يتصور بعض علماء الكسمولوجيا أن الكوْن مرّ في «قفزة مفاجئة». قبل هذا الحدث، كان الفضاء يتقلّص؛ لكنْ بدلا من أن يتحطّمَ في نقطةٍ كثافتها لانهائية، هبّت قوانينُ فيزيائيةٌ جديدة ـ الثقالة الكمومية، أبعاد إضافية، نظرية الأوتار، أو ظواهرُ غرائبيّة أخرى ـ لإنقاذ الوضع في اللحظة الأخيرة؛ وبزغ الكوْن في الجانب الآخر [من القفزة] بما ندرك اليوم أنه الانفجار الأعظم(6). ومَعَ أن هذه القوانين مثيرة للاهتمام، فإن علماء الكسمولوجيا الذين يعتمدون القفزة المفاجئة لا يفسّرون سَهْمَ الزمن. فإمّا أن الإنتروپية كانت تتزايد عند اقتراب الكون السابق من الانسحاق ـ وفي هذه الحالة يمتد سهم الزمن بلا نهاية إلى الماضي ـ أو أنّ الإنتروپية كانت تتناقص؛ وفي هذه الحالة حدثت حالةٌ غيرُ طبيعيّة من الإنتروپية المتدنّية في منتصف تاريخ الكون (عند حدوث القفزة المفاجئة). وفي كلتا الحالتيْن، نكون قد عدنا ثانية إلى السؤال عن السبب الذي جعل الإنتروپية، قرب ما نسميه الانفجار الأعظم، صغيرة.
وبدلا من ذلك لنفترض أن الكوْن بدأ بحالةِ إنتروپية عالية؛ وهي حالته الطبيعية الأكثر احتمالا. والفضاء الفارغ هو مرشّح جيد لمثل هذه الحالة. ومثل أي حالة جيدة تتسم بإنتروپية عالية، فإن نزوع الفضاء الفارغ هو إلى البقاء على حاله. لذلك، فالمسألة هي: كيف يمكن إخراج كوننا الحالي من زمكان مقفر هامد؟ قد يكمن السّر في وجود الطاقة المعتمة.
بوجود الطاقة المعتمة، لا يكون الفضاء الفارغ خاليا كلّيّا. فتقلّبات المجالات الكمومية تولّد حرارة منخفضة جدّا؛ أخفض بقدْرٍ هائلٍ من درجة الكوْن الحالي، ولكن لا تصل تماما إلى الصفر المطلق. إن جميع المجالات الكمومية تخضع لتقلّباتٍ، من وقت إلى آخر، في مثل هذا الكوْن. وهذا يَعني أنه غير هامد كلّيّا. فإذا انتظرنا وقتا كافيا، فإن جُسيْماتٍ منفردة، وحتى مجموعاتٍ كبيرة من الجُسيْمات، ستبرز بتقلّباتها إلى الوجود، قبل انتشارها ثانية في الخلاء. (هذه جُسيْمات حقيقية؛ خلافا للجُسيْمات «الافتراضية» القصيرة العمر التي يحويها الفضاء الفارغ، حتى عند غياب الطاقة المعتمة).
ومن بين الأشياء التي يمكن أن تبرز بتقلّباتها إلى الوجود رُقَعٌ صغيرة جدّا من الطاقة المعتمة فوق الكثيفة. وإذا كانت الظروف ملائمة تماما، فمن الممكن أن تنتفخَ رقعةٌ منها وتنسلّ لتكوّن كوْنا منفصلا قائما بذاته؛ كوْنا رضيعا. وربما كان كوْننا من نَسْلِ كوْنٍٍ آخر.
