الجزء السادس :
لننطلق بنقل كلام جميل قاله فوكو . يبدأ هذا الفيلسوف بالنظر الى الجسد ,كما ينظر اليه معظمنا , الم نقل كلنا ,على أنه من الأشياء التي هي "هنا" , في المكان , معطى مادي ,واقعي محسوس ,بل أكثر الأشياء واقعية لدينا . انه هنا , معنا حيثما ذهبنا ,لا يفارقنا في أية لحظة . هو معنا حين نستيقظ وحين ننام ,حين نفرح وحين نحزن ,حين نسرع أو نبطئ .هو دائما هنا , في المكان ,معنا . هو اذن تجربة ملازمة . وخلافا للأشياء التي توصف بأنها "هناك" , في اللامكان , أو فوق المكان , الأشياء اليوتوبية , كالأفكار , الروح و باقي المجردات ,فان الجسد هنا , تماما حيث أنا الآن . لكن فوكو يلتفت لحظة ليرى أن هذا الجسد الذي يلازمنا الى درجة تجعلنا نشك فيما اذا كنا شيء آخر غيره , هو في حد ذاته علاقة نعلق عليها رموزا وايحاءات , كالوشم والملابس مثلا .هذه الايحاءات تحملنا الى "هناك" ,و تنقلنا من هذا ال"هنا" , المكان , الى عوالم سحرية ملونة . والأهم من ذلك أن الرغبة الجنسية مثلا , ليست في نظره سوى رغبة في استكشاف هذا الجسد الذي "نملكه", هذا الجسد الذي لا ندرك ملامحه بحق الا عندما تتلاقى أطرافه وتحتك مع أطراف الجسد الآخر. بمعنى آخر , فإنني أثناء التجربة الجنسية, حسب فوكو, أبحث عن جسدي, أرغب في التعرف عليه , في ادراكه حق الادراك . لن أستوعب أن لي جلدا ولن أدرك معنى ذلك الا اذا لامس جلدا آخر واحتكت شعيراته بشعيرات أخرى , وكذلك الأصابع التي نملكها , فهي لا تعني لنا شيئا الا اذا اشتبكت بقبيلاتها . نفس الشيء يقال عن الأجهزة التناسلية .
ان ما قاله فوكو عن جدلية الجسد اليوتوبي/ اللايوتوبي , الجسد هنا / هناك , الجسد المادي غير المحسوس , يفيدنا في مبحثنا هذا . ذلك أنه يوضح أكثر فكرة "الجسد المعقد" ,"الجسد اللغز" ,"الجسد الأحجية", الذي سيكون موضوع بحثنا.
انني أبتغي من هذا المبحث فك
شيفرة الجسد ان صح التعبير , وذلك عبر مسح طبوغرافي لصورته التي تقفز الى العين , وتجعل النفس تقفز من مكانها .ذلك أن
الجسد هو أولا وقبل كل شيء مساحة تضاريسية . فهنالك السهول والجبال , وقمم الجبال , والمنحدرات والتموجات . لن تكون دراستنا جغرافية فقط , ولن نقتصر على دراسة سطحية للجسد, أي على دراسة الجسد كسطح فقط, بل
سنتناول أيضا نوعا من جيولوجيا الجسد , نهتم فيها بدراسة باطنه . ولا نقصد بباطنه هنا ما يحتوي عليه من أمعاء و كبد وقلب وأعضاء داخلية . ان الجسد بالنسبة الينا سطح يحيل على عوالم خفية , على عوالم لا تظهر معه الا ايحاءا .تلك العوالم الباطنية هي التي تهتم بها هذه "الجيولوجيا" .وتجدر الاشارة الى أن عوالم الجسد هذه, التي يخفيها الجسد أو يحويها , ليست بالضرورة عوالم ما ورائية , عوالم رمزية . ويمكن القول أننا سنتفادى ما أمكن السقوط في هذا النوع من العوالم التي تبعدنا عن الجسد أكثر فأكثر لتلقي بنا على ضفاف جزيرة الروحانيات.لكننا في نفس الوقت لن ننغمس (كما يقول رجال الدين )في العالم المكاني المادي الى درجة تجعلنا كدارسي الهندسة الفضائية ,لا تهمهم سوى الحجوم والمساحات .سنسعى اذن الى الوقوف على حدود المكان, وسنحرص , مهما جرتنا انسانية الانسان الى العكس , على التشبت بالمكان و عدم نسيان أن الجسد , موضوع بحثنا , هو أولا وأخيرا هيكل موجود في الفضاء .
اننا ونحن ننظر الى الجسد العاري , نجد أنفسنا أمام تركيبة تضاريسية غير عشوائية(هذا على الأقل ما نراه أثناء لحظات الاعجاب به). فتضاريس الجسد تتميز مثلا بنوع من التماثل المحوري (المحور الذي يقسم الجسد الى نصفين عموديين ويمر من وسط الحاجبين ) .واضافة لهذه الخاصية التي لا غبار عليها,
يرسل الجسد ,عندما يزاول عمله الاغوائي (عبر حركات معينة أو ايماءات أو تمايلات),رسائل مشفرة , أي رسائل لا تدرك الا في شموليتها دون أن تدرك في تفاصيلها , تماما كتلك التي ترسلها السمفونية الموسيقية الى المستمع , أو تلك التي توحي بها لوحات فنية عظيمة. ما يهمنا هنا أساسا في هذا المبحث , هو كشف , أو محاولة الكشف , عن هذه الرسائل المشفرة .
لأجل ذلك , سنجد أنفسنا ملزمين باكتشاف
لغة الجسد ,اللغة التي عبرها يرسل رسائله تلك .وان وضعيتنا هذه تشبه وضعية شامبليون الفرنسي الذي كان ملزما بفك رموز الهيروغليفية ,لغة المصريين القدامى, لتتسنى له قراءة الرسائل الخالدة التي نقشها هؤلاء على جدران معابدهم جامعين فيها تجاربهم و معتقداتهم . فهل يا ترى , ستقدم لنا الصدف , حجرا مشابها لحجر رشيد الذي كان مفتاحا لفك الغموض عن رموز الهيروغليفية ؟