ إحدى القراءتين تعطي معنى مفيدًَا و أنه من السهل فهمها هي بالتحديد ما جعل بعض العلماء يرتابون في كونها قراءة غير أصلية ، لأن النساخ ،كما رأينا ،كانوا ليفضلوا أنَّ يكون فهمُ النص سهلا وغير معقد . إلا أنَّ السؤال الذي ينبغي أنَّ يسأل هو كالتالي:ما هو الأمر المنطقي بدرجة أكبر ،أن يغيِّر الناسخُ النص الذي يقول أنَّ يسوع شعر بالغضب ليجعله يقول أنَّ يسوع شعر بالشفقة ، أم أنَّ يغير النص الذي يقول أنَّ يسوع شعر بالشفقة ليجعله يقول إنه شعر بالغضب ؟ أي القراءتين تفسر وجود الآخر بصورة أفضل ؟ عندما ننظر إلى الأمر من هذه الزاوية ،نجد القراءة الأخيرة هي الأكثر احتمالا . القراءة التي تشير إلى أنَّ يسوع شعر بالغضب هي القراءة " الأكثر صعوبة " ولذلك هي الأكثر احتمالا لأن تكون النص " الأصلي " . هناك دليل آخر أفضل من هذا السؤال النظري عن أيِّ القراءتين من المحتمل أنَّ يكون النساخ قد لفَّقوها . كما سيتضح ،ليس لدينا أي مخطوطة يونانية لمرقس تحتوي هذه الفقرة حتى نهاية القرن الرابع ،أي بعد ثلاثة قرون تقريبًا من تاريخ تأليف هذا السفر .لكننا بالفعل لدينا مؤلِّفان قاما بنسخ هذه القصة في العشرين عاما التي تلت تاريخ تأليفها الأول.
اعترف العلماء لفترة طويلة أنَّ مرقس هو أول الأناجيل تأليفًا ، وأنَّ متى و لوقا كليهما استخدما رواية مرقس كمصدر للقصص التي حكياها عن يسوع . من الممكن ، إذن ، أنَّ نتفحص إنجيلي متى و لوقا لنعرف كيف قاما بتغيير نص مرقس في المواضع التي حكيا فيها القصة ذاتها ولكن بطريقة مختلفة (إن بدرجة أكبر أو أقل). حينما نفعل هذا ، نجد أنَّ متى ولوقا اقتبسا هذه القصة الواردة في مرقس . من اللافت للنظر أنَّ متى و لوقا قد اتَّبعا ما كتبه مرقس حول طلب الأبرص و رد يسوع في العددين 40 – 41 تقريبا كلمة بالكلمة . فأي كلمة يا ترى استخدماها لوصف رد فعل يسوع ؟ المثير للدهشة أنَّ متى ولوقا قاما كلاهما بحذف الكلمة تمامًا . إذا كان النص المرقسيُّ الذي كان بين يديِّ متى و لوقا قد وصف يسوع بأنه شعر بالشفقة ، فلماذا يحذف الرجلان كلاهما هذه الكلمة ؟متَّى و لوقا يصفان يسوع في مكان آخر بأنه شفوق ، وكلما وجدت في إنجيل مرقس قصة يُذْكَرُ فيها بوضوح الشفقة التي كان يتصف بها يسوع ، فهذا الرجل أو الآخر يحتفظ بالوصف كما هو في روايته . لكن ماذا عن الاحتمال الآخر ؟ ماذا لو أنَّ متى و لوقا قد قرءا في إنجيل مرقس أنَّ يسوع قد شعر بالغضب ؟ فهل كانا ميَّالَيْن إلى التخلص من هذا الشعور ؟ هناك مناسبات أخرى ،في الواقع ،وردت في إنجيل مرقس يصبح فيها يسوع غاضبًا . في كل مناسبة من هذه المناسبات ، قام متى و لوقا بتعديل الروايات . ففي مرقس 3 : 5 ينظر يسوع حوله " بغضب" إلى الموجودين في المجمع الذين كانوا يراقبونه ليروا ما إذا كان سيعالج الرجل ذا اليد اليابسة . هذا العدد في إنجيل لوقا متشابه تقريبا مع العدد الموازي في مرقس ، لكنَّ لوقا يحذف الإشارة إلى غضب يسوع .أما متَّى ، فقد أعاد كتابة هذا القسم من القصة ولم يذكر أيَّ شئ عن يسوع الغاضب . وعلى نحو مماثل ،في مرقس 10 – 14 يشتدُّ يسوع على تلاميذه (استخدمت هنا كلمة يونانية مختلفة) لمنعهم الناس من إدخال أطفالهم إليه لكي يباركهم . متى و لوقا كلاهما يرويان القصة ،بالحرف الواحد في الغالب، لكنهما يحذفان الإشارة إلى غضب يسوع (متى 19 – 14 ؛ لوقا 18 : 16 ). في المحصلة ، لا يشعر متَّى ولوقا بأي وخزٍ في الضمير حينما يصفان يسوع بكونه شفوقًا ، لكنهما أبدًا لم يصفاه باعتباره غاضبًا . فكلما وصف واحدٌ من مصادرهم (أي مرقس) يسوع بذلك ، كلما أعاد كلا الرجلين كلٌ على حدى حذف التعبير من روايتهما . لذلك ، في حين أنه من الصعب إيجاد مبرر يجعلهما يحذفان "الشعور بالشفقة" من روايتهما لحادثة علاج يسوع للمجذوم ، فإنه من السهولة بمكان تفهُّم أسباب رغبتهم في حذف " الشعور بالغضب ." فإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ التعبير الأخير (أي الشعور بالغضب) هو الذي ورد في سلسلة قديمة جدا من المخطوطات وأنه من غير المحتمل أنَّ يكون النساخ قد اختلقوا هذا التعبير كبديل عن التعبير الآخر الذي يمكن فهمه بسهولة أكبر (أي الشعور بالشفقة) ، يصبح من الواضح بشكل أكبر أنَّ مرقس ،في واقع الأمر ،وصف يسوع بأنه قد غضب عندما اقترب منه المجذوم طلبًا للشفاء .
قبل أنَّ نغادر هذه المسألة هناك أمر آخر يجب التأكيد عليه . أشرت إلى أنَّه في حين أنَّ متَّى ولوقا كانا يشعران بصعوبة في وصف يسوع بالغضب ،لم يكن لدى مرقس أي مشكلة في ذلك . حتى في القصة موضع الدراسة ، وبعيدًا عن المشكلة النصيَّة المتعلقة بالعدد 41 ، لم يعالج يسوع هذا المجذوم الفقير بطريقة إنسانية . فبعد أنَّ شفاه ، "وبَّخه بشدة " "وطرده ". وهاتان القراءتان هما الترجمة الحرفية للكلمات اليونانية والتي عادةً ما تخضع لعملية " تلطيف" في الترجمات . إنها تعبيرات قاسية ، استخدمت على الدوام في كل موضعٍ آخر في مرقس في سياقات صراع و عدوان عنيفين ( على سبيل المثال عندما يطرد يسوع الشياطين).
