أهلا بك صديقي، ويسرني مواصلة الحوار معك..
وسمح لي بأن أسلك بداية:
"عندما ننتقد ثقافة مجتمعنا، بما فيها الجنس..هل يعتبر هذا إسقاطا لتقاليد أجنبية"؟
البعض يرى ذلك، ويعتبره تأثرا بثقافة أجنبية، فيما يراه سواه نقدا بناء!
الآن لنعكس العملية..ولننتقد تقاليد ثقافة أجنبية، فيكون هناك احتملان:
الأول أن يكون هذا فعلا إسقاط من ثقافة على ثقافة!
الاحتمال الثاني هو أن يكون هذا النقد حاملا لوجهة نظر فكرية خاصة كما هو الحال عند نقد الثقافة المحلية!
في المقال المنشور هنا.. أنت رحبت بالنقد الموجه لثقافة الجنس الشرقية، وعندما توجه هذا النقد لثقافة الجنس الغربية اعتبرته إسقاط من ثقافة الشرق المتأثرة بالدين على ثقافة الغرب!
لم يجب أن نفترض ذلك؟
دعنا نقارن مسألة الجنس بالدين، فإذا انتقدنا الوضع الديني لدينا، ورفضنا الغيبية، وقلنا أن كل الأديان هي من صنع البشر، ودافعنا عن حق حرية المعتقد، أفليس هذا فكرا عقلانيا متحررا؟ لكنه من وجهة نظر المتدينين التقليديين سيعتبر كفرا وتقليدا أو اتباعا للغرب الكافر!
الآن لننقل النقد إلى مسألة الإلحاد، هل الإلحاد معصوم من النقد؟ وهل إذا ما انتُقد الإلحاد، فمنتقده يفعل ذلك بسبب رواسب من ثقافته الدينية، التي لا يحق له أن يسقطها على ثقافة سواه؟
أو ليس من العقلاني أن نعتبر أن نقد الإلحاد هو استمرار لنفس المنهج العقلاني النقدي الذي انتقد الدين التقليدي نفسه سابقا، وأن هذا المنهج يسعى لتأسيس لرؤية وجودية مستقلة عن الدين تماما، ولكنها رؤية غير إلحادية وترى الألوهة كمبدأ روحي في الوجود؟
ولم لا يكون هذا مقبولا وفي الغرب نفسه، ثمة فلاسفة ماديون وفلاسفة مثاليون، وكلهم معترف بهم كفلاسفة؟!
الأمر في الموقف الجنسي يشبه ذلك، ونقد الجنس في الغرب ممكن عقلانيا كنقده في الشرق بموجب نفس المنهجية، التي تشرعن النقد منطقيا وأخلاقيا!
صحيح أن كل إنسان يحمل بدرجة أو بأخرى عناصر من ثقافته الأم، ولكن تخطى حدود الثقافة الأم والاختلاف معها، بل والخروج عليها، هو أمر واقعي الحدوث، ولولا ذلك لما تقدمت البشرية، وهذا يحدث بفضل العقل، فلماذا عندما يحدث هذا الاختلاف مع ثقافة أجنبية، لا يعود سببه العقل، ويُحكم عليه بأنه إسقاط ثقافي؟!
الإنسان العقلاني، بقدر ما يمتلك من العقلانية يخرج من محليته إلى العالمية، وعلى هذا المستوى لا يعود ثمة بالنسبة له ثقافة محلية خاصة وأخرى أجنبية غريبة، بل تصبح كل الثقافات مبدئيا على مسافة واحدة، وتعتبر كلها نماذج من الثقافة الإنسانية، وتخضع كلها لنفس المعايير الموقفية والنقدية منها!
لك رأيويا أن تعتبر نقدي لثقافة الجنس الغربية إسقاطا شرقيا، لكن إن سألتك لماذا ..فماذا سيكون الجواب؟ هل هذا بسبب الاختلاف مع هذه الثقافة، وهل أصبحت هذه الثقافة معصومة عن النقد، وامتلكت القداسة وأصبحت مطلقا؟ هذا المذهب في الإطلاق والعَصم والتقديس والرفع فوق مستوى النقد، لا ينسجم قطعا مع المبادئ الرئيسة لثقافة الغرب التي تخضع كل شيء للنقد، وتقول بالتغير والتطور المستمر، ولا تعطي العصمة والقداسة والمطلقية لأي مذهب أو ثقافة أو فكر، بما في ذلك الجنس.
