سأتعامل مع كلامك كما هو: دعوى أن ما تقوله "حقائق تاريخية ثابتة لا يختلف عليها اثنان"، وأن "كل العلماء مجمعين" على هذه النقاط. لو جرّدنا الموضوع من الانفعال، السؤال الحقيقي هو: هل يوجد في الأدلة التاريخية ما يثبت ـ إيجابًا لا سلبًا ـ عكس ما تقول أم لا؟
سأجيب من زاوية تاريخية نقدية، لا من منطلق إيماني، مع الاعتماد على ما وصل إليه البحث الحديث في النقوش والمخطوطات والمصادر غير الإسلامية.
أولًا: هل يوجد دليل تاريخي على وجود حركة دينية مميَّزة مرتبطة بالنبي محمد في القرن السابع؟
أنت تقول: لم يكن هناك دين اسمه الإسلام ولا طقوس مميزة ولا هوية دينية واضحة، بل مجرد حركة سياسية/قَبَلية، وأن هذا "مجمع عليه"
لكن الواقع أن لدينا في النصف الأول من القرن السابع نصوصًا غير إسلامية تتحدث عن:
• نبي عربي ظهر بين السراسنة/الهاجريين،
• له دعوة دينية،
• يرتبط اسمه بحرب وتوسع،
• ويُنسب إليه تشريع وسلوك ديني معيّن.
مثال واضح:
نص "تعليم يعقوب" Doctrina Jacobi (حوالي 634 م على الرأي الراجح) يتحدث عن نبي ظهر مع السراسنة، يزعم أن معه مفاتيح الجنة، ويقدّمه كنبي كاذب، لكنه مع ذلك يقرّ بوجود حركة دينية جديدة مرتبطة به.
ومثال آخر:
حولية سبايوس الأرمنية (منتصف القرن السابع) تصف محمدًا بالاسم، تذكر أنه تاجر، وأنه دعا العرب إلى الإيمان بإله إبراهيم الواحد، وتذكر بعض القواعد السلوكية التي فرضها على "الأمة"، ومنها أربع محظورات توافق ما في القرآن
هذا لا يثبت الصورة الإسلامية الكاملة بالطبع، لكنه ينقض جملة واحدة محورية عندك:
"لا نجد لا ديانة، ولا كتابًا، ولا طقوسًا، ولا اعترافًا خارج النصوص الإسلامية المتأخرة"
هذا ببساطة غير صحيح تاريخيًا؛ نحن نجد، في مصادر مبكرة غير إسلامية، وصفًا لحركة ذات مضمون ديني واضح مرتبطة بشخص اسمه محمد وتعاليم توحيدية وقواعد سلوكية. التفاصيل وأسلوب الوصف قد تختلف عن الرواية الإسلامية، لكن «العدم المطلق» الذي تصر عليه ليس موجودًا.
ثانيًا: "لا أحد ذكر الإسلام ولا القرآن" هل هذا دقيق؟
هنا خلطان:
1. تسمية الجماعة
صحيح أن المصادر السريانية والبيزنطية الأولى تتكلم غالبًا عن هاجريين، إسماعيليين، سراسنة… إلخ، وهذا طبيعي؛ الأمم تسمي الجيران بأسماء تنبع من تصورها هي (نَسَبًا أو جغرافيًا أو لاهوتيًا) لا من التسمية الذاتية للجماعة. هذا ليس خاصًّا بالعرب.
لكن من القرن السابع إلى الثامن، يتطور وصف هذه الجماعة في المصادر المسيحية إلى الحديث عن دين جديد، له شريعة وكتاب وطقوس، حتى لو لم يُستخدم لفظ "إسلام" كاصطلاح تقني في كل النصوص.
2. مسألة القرآن تحديدًا
تقول: حتى زمن يوحنا الدمشقي لم يكن هناك كتاب اسمه القرآن… ولا ذكر لكتاب بهذا الاسم… هذه حقيقة مجمع عليها.