من الصعب أنَّ نتصور السبب الذي يجعل يسوع يقوم بتوبيخ هذا الشخص و بطرده لو كان يشعر تجاهه بالشفقة ؛ لكنَّه لو كان غاضبًا ، فلربما كان الأمر أكثر منطقيًّة .
فعلامَ إذن غضب يسوع ؟ هنا تتضح أهمية العلاقة بين النص والتفسير. بعض العلماء ممن فضَّلوا النص الذي يشير إلى أنَّ يسوع "أحس بالغضب" في هذه الفقرة توصلوا إلى تفسيرات بعيدة الاحتمال إلى حدٍ بعيد . يبدو أنَّ هدفهم من وراء ذلك هو أنَّ يبرروا هذا الشعور من خلال إظهار يسوع في مظهر الشفوق حتى مع إدراكهم أنَّ النص يقول إنه شعر بالغضب . أحد المفسرين ، على سبيل المثال ،يجادل بقوله إنَّ يسوع كان غاضبًا على العالم الملئ بالمرض ؛ بكلمات أخرى ، هو يحب المريض لكنه يكره المرض .ليس هناك أساس نصِّيٌّ لهذا التفسير ، لكنه يملك مزيَّة جعله يسوعَ يبدو في صورة جيدة .مفسرٌ آخرُ يجادل بقوله إنَّ يسوع غاضبٌ لأن هذا المجذوم كان منبوذًا من المجتمع ، متجاهلا حقيقة أنَّ النص لا يقول أيَّ شئ عن كون الرجل منبوذًا و أنه حتى إذا افترضنا أنَّ النص يقول ذلك ،فإن ذلك ليس ذنب المجتمع الذي يعيش فيه يسوع وإنما سبب ذلك هو شريعة الله (خاصة سفر اللاويين ). آخر يجادل في أنَّ سبب غضب يسوع هو،في حقيقة الأمر،أن شريعة موسى تجبر هذا النوع من الناس على الانعزال . هذا التفسير يتجاهل حقيقة أنه في خاتمة الفقرة (عدد 44 ) يؤكِّد يسوع على شريعة موسى و يحثُّ المجذوم بعد شفائه على أنَّ يلتزم بها .
كل هذه التفسيرات لديها رغبة عامة في التلطيف من غضب يسوع و لديها العزم على القفز فوق النص من أجل الوصول إلى هذه الغاية . فإذا فعلنا عكسهم ، فماذا ستكون النتيجة ؟ يبدو لي أنَّ ثمَّة خيارين اثنين ، أولهما يركِّزُ على السياق الحرفيّ المباشر للفقرة والآخر يركز على السياق الأوسع للفقرة. أولا ، فيما يتعلق بالسياق المباشر ،كيف تؤثِّر الصورة التي رسمتها افتتاحية إنجيل مرقس على الخيار الأوَّل ؟ لو نحَّيْنا أفكارَنا المسبقة عن طبيعة يسوع جانبًا و لو قرأنا هذا النص الهام على نحو بسيط، سيتوجب علينا أنَّ نعترف بأن يسوع لا يبدو وديعًا لطيفًا دمث الأخلاق ولا يبدو كراعٍ صالحٍ مثلما تصوِّرُه لوحات الكنائس . يبدأ مرقس إنجيله برسم صورة ليسوع من الناحية الجسميّة ومن ناحية المواهب كشخصٍ ذي سلطان من ذلك النوع الذي لا ينبغي أنَّ تعبث معه . ويصفه بأنه نبيٌّ يعيش في البرية قدَّمَه للخدمة نبيٌّ آخر يعيش في البرية أيضًا ؛ وأنه قد انعزل عن المجتمع ليحارب الشيطان و ليحارب الوحوش في البرَِّيَّة ؛ وهو يعود ليدعوَ إلى التوبة السريعة لمواجهة القدوم الوشيك لدينونة الله ؛ وهو يدعو أتباعه للانفصال عن عائلاتهم ، و يربك جمهوره بسلطانه ؛ ويوبِّخ ويُخْضِع قوى الشيطان التي بإمكانها هزيمة البشر الفانين ؛ وهو يرفض التجاوب مع حاجات الجماهير ويتجاهل هؤلاء الذين يتوسلون للقائه . القصة الوحيدة في هذا الفصل الافتتاحيّ من إنجيل مرقس التي تشير إلى عطفه الشخصي هي قصة شفاء حماة سمعان بطرس التي كانت مريضة ملازمة للفراش . لكنَّ هذا التفسير الشفوق حتَّى يمكن أنَّ يخضع للتساؤلات. بعض الماكرين ممن يتَّسِمون بقوة الملاحظة لاحظوا أنه بعد أنَّ شفاها يسوع من الحمى التي أصابتها قامت لتخدمهم ،ومن المحتمل أنها أحضرت لهم وجبة العشاء.
هل من المحتمل أنَّ يسوع قد جرى تصْويرُه في المشاهد الافتتاحيَّة لإنجيل مرقس باعتباره شخصية قوية تتمتع بالإرادة القوية و لديها أجندتها الخاصة و أنه شخص ذو سلطان له كاريزما ولا يروقه أن يقاطعه أحد؟
من المؤكد أنَّ رد فعله من ثمَّ كان منطقيًّا على ما قام به المجذوم حيث قام بتوبيخه و بطرده.
هناك تفسير آخر ، رغم ذلك .كما أشرت من قبل ،يشعر يسوع بالغضب فعلا في مكان آخر داخل إنجيل مرقس . يحدث هذا للمرة الثانية في الإصحاح 3 ،الذي يتناول ، وياللمفاجأة ،قصة شفاء أخرى. هنا قال مرقس بوضوح إنَّ يسوع غضب على الفِرِّيسي الذي ظن أنه ليس من حقه أنَّ يشفي الرجل ذا اليد اليابسة في السبت .
هناك حكاية مشابهة إلى حدٍّ بعيدٍ تصادفنا في إحدى القصص التي لم يذكر فيها أنَّ يسوع كان غاضبًا بصراحة و لكنَّ ذلك كان واضحًا رغم ذلك . ففي مرقس 9 ، عندما ينزل يسوع من جبل التجلِّي مع بطرس ويعقوب و يوحنا ، يجد تجمهرًا حول تلامذته ورجلا يائسا في المنتصف . ابن هذا الرجل تملكته روح شيطانية، وهو يشرح الموقف ليسوع ثم يناشده :" إن كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا". فردَّ يسوع عليه غاضبًا ،"لو كنتُ قادرًا ؟ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ" فيصبح الرجل أكثر يئسًا ويناشده،" أُومِنُ يَا سَيِّدُ فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي." فعندها طرد يسوع الروح الشريرة.