وبالنسبة لي، لا أعتبر الثقافة الشرقية قريبة مني أكثر من الثقافة الغربية إن لم يكن العكس، ولكن هذا لا يعني الاستلاب أمام ثقافة الغرب، وعندما أنتقد ثقافة الغرب، فأنا لا انتقدها كثقافة غربية أو أجنبية بل كأحد النماذج الثقافة الإنسانية التي أنتمي إليها وتنتمي إلي كإنسان مثل غيرها من الثقافات من حيث المبدأ، وإن اختلفت الموقف منها في الواقع وفقا لما فيها من عناصر عقلانية وأخلاقية.
المقال الذي نتحاور بصدده، لم يدن الغربيين بسبب سلوكهم الجنسي، ولم يعتبر هذا السلوك لا أخلاقيا أو آثما، والقضية لا تتعلق بالزواج الذي هو تقليد اجتماعي يتغير من عصر إلى عصر ومن حضارة إلى حضارة، أما سؤالك عن الابتذال، وهو سؤال جيد، فالابتذال -يا صديقي- يعبر عن نفسه، في الغرب مثلا يستخدمون مصطلحات بذيئة لوصف الجنس والعلاقة الجنسية والشريكة الجنسي، وهذا يحدث بكثرة، في الإنكليزية غالبا ما تستخدم كلمة "fuck" لوصف الفعل الجنسي، وكلمة "cunt" لوصف العضو الأنثوي، و"dick" لوصف العضو الذكري، و"fuck buddy " لنعت الشريك الجنسي، وليس من النادر مثلا أن يصف الشاب فتاته بـ "the girl who I fuck"، وهلم جرى، وما تزال الشتيمة الجنسية دارجة، وكل هذا يعبر عن مفهوم ومنظور لنوعية العلاقة الجنسية، وكل تلك الألفاظ تعتبر بذيئة في ثقافتها، والأمر ليس أفضل في الثقافة الروسية، بحيث يمكنني القول أن الاحترام بشكل عام بين الجنسين كشركاء في العلاقة الجنسية متدن، فهل ستسألني هنا عن "معنى هذا الاحترام"؟ سأجيبك إن فعلت، ولكني الآن لن أتحدث عن هذا لكي لا يطول الرد أكثر!
بالنسبة لقولك أن الإنسان لا ينفصل في الروح والعقل والجسد، هذا ما أتفق معك عليه تماما، ولكن الإنسان وإن لم يختلف في الجسد، فهو يختلف في العقل والروح وفقا لاختلاف عصره وثقافته وحضارته، والتوازن بين العقل ولروح والجسد لا يحدث بشكل أوتوماتيكي لمجرد أن الإنسان هو إنسان طبيعيا، فساكن الكهوف الأول كان أيضا إنسانا مثلنا من الناحية الطبيعية.
والجنس، وإن كان حاجة طبيعية ومتعة طبيعية، وهو كان كذلك أيضا عند إنسان الغاب والكهف الأول، فهو أيضا نشاط مرتبط بإنسانية الإنسان وبعقلانيته وروحانيته التي تختلف وتتغير وتتطور من عصر إلى عصر.
وما يحتاجه الإنسان المعاصر سواء في شرقنا الديني الغيبي، أو في الغرب المادي الاستهلاكي رغم عقله الوظيفي، هو لاهوت جديد، لاهوت يخرج الإنسان من عبثية الوجود المادي وعبودية الأديان الربوبية إلى الحرية والمعنى في ألوهة الذات الإنسانية، التي تحمل ألوهيتها الإنسانية في ذاتها الإنسانية، وتعبر عنها بإنسانيتها، والجنس في هذا المنظور يتموضع على هذا المستوى من الفهم للإنسان ليصبح طقسا إنسانيا ساميا، وليس مجرد فعل استهلاكي ميكانيكي كشرب زجاجة البيبسي كولا!
وختاما لك التحية، وعذرا على الإطالة، فقد تطرقتَ إلى نقاط هامة اقتضت الرد والإيضاح...
|