من منتدى أهل اللغة:
بسم الله الرحمن الرحيم.
قد شاع في الناس أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجا وأنهارا) يدل قطعا على أن جزيرة العرب كانت في الزمن الأول القديم مروجا وأنهارا، لأن لفظة (تعود) معناها ترجع، ولا يكاد أحد من الناس يفهم منه غير ذلك، وكنتُ متابعا للناس في هذا من غير تأمل، ثم ذكر لي بعض الإخوة أنه سمع الشيخ ابن عثيمين يقول ما معناه:
لا يلزم أن يكون معنى (تعود) هنا (ترجع)، بل ربما تكون بمعنى (تصير)، فإذا كان معناها (تصير) لم يكن فيه دلالة على أن جزيرة العرب كانت قبل اليوم مروجا وأنهارا.
وسألني صاحبي هذا: هل تحفظ شاهدا من شعر العرب على مجيء (عاد) بمعنى (صار) فأنشدتُه ما حضرني ثم رأيتُ بعد ذلك شواهد أخرى، فمنها:
قول الخنساء:
ولا أُسالمُ قَومًا كُنتَ حَربَهُمُ حَتى تَعودَ بَياضًا جُؤنَةُ القارِ
والجُؤنَة: اسم اللون من الجَون، كالخُضرة من الأخضر والحُمرة من الأحمر، والمراد بها هنا سَوادُ القار، ومعلوم أن سواد القار لم يكن بياضًا من قبل، فلا يكون معنى (تعود): (ترجع)، بل معناها هنا: (تصير)، أي حتى يصير سواد القار بياضًا.
وقال النابغة الذبياني:
واليأسُ ممّا فاتَ يُعقِبُ راحَةً وَلرُبَّ مَطعَمَةٍ تَعودُ ذُباحا
ولم يرد أن المطعمة كانت ذُباحا ثم ترجع مرة أخرى كذلك، بل المراد: ربّ مطعمة تصير ذُباحًا.
وقال ابن الزِّبَعْرَى:
الخالطين فقيرهم بغنيهم حتى يعودَ فقيرُهم كالكافي
كذلك المراد هنا: حتى يَصير، ولا يفهم منه أن الفقير كان غنيًّا.
وقال معن بن أوس:
ولا خَيرَ في حِلمٍ يَعودُ مَذَلَّةً إِذا الجَهلُ لم يَترُك لذي الحِلمِ مَعقِدا
وهذا مثلها.
وقال بعضهم:
هم سَنُّوا الجوائز في مَعَدٍّ فعادت سُنَّةً أخرى الليالي
وكذلك المعنى هنا: فصارت، ولم تكن سنةً قبل ذلك، يدلّ عليه الخبر فإنهم كانوا أول من ابتدعها، ويدلّ عليه قوله: "سَنُّوا"، فلو كانت متبعة من قبل ما كانوا هم الذي سنّوها، لكنها لم تكن قبلهم، ومعنى "فعادت سُنَّة": صارت سُنَّةً بقية الدهر.
وشواهده كثيرة، والأمر أوضح من الإمعان في تطلب شواهده.
ولا بأس بنقل هذا من اللسان، قال:
"تقول: عاد الشيءُ يعودُ عَوْدًا ومَعادًا أَي رجع، وقد يرد بمعنى صار، ومنه حديث معاذ: قال له النبي : (أَعُدْتَ فَتَّانًا يا مُعاذُ) أَي صِرتَ، ومنه حديث خزيمة: (عادَ لها النَّقادُ مُجْرَنْثِمًا) أَي صار، ومنه حديث كعب: (وَدِدْتُ أَن هذا اللَّبَنَ يعودُ قَطِرانًا) أَي يصير، فقيل له: لِمَ ذلك قال: (تَتَبَّعَتْ قُرَيشٌ أَذْنابَ الإِبلِ وتَرَكُوا الجماعاتِ)".
فعلى هذا لا يصح القطع بأن جزيرة العرب كانت مروجا وأنهارا، بل يحتمل الحديث أنها كانت كذلك وأنها سترجع كما كانت إن جُعل معنى (تعود): (ترجع)، ويحتمل أنها لم تكن مروجا وأنهارا لكنها ستصير كذلك إن جُعل معنى (تعود): (تصير).
والله أعلم.
http://www.ahlalloghah.com/showthread.php?p=49948