|
زائر
|
الجزء الخامس :
هل نريد الانصهار في كيان الطرف الآخر ؟ أم هل ترانا نريد انتزاع شيء منه كما قال لوكريس ؟ والحال أن العديد من المؤشرات تؤكد قوله ذاك : فالمراقب لحركات الذكر أثناء الجنس سيلاحظ وكأنه يحاول استخراج شيء من الطرف الآخر , التنقيب عنه وانتزاعه. ثم ان ذلك الالتصاق والاشتباك التام الذي يحصل بين الطرفين و الذي يتم بكل الأطراف بدءا بالفم حتى أخمص القدمين لهو دليل قوي على رغبة في الاتحاد والاندماج والانصهار في قالب واحد.
القوة الاندفاعية التي تقود الذكر قوة استكشافية بامتياز : يريد الملامسة ,الجس والفحص. فالطرف الآخر بالنسبة اليه عالم ينبغي استكشافه . لكن وان كانت تجربة الجنس استكشافية فانها لا تشبه تجاربنا اليومية العادية الأخرى التي نسعى فيها الى اكتشاف الآخر في ميدان العمل أو الدراسة أو الجيران ... ذلك أن الذكر لا يقف عند حد الاستكشاف : فحركات التمدد على الطرف الآخر وضمه ومسكه بقوة هي دليل قوي على رغبة في الاستحواذ والتملك : تملك الطرف الآخر,تملك العالم الآخر.الاستكشاف والتملك اذن ,هل هذا كاف لتمييز التجربة الجنسية عن باقي التجارب الانسانية ؟
فلنتأمل تلك النظرات التي يلجأ اليها الطرف الآخر لتهييج من يستهدفه : ان عنوانها الخطر والتهديد.تلك النظرات تتميز بالدقة ,وحدتها تلفح كمصل السكاكين, وعندما تقع عيناك على عين الطرف الآخر المغوي , يوحى اليك بأنه ينظر بالضبط الى نقطة ضعفك , وبأنه اكتشفها أخيرا ,وكأن تلك النظرات تقول لك :"انني أعلم ما ترغب فيه ".لكننا عوض أن نفر هاربين من نظرات الموت تلك , أجل نظرات الموت , نقبل عليها ونحن نهرول! يا للخطر المغوي ! أجل, تلك النظرات الثاقبة , الصادمة , الصارمة, تختزل رعبا عظيما. لكنه رعب من نوع خاص,عوض أن يدفع بالناظرين اليه للهروب , يحثهم على الاقتراب.انها نظرات تجعل المرء يحس بالضعف , بالهوان...
فجأة ...يكتشف الذكر أن القوة الناعمة ليست ناعمة بكل ما في الكلمة من معنى , يكتشف أنها قوة مهولة ,قوة تتجاوز بكثير تلك القوة الذكورية التي يتبختر بها الرجل مند القدم ويهيمن بها. انها قوة توجد في حالة كمون , وعندما تصعد الى الأفق يذوب الرجال. انها قوة ملائكية بامتياز,قد تجعل الرجال يسجدون يوما للنساء. ترقد تلك القوة هناك, ولا تفصح عن نفسها الا متسترة وفي لحظات خاطفة.
صدق من قال ان اهانة المرأة واحتقارها من طرف الرجل عبر التاريخ كان نابعا من هذا الخوف ومن هذا الشعور بالضعف الذي يولد شعورا بالانتقام وحقدا على الجنس الآخر,تلك"الأفعى التي تتميز بالغواية" , التي قد تنوم الرجل ليقوم بكل شيء.أجل أيها الرجل , انك أمام تلك النظرات الثاقبة و الحادة , تحس بوهن عظيم ,ولأول مرة ترى المرأة فوقك وترى نفسك تحتها. لقد شيطن الرجال المرأة ومنحوها رمز الأفعى لهذا السبب بالضبط !
الجسد ... بكل تأكيد لن يتوقف شخص في السبعين من عمره عند هذا المفهوم ...المسألة تحتاج شابا ...لكن أغلب شبابنا يرون في الجسد موضوع لذة فقط , ولا يدهشهم هذا الجسد الا ساعة تحصيل اللذة , وبعد ذلك يرمى في غياهب النسيان الى وقت آخر ...
يدخل الجسد في نطاق المفاهيم المهمشة , المفاهيم التي لم نتحدث عنها الا لوضعها على الهامش مرة أخرى . واذا كانت الروح بطبيعتها الهلامية النورانية المظلمة , الروح الغائبة ,قد استهوت منذ القدم رجال الدين والفلاسفة والمفكرين , فدفعتهم الى تأليف نظريات في مجلدات بخصوصها (دون أن يؤدي ذلك الى التقدم في فهم المفهوم قيد أنملة), فان الجسد , المعطى , لم يؤلف بخصوصه الا القدر الزهيد . وحتى الفلاسفة الماديون , لا أعرف منهم ,على حد علمي ,من سبق له أن تناول الجسد بالدراسة المعمقة ,كهدف معرفي في حد ذاته . و أخاف أن يكون الطب , و هندسة الموضة , النشاطين الانسانيين الوحيدين اللذين يدرسان الجسد بعناية . لربما كان الطابع الحضوري للجسد هو الذي جعلنا نزيغ بأعيننا عنه نحو الروح , فالإنسان مشدود دائما الى الأمور المجهولة الغائبة. لنتوقف من جديد وبجدية أمام هذا الجسد ...
لن نعيد الاعتبار للجسد بجعله قوام الانسان و ماهيته , بل سنعيد له الاعتبار حين نثبت أن "دراسة الجسد تصب في دراسة الانسان" , خلافا لما يروج له من أن "دراسة الجسد تعتبر دراسة لأداة في يد الانسان" . الجسد أكثر من أداة في يد الانسان , انه وجه أساسي من أوجه الانسان ,بل انه الوجه الوحيد له الذي يقدم نفسه كمعطى حاضر . لا يهمنا ان وجد شيء اسمه الأنا أو الروح , ولا يهمنا أيضا ان كان أحدهما يشكل قوام الانسان وماهيته, ويدعي كونه "الانسان حقا" .ان ما يهمنا أن الجسد هو "الانسان الملموس" ,وبالتالي فلا بد من لمسه , وتجميع أكبر عدد من المعطيات بخصوصه ...كل هذا سيتم فيما أطلقت عليه اسم : جغرافية الجسد و جيولوجييته .
يتبع ...
|