عرض مشاركة واحدة
قديم 03-14-2015, 11:21 AM محمد غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [1]
محمد
عضو نشيط
 

محمد is on a distinguished road
افتراضي مِحنة الدليل العقلي

تحياتي لكم جميعا,

كلما إستمعت الى رجال الدين او حدثّني أحد المؤمنين عن "الدليل العقلي" الذي يطلقون عليه أحيانا اسم "الدليل المنطقي" والذي يصل عشقهم له وولعهم به حد العبادة أصابتني حاله من الضيق تدفعني لأن أتحسس "أصل الأنواع" لداروين , ذاك الرجل الذي لم ينحني حين إنحنى الجميع لجبال من الأدلة العقلية توفرت عبر آلاف السنين فألقى بها جميعها عرض الحائط لتتهشم تحت أقدامه ومن لحق به, فداسوا عليها بينما أخرون يعيشون اليوم على حلم جمع فتات ما تبقى منها.

رغم أنه لا يمكن لنا إنكار فضل الدليل العقلي على البشرية, إلا أن الإفراط في الاعتماد عليه من شأنه أن يهلك أمم, إذ لا يجوز بحال من الاحوال إستخدام الدليل العقلي من أجل قهر الطبيعة ومحاولة تطويعها لكي توائم أهوائنا. ولهذا السبب نجد أن الدليل العلمي التجريبي يتربع على عرش الأدلة بإجماع الدول المتقدمة التي تحاول التصدي لفهم الظاهرة الكونية التي نعيشها, فميزة هذا الدليل ألاهم هي عدم إستناده الى معايير شخصية كما هو الحال في الادلة العقلية, وهو الأمر الذي من شأنه أن يمنع تلك الدول المتقدمة ومواطنيها من الجنوح والشطوح في تفسيراتها بحيث يجدون أنفسها غارقين في تفسير حياة ماورائية أبدية وقوى خفية خيرة وشقية بدلا من إيجاد تفسيرات لما يرونه في كونهم هذا !

الدليل العقلي يستند في تفسيره للظواهر على عدة أدوات, كالاعتماد على التراكم المعرفي ومخزون التجارب السابقة من خلال الملاحظة, وعقد المقارنات, والقياس. وقد يتمادى اللاهوتيين فيضيفون الحس الانساني كأحد أدوات الدليل العقلي التي يمكن الإرتكان إليها في تفسير الظواهر, وحجتهم في ذلك أن كل ما يتوافق مع الحس الانساني السليم او ما يطلقون عليه تسمية "سلامة الفطرة" لا بد وأن يكون صحيحا, وكل ما يتنافى معه هو أمر غير صحيح. والمشكلة الكبيرة في هذا الدليل هو عدم إشتراطه حدوث المطابقة بين ما تحصلنا عليه من نتائج تستند على الأدلة العقلية, وبين ما وصلنا او نتوقع أن يصلنا من الطبيعة من معطيات مادية, وعدم المطابقة هذه ستؤدي بنا في نهاية الامر الى الوقوع في خطيئة قهر الطبيعة بدلا من محاولة فهمها.

ورغم هذا العيب الخطير الا أننا لا يمكن أن نتجاهل الدور الذي لعبه الدليل العقلي في مجال العلوم الانسانية والاجتماعية, او نتغاضى عن دوره الذي لا غنى عنه في حياة الانسان اليومية. إذ ان الدليل العقلي فعال جدا حينما يلتزم إختصاصاته, أما عندما يتعداها فيتم إستخدامه لتفسير ظاهره طبيعية مثل الكون, فانه هاهنا يشكل عبئ على صاحبه ويجب التخلص منه بأسرع وقت. فخطورة التمسك المتعصب بالدليل العقلي في غير موضعه تكمن في الإصرار على صحة فرضية تُفسر ظاهره ما وذلك بترجيح كفتها على غيرها من الفرضيات التي تفسر نفس الظاهرة دون وجود سبب واضح. وفي حالة كهذه تنحرف البوصلة ويتحول الامر من محاولة تفسير الظاهرة من خلال وضع فرضية, الى ممارسة الايمان بتلك الفرضية لأسباب شخصية لا تعطي الحق للمؤمنين بها بان يزعموا أن فرضيتهم هذه صديقة للعلوم الطبيعية ما لم يقيموا حجتهم بالدليل التجريبي اولا, ولا يكون الدليل العقلي وحده كافياً في حالة كهذه لاعتماد فرضيتهم والقبول بها بحجة إستعجالهم الحصول على إجابة تشفي فضولهم في ظل عدم توفر معطيات كافية في الطبيعة لحسم الامور مما إضطرهم الى إعمال عقلهم بغربلة الفرضيات المتاحة أمامهم وإختيار أكثرها توافقا مع العقل ! فمثل هذه المبررات غير مقنعه لمن رفض الايمان بفرضيتهم وتعامل مع جميع الفرضيات الأخرى المطروحة على قدم المساواة.


إن المصيبة التي تعاني منها المجتمعات المتمسكة بخرافة الدليل العقلي هي وجود أناس يحاولون إيهام مجتمعاتهم من خلال التذاكي والتحاذق والإلتفاف على الحقيقية بأنهم قادرون على اللحاق بركب الحضارة من خلال البناء على ما مضى أو محاولة إجتراره وتطويره بما لديهم من عقول. علينا أن نتصدى لمثل هذه المهازل وندرك أن ثمة صفحات مؤلمة في التاريخ يجب أن نتصالح معها ثم نطويها الى الابد, وكل ما عجلنا في ذلك كلما كان الأمر في صالحنا, والعلم والدليل التجريبي هو الخيار الوحيد المتاح أمامنا فقد أثبت نجاحه دائما في تفسير الطبيعة ومحاولة فهمها عوضا عن قهرها, بعكس فرضيات أخرى أعتمدت العقل وحده ففدمت لنا إجابات مهترئة ولكن ما يزل هناك من هو مصر على إغراقنا بممارسة ترقيعها.



  رد مع اقتباس