الأمر المثير للدهشة في هذه القصص هو أنَّ غضب يسوع ينفجر حينما يشكك أحد الأشخاص في نيَّته ، أو في قدرته أو في سلطانه الإلهي على الشفاء .ربما هذا هو سبب غضبه في قصة المجذوم أيضًا .ففي القصة الواردة في مرقس 9 ،يقترب أحدهم من يسوع بحذر ليسأله :" لو لديك الرغبة ، تقدر على شفائه." فيشعر يسوع بالغضب. يسوع بطبيعة الحال لديه الرغبة في فعل ذلك ، باعتباره قادرًا ومخولا بهذا . يشفي يسوع الرجل و ،لكونه ما يزال في نفسه استياء من تشكك الرجل،يقوم بتوبيخه ثم طرده بحدة .
هنا نجد شعورًا مختلفًا تماما تجاه القصة مرتبطًا بطريقة تفسيرها،وهو تفسير مبنيٌّ على طبيعة النص كما يبدو أنَّ مرقس قد كتبه. فمرقس ، في بعض المواضع ، يرسم يسوع باعتباره شخصًا غاضبًا .
لوقا ويسوع الهادئ
على النقيض من مرقس ، لم يقل إنجيل لوقا على وجه التصريح أبدًا أنَّ يسوع شعر بالغضب. بل لا يبدو يسوع في هذا الإنجيل منزعجًا على الإطلاق،أو بأية حال.
فبدلا من يسوع الغاضب ، يرسم لوقا صورة ليسوع الهادئ . هناك فقرة يتيمة في هذا الإنجيل يبدو فيها أنَّ يسوع قد فقد رباطة جأشه . وهي فقرة أصالتها موضع جدال ساخن بين نقاد النصوص .
نجد هذه الفقرة في سياق صلاة يسوع على جبل الزيتون قبل وقت قصير من تعرضه للخيانة و للوقوع في الأسر (لوقا 22 : 39 -46 ). فبعد أن يوجِّه تلامذته بقوله :" صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ"، يتركهم يسوع ،و يجثو على ركبتيه،ويصلي" أَبَتَاهُ إن شِئْتَ أن تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ" . في عددٍ كبيرٍ من المخطوطات تلي هذه الصلاة هذه القصة التي لا نجدها في أيِّ موضعٍ آخر فيما لدينا من أناجيل ، والتي تتعلق بقلقه الشديد و ما يعرف بقطرات عرقه الدموية :" وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ. " (العددان 43 ، 44 ).
ينتهي المشهد بقيام يسوع من الصلاة وعودته إلى تلامذته ليجدهم نيامًا. فيكرر توجيهه لهم :" صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ" و على الفور يظهر يهوذا مع الجموع ويلقون القبض على يسوع .
إحدى الخصائص المثيرة لهذا النزاع حول هذه الفقرة هو تساوي كفة هذه الحجج وتلك حول ما إذا كان العددان المتنازع عليهما (43 ، 44 ) قد كتبهما لوقا أم أدخلهما فيما بعد أحد النساخ . المخطوطات الأقدم والتي يسلم العلماء بكونها الأفضل ( النص "السكندري") لا تحتوي هذين العددين في الغالب.لذلك من المحتمل أنهما إضافة متأخرة بيد ناسخ . من ناحية أخرى ، هاتان الفقرتان موجودتان في عدد قليل من الشواهد الأخرى المبكرة وهما غالبًا منتشرتان في كل مكان من التقليد المخطوط . لذا فهل هما قد أضيفتا بيد ناسخ أرادهما أنَّ يكونا جزءا من الكتاب المقدس أم حذفتا بيد آخر أراد العكس ؟ من الصعوبة بمكان أنَّ نجيب على هذاالسؤال اعتمادًا على المخطوطات .بعض العلماء اقترحوا أنَّ نستعين بالخصائص الأخرى التي يتصف بها العددان لكي نقرر هذا الأمر. أحد العلماء ، على سبيل المثال ، ادَّعى أنَّ الكلمات و الأسلوب في العددين يشبهان إلى حدٍ كبير ما نجده في لوقا في موضع آخر ( هذه الحجة مبنية على "الاحتمالات الداخلية "): على سبيل المثال ، ظهورات الملائكة هي سمة شائعة في لوقا ، وكلمات عديدة و جمل موجودة في الفقرة نجدها في مواضع أخرى في لوقا ولكن ليس في أي موضع آخر في العهد الجديد ( مثل الفعل " يقوِّيه").
لم تقنع هذه الحجة أحدًا ،مع ذلك، لأن معظم هذه الأفكار والتراكيب و الجمل " اللوقاوية بطريقة مميزة " هي إما مصاغة بطرق لا تنتمي إلى الأسلوب اللوقاوي (على سبيل المثال ، الملائكة لا تظهر في أيِّ مكان آخر من لوقا من غير أن تتكلم ) أو شائعة في النصوص اليهودية والمسيحية بخلاف العهد الجديد . زد على ذلك أنَّ هناك اجتماع غير طبيعي بالمرة لكلمات وجمل غير عادية في هذين العددين : على سبيل المثال (كرب ،عَرَق، قطرات) ليس لها وجود في موضع آخر في لوقا ولا في سفر الأعمال (الذي هو الجزء الثاني للإنجيل الذي كتبه المؤلف عينُه ). نظرا لذلك كله، من الصعب بمكان أنَّ نقرر أي شئ بخصوص هذين العددين على أساس الكلمات والأسلوب.