ما نعرفه من بحث متخصص في نص يوحنا الدمشقي De Haeresibus الهرطقة المئة: هرطقة الإسماعيليين أنه:
o يتحدث عن جماعة دينية يعتبرها هرطقة مسيحية، ويسميها "هرطقة الإسماعيليين"
o يصرّح بأن لهم كتابًا يزعمون أنه "أُنزل من السماء"، ويسميه "الكتاب" أو "الصحيفة" وينقل منه مقاطع وينسبها إلى سور بأسمائها (النساء، البقرة، المائدة… إلخ)، ويناقش مضمونها
يوحنا لا يستخدم لفظ «القرآن» بالحرف، لكنه يتعامل مع نص واضح المعالم بوصفه الكتاب المقدس لهؤلاء. هذا بالضبط عكس ادعاء أن أحدًا لم يكن يعرف بوجود كتاب مميز لهؤلاء العرب حتى زمن العباسيين.
هل تأويل يوحنا دقيق لاهوتيًا؟ ليس موضوعنا. المهم تاريخيًا أن شاهدًا مسيحيًا معاديًا، عاش في قلب الدولة الأموية، يتعامل مع جماعة لها:
o نبيّ،
o كتاب،
o عقيدة توحيدية مميزة،
o وطقوس وأحكام.
هذا يناقض كلامك عن "غياب تام لكتاب مميز أو دين مميز".
ثالثًا: النقوش، البرديات، والعملات – هل حقًّا "لا شيء" قبل العباسيين؟
هنا النقطة التي تغيّر موازين النقاش بالكامل، لأننا لسنا أمام نصوص رواية إسلامية من القرن الثالث الهجري، بل أمام وثائق مادية مؤرَّخة:
1. قبة الصخرة (72 هـ / 691–692 م)
النقوش الداخلية والخارجية للقبة مليئة بآيات قرآنية صياغةً ومضمونًا، مع الشهادة:
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد رسول الله…"
النصوص فيها جدل صريح مع العقيدة المسيحية (نفي بنوّة المسيح، نفي التثليث) وتعبر عن هوية دينية متميزة
2. النقوش والعملات الأموية
بداية من عام 77 هـ ظهرت الدنانير والدراهم الأموية "النَّقْشية" التي تخلّت عن الصور البيزنطية واستُبدلت بآيات قرآنية وشعارات دينية واضحة (التوحيد، رسالة محمد).
هذه ليست «هرطقة إسماعيليين» مبهمة، بل سلطة سياسية تعلن نفسها إسلامية أمام الرأي العام (المحلي والدولي) عبر العملة الرسمية.
3. برديات ونقوش مبكرة 1–72 هـ
لدينا اليوم فهرسة واسعة للنصوص العربية/اليونانية/القبطية المؤرَّخة من العقود الأولى بعد الهجرة (مراسلات، إيصالات، رسائل إدارية، نقوش). كثير منها يحتوي:
o البسملة،
o تعابير مثل عبد الله أمير المؤمنين،
o إشارات إلى الحج،
هذه الكتلة من الوثائق هي التي جعلت باحثين مثل Robert Hoyland وYoussef Ragheb وغيرهما يقولون إن أي نظرية عن نشأة الإسلام لا بد أن تحسب حساب هذا الدليل الوثائقي المبكر. هذه ليست "روايات عباسية" بل مستندات رسمية ونقوش معاصرة تقريبًا للأحداث.
أن تقول بعد هذا كله: "لا يوجد دليل واحد على وجود ديانة مميزة أو كتاب، وكل العلماء مجمعون" هو تجاهل صريح لهذا الكم من الأدلة.
