مازلنا مع نص رسالة العبرانيين .
وهو نص هام ،يحضر دائماً ليس فقط أثناء نقاش أصل عقيدة تأليه المسيح ، ولكن أيضا أصل المسيحية وعلاقة نشأة المسيحية الوثيق بتأويل نصوص التوراة باطنياً.
رسالة العبرانيين عبارة عن وثيقة مدراشية من الطراز الأول ، ويحق تسميتها ب
" المدراش الموجه الى العبرانيين" فسطورها تطفح بالتأويل الباطنى لنصوص التوراة ، بشكل لا مثيل له فى أى من كتابات العهد الجديد.
بعد عبارة
"وبعدما قام بالتطهير من الخطايا، جلس عن يمين ذي الجلال في العلى"
يبدأ الكاتب بالتدليل على أن المسيح أعظم من الملائكة ، عن طريق الإستشهاد بنصوص توراتية أَوًلَها مِدراشياً
يقول:
4. فكان أعظم من الملائكة بمقدار ما للاسم الذي ورثه من فضل على أسمائهم.
5. فلمن من الملائكة قال الله يوما: (( أنت ابني وأنا اليوم ولدتك؟ )) وقال أيضا: (( إني سأكون له أبا وهو يكون لي ابنا؟ )).
6. ويقول عند إدخال البكر إلى العالم: (( ولتسجد له جميع ملائكة الله )).
7. وفي الملائكة يقول: (( جعل من ملائكته أرواحا ومن خدمه لهيب نار ))،
8. وفي الابن يقول: (( إن عرشك أللهم لأبد الدهور، وصولجان الاستقامة صولجان ملكك.
9. أحببت البر وأبغضت الإثم، لذلك أللهم مسحك إلهك بزيت الابتهاج دون أصحابك )).
10. وقال أيضا: (( رب، أنت في البدء أسست الأرض، والسموات صنع يديك،
11. هي تزول وأنت تبقى، كلها كالثوب تبلى،
12. وطي الرداء تطويها وكالثوب تتبدل، وأنت أنت وسنوك لا تنتهي )).
13. فلمن من الملائكة قال الله يوما: (( اجلس عن يميني حتى أجعل أعداء ك موطئا لقدميك؟ ))
14. أما هم كلهم أرواح مكلفون بالخدمة، يرسلون من أجل الذين سيرثون الخلاص؟.
الكاتب هنا يقتبس نصوصاً توراتية، بعضها أَوّلَهُ اليهود على أنه يتكلم عن المسيح، وبعضها أبتدع له هو تأويلاَ ميسيانيا، وتلك الظاهرة لا يختص بها كاتب الرسالة، فنجدها عند جميع باقى كتبة العهد الجديد، بل ويعترفون بها (مثلا عندما قالوا أن تأويل نصوص من التوراة لجعلها تتنبئ بصلب وموت وقيامة و رفع المسيح، لم يكن يعلمها اليهود العميان و أضطررنا لفتح أعينهم ليفهموا الكتاب)، وتلك الظاهرة لا يختص بها المسيحيون الأوائل بشكل عام، فنجدها عند باقى الفرق اليهودية (جماعة قمران مثلاً)، والذين أولوا نصوصا ميسيانيا بشكل مبتدع، خلافا لتأويلات باقى اليهود.
ولم تكن مسألة غريبة تلك الحرية والمحاولات التى لا تنتهى لتأويل نصوص النوراة ميسيانياً ، يقول الحبر الربانى يوحنان
every prophet prophesied only for the days of the Messiah" (Ber. 34b).
فى الواقع فى كل عصر يحاول مبتدعوا الفرق والأديان تأويل نصوصاً قديمة (بدون إحترام سياقها النصى والتاريخى والمقاصد الأصلية لمن كتبوها) و الصاقها بحاضرهم و فرضها عليه. فعلت ذلك جميع الفرق اليهودية (ومنها المسيحية)، بل و يفعل ذلك حمير المسلمون ، يحرفون معنوياً نصوص التوراة والانجيل بمنتهى الجهل والغباء، لالصاقها بدجال البدو.
