القسم الثالث — السياق التاريخي: المدينة، والتحالفات القبلية، وأزمة سنة 627م
لا يستقيم أيّ تحليل رصين لقضيّة بني قريظة إلا بالشروع أولاً في إعادة بناء الإطار المؤسسي والجيوسياسي للمدينة في سنة 627م. فبدون هذا التصوّر، تبقى البُنى الحافزية التي واجهت كلَّ فريق خافية، ويقع القارئ المعاصر في خطر إسقاط افتراضاته الخاصة على بيئة كانت تحكمها نظم مغايرة كلياً في القانون والأمن والتنظيم السياسي. فالمدينة لم تكن دولة موحّدة، ولا كانت نواةً لدولة حديثة، بل كانت اتحاداً قبلياً هشّاً، لكل قبيلة فيه قيادتها الداخلية وقانونها العرفي وشرفها الخاص، تجمعها روابط سياسية لا تخلو من الوهن. وفهم هذا البنيان المتداعي ضروري لإدراك ما جرى في غزوة الخندق وما تلاها.
3.1 المدينة قبل الإسلام: نظامٌ قبليّ ممزّق قائم على الشرف
كانت يثرب، قبل قدوم النبي، غارقة في نزاعات قبلية ممتدة. فالقبيلتان العربيتان الكبريان—الأوس والخزرج—خاضتا دورات طويلة من الثأر والاقتتال. أما القبائل اليهودية—كبني قينقاع وبني النضير وبني قريظة—فلم تكن خارجة عن هذا النسق، بل اندمجت فيه من خلال تحالفات استراتيجية، على نحو يشبه تحالف الدويلات الصغيرة مع قوى أكبر في المجتمعات القائمة على الشرف.
ولم تكن هذه التحالفات أيديولوجية؛ بل كانت أشبه بعقود تأمين. فأمن كل قبيلة كان رهنَ استعداد حلفائها للقتال معها عند الخطر. وهكذا نشأت شبكة مترابطة من التوقعات المتبادلة، من غير سلطة مركزية تفرض الوفاء بالعهد. فلم يكن هناك:
محاكم،
ولا شرطة،
ولا سجون،
ولا قضاءٌ محايد إلا بالتراضي،
ولا مفهوم لـ«عدالة الدولة».
وكان الإخلال بالعهود يحمِّل القبيلة المسؤولية جمعاء، وأيّ علامة ضعف تُغري الخصوم بالهجوم. وهذه الخلفية مهمّة لأن تحالف بني قريظة مع الأوس—وعلاقة سعد بن معاذ بهم—كان متجذّراً في هذا النظام الجاهلي.
3.2 صحيفة المدينة: إطارٌ جديد لكنه هشّ
حين هاجر النبي إلى المدينة سنة 622م، سنّ ميثاقاً جديداً بين القبائل، أطلق عليه الباحثون اسم «صحيفة المدينة». وقد رأى الدارسون المعاصرون (سرجنت، وينسينك، ليكر) أنّها ليست «دستوراً» بالمعنى الحديث، بل عقد تحالف مُقنَّن هدفه:
تثبيت العلاقات بين القبائل،
كبح دورات الثأر،
ضمان الدفاع المشترك،
وصون السلم الداخلي.
وكان من أهم بنودها:
احتفاظ كل قبيلة باستقلالها الداخلي،
الاتفاق على الدفاع المشترك ضد العدو الخارجي،
تحريم التحالف السري مع الخصوم،
وإحالة النزاعات إلى التحكيم.
وقد حاولت الصحيفة تحويل اللعبة القبلية غير المستقرة إلى توازنٍ أكثر أمناً، لكن هشاشتها بقيت شديدة: الثقة ضعيفة، وذكريات الحروب حديثة، والجماعة المسلمة في طور التشكّل. وأيّ خلل يسير كان كفيلاً بإسقاط منظومة التحالف كلّها.
3.3 المشهد الجيوسياسي سنة 627م
بحلول سنة 627م، بلغت الخصومة بين المسلمين وقريش ذروتها. فقد نظّم المكيّون، ومعهم حلفاء من قبائل شتى، تحالفاً سُمّي «الأحزاب»، غايته المعلنة استئصال الجماعة المسلمة. وتذهب التقديرات—حتى المتحفظة منها—إلى أنّ أعداد الأحزاب كانت أضعاف المقاتلين المسلمين.