رابعًا: المخطوطات القرآنية المبكرة – هل «لم يكن هناك قرآن كامل معروف»؟
أنت تصرّ على أن:
"كل العلماء مجمعين أن القرآن خضع للتعديل والتحرير حتى زمن متأخر… وأنه لم يكن هناك قرآن كامل معروف قبل ذلك"
مرة أخرى، قد يقال أن نص القرآن مرّ بمرحلة تشكّل وضبط، وأن هناك طبقات نصية (مخطوط صنعاء مثال مهم). لكن القول بأنه "لم يكن هناك نص قرآني شبه كامل ومتداول قبل زمن متأخر" يصطدم مباشرة مع:
• مخطوطات مثل صنعاء ، وCodex Parisino-Petropolitanus، ومخطوطات أخرى،
• وكذلك مخطوطة برمنغهام التي تُظهر أجزاء من سور 18–20 بخط حجازي متناغم تقريبًا مع النص المتداول اليوم، وقد أرجع زمن تدوينها (بناءً على الكربون-14) إلى ما بين عامي 568 و645 م (أي في مدى حياة النبي محمد أو عقود قليلة بعدها)، مع أن النقاش مستمر حول تفسير هذه النتائج الزمنية بدقة.
الباحثون مثل فرانسوا ديروش وغيره يتعاملون مع هذه المخطوطات باعتبارها شواهد على أن معظم نص القرآن كما نعرفه اليوم كان متشكّلًا في وقت مبكر جدًا (القرن السابع)، مع وجود اختلافات وطبقات نصية، لا فبركة كاملة متأخرة
هل هناك خلاف حول مدى ثبات النص، وطبيعة الاختلافات؟ نعم.
هل هناك "جماع" على أن القرآن لم يكن موجودًا كنص جامع إلافي زمن متأخرً جدًا؟ لا، بالعكس: هذا رأي مدرسة معيّنة (التنقيحيون الراديكاليون) وموقعها اليوم على هامش التيار الرئيس في دراسات القرآن، حتى داخل الأوساط غير المسلمة العلمانية.
خامسًا: "كل العلماء مجمعين" – هل هذا صحيح أصلاً؟
أنت تصر على تكرار:
• كل العلماء مجمعين أنه لم يكن هناك ديانة اسمها الإسلام زمن محمد،
• كل العلماء مجمعين أنه لم يكن هناك كتاب معروف اسمه القرآن،
• كل العلماء مجمعين أن كل المؤلفات (السيرة، الحديث، الفقه) اختُرعت في العصر العباسي،
• كل العلماء مجمعين أن مصادر القرآن أساطير يهودية ومسيحية….
هذا النوع من العبارات يكفي وحده لإسقاط مصداقية أي ادعاء علمي، لأن من يطالع أقل قدر من الأدبيات يعرف أن المشهد البحثي منقسم بشدة:
• هناك اتجاه تقليدي/ناقد معتدل يرى أن الإسلام نشأ كديانة جديدة حول النبي محمد في القرن السابع، وأن القرآن كتابه المركزي، مع نقد لمراحل جمع النص والروايات.
• وهناك اتجاه تنقيحي متطرف (Wansbrough, Crone, Cook, Nevo…) يشكك في كثير من هذا، ويطرح فرضيات أكثر جذرية.
أسماء مثل Donner, Neuwirth, Déroche, Motzki, وغيرها، ليست هامشية، وهي لا تقول بما تدّعيه إطلاقًا. بعضها ينتقد الرواية الإسلامية الكلاسيكية بشدة، لكنه لا يقبل فكرة "لا دين، لا قرآن، لا هوية، إلى العهد العباسي"، ولا فكرة "إجماع العلماء" على هذا.
إذن: الادعاء بـ"إجماع" من هذا النوع مجرد مزاعم فارغة، لا تعكس حقيقة الحالة العلمية.
سادسًا: هل غياب لفظ «الإسلام» كاسم ديانة في بعض المصادر = عدم وجوده؟
أنت تردّ على فكرة أن غياب التسمية لا يعني غياب الدين بالقول إن هذا "دفاع سطحي"، ثم تقدّم مقارنة باليهودية والمسيحية. لكن هناك نقطتان يغفل عنهما:
1. الفارق الزمني والتوثيق
o اليهودية والمسيحية تطوّرتا قرونًا قبل أن تترك لنا هذا الكم من الوثائق.
o الإسلام ظهر في منطقة أقل توثيقًا كتابيًا (الجزيرة) وفي فترة انتقالية مضطربة سياسيًا.
o حتى مع ذلك، لدينا خلال أقل من قرن من وفاة النبي محمد: نبي باسم محمد، جماعة مميزة، كتاب، نقوش، عملة، بناء ديني (قبة الصخرة)، إدارة دولة… هذا كثير جدًا مقارنة بالقلة النسبية في غيره من الحركات في العصور القديمة.