ولهذا السيناريو بعض الشبه، ظاهريّا، بالوصف المعياريّ للانتفاخ. ففي ذاك الوصف، أيضا، نفترض أن رقعة من الطاقة المعتمة فوق الكثيفة تنشأ بمحض المصادفة، مشعلة الانتفاخ. ويكمن الاختلافُ في طبيعة شروط البدء. فالتفسير المعياريّ هو أن الرقعة نشأت عن كونٍ شديد التقلّب، لم تُُولِّد فيه الغالبيّة العظمى من التقلّباتِ ما يشبه الانتفاخ. ويبدو أن الأكثر احتمالا للكون هو أن يتقلب مباشرة إلى انفجار أعظم حار؛ متجاوزا مرحلة الانتفاخ تماما. وفيما يتعلق بالإنتروپية، سيكون حتى الاحتمال الأكبر للكون التقلّب مباشرة إلى التشكيل الذي نراه هذه الأيام؛ متجاوزا الأربعة عشر بليون سنة الماضية من التطوّر الكونيّ.
وفي السيناريو الجديد الذي وضعناه، فإن الكوْن السابق الوجود لم يكن يتقلّب عشوائيّا؛ إذ إنه كان في حالة محدّدة جدّا: كان فضاء فارغا. ما تذهب إليه هذه النظرية ـ وما يظلّ دون برهان ـ هو أن أكثر الطرق احتمالا لتوليد أكوان مثل كوننا، انطلاقا من حالةٍ سابقةِ الوجودِ كهذه، هي المرور بحقبةٍ من الانتفاخ، بدلا من التقلّب إليه مباشرة. بعبارة أخرى، فإن كوْننا حالة تقلّب محدّدة، لكنْ ليست عشوائيّة.
أسئلة وأجوبة،الجزء 3(***********)
هل يمكن اختبار صحة نظرية الكون المتعدد؟
إن فكرة أن الكون يمتد أبعد كثيرا مما يمكننا أن نراه ليست نظرية حقّا؛ إنها تنبؤ لنظريات معينة في الميكانيك الكمومي والثقالة. ويقر الجميع بأنه من الصعب اختبار هذا التنبؤ. لكن جميع نظريات الفيزياء تجبرنا على تجاوز حدود ما يمكننا رؤيته مباشرة. على سبيل المثال، يتطلّب أفضل نموذج حاليّ لأصل البنية الكونية، ونعني به سيناريو الكون المنتفخ، أن نفهم الظروف التي كانت سائدة قبل الانتفاخ.
سيناريو «وُرّا»(************)
يقدّم هذا السيناريو، الذي اقترحتُه عام 2004 و<J. تشين> [من جامعة شيكاگو]، حلاّ استفزازيّا لأصل لاتماثل الزمن في كوننا المرصود. وينصّ هذا السيناريو على أن ما نراه ليس سوى رقعةٍ صغيرةٍ جدّا من الصورة الكبيرة؛ وهذا الميدان الأكبر متماثل الزمن تماما. فالإنتروپية يمكن أن تزداد من دون حدودٍ عن طريق توليد أكوانٍ رُضّعٍ جديدةٍ.
وأفضل ما في الأمر أنّ هذه القصة يُمكن سردها باتجاه الماضي وباتجاه المستقبل. تصوّر أننا نبدأ بفضاءٍ فارغ في لحظة معينة، وأننا نرقبه يتطوّر باتجاه المستقبل وباتجاه الماضي. (إنه يسير بكلا الطريقيْن، لأننا لا نفترض سهما زمنيّا أحاديّ الاتجاه). إن الأكوان الرُّضَّع تتناوب الوجودَ في كلا اتجاهي الزمن؛ وهي، في النهاية، تُخْلي المكان وتلد رُضّعا من صُلبها. في المقاييس فوق الكبيرة، يبدو مثلُ هذا الكون المتعدّد متماثلا إحصائيّا بالنسبة إلى الزمن؛ إذ إن كُلا من الماضي والمستقبل سيُبرز أكوانا جديدة تتأرجح إلى الحياة وتنتشر بلا حدود. وسيخضع كل منها لسهمِ زمنٍ؛ لكنْ سيكون لنصفها سهمٌ انعكس بالنسبة إلى سهم الأكوان الأخرى.