حجة أخرى استعملها العلماء لها علاقة بالبنية الأدبيّة(literary structure) لهذه الفقرة . بإيجاز ، هذه الفقرة يبدو أنها مبنيَّة بتأنٍّ من خلال ما يعرفه عليه العلماء باعتباره قلب لترتيب الكلمات في جملتين متشابهتين (chiasmus) . حينما تبنى فقرة على هذا النحو ، الكلمة الأولى في هذه الفقرة تتطابق مع الكلمة الأخيرة منها؛ والكلمة الثانية تتطابق مع الكلمة قبل الأخيرة ؛و الكلمة الثالثة تتطابق مع الكلمة التي تسبق الكلمة قبل الأخيرة ، وهكذا . أو دعونا نعبر عن هذا بطريقة أخرى فنقول : صياغة هذه الفقرة هي صياغة مقصودة ؛ غرضها هو تركيز الانتباه على مركز الفقرة باعتباره مفتاح الجملة . و الأمر نفسه نجده هنا :
فيسوع (أ) يطلب من تلاميذه أنَّ "يصلوا كي لا يدخلوا في تجربة" (العدد 40 ) ثم بعد ذلك يسوع (ب) يغادرهم (العدد 41 أ) و (ج)يجثو على ركبتيه للصلاة (العدد 41 ب). مركز هذه الفقرة هو (د) صلاة يسوع ذاتها ،الصلاة التي ضمَّنها طلبه بأن يتحقق ما يريده الله (العدد 42 ). بعد ذلك يسوع (ج) يقوم من صلاته (عدد 45 أ )، (ب)يعود إلى تلاميذه (عدد 45 ب)، و (أ) يجدهم نيامًا،ومرة أخرى يواجههم بالكلمات ذاتها ، فيقول لهم أنَّ " صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة "(العددان 45 ج ، 46 ).وجود هذا البناء الأدبي الواضح بحد ذاته ليس هو القضية في الواقع . بل القضية هي كيف أنَّ هذا العكس لترتيب الكلمات مهم لفهم معنى الفقرة . تبدأ القصة و تنتهي بوصيته لتلاميذه أن يصلوا إذا أرادوا أن يتجنبوا الدخول في تجربة. ظلت الصلاة لوقت طويل في نظر الكثيرين هي الموضع المحوريّ لإنجيل لوقا ( أكثر حتى من أي إنجيل آخر )؛ و هنا تتجلى أهميتها الخاصة . لأن صلاة يسوع هي في قلب الفقرة ذاتها ، الصلاة التي تعبر عن رغباته ، والتي تتضمن رغبته الأعظم بأن تتمَّ مشيئة الله (العددان 41 ج، 42 ). وباعتبارها مركزًا لهذا التركيب المنعكس (chiastic structure)، تقدم هذه الصلاة قضية الفقرة المحوريَّة و،على نحوٍ متوازٍ، مفتاح تفسيرها . هذا درس عن أهمية الصلاة في مواجهة الشهوات . التلاميذ ، على الرغم من طلب يسوع المتكرِّر لهم بأن يصلُّوا ،كانوا ينامون بدلا من ذلك . وعلى الفور تأتي الجموع للقبض على يسوع . وماذا يحدث ؟ التلاميذ ، الذين فشلوا في القيام بالصلاة ، دخلوا " في التجربة "؛وهربوا من مسرح الأحداث ،تاركين يسوع ليواجه مصيره وحيدًا . وماذا عن يسوع ، الإنسان الوحيد الذي صلَّى قبل أن يخضع للمحاكمة ؟ حينما تصل الجموع ، نجد أنه يخضع بهدوء لمشيئة الآب ويسلم نفسه للشهادة التي أعِدَّتْ له .
رواية لوقا عن الآلام ، كما هو معروف ، هي قصة استشهاد يسوع ، الاستشهاد التي كان الهدف منه ،كما هو الحال مع مقتل الكثيرين من الشهداء،أن تقدم نموذجًا للمؤمن و الكيفية التي يحافظ بها على رباطة جأشه في مجابهة الموت . فلسفة الاستشهاد في إنجيل لوقا تظهر أنَّ الصلاة وحدها هي التي يمكن أن تجعل المرء على استعدادٍ للموت .
ماذا يحدث ، مع ذلك ، حينما يتمُّ إقحام العددين المتنازع عليهما (العددان 43 ، 44 ) في الفقرة ؟ على المستوى الأدبي ، الترتيب الانعكاسي للكلمات(chiasmus) الذي يركِّز الفقرة على صلاة يسوع يتمُّ تدميرُه نهائيًا .
الآن مركز الفقرة ، و من ثمَّ بؤرة اهتمامها ، يتحول إلى شدة الكرب الذي واجهه يسوع ، شدة الكرب الفظيعة التي كانت تتطلب ظهور مُعِينٍ خارقٍ للطبيعة ليقوِّيَ يسوعَ على تحملها. من الأمور الجديرة بالملاحظة في هذه النسخة المطوَّلة من القصة أنَّ الصلاة لم ينتج عنها الثقة بالنفس والهدوء الذين تحلَّى بهما يسوع في بقية الحكاية ؛ نعم ، حدث فقط بعد أن يصلِّي "بأشد لجاجة " أنَّ عرقه أخذ في الظهور على هيئة قطرات عظيمة من الدماء المتساقطة على الأرض . ما أريد توضيحه ليس فحسب أنَّ تركيبًا أدبيًّا قد انهار ، و إنما أنَّ بؤرة الاهتمام كلها تتحول إلى يسوع الواقع في حالة كرب مفجعة و سحيقة و الذي هو في أشد الحاجة إلى تدخل خارق للطبيعة .
هذا في حدِّ ذاته لا يبدو كمشكلة مستعصية على الحل ، إلى أنَّ يدرك المرء أنه ليس هناك موضع في إنجيل لوقا صُوِّرَ يسوع فيه على هذا النحو . على العكس من ذلك تمامًا ، قطع لوقا شوطً طويلا لكي يقدم رؤيةً مناقضةً تماما للرؤية التي يتبنَّاها هذان العددان . فبدلا من دخوله في آلامه مجللا بالخوف و الارتجاف، مكروبًا من مصيره المحتوم القريب ، نجد أنَّ يسوع حسب تصوير لوقا له يمضي إلى حتفه هادئا ورابط الجأش واثقًا في مشيئة أباه حتى النهاية . من الحقائق الصادمة التي لها ارتباط وثيق بمشكلتنا النصية موضع الدراسة أنَّ لوقا كان بمقدوره أن يرسم هذه الصورة ليسوع فقط عبر التخلص من التقاليد التي كانت تتناقض معها في مصادره ( الإنجيل وفقًا لمرقس على سبيل المثال ). فقط الشكل المطوَّل من النص الوارد في لوقا 22 : 43 – 44 يبدو مخالفا لهذه القاعدة.
مقارنة بسيطة بين نسخة مرقس من القصة محل الدراسة من شأنها جلاء هذه الأمر ( مع الوضع في الاعتبار أنَّ مرقس كان من مصادر لوقا – والذي قام بتعديله لكي يخرج بتأكيداته الفريدة ). لأن لوقا حذف قول مرقس أنَّ يسوع " ابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ "(مرقس 14 : 33 )، وكذلك تعليق يسوع أمام تلاميذه ،" نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ! ". وبدلا من نزوله إلى الأرض في كربٍ(مرقس 14 : 35 )،يسوع حسب لوقا يجثو على ركبتيه (لوقا 22 : 41 ). في لوقا ، لم يطلب يسوع أن تعبر عنه هذه الساعة (قارن مع مرقس 14 : 35 )؛وبدلا من صلاته لمراتٍ ثلاث أن تُنْزَع عنه هذه الكأس (مرقس 14 : 36 ، 39 ، 41 )، نجده يطلب ذلك مرة واحدة (لوقا 22 : 42 )،مستهلا صلاته ،في إنجيل لوقا وحده،بشرطٍ شديد الأهميَّة :"إن شئت ".
