لماذا لا يوجد تعارض بين الدين و العلم؟
لا يوجد تعارض بين الدين، وأعني بالدين في هذا السياق الإسلام بطبيعة الحال، و العلم حتى في المسائل التي لا مجال للتوفيق فيها بين الدين و العلم. وأعني بالعلم هنا العلم بفهومه الإصطلاحي وهو، وفق
تعريف المجلس العلمي البريطاني، السعي وراء معرفة وفهم العالم الطبيعي و الاجتماعي وتطبيق تلك المعرفة و ذلك الفهم وفق منهجية نظامية مستندة للدليل.
و العلماء في مسعاهم لفهم العالم يقومون بصياغة نظريات هي في حقيقتها محاولة لرسم نماذج تقريبية للواقع. ولا يفترض العلماء أن تلك النماذج تطابق الواقع يقينا ولكنهم في سعي دائم لتحسين تلك النماذج من خلال إضفاء التعديلات عليها كلما بدا لهم ما يقتضي منهم ذلك.
و تلك النماذج من قبيل "الاحتمال الاستدلالى" Abduction و الذى قد يعرف على أنه : منطق استدلالى ينطلق من الملاحظة ثم يسعى لإيجاد الأرجح و الأبسط من التفسيرات. وبخلاف المنطق الاستنتاجى Deduction فالمقدمات فيه لا تقتضى بالضرورة صحة النتائج.
وقد وضع الفلاسفة بعض الضوابط أو المبادىء - والتي لا تخلو من الجدل حولها – للاختيار من بين التفسيرات المحتملة للظاهرة محل الدراسة وهى : البساطة أو ما يعرف بشفرة أوكام، و الانسجام مع المعلوم من طبائع الأشياء، و القدرة على التنبؤ، و الاستيعابية أو الشمولية في التفسير بأن يأخذ كل الملاحظات المتاحة في الاعتبار. ولذلك يطلق على الاحتمال الاستدلالي : “Inference to the Best Explanation”
و فضلا عن السعي وراء المعرفة لمجرد المعرفة، فلتلك النماذج تطبيقات عملية يفيد منها الناس في واقعهم. وهذه التطبيقات هي الدافع الأقوى وراء الجهود المبذولة لوضع نماذج وتصورات أدق عن العالم ولأجلها تنفق الأموال الطائلة على برامج البحث العلمي.
فإذا أدركنا جوهر المعرفة العلمية على هذا النحو. وأن العلم يُعنى بالجانب التطبيقي أكثر منه اعتناءا بالجانب الفلسفي، إن كان يعتني أصلا، أدركنا أن عدم إمكانية التوفيق بين العلم و الدين في بعض المسائل لا يستلزم طرح أحدهما. لأن المؤمن يعتقد أن المعلومات من الدين بالضرورة هي حقائق قطعية في حين أن ما يعارضها من النماذج العلمية هي في جوهرها نماذج تقريبية استيعابية تساعد على التنبوء. وأحيانا يلجأ العلماء إلى نماذج مثالية عن الواقع، فيما يعرف بإضفاء المثالية Idealization، ولكنها تقاربه فيتم فيها إهمال بعض العوامل، أو المتغيرات، التي يعلمون أنها تؤثر في واقع الأمور. وذلك لأن العوامل المؤثرة أكثر من أن تنضبط في إطار نموذج لكن النموذج الناتج بالرغم من اهمال تلك العوامل يمكن من التنبؤ بدرجة كبيرة من الدقة بسير الأمور لكن الواقع في نفس الأمر أكثر تعقيدا من النموذج. وتفصيل هذه المسألة في كتاب : Angela Potochnik, Idealization and the Aims of Science
أو حتى من خلال هذه المقالة الاستعراضية للكتاب .
ولعل من أبرز الأمثلة على التعارض بين الدين و النظرية العلمية هو أصل الإنسان. حيث يفترض علماء الأحياء، أو جمهورهم على الأقل، أن للإنسان سلف مشترك مع القردة وأن الأحياء جميعا تعود إلى سلف مشترك في إطار نظرية جامعة لتفسير التنوع البيولوجي في الطبيعة ونشأة الأنواع تعرف بالدراوينية الحديثة. فالمؤمن لا يلزمه أن يحارب هذا النموذج الذى يعرف بنظرية التطور إذا أخذ النموذج على هذا المحمل من أنه نموذج تقريبي قد يكون له بعض التطبيقات، وإن كنت لا أعلم ما هي التطبيقات المتفرعة عن الاعتقاد في وجود سلف مشترك بين الإنسان و القردة، دون أن يقتضي منه ذلك أن وجود السلف المشترك بين الأحياء بشكل عام أو بين الإنسان و القردة حقيقة في نفس الأمر. و في المقابل فالعلماء، أو كثير منهم على الأقل، منفتحون على تقبل أن يكون واقع الأمر فيما يخص تنوع الأحياء و نشأة الأنواع ليس على النحو التقريبي الذى تصوره نظرية التطور. فمن الوارد أن الأحياء جميعا لا تعود لسلف مشترك ومن الوارد أن بعض الأنواع لم تنشأ من خلال التطور عن أنواع أخرى. لكن هذا كله مشروط بتوافر الدليل على ذلك. وتجدر الإشارة ههنا إلى مقال منشور في مجلة
" العلمية الأمريكية" بتاريخ 1 يوليو 2002 بعنوان "خمسة عشر جوابا على ترهات الخلقيين" حيث يقول المحرر : هناك طرق أخرى قد يثبت بها خطأ نظرية التطور منها لو تمكنا من توثيق حالة واحدة لتولد صورة معقدة من صور الحياة مباشرة من مادة غير حية فحينئذ على الأقل بعض الكائنات التي نجدها في السجل الحفرى ربما قد تكون نشأت بنفس الطريقة. أو لو ظهر غرباء عن الكوكب يتسمون بالذكاء الخارق و أدعوا أنهم من قاموا بخلق الحياة على الأرض أو بعض أنواع الأحياء فإن هذا سيلقى بظلال من الشك على التفسير التطورى الحصرى.