2. التسمية الذاتية مقابل التسمية الخارجية
المصادر البيزنطية والسريانية لا تستعمل مصطلح "الإسلام" غالبًا، لكنها تتكلم عن:
o "قانون" أعطي لهؤلاء،
o "نبي" جاءهم،
o "كتاب" يقرؤونه،
o عقائد مخصوصة حول المسيح والكتاب المقدس.
إذن لا تستطيع تحويل «التذبذب الاصطلاحي» في المصادر الخارجية إلى «دليل قاطع» على عدم وجود ديانة مميزة.
سابعًا: عن تفسير دوافع العرب للإيمان بمحمد
أنت تنقل عن "هيرشفيلد" تفسيرًا نفسيًا–اجتماعيًا لالتحاق العرب بحركة محمد (بساطة العقيدة، المكافأة الأخروية، الانتماء القومي…) ثم يعمم النتيجة: الإيمان لم يكن دينيًا بل مصلحيًا وقوميًا.
حتى لو قبلنا أن هذه العوامل لعبت دورًا (وهي بالفعل تلعب دورًا في أي حركة دينية–سياسية)، فهذا لا يثبت أن:
• البعد الديني كان زائفًا أو ثانويًا بالضرورة،
• أو أن "العرب لم يفهموا اللاهوت"، وإلا كان كل من لا يقبل اللاهوت المسيحي عقله قاصر مقارنة بمن يقبله
• أو أن الإسلام مجرد غطاء أيديولوجي لصراع سياسي.
ثم إن انتشار الإسلام لاحقًا بين الفرس والترك والبربر وغيرهم، وفي سياقات اجتماعية وثقافية مختلفة، لا يمكن اختزاله في "بساطة الطقوس او العقيدة" أو "الطمع في الغنائم" وحدها؛ هذا تفسير أحادي اختزالي، وليس قراءة اجتماعية–تاريخية متوازنة.
ثامنًا: عن "الحجة من الصمت" التي تنفيها وتقع فيها
أنت تقول أنك لا ترتكب مغالطة " argument from silence" ، لأنه لديه "شعوب عاصرت محمد وعصاباته المجرمة"، ولو كان هناك دين وكتاب لذكرته… إلخ.
لكن واقع المصادر كما يدرسه مختصون مثل Hoyland هو:
• التوثيق غير متكافئ بين الأقاليم (مثلًا: مصر وبلاد الشام أوثق من الجزيرة نفسها).
• كثير من النصوص ضاع أو لم يصلنا.
• ما وصلنا محدود في حجمه ومشحون بتحيزات دينية–سياسية قوية (مسيحية، يهودية، زردشتية، ثم إسلامية).
ومع ذلك، من داخل هذا المحدود المتحيز نجد:
• ذكرًا لنبي،
• حركة دينية،
• خلافات لاهوتية مع المسيحية،
• مسائل تشريعية مميزة،
• ثم نقوشًا وعملات ووثائق رسمية تحمل صياغات قرآنية وشعائرية.
الحجة التي تقدمها هي في جوهرها:
"لو كان هناك دين وكتاب كما يقول المسلمون، لكان لدينا اليوم كمّ معين من الشهادات الخارجية، وبما أن هذا الكم أقل مما أتوقعه أنا، إذن الدين والكتاب لم يكونا موجودين"
هذا بالضبط نموذج من "الحجة من الصمت"؛ الفارق الوحيد أنك ترفع سقف توقعاتك بشكل غير مبرّر ثم تبني على عدم تحققها نفيًا وجوديًا.
|