٧. نحو نموذج متعدد العوامل للاستقرار المبكر للنص القرآني
أظهرت الأقسام السابقة أن دراسة تاريخ النص القرآني لا تكتمل بالنظر في بُعد واحد فقط؛ إذ تتقاطع في هذا المجال شواهد المخطوطات، ومناهج دراسة الأداء الشفهي، ونماذج الاتصال الاجتماعي، وتحليلات البنية اللغوية، وأبحاث الذاكرة. وتتكامل هذه المجالات لتقدّم صورة أوضح: وهي أنّ القرآن بلغ مستوى عالياً من الاستقرار في فترة مبكرة جداً. ويهدف هذا القسم إلى جمع هذه الخيوط في تصور واحد متماسك.
٧.١ عوامل بنيوية تحدّ من إمكانية التغيّر
تتضمن البنية اللغوية للقرآن خصائص تجعل النصّ أقل قابلية للتبديل، وأكثر قدرة على كشف الانحراف، من ذلك:
إحكام في البناء اللغوي يحدّ من البدائل الممكنة.
متوازيات لفظية ومعنوية متكرّرة تعمل كنقاط مرجعية داخلية.
إيقاع واضح يجعل الآية وحدة أداء تسترعي الانتباه لأي خلل.
تراكيب وصيغ ثابتة تقلّل المجال للتأويلات المختلفة.
هذه السمات ليست مظهراً بلاغياً فحسب، بل تؤثر في حركة النص خلال انتقاله، حيث يجتمع فيها التكرار الذي يُظهر الخطأ، والقيود التي تقلّل مساحة وقوعه.
٧.٢ آليات اجتماعية وشعائرية تدعم الثبات
أُدمج القرآن منذ البدايات في ممارسات جماعية واسعة، من الصلاة إلى التلاوة العامة والتعليم. وهذا الاندماج جعل المجتمع نفسه عاملاً في حفظ النص، لأن:
التلاوة كانت علنية،
ومتكررة،
جماعية،
ومرتبطة بالشعائر.
وفي مثل هذه الظروف، يظهر الخطأ سريعاً، ويُصحح على الفور. كما أن حركة الناس بين الأمصار—في الحجّ، والتجارة، وتولّي الولايات—أوجدت فرصاً دائمة للمقارنة بين المصاحف والتلاوات، الأمر الذي يمنع تكون تقاليد نصية محلية منعزلة.
٧.٣ العلاقة التكامليّة بين النقل الشفوي والكتابي
يقوم نقل القرآن على مسارين يعمل كل منهما في ضبط الآخر:
المصحف يقيد التلاوة:
إذ لا تُقبل التلاوة التي تخالف الرسم المعروف.
التلاوة تضبط المصاحف:
فالمجتمع الذي ألف طريقة محددة في الأداء لا يقبل نصاً مكتوباً يخالفها.
القراءات تضبط التنوع:
فهي تسمح بوجوه متعددة في النطق دون أن تغيّر بنية النص أو معناه.
هذا الترابط بين القناتين—الشفوية والكتابية—نادر في النصوص القديمة؛ فكثير منها شهد تباعداً بين ما يُقرأ وما يُكتب، بخلاف القرآن الذي توحّد فيه المساران.
٧.٤ تقارب المخطوطات بما يفوق المتوقّع تاريخياً
تدلّ مخطوطات القرن الأول والثاني الهجري على قدر من التجانس يتجاوز ما هو مألوف في نصوص ما قبل الطباعة. ففي حين تظهر مخطوطات الكتب المقدسة الأخرى (اليهودية والمسيحية وغيرها) فروقاً لافتة بين الأقاليم، تأتي المخطوطات القرآنية من اليمن ومصر والشام والحجاز متقاربة في:
الرسم،
ترتيب الآيات،
البنية العامة للنص.
ومهما كانت درجة التنظيم في الدولة الإسلامية المبكرة، فإن هذا القدر من الاتفاق يصعب تفسيره من دون افتراض وجود بيئة نقل عالية الدقة تعمل منذ البداية.
٧.٥ الخصائص المعرفية التي تعزز قابلية الحفظ
يبيّن علم النفس المعرفي أن النصوص التي تجمع بين الإيجاز، ورسوخ الإيقاع، وتكرار الصيغ، وترابط المعاني—وهي كلها موجودة في القرآن—تكون أوسع انتشاراً وأقوى ضبطاً، لأن:
الآيات القصيرة وحدات مناسبة للحفظ،
الإيقاع المنتظم يعزز التذكر،
ترابط المعاني يجعل الخطأ واضحاً،
الصيغ المتكررة تخفف العبء الذهني.
ويصف الباحثون النصوص التي تحمل هذه الخصائص بأنها نصوص “عميقة الترميز”، تُخزّن في الذاكرة عبر مستويات متعددة، مما يجعل الخطأ فيها سريع الانكشاف.