واعتمد المسلمون خطة دفاعية غير مألوفة في العرب: حفر الخندق حول الجهة المكشوفة من المدينة. وقد نجحت الخطة عسكرياً، لكنها أرهقت السكان نفسياً: حصار دام قرابة شهر، وشحّ في المؤن، وتراجع في المعنويات، ووصول المدافعين إلى حدّ الإنهاك.
وفي هذا الجو، أصبح ثبات الحلفاء مسألة حياة أو موت. فخيانة قبيلة واحدة كانت كافية لفتح ثغرة مميتة داخل المدينة.
3.4 موقع بني قريظة في شبكة التحالفات
كان بنو قريظة يقطنون جنوب المدينة، وهي الجهة الوحيدة التي لا يحميها الخندق. ولهذا كانت أهميتهم بالغة: فوفاؤهم يُؤمّن المدينة، وخيانتهم تُتيح للأحزاب اقتحامها من الخلف.
وتجمع المصادر على أمور ثابتة:
كان بين قريظة والمسلمين عهد دفاع مشترك.
وكانوا ملتزمين ببنود صحيفة المدينة.
ودارَت بينهم مشاورات داخلية أثناء الحصار.
وتحالفُهم القديم مع الأوس منحهم سبباً لتوقّع اللين.
وتشير الروايات إلى تفاوضهم مع الأحزاب حين طال الحصار.
ولا تهم تسمية فعلهم «خيانة» بقدر ما تهم «صورة الانسلاخ» وفق منطق القبائل؛ فمجرد الشكّ في النيات قادر على نسف التحالفات.
3.5 محاولة الانسلاخ: حسابات محفوفة بالمخاطر
تتفق أغلب المصادر على النقاط الآتية:
ضغط الأحزاب على قريظة للانضمام إليهم،
ووُعِدوا بالغنائم وجزء من حصاد المدينة،
وانقسمت قيادتهم حول قرار الانسلاخ،
وانتهت المداولات بإشارات تدلّ على توقّعهم انتصار الأحزاب.
ويجمع المؤرخون المعاصرون—مثل واط، وليكر، وستيلمان—على أنّ توقّع هزيمة المسلمين كان معقولاً جداً آنذاك. فقد أنهكهم الحصار وكانوا أقل عدداً وعدّة.
وبمنطق نظرية الألعاب، ينسجم سلوك قريظة مع «الانسحاب العقلاني» إذا بدا النصر للعدو محتوماً. غير أنّ هذه الحسابات—العقلانية وقتها—أصبحت كارثية بعد انصراف الأحزاب دون أن يقتحموا الخندق.
3.6 انهيار تحالف الأحزاب
تفكّك الأحزاب بسبب:
عاصفة شديدة ثابتة تاريخياً،
نقص الإمداد،
خلافات داخلية،
العجز عن اجتياز الخندق.
ولما انصرفوا، بقيت المدينة صامدة، لكن تماسكها الداخلي قد تزلزل. إذ أصبح ميزان الثقة الذي يقوم عليه التحالف مهدَّداً.
تحوّلت قضية قريظة عندئذ إلى:
اختبار لصحيفة المدينة،
واختبار لقيادة النبي،
واختبار للأعراف القبلية في إنفاذ العهد،
وبيانٍ لمدى قدرة التحالفات على الصمود أمام الأزمات الوجودية.
وفي هذا السياق الاستراتيجي جرى التحكيم في شأن قريظة.
3.7 أهمية هذا السياق
يفترض كثير من القرّاء المعاصرين وجود خيارات بديلة، كـ:
تسوية تفاوضية،
السجن،
النفي دون عقوبة،
أو عفوٍ وفق المعايير الحديثة.
غير أنّ المدينة في القرن السابع لم تكن تملك:
سجونا،
ولا آليات نفيٍ آمن،
وكان المنفيّ ينضم غالباً إلى المعسكر المعادي،
وكان خرق العهد يهدّد البنية كلها،
وكان التساهل بعد خيانة وجودية يُعدّ ضعفاً مشجعاً على التمرد،
وكان التغاضي عن الخيانة بمثابة دعوة لتحالفات مستقبلية خطيرة.
وقد استخدم النبي اللين في حالات أخرى—مثل بني قينقاع—لكن حجم الخطر في غزوة الخندق، وموقع قريظة الحاسم، جعلا الظرف مختلفاً نوعاً.
ولا يتضح التحليل الأخلاقي والاستراتيجي وفي إطار نظرية الألعاب اللاحق إلا بفهم هذا السياق التاريخي الذي يسبق القضية.
|