عودة إلى النص
منطق الكاتب عن كون المسيح أعظم من الملائكة هكذا:
مع أن الملائكة يعتبرون كباقى المخلوقات أبناء الله، كما نرى فى سفر أيوب ،واتفق يوما أن دخل بنو الله ليمثلوا أمام الرب (لأصحاح 1)، و أيضاً إذ كانت كواكب الصبح ترنم جميعا وكل بني الله يهتفون؟(ألأصحاح 38)
إلا أن علاقة الأبوة والبنوة، بين الآب والابن، بين الله والمسيح، علاقة فريدة من نوعها .
عندما يقول: قال الله للمسيح " أنت ابني وأنا اليوم ولدتك" و (( إني سأكون له أبا وهو يكون لي ابنا؟ )).، هو هنا يؤول باطنياً نص (المزامير 2: 8)، و صموئيل الثاني 7: 14 وفي أخبار الايام الأول 22: 9
إذن لقب المسيح إبن الله بمعناه الفريد ، لم يناله لا الملائكة ولا غيرهم من الخلائق لا فى الأرض ولا فى السماء.
إبن الله (الفريد) ليس هو اللقب الوحيد للمسيح، فهو أيضاً "الإبن البكر" الذى تُوَلّّدْ من الله قبل خلق جميع الخلائق و الذى عندما يأتى إلى العالم : (( ولتسجد له جميع ملائكة الله )).
بولس هنا يقتبس من الترجمة السبعينية لنص سفر التثنية - الأصحاح 32. انظروا الآن: إني أنا هو وليس إله آخر معي. أنا أميت وأحيي، أسحق وأشفي، ولا منقذ من يدي.40. أبسط يدي نحو السماء ، و أحلف بيمينى قائلا: حي أنا إلى الأبد.41. إذا سننت سيفي البارق وأمسكت به يدي للقضاء، فإني أنتقم من أعدائي، وأجازي مبغضي.42. أسكر سهامي بالدم ويلتهم سيفي لحما، من دم القتلى والسبايا ورؤوس قادة العدو.43. تهللي أيتها السماء، وليعبده كل ابناء الله ( إشارة إلى الملائكة )، تهللي أيتها الأمم مع شعبه،وليتشدد فيه جميع ابناء الله. لانه ينتقم لدماء ابنائه. لأنه سينتقم لدماء عبيده ويثأر من أعدائه ويصفح عن أرضه وعن شعبه».
ومن المثير للاهتمام أن فى النص الذى أَوَّله، الله هو الذى ستسجد أو ستعبد الملائكة ، أى أن النص الاصلى يتكلم عن سجود الملائكة لله ، و عند الكاتب هو إشارة لسجود الملائكة للمسيح ، وتلك ليست المرة الوحيدة يستخدم كتبة العهد الجديد لنصوص توراتية تتكلم عن الله ، يفسرونها على أنها تتكلم عن المسيح .
7. وفي الملائكة يقول: (( جعل من ملائكته أرواحا ومن خدمه لهيب نار ))،8. وفي الابن يقول: (( إن عرشك أللهم لأبد الدهور، وصولجان الاستقامة صولجان ملكك.
ببساطة يريد أن يقول هنا (١) أن الملائكة خداماً بينما الابن هو السيد. (٢) أن الملائكة قابلة للتغيير و الفناء ، بينما يبقى الابن سيداً إلى الأبد.
ولاحظوا هنا، إستخدام كلمة "الله" لوصف الملك ( الذى يعتبره المؤَوِلون بانه المسيح)
لكن الاستخدام الأصلى فى العهد القديم، يُراد به أن عرش الملك هو عرش الله ، بالتالى الملك هو الله بهذا المعنى.
و يستمر فى إقتباس نصوص التوراة التى يزعم بأنها تتكلم عن المسيح إبن الله :
وقال أيضا: (( رب، أنت في البدء أسست الأرض، والسموات صنع يديك،11. هي تزول وأنت تبقى، كلها كالثوب تبلى. وطي الرداء تطويها وكالثوب تتبدل، وأنت أنت وسنوك لا تنتهي )).
ها هو مرة أخرى يقتبس نصوص تتكلم عن الله و تصفه بأنه خالق الكون، الذى قد يفنى ولكنه هو وحدة الذى يبقى ( على وزن كل شئ هالك الا وجهه) ، ويقول بان تلك النصوص تتكلم عن المسيح !
وسبق أن قال كاتب رسالة العبرانيين أن إبن الله " به قد خلق الكون كله !." ونفس الفكرة نجدها عند فيلو السكندرى ، وانجيل يوحنا ، وعند بولس فى رسالة كولوسي ....
|