٧.٦ منظومة متعددة القنوات لضبط النص
عند النظر في العوامل السابقة مجتمعة، تظهر منظومة متكاملة لحماية النص وتشديد ضبطه، تشمل:
بنية لغوية محكمة
(تكرار، صيغ ثابتة، إيقاع واضح)
شواهد مادية متقاربة
(مخطوطات مبكرة متسقة)
ممارسة اجتماعية جماعية
(تلاوة، تعليم، شعائر)
آليات معرفية
(إيقاع، وحدات حفظ، ترابط دلالي)
تواصل جغرافي مستمر
(مقارنة بين الأمصار وتوحيد الأداء)
تجتمع هذه العناصر لتجعل احتمالية حدوث تغيّر كبير يمر دون اكتشاف احتمالية بالغة الضعف.
٧.٧ التقدير العام
تدلّ الشواهد على أن القرآن:
استقرّ نصّه في وقت مبكر جداً،
وحظي بنقلٍ مادي وشفهي متّسق بين الأمصار،
وحُفظت ألفاظه وأداؤه الصوتي معاً،
ونشأت آليات ذاتية لتصحيح الانحراف،
واستفاد من خصائص لغوية تجعل حفظه وضبطه أيسر.
وبذلك يمثّل القرآن حالة نادرة اجتمعت فيها عوامل متعددة—لغوية واجتماعية ومعرفية ومادية—لتشكيل نظام نقل شديد الثبات، لا يعتمد على آلية واحدة، بل على منظومة متداخلة من المستويات يعمل كل منها على دعم الآخر.
لماذا تقوم النماذج البديلة على افتراضات تعسّفية
يبيّن التحليل البايزي أن الفرضيات التي تقول باستمرار السيولة النصية في القرآن خلال الحقبة الأولى لا يمكن أن تُفسّر الشواهد القائمة إلا باللجوء إلى عدد من الافتراضات المساندة التي لا يشهد لها دليل مستقل. فالسجلّ المخطوطي، وإن كان غير كامل، لا يشترط اليقين المطلق؛ بل يكفي أن يجعل احتمالَ الاستقرار المبكر أرجحَ من احتمال التطوّر النصي الممتد زمنيا. وانطلاقاً من هذا المعيار، يصبح لزاماً على النظريات التي تفترض سيولة النص لفترة طويلة أن تفسّر ما بين أيدينا من معطيات، لأنها تُظهر نمطا لا يلائم هذا النوع من الفرضيات.
فالرقوق المبكرة الواردة من اليمن والشام ومصر والحجاز تتفق في الرسم ، وفي بنية السُّوَر وترتيبها دون ظهور رواسب لتقاليد نصية متباينة. وهذا النمط من التوافق يُعد متوقعاً في ضوء فرضية الاستقرار المبكر (h₁)؛ إذ يتوقع في مثل هذه الحالات أن تتجانس النُّسَخ المتداولة إذا وُجد أصلٌ معتمد وانتقل في بيئة يغلب عليها الأداء الجماعي والتصحيح المتبادل. أمّا وفق فرضية التحرير المتأخر أو استمرار السيولة النصية (h₂) فإن الوصول إلى هذا القدر من التجانس يُعد أمراً غير مألوف ما لم تُفترض عمليات أو وقائع إضافية لا دليل عليها.
وتشمل هذه الافتراضات عادةً:
زعمُ وجود مصاحف إقليمية اندثرت كلّياً دون أن تخلّف أثراً مادياً أو شعائريا؛
افتراضُ تعدّدٍ نصي واسع النطاق لم يظهر انعكاسه في النقوش ولا في الوثائق ولا في العبارات القرآنية المثبتة في المصادر المبكرة؛
القولُ بعمليات توحيد أو تسوية جذرية لم يَرِد لها ذكر في أي مصدر تاريخي؛
نسبة التطابق النصي إلى تدخّل سياسي شامل لم يُبقِ أثراً لتحرير أو مراجعة.
وهذه الافتراضات تعسّفية بالمعنى الدقيق؛ لأنّها لا تمليها الشواهد، بل تُستحضر لتفادي النتائج التي تؤيّد فرضية الاستقرار المبكر. فهي افتراضات تُختلق اختلاقا لحماية نموذج مهدَّد ، لا استجابةً لمعطيات متاحة.
في المقابل، فإن فرضية الاستقرار المبكر لا تحتاج إلى مثل هذه الافتراضات التعسفية؛ فهي تفسّر:
التوافق الواسع في الرسم عبر الأقاليم المختلفة،
غياب التقاليد النصية المتوازية،
انحصار وجوه الاختلاف في نطاق القراءات المشهورة،
والحضور المبكر للنص في المجال التعبدي والتشريعي إلخ
باستنادها إلى آليات تشهد لها مصادر متعدّدة ومتراكبة.
وعلى هذا الأساس، تتسم فرضية الاستقرار المبكر بـ الاقتصاد التفسيري؛ إذ تنسجم مع الشواهد دون الحاجة إلى افتراض كيانات أو عمليات مجهولة. وفي إطار المنهج البايزي، تؤدي بنية الأدلة المتاحة إلى رفع احتمال الاستقرار المبكر وخفض احتمال النماذج التي تفترض سيولة ممتدة؛ ليس لأنها مستحيلة، بل لأنّ قبولها يستلزم افتراضات بلا شاهد، وهو ما يُضعِف احتمالها القبلي والبعدي معاً.
|