وهكذا ، في الوقت الذي يصوِّرُ فيه مصدر لوقا ،أي إنجيل مرقس، يسوع باعتباره مكروبًا عندما يصلِّي في الحديقة ،يعيد لوقا صياغة هذا المشهد كاملا لهدف إظهار أنَّ يسوع كان هادئا في مواجهة الموت . الاستثناء الوحيد هو قصة "عرق يسوع الدموي"، وهي الحكاية التي تخلو منها أقدم وأفضل الشواهد التي لدينا . لماذا يتعب لوقا نفسه في التخلص من الصورة التي رسمها مرقس عن يسوع المكروب لو أنَّ كُرْبَة يسوع كانت هي الغرض الأساسي من القصة ؟
من الواضح أنَّ لوقا لم يكن يشاطر مرقس مفهومه عن يسوع المكروب اليائس . ليس ثمَّة مكانٌ آخرُ يبدو فيه هذا الأمر واضحًا أشد ما يكون الوضوح من رواياتهما المتتالية عن صلب يسوع . يصوِّرُ مرقسُ يسوعَ وهو في طريقه إلى جلجثة كإنسان صامت . تلاميذه تركوه وهربوا ؛ حتَّى النسوة المؤمنات كنَّ يراقبنه فحسب "من بعيد" . الحاضرون كلهم كانوا يسخرون منه – المارَّة وزعماء اليهود و السارقان . يسوع المرقسيّ ضُرِبَ وتعرض للسخرية وخُذِلَ وهُجِرَ ،لا من قبل أتباعه فحسب،بل وحتى من قبل الله نفسه . كلماته الوحيدة التي تفوَّه بها في هذا الموقف من أوله لآخره تأتي عند نهاية المشهد ، حينما يصرخُ بصوتٍ عالٍ " إلوي ، إلوي ، لما شبقتني "(إلهي ،إلهي ، لما تركتني ؟). ثم يطلق بعد ذلك صرخةً مدويةً و يموت .
هذه الصورة ،مرة أخرى ، تتناقض تماما مع ما نجده في إنجيل لوقا . ففي رواية لوقا ، نجد يسوع بعيدًا تماما عن أنَّ يكون صامتًا . وعندما يتكلم ، يظهر أنه ما يزال رابط الجأش واثقًا في الله أبيه ،راضٍ عن قدره ،مهتمًّا أكثر بمصير الآخرين . ففي طريقه إلى الصلب ، وفقا لما جاء في إنجيل لوقا ،عندما يرى يسوع مجموعة من النسوة يندبن سوء حظه ، يخبرهنَّ أنَّ لا يبكين عليه بل بالأحرى على أنفسهنَّ و على أطفالهن بسبب الكارثة التي ستحل بهم قريبًا (23 : 27 – 31 ).وبينما يجري تثبيتُه على الصليب بالمسامير ، نجده يصلِّي إلى الله :" يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " بدلا من أن يحافظ على صمته.
على الصليب ، في وسط آلامه ، يدخل يسوع في حوارٍ شيِّقٍ مع أحد السارِقَيْن المصلوبَيْن إلى جواره ، مؤكِّدًا له أنهما سيجتمعان معًا في هذا اليوم في الجنة (23 : 43 ). أكثر الأمور تعبيرًا عما نقول هو أنه بدلا من أن يطلق يسوع في النهاية صرخته الحزينة بسبب هجر الله له،حسبما يصوره لوقا، يستودع روحه عند أبيه الرحيم وكُلُّه ثقة في منزلته عند الله ،:" يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي "(23 : 46 ).
سيكون من العسير أن نغالي في تقدير أهمية هذه التغييرات التي أحدثها لوقا في مصدره (إنجيل مرقس) لكي نفهم مشكلة النص محل دراستنا . ليس هناك موضع في رواية لوقا للآلام يفقد يسوع فيه السيطرة على نفسه ؛ ولم يحدث على الإطلاق أنَّ كان يسوع في حالة عميقة و موهنة من الكرب بسبب ما سيؤول إليه مصيره . فهو هنا مسيطر تماما على قدره ، يعرف ما يجب عليه فعله وما سيحدث له بمجرد أن يحدث . إنه ذلك الرجل الذي يعيش في سلام مع نفسه و يواجه الموت بهدوء .
ماذا ، إذن ، سنقول عن عددينا المتنازع عليهما ؟ هذان هما العددان في الإنجيل حسب لوقا كله الذان يقوِّضان هذه الصورة الواضحة . هنا فحسب يشعُرُ يسوع بالأسى على مصيره المحتوم ؛ هنا فحسب يفقد هدوءه ،هنا نجده غير قادر على تحمل أعباء مصيره . لماذا حذف لوقا كل آثار الأسى الذي شعر به يسوع في كل موضعٍ آخر لو كان قد قصد أن يؤكِّده هنا بأقوى الكلمات ؟
لماذا يحذف مادة من مصدره متوافقة مع هذا العدد قبل وبعد العددين موضع دراستنا ؟ يبدو أنَّ رواية " العرق الدموي" ليسوع ، التي ليس لها وجود في أقدم و أفضل مخطوطاتنا ،ليست أصيلة في إنجيل لوقا و إنما هي إضافة أحدثها أحد النساخ إلى الإنجيل (11).
الرسالة إلى العبرانيين و يسوع المتروك
الصورة التي رسمها لوقا ليسوع تتعارض ليس فقط مع ما جاء في إنجيل مرقس ، و إنما أيضًا مع تلك الواردة في أسفار مؤلفي العهد الجديد الآخرين ،بما في ذلك المؤلف المجهول للرسالة إلى العبرانيين ، الذي يبدو أنه افترض مسبقا معرفة تقاليد الآلام التي يواجه يسوع الموت خلالها وهو مكروب و التي مات فيها بلا أيِّ عونٍ من الله أو دعم منه ، وذلك ما يمكننا رؤيته في حلِّ واحدة من أكثر مشكلات العهد الجديد إثارة .
هذه المشكلة النصية نجدها في سياق يتحدث عن خضوع كلِّ الأشياء النهائي ليسوع ، ابن الإنسان. لمرة أخرى ، سأضعُ القراءات المتباينة محل الدراسة بين الأقواس .
