مذكرات ملحد...نعمة العقل.............متسلسلة
ذاك اليوم، أو بالأحرى تلك اللحظة، صدر الفرمان معلناً انتهاء حقبة من الحرب الطويلة التي اشتعلت بين ماضيَّ وحاضري ومستقبلي.
لسنينَ طوال، اعتقدت أنه من السهولة بمكان، أن يقوم الانسان بتبديل الأسس المعرفية والمنظومة الفكرية التي لازمته لفترة طويلة. فمنذ نعومة أظفاري وحتى بداية ظهور بضع شعيرات على وجهي، كنت ذاك الانسان المثالي في نظر الكثيرين من افراد المجتمع. ولشدة سذاجتي حينها, كنت أنظر الى تلك المعايير المعتمدة في تقييم البشر، والتي يتبناها مجتمعنا, على أنها أسمى شيء في الوجود.
ولكن الحقيقة أبت إلا أن تولد من رحم الواقع والمنطق, وعند أول نسمة رقيقة، تداعى ذاك الصرح الفكري الذي أفنيت نصف عمري تقريبا في بناءه, لم أتخيل أنه هش لهذه الدرجة, وحينها بدأت سواقي الشك بالترب الى أعماقي, هل كنت مقصرا في عملي حتى كانت معتقداتي هشة لهذه الدرجة؟ أم أن العيب في المعتقدات نفسها فهي عاجزة أن تكون أقوى مهما فعلت ومهما رممت؟؟!.
ولكني كنت مغتبطا نوعا ما بيني و بين نفسي على ما حدث. أحسست بأن شيئا ما قد استيقظ في داخلي, ذاك الوحش الفكري الذي بدأ يتغذى على أشلاء أفكاري شيئا فشيئا, ينزعها من جذورها ويزرع بدلا عنها أفكارا دائمة الخضرة, فاستبشرت خيرا، فلا خريف بعد اليوم، وعملت جاهدا على أن يبقى ذاك الوحش مستيقظا، وألا يخلد إلى النوم.
أين الحقيقة؟ سؤال ما انفك عقلي يكرره ويعيده على مرأى ومسمع من روحي. أصبح كل شيء في نظري وهما, وكل ما تعلمته وهما, كانت الأحجية دوما تفتقد الى القطعة المركزية التي تكمل أجزاء اللوحة، و تلك الخريطة كانت في حاجة الى لافتة عند مفترق الطرق ذاك، لتنقذني من الضياع في طرق ان سلكتها, أنجرف في هاوية لا قرار لها.
كنت كمن يبحث عن ابرة في كومة من القش، مهمة أشبه بالمستحيلة، فما كان مني إلا أن أحرقت كومة القش كلها وحولتها إلى رماد، لأبلغ الابرة المنشودة.
قد يلومني البعض على ما اقترفت يداي، وقد يصفني البعض بمجرم حرب، أو نازي، افتعلت (هولوكوست) أخرى – فكرية وليست بشرية- راح نتيجتها الكثير من الأفكار ضحايا صراع لا ناقة لهم به ولا جمل، تلك الأفكار كانت دخيلة علي، فلم أخترها يوما، ولم يكن لي باع طويلة أو قصيرة في وجودها داخلي، جل ما أعرفه عنها، أني فتحت عيوني على هذه الحياة فاستشعرتها ضمنيا، ولامستها بجوارحي، وأحسست أنها خلقت معي من رحم أمي.
يقال أن أبي قام بنطق كلمات الأذان في أذني عندما ولدت، كي تكون كلمة الله هي أول شيء يدخل الى جوفي من الكلام، في المكان الجديد الذي انتقلت للعيش فيه، وهي عادة شائعة في بلادنا، وكأني سأفهم معنى كلمة الله أكبر في تلك اللحظة، تلك المرحلة من الحياة التي لا يفقه فيها الطفل شيئا، وبالكاد يستشعر ما حوله، كان يجب علي بشكل أو بآخر أن أستوعب كلمة الله أكبر رغم أني كنت أبكي حينها. ولكني فهمت لاحقا أنها أول خطوة يتبعها المتدينون في حشر بذور الدين في أنفسنا, و يا حسرتاه، فكم من مجرم قاتل قام أبوه بالأذان في أذنيه عندما ولد، وكم من منافق كاذب مدلس كان أول شيء دخل أذنه هو الله أكبر، و يا أسفي على تلك العبارة, التي أصبحت بعد بضع سنين، مبررا قويا لإهراق سيل من الدماء، ذاك السيل الذي أظن بأنه يصر على البقاء حتى بعد أن ينضب نفط الخليج.
منذ وعيي وأنا أسمع كل من حولي يردد كلمة الله، فالله يفعل كذا وفعل كذا، وسيفعل أشياء كثيرة بعد موتنا، وان شاء الله...الخ من تلك الكلمات التي لا بد أن جميعنا قد صمغت آذانه بها، وبدأ مع سلسلة الله هذه، سلسلة أخرى من الفضول الذي ينمو مع كل طفل في محاولة غريزية منه لفهم كل ما يجري حوله، خصوصا أن جميع من حوله يربطون أتفه تفاصيل حياتهم مع ذاك الشيء المسمى الله, وكل ما كبرت يوما، كنت أحس بأن ذاك الله يصبح أكبر شيئا فشيئا، ودون تناسب مع مستوى تفكيري في تلك الله، فقد كانت فكرة الله أكبر وأضخم دوما من حجم عقلي الذي ضاق ذرعا به في يوم ما لاحقا.
ومع مرور الأيام، بدأ الله يتخذ صورة مجسمة في عقلي، كنت دائما أحاول رسم صورة له في مخيلتي علي أفهم شيئا أو أعرف شيئا عن تلك الشخصية التي تختفي وراء الستائر، وتعمل في الظل، وتأخذ دور الملقن على خشبة مسرح الحياة منذ آلاف السنين، دون أن تفسح المجال لغيرها ، فأصبحت أشبه بالحكام العرب، يلتصقون بمناصبهم وكراسيهم إلى أن يموتوا.
كنت دائما ما أنقل قالب الله من شخص إلى آخر، حسب متطلبات اللحظة والموقف، فمرة البس الله ثوب شخص قاسي عاقبني منذ قليل, ومرة البسه ثوب شخص حنون رحيم، أهداني بضع حبات من السكاكر لمناسبة ما أو في عيد ما.
.
.
to be continued
|