تمهيد
هناك مقولة او حكمة تقول " ليس كل ما يعرف يقال " واعتقد ان هذه المقولة الى حد ما ، فان القضايا التي يعرفها العالم والمفكر والفيلسوف والثقف والباحث ليس من العقل والمنطق ان يوصل او يصرح بذلك الى الجاهل ، سيما القضايا التي تخص الدين ، لأن الجاهل لا يفهمها ولا يدرك مغزاها ، وبالتالي تكون مثلبة على من يفعل ذلك ، فهي ، ربما تكون سببا في تهديد حياته ، وربما يقتل او يسجن ، او ينفى من وطنه ، من قبل الجاهل ولنا في ذلك امثلة كثيرة ، قد نتطرق اليها في بحوث اخرى . ومن هذا المنطلق كان علي بن ابي طالب يرى انه لو حاور الف عالم لغلبهم ، ولو حاور جاهلا واحدا لغلبه ذلك الجاهل . والسبب ان الجاهل يعاند ويجادل في امور لا يفهمها ولا يدرك مغزاها الحقيقي ، بل الصحيح ان عقله لا يستوعبها فيعدها اوهاما وخرافات وهي مثل النور الساطع . ومن هذه الامور والقضايا التي لا يفترض ان يطرحها المفكر او الباحث ولا ان يصرح بها الى الملأ هو ما يتعلق بأمور الدين ، او ما يعرف بنقد الفكر الديني لان مثل هذه الامور تعد عند الكثير خطوط حمر ، ولا يمكن الخوض فيها والتعرض اليها ، لكن الوجدان والذوق السليم يحتم عليه ذلك . فمثلا اذا قلت لأي مسلم لماذا تقبلون الحجر الاسود في الحج ؟ ، وبتعبير الخليفة عمر بن الخطاب هو حجر لا يضر ولا ينفع !؟ لقال لك هذه امور تعبدية لا يمنك مناقشتها او الخوض فيها ، فهو بتعبير آخر يلقمك حجرا ، مع ان هذه الامور اذا اخضعتها الى العقل والمنطق لرفضها العقل جملة وتفصيلا ، وقد تعرضنا في كتابنا (الاسلام والطقوس الجاهلية ) الى ذلك تفصيلا ، وقلنا ان الاسلام اخذ من اهل (الجاهلية) امور وقضايا واضافها اليه وجعلها مقدسة ومن صميم الدين .
وفي تاريخ الاسلام وغيره نماذج كثيرة لرجال علم وفلسفة ومنطق قالوا كلمة حق ، فكانت النتيجة ان زهقت ارواحهم وسالت دمائهم ثمنا لذلك . الم تحكم الكنيسة – يوم كانت اعلى سلطة في الدولة – بالإعدام على الفيلسوف العظيم سقراط ، وذلك بجرعه كأسا من السم ، بدعوة ان سقراط يفسد اخلاق الشباب بأفكاره وآراءه ! بينما كان يلقنهم الحكمة والمنطق . كذلك فعلوا بغاليليو عندما وضعوه تحت الاقامة الجبرية ، لأنه كان يقول : (ان الارض تدور حول الشمس ) . وقد قتل ابن السكيت صاحب المنطق شر قتلة ، وذلك بسل لسانه من قفاه حتى مات . واعدم الحلاج الصوفي على يد اصحاب الفكر التكفيري ، لانهم لم يفهموا منطقه وفلسفته ، واعتبروا ذلك اشراكا وزندقة ، حيث اصدر وعاظ السلاطين فتوة بقتله ، وذلك سنة 309 هجرية . ولم يك***ا بذلك بل حرقوا جثته والقوها في نهر دجلة . وكان شيخا ابيض الشعر واللحية يقرب عمره الخامسة والستين ، بعد ان بالغوا في تعذيبه بضرب وجهه بالسيف وتهشيم انفه ، ثم قطعت يداه ورجلاه واحرقت جثته وصار رمادا .
وهناك عشرات الشعراء الذين حكم عليهم بالإعدام بتهمة الزندقة والخروج عن الدين والملة ، ومنهم ابان بن عبد الحميد اللاحقي ، وصالح بن عبد القدوس الذي قتله الخليفة المهدي ، وبشار بن برد وحماد عجرد وابن المقفع ، وغير هؤلاء ممن يضيق المجال بذكرهم .
لهذه الاسباب وغيرها ، ظلت كثير من الحقائق محبوسة في صدور الرجال وطيات الكتب . وبالمقابل ظل رجال الدين يتصرفون بأمور وقضايا هي دخيلة عن الدين الاسلامي ، وليست من مبادئه ، واذا انتقد احدهم هذه الافعال والامور اتهم بالزندقة والالحاد ، كما اتهم المعري وطعن في دينه واتهم بالزندقة ، وذلك حينما انشد :
هفت الحنيفة ، والنصارى ما اهتدت
ويهود حارت ، والمجوس مضلله
اثنان اهل الارض : ذو عقل بلا
دين ، وآخر دّين لا عقل له
وقال ايضا :
وينشأ ناشئ الفتيان منّا .... على ما كان عوده ابوه
وما دان الفتى بحمى ، ولكن .... يعلمه التدين اقربوه
|