" لأنه عندما يخضع (الله) كلَّ شئٍ له ، لم يترك شيئا غير خاضع له ، لكننا للآن لم نرَ كلَّ الأشياء خاضعة له . لكننا رأينا يسوع بالفعل ، الذي ،كونه جُعِلَ أقل شأنا من الملائكة لوقت قليل ، كُلِّلَ بالمجد والكرامة بسبب معاناته الموت ، لكي يذوق الموت عن كل واحدٍ (بنعمة الله / بعيدا عن الله )."(عبرانيين 2 : 8-9 )
على الرغم من أنَّ غالبية المخطوطات الباقية تصرح بأنَّ يسوع مات عن جميع البشر (بنعمة الله ) CHARITI THEOU)) ، توجد مخطوطتان أخريان تقولان ، بدلا من ذلك ،إنه مات " بمعزلٍ عن الله " (CHORIS THEOU). هناك أسباب جيدة تجعلنا نعتقد أنَّ القراءة الأخيرة ، مع كل ذلك ، كانت هي القراءة الأصلية في الرسالة إلى العبرانيين .
لست بحاجة إلى الدخول في التعقيدات الخاصة بدعم المخطوطات للقراءة التي تقول " بعيدًا عن الله " إلا لكي أقول إنه حتى لو وجدت هذه القراءة في وثيقتين فقط يرجع تاريخ كتابتهما إلى القرن العاشر ، فإن أحدها (وهي المخطوطة رقم 1739 ) من المعروف أنها قد نقلت عن نسخة على الأقل لا تقل قِدَمًا عن أقدم مخطوطاتنا.
الأمر الأكثر إثارة هو أنَّ أوريجانوس أحد علماء بواكير القرن الثالث يخبرنا أنَّ هذه القراءة (بمعزلٍ عن الله ) كانت هي القراءة الواردة في أغلب المخطوطات في عصره . هناك دليل آخر كذلك يشير إلى ذيوع هذه القراءة في العصور القديمة: فقد وُجِدَتْ في مخطوطات كانت معروفة للقديسَيْن "أمبروز" و"جيروم" في الغرب اللاتيني واقتبسها عددٌ من كتاب الكنيسة حتى القرن الحادي عشر. وهكذا ،على الرغم من أنها لم تكن ثابتة فيما لدينا من مخطوطات على نطاق واسع،إلا أنها في الوقت ذاته كانت مدعومة بأدلة خارجية قوية .
وحينما يتحول المرء من الاعتماد على دليل خارجي إلى الاعتماد على دليل داخلي،فلا ريب في أفضليَّة هذه القراءة المتباينة الثابتة في المخطوطات ولو على نحوٍ ضعيف .
رأينا بالفعل من قبل أنَّ النساخ كان من المرجَّح إلى حدٍّ كبيرٍ أنَّ يغيِّروا القراءة التي يكون من الصعب فهمها إلى أخرى أكثر سهولة ، و العكس غير صحيح . قراءتنا هذه تقدِّم لنا حالة نموذجية لهذه الظاهرة . كان المسيحيون في العادة في القرون الأولى ينظرون إلى موت يسوع باعتباره إظهارًا أسمى لنعمة الله . القول إنَّ يسوع مات " بمعزلٍ عن الله " يمكن اعتبار أنه يعني عددًا من الأشياء غالبها غير مستساغ . وحيث إنَّ النساخ لابد وأنهم قد اختلقوا إحدى هاتين القراءاتين بالاعتماد على القراءة الأخرى ،فهناك تساؤلٌ صغيرٌ عن أيِّ هاتين القراءتين من المرجح أكثر أنه التحريف .
لكن...هل كان هذا التحريف عن عمدٍ ؟ المدافعون عن النص الأكثر ورودا في المخطوطات " بنعمة الله " كان من المتحتم عليهم بالطبع أنَّ يزعموا أنَّ التغيير لم يطرأ بشكل متعمَّد (وإلا فسيكون نصهم المفضل هو الذي يمثِّل التحريف). تحت وطأة الاضطرار ،إذن ، قاموا بابتكار سيناريوهات بديلة لتفسير الأصل (غير المقصود) للقراءة الأكثر صعوبة . في الغالب ،سيفترضون ببساطة أنَّ التشابه بين الكلمتين محل الدراسة (XARITI/ XWRIS) في الشكل هو الذي جعل النساخ يخطئون عن غير قصد فيضعون حرف الجر(بمعزلٍ عن) بدلا من كلمة(نعمة) .
وجهة النظر هذه ،مع ذلك ، تبدو بعيدة الاحتمال قليلا. فأيُّ الحالتين التاليتين هي الأكثر احتمالا: أنَّ يقوم ناسخٌ مهملٌ أو شارد الذهن بتغيير نصه من خلال كتابة كلمة " أقل " تكرارا في العهد الجديد (بمعزلٍ عن الله ) ،أم أن يستخدم أحدهم كلمة كثيرة التكرار في العهد الجديد ("نعمة" شائعة أربع أضعاف "بمعزل عن الله")؟ هل من المحتمل أن يكون هذا الناسخ قد اختلق جملة ليس لها أي وجود في أي مكان آخر في العهد الجديد ("بمعزلٍ عن الله) أم أنه اختلق جملة تكررت أكثر من عشرين مرة (" بنعمة الله")؟ ما هو الأكثر احتمالا :أن يختلق قولا غريبا و مثيرا للصعوبات ، ولو بغير قصد،أم أن يختلق الآخر الذي يعتبر قولا مألوفا وسهل الفهم ؟ بالتأكيد ، الخيار الأخير هو الأكثر احتمالا . فالقُرَّاء يخطئون في الكلمات الغريبة لصالح الكلمات الشائعة و يبسطون ما هو أكثر تعقيدًا خاصة عندما تشرد أذهانهم جزئيًّا. لذلك ،حتى نظرية الإهمال تدعم كون القراءة الأقل ورودًا في المخطوطات (بمعزلٍ عن الله) هي القراءة الأصلية.
النظرية الأكثر شيوعًا في أوساط من يعتقدون أنَّ جملة " بمعزلٍ عن الله" ليست الجملة الأصلية هي أنَّ هذه القراءة اختلقت كملاحظة هامشية : فقد قرأ أحد النساخ في العدد 2 : 8 من سفر العبرانيين أنَّ " كل الأشياء" أُخْضِعَتْ لسلطان المسيح ، وعلى الفور ذهب فكره إلى العدد 15 : 27 من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس:
" لأن كل الأشياء أُخْضِعَتْ تحت قدمه (أي المسيح)." لكن حينما يقال أنَّ " كل الأشياء ستخضع،" من الواضح أنها تعني كل الأشياء باستثناء من أخضعها له (أي أنَّ الله نفسه ليس من بين الأشياء التي أُخْضِعَت للمسيح في النهاية).
