عرض مشاركة واحدة
قديم 12-01-2025, 01:29 PM قارىء غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [3]
قارىء
عضو جديد
 

قارىء is on a distinguished road
افتراضي

الزعم بأن اليهود كانوا يشترطون صعود النبي للسماء أو أن يأتي بكتاب مادي “من فوق” لا يستند إلى أي أساس صحيح؛ بل هو مبني على خطأ منهجي وقع فيه عدد من المستشرقين يتمثل في الخلط بين **اليهودية الأساسية** وبين بعض **التيارات الغنوصية والرؤيوية الهامشية**. فالآية: *﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾* لا تعبّر عن “عقيدة يهودية في النبوّة”، بل تصف **طلبًا تعجيزيًا** ينسجم تمامًا مع سلوك بني إسرائيل التاريخي في مطالبة موسى بمعجزات أعظم من ذلك، كما يوضحه القرآن نفسه: *﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾*. فالطلب كان من باب الجدال والتعجيز، لا من باب وضع “شروط نبوّة”.

اليهودية التوراتية والحاخامية لا تعرف فكرة أن النبي يجب أن يصعد للسماء أو يأتي بكتاب مادي. معظم أنبياء اليهود—من إشعياء وإرميا وحبقوق إلى داود وسليمان—لم يصعدوا للسماء إطلاقًا، ولا تلقّوا كتبًا سماوية مادية، حتى موسى نفسه لم يصعد للسماء بل صعد جبلًا أرضيًا هو سيناء. وبالتالي، لا توجد في اليهودية أي قاعدة تجعل “الصعود” أو “نزول الكتاب” شرطًا للنبوّة.

الخطأ المنهجي لدى المستشرقين هنا أنهم خلطوا بين **التيارات الغنوصية** (مثل أدبيات “الأبوكاليبس” و”الهيخلوت” و”أخنوخ”) وبين **اليهودية السائدة**. هذه النصوص الغنوصية تتحدث فعلًا عن “صعود روحي” و”تلقي معرفة سرية” أو “كتاب سماوي”، لكنها نصوص **باطنية وهامشية** لم تمثّل يومًا اليهودية الأساسية، ولم يكن يهود المدينة على معرفة بها أصلًا. ومع ذلك، يقوم المستشرق بانتقاء هذه النصوص الغريبة ثم يعمّمها على اليهودية كلها، ثم يبني على هذا التعميم الخاطئ حكمًا على الوحي القرآني. هذا يسمى في المنهج العلمي **انتقاءً متحيزًا (Cherry-picking)** و**إسقاطًا غير مبرر (Category Mistake)**؛ إذ يجعل نموذجًا رؤيويًا غنوصيًا خاصًا وكأنه “المعيار العام للوحي اليهودي”.

أضف إلى ذلك أن نفس النوع من الطلبات التعجيزية صدر من المشركين أيضًا: *﴿لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾*. فلو كان طلب “كتاب من السماء” دليلًا على عقيدة نبوية خاصة، لكان المشركون أيضًا أصحاب “نظرية نبوّة سماوية”، وهذا يبيّن هشاشة الاستنتاج من أصله.

الخلاصة: طلب يهود المدينة ليس دليلًا على أن اليهودية تشترط على النبي الصعود أو نزول كتاب مادي، بل هو جزء من نمط التعجيز المعروف تاريخيًا. أمّا تحويل نصوص غنوصية هامشية إلى “معيار للوحي اليهودي”، ثم محاكمة القرآن بناء عليها، فهو **خطأ منهجي واضح**، لأن هذه النصوص لا تمثل اليهودية ولا عقيدتها في النبوّة، ولا علاقة لها بواقع يهود الحجاز أصلًا.



  رد مع اقتباس