وفقا لهذه النظرية ،الناسخ الذي كان يقوم بنسخ الإصحاح 2 من العبرانيين أراد أنَّ يوضح هنا أيضًا أنَّ النص يشير إلى أنَّ كل شئ هو خاضع للمسيح ، وأنَّ هذا الأمر لا ينطبق على الله الآب. ولحماية النص من أنَّ يسئ أحدٌ فهمه ،أدخل الناسخ ملاحظة تفسيريَّة في هامش العدد 2 : 8 من العبرانيين (كنوع من الإحالة إلى اكورونثوس 15 : 27) ليشير إلى أنه لا شئ نجا من الخضوع للمسيح،" باستثناء الله". هذه الملاحظة انتقلت في وقت تالٍ بمعرفة ناسخ مهمل في العصور التالية إلى نصِّ العدد التالي ، العبرانيين 2 : 9 ، حيث ظنَّ أنَّها تنتمي إليه .
على الرغم من ذيوع هذا الحل ، إلا أنه ربما أذكى من أن يعتمد ويتطلب حدوث كثير من الخطوات المشكوك فيها لكي يتم التصديق عليه.
ليس هناك أي مخطوطة تضم بين ثناياها القراءتين معًا (أي التصحيح الذي وقع للهامش أو لنص العدد 8 ،حيث ينتمي الهامش ،ومعهما النص الأصلي للعدد 9 ). أضف إلى ذلك أنه لو ظنَّ ناسخٌ أنَّ الملاحظة كانت تصحيحا ورد في الهامش ،فلماذا وجده في الهامش بعد العدد 8 وليس العدد 9 ؟ أخيرًا ، لو أنَّ الناسخ الذي اختلق الهامش كان قد فعل ذلك ليشير إلى الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ، ألم يكن سيكتب " باستثناء الله "( EKTOS THEOU)- وهي الجملة الموجودة بالفعل في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس) بدلا من أنَّ يكتب " بمعزلٍ عن الله "( CHORIS THEOU)- التي ليس لها وجود في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثيوس؟
بالجملة ، من الصعب جدا تفسير جملة (بمعزل عن الله ) لو أنَّ جملة ( بنعمة الله) كانت هي القراءة الأصلية في العبرانيين 2 : 9 .
في الوقت نفسه ، بينما يصعب توقع أنَّ ناسخًا قد قال إنَّ المسيح مات "بمعزلٍ عن الله " ،نجد أنَّ ثمة أسبابًا منطقيةً للغاية تدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذه القراءة تحديدًا هي ما خطته يدُ مؤلِّف الرسالة إلى العبرانيين . لأن هذه القراءة الأكثر ورودًا في المخطوطات هي أكثر توافقا مع العقيدة اللاهوتية للرسالة إلى العبرانيين(" وهذا المنهج هو ما يعرف بالاحتمالات الداخلية"). فهذه الكلمة "نعمة" (CHARIS) لم ترد مطلقا في الرسالة كلها في معرض الإشارة إلى موت يسوع أو إلى فوائد الخلاص التي جاءت كنتيجة لموته.
بدلا من ذلك ، دائما ما نجدها تتعلق بهبة الخلاص المكفولة للمؤمن برحمة الله (انظر على وجه الخصوص الأعداد 4 : 16 ؛ و 10 : 29 ؛ و12 : 15 ؛13 : 25 من سفر الرسالة إلى العبرانيين).
وللتأكيد على ذلك ، من المعروف تاريخيًّا أنَّ المسيحيين كانوا أكثر تأثُّرًا بالمؤلفين الآخرين للعهد الجديد ،بولس على وجه الخصوص،الذي كان يرى في تضحية يسوع على الصليب باعتبارها التجسيد الأسمى لنعمة الله . لكنَّ العبرانيين لا تستخدم هذا المصطلح (نعمة الله) على هذا النحو على الرغم من أنَّ النساخ الذي كانوا يعتقدون أنَّ مؤلف هذا السفر هو بولس ربما لم يدركوا هذا.
من ناحية أخرى ،القول إنَّ يسوع قد مات " بمعزل عن الله"- وهو القول الغامض إذا فهمناه بمعزل عن السياق- يعطي معنى مقنعًا في سياقه الأدبي الواسع في ثنايا الرسالة إلى العبرانيين. وفي حين أنَّ هذا المؤلف لم يشِر على الإطلاق إلى موت يسوع باعتباره تجسيدا لل"نعمة" الإلهية ، فهو يؤكد على نحو متكرر أنَّ يسوع مات ميتة بشريَّة ومخزية تمامًا ، وأنَّه أُبْعِدَ تماما عن المملكة التي جاء منها ، مملكة الله؛ وأنَّ تضحيته ، نتيجة لذلك، قبلها الله ككفارة صحيحة عن الخطية. فوق ذلك ، لم يتدخل الله في مسألة آلام يسوع ولم يفعل شيئا ليخفف من آلامه . لذلك ، على سبيل المثال ،يتحدث سفر الرسالة إلى العبرانيين عن يسوع وهو يتضرع في مواجهة الموت إلى الله بصرخات مدوية وبدموع . في العدد 12 : 2 يقال عنه إنه احتمل " خزي " موتته،ليس لأن الله قد أعانه على ذلك ،بل لأنه كان يأمل في التبرُّر .وفي أنحاء الرسالة ،يقال إنَّ يسوع اختبر الألم و الموت الإنسانيَّ ، مثل الكائنات البشرية الأخرى " من كل وجه ". لكنَّ آلامه لم تكن كربة خففتها تدابير إلهية خاصة .
الأمر الأكثر أهمية هو أنَّ هذا هو موضوع رئيسي للسياق القريب لعدد 2 : 9 ، الذي يؤكِّد أنَّ المسيح اتخذ لنفسه وضعًا أقل من الملائكة لكي يشاركنا بالدم و اللحم ولكي يختبر الآلام الإنسانيَّة ولكي يموت ميتة إنسانية. وللتأكيد على ذلك،من المعروف أنَّ موت يسوع قد جلب الخلاص،لكنَّ الفقرة لا تقول أيَّ كلمة عن نعمة الله كأمر واضح في عمل المسيح الكفَّاري،بل تركز بدلا من ذلك على طبيعة المسيح وعن نزول المسيح إلى مملكة الموت والآلام العابرة . لقد اختبر يسوع الآلام كإنسانٍ كاملٍ بمعزلٍ عن أي عون من جهة نفسه باعتباره كائنًا علويًّا. العمل الذي بدأه عند نزوله يكَمِّلُه بموته، الموت الذي كان من المتحتم أنَّ يحدث " بمعزلٍ عن الله".
كيف يمكن أن تكون القراءة "بمعزلٍ عن الله"، التي يمكن تفسيرها بصعوبة كتحريف أحدثه النساخ متوافقة مع الاختيارات اللغوية والأسلوبية واللاهوتية للرسالة إلى العبرانيين، بينما القراءة البديلة "بنعمة الله"،التي لا تمثل للنساخ أي صعوبة على الإطلاق ، تبدو متناقضة مع ما تخبرنا به الرسالة إلى العبرانيين عن موت يسوع و مع الطريقة التي استعملتها في إخبارنا عن هذا الموت ؟ العدد 2 : 9 من الرسالة إلى العبرانيين يبدو أنه في الأصل كان يقول أنَّ يسوع مات " بمعزلٍ عن الله " ، متروكًا ، على نحو مشابه كثيرا للصورة التي رسمها إنجيل مرقس في روايته عن آلام المسيح .
الخاتمــــــة
في كل حالة من هذه الحالات الثلاث التي ألقينا عليها الضوء ، هناك تباين نصيّ هام يضطلع بدور هام في الكيفية التي يتم بها تفسير هذه الفقرة المستهدفة بالدراسة . من المهم على نحوٍ واضح أنَّ نعرف ما إذا كان يسوع قد قيل عنه أنه شعر بالشفقة أم بالغضب في مرقس 1 : 41 ؛ وما إذا قد كان هادئا و رابط الجأش أم شاعر بقلق عميق في العدد لوقا 22 : 43 -44 ؛ وما إذا كان قد قيل عنه إنه مات بنعمة الله أو " بمعزلٍ عن الله "في العدد 2 : 9 من الرسالة إلى العبرانيين.يمكننا أنَّ ننظر في فقرات أخرى بسهولة كذلك ،لكي ندرك معنى أهميةالتعرف على كلمات مؤلف ما إذا كنا نريد أنَّ نفسر رسالته .
بالنسبة للتقليد المخطوط للعهد الجديد ، هناك ما هو أكبر بكثير من مجرد التوصل إلى ما قاله مؤلفها بالفعل. هناك أيضًا قضية (الأسباب) التي من أجلها تعرضت هذه الكلمات للتغيير وكيف تؤثر هذه التغييرات على معاني كتاباتهم .هذه القضية المتعلقة بتعديل الكتاب المقدس في الكنيسة المسيحية الأولى ستكون موضوع الفصلين التاليين حيث سأحاول أن أوضح كيف أنَّ النساخ ،الذين لم يكونوا راضين تماما عن ما قالته أسفار العهد الجديد ،عدَّلوا كلماتها ليجعلوها تدعم المسيحية الأرثوذكسية بصورة أوضح ولكي تعارض الهراطقة والنساء واليهود والوثنيين بصورة أكبر.
هوامش الفصـــــــل الخامـــس
[1] للاطلاع على شرح أكثر تفصيلا لهذه المناهج ، انظر كتاب " نص الكتاب المقدس" (text of the new testament) ، لبروس ميتزجر و بارت إرمان ، ص 300 – 315 .
[2] من بين أمور أخرى ،هذا يعني أن القراءات في نص الأغلبية " البيزنطي" ليست بالضرورة هي القراءات الأفضل . فهذه القراءات تتمتع ببساطة بدعم المخطوطات على قاعدة عددها مجردًا. وكما يقول القول المأثور المعروف في أوساط نقاد النصوص :" المخطوطات تُقَيَّم ولا تعَدُّ."
[3] بعض العلماء يعتبرون هذه القاعدة هي أهم و أكثر مبادئ علم النقد النصي جميعا مصداقية.
[4] كثير مما سيأتي مأخوذ من مقالتي " النص والتقليد :دور مخطوطات العهد الجديد في الدراسات المسيحية المبكرة ،"وتجدونه في جريدة النقد النصي على الرابط التالي:
http://rosetta.reltech.org/TC/vol05/Ehrman2000a.html
[5] لمناقشة أكثر تفصيلا لهذه القراءة المتباينة ، وأهميتها بالنسبة للتفسير ، انظر مقالتي" خاطئ بين يدي يسوع الغاضب "( A Sinner in the Hands of an Angry Jesus)، في كتاب " العهد الجديد اليوناني والتفاسير: مقالات تكريما لجيرالد.ف.هاوثورن،بتحرير تيموثي . ب. سيلورز( مطبعة: جراند رابيدز:إيردمانز،2003 ). اعتمدت على هذا المقال في كثير من المناقشة التالية .
[6] انظر كتاب"العهد الجديد"،لبارت إرمان ، الفصل ال6 .
[7] في موضعين آخرين فقط في إنجيل مرقس يوصف يسوع بوضوح أنه شفوق :في مرقس 6 : 34 ، عند إطعام الآلاف الخمسة ، وفي مرقس 8 : 2 ، عند إطعام الأربعة آلاف .أما لوقا فيحكي القصة الأولى على نحو مغاير كليًّا، ولا يذكر الثانية . متَّى ، رغم ذلك ،يذكر القصتين كلتيهما و يحتفظ بالوصف الذي ذكره مرقس عن شفقة يسوعفي الموضعين كليهما (متَّى 14 : 14 و 9 : 30 )؛ وكذلك في 15 : 32 ). في ثلاثة مواقف أخرى في متَّى ، وكذلك في مناسبة أخرى في لوقا يوصف يسوع باعتباره شفوقا ،باستخدام هذا التعبير (SPLANGNIZO). من الصعب ،إذن ، تخيُّل السبب الذي يجعلهما ، كل منهما على نحو مستقل ، يحذفان التعبير من روايتهما التي نناقشهما الآن لو كانا قد وجداها في مرقس .
[8] للاطلاع على هذه التفسيرات المتنوعة ، انظر مقال بارت إرمان " خاطئ بين يديّ يسوع الغاضب."(a sinner in the Hands of an angry Jesus)
[9] للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلا للأسباب التي جعلت النساخ يغيرون الرواية الأصلية ، انظر الصفحتين (200 – 201 ) .
(مقصود المؤلف هو الصفحتان في النص الإنجليزي...المترجم).
[10] للاطلاع على مناقشة أكثر تفصيلا لهذه القراءة المتباينة ،انظر كتاب إرمان " الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس "( Orthodox Corruption of Scripture)، ص 187 – 194 . معالجتي الأولى لهذه الفقرة كتبته بالتعاون مع مارك بلانكيت.
[11] للطلاع على مناقشة للأسباب التي حدت بالنساخ إلى إضافة العددين إلى رواية لوقا انظر الصفحتين 164 – 165 فيما يلي.
ملحوظة:
يقصد المؤلف هاتين الصفحتين حسب الترقيم في النسخة الإنجليزية....المترجم
[12] للاطلاع على دراسة أكثر تفصيلا لهذه القراءة المتباينة ، انظر كتاب" الأرثوذكس حرفوا الكتاب المقدس " لبارت إرمان ، ص